الخميس، 22 أغسطس 2019

المعارضةُ في النظام السياسي المخزني


بسم الله الرحمن الرحيم

المعارضةُ في النظام السياسي المخزني


أُذَكِّرُ بأن المخزن، في المفهوم السياسي الشائع، يُقصد به نظامُ الحكم في المغرب القائم على ملكية وراثية "تنفيذية"، حيث الملك يسود ويحكم بسلطات شبه مطلقة-إن لم نقل مطلقة-تحدّدها وتبيّنها فصولُ الدستور الممنوح، فضلا عن دستور الأعراف والطقوس والعادات الموروثة منذ قرون. والملكُ في هذا النظام المخزني هو رئيس الدولة وهو أميرُ المؤمنين-أي يجمع بين السلطتين الدينية والسياسية-وهو فوق كل المؤسسات، لا يراقبُ ولا يراجعُ ولا يحاسب.
وأُذَكِّرُ، أيضا-لأني كتبت كثيرا في هذا الموضوع-أن نظامنا السياسي، كما هو في واقع ممارسة السلطة وتدبير شؤون الدولة، هو أبعد ما يكون عن النظام الديمقراطي، لأنه نظام بصوت واحد لا وجود فيه لمعارضة حقيقية. وإن وُجِدت هذه المعارضة، فهي مهمَّشَةٌ ومحاصَرة ومتابَعة ومتهَمة ومدَانة، أي أنها معارضة مرفوضة مبعدة، ليس لها مكان في النظام السياسي القائم.
فالمعارضةُ، في الأنظمة الديمقراطية السليمة، تعارضُ من يحكمُ فعليا، وتقابلُ برامِجه وسياساتِه ببرامج وسياسات مخالفة، جزئيا أو كليا، والحَكَمُ في هذا التعارض والتقابل، في نهاية المطاف، هو صوتُ الناخبِ المتحرر من كل أنواع التأثير والضغط والإكراه والترغيب والترهيب.
أما ما يُسمَّى، عندنا، بأحزاب المعارضة، أو بالمعارضة البرلمانية-مثلا حزب الأصالة والمعاصرة-فإنها، عند التحقيق، تسميةٌ للتمويه والتمثيل، وإلا، فإن الجميع، أيْ ما يُسمَّى أغلبيةً وما يُسمَّى معارضةً، إنما هم في خدمة المشروع الملكي، لا يملكون أمام التعليمات والتوجيهات إلا السمع والطاعة، وهم منتخَبُون-وهناك من يصرح بذلك بلا مواربة ولا تردد-من أجل تنفيذ سياسات الملك وما يخطِّطه ويرسمه من مشاريع وما يتخذه من قرارات وتدابير-مثلا، القراراتُ الواردة في خطاب العرش الأخير في شأن تعيين لجنة للنظر في النموذج التنموي الجديد، وفي شأن التعديل الحكومي وتغيير بعض المسؤولين في المناصب المركزية العليا، إنما هي قراراتٌ للتنفيذ، وليست للتداول والنقاش.
ومن بين الأمثلة العديدة التي يمكن ذكرها في هذا السياق مثالُ السيد نبيل بنعبد الله، الذي ذَكَر في سياق برنامج تلفزيوني جمعه سنة 2014-وقد كان يومها وزيرا في حكومة السيد بنكيران-بالسيد إدريس الأشكر-وقد كان محسوبا يومها على المعارضة-ذَكَر السيد بنعبد الله في هذا البرنامج أن جميع الحكومات، اليوم وغدا، هي حكوماتُ صاحب الجلالة. فردّ عليه "المعارض" إدريس الأشكر وأماراتُ الانفعال بادية عليه، أن المعارضةَ هي أيضا معارضةُ صاحبِ الجلالة، بمعنى أنها معارضةٌ تابعةٌ وخادمةٌ ومطيعة، فقال له بنعبد الله مؤكدا: متفقين-أي نحن متفقان-كررها خمس مرات. فإذا كانت المعارضةُ معارضةَ صاحب الجلالة، بمعنى السمع والطاعة والامتثال، فأين هي معارضةُ صاحب الجلالة، بمعنى الاعتراض والنقد والمراجعة؟

وضع شاذ
الملك يسود ويحكم، والأغلبية والمعارضةُ كلاهما في خدمة الملك، يسمع ويطيع. ففيم الانتخاباتُ، وبرامجُ الأحزاب المتنافسة، وتبذيرُ الملايير من المال العام؟
إذا كان البرنامجُ الوحيد للحكومة هو برنامجَ الملك، وإذا كانت أعمالُ الحكومة محصورةً في تنفيذ سياسات الملك وقراراته وتدابيره، فما معنى الاعتراض على الحكومة؟
الوضعُ الطبيعيُّ يفرض أن يُوجَّه الاعتراضُ والنقد لسياسات الملك وقراراته، لأنه هو المسؤول الأول عن سياسات الدولة، بنص الدستور الممنوح، وأيضا بحكم الواقع المعيش والأعراف الراسخة، لا أن يُوَجَّه إلى حكومة ليس لها من أمر الحُكم شيء، وإنما هي أداة من أدوات التنفيذ، ووعاء لتلقي تعليمات الملك والاجتهاد في اتباع توجيهاته.
هذا الوضع الشاذ يُحوّل "اللعبة الديمقراطية" من ألفها إلى يائها، إلى لعبة فارغة من أي معنى، إلا أن يكون الغرض من هذه "الشكليات الديمقراطية" هو التمويه والتغطية على حقيقة الاستبداد بواجهة مصبوغة بألوانٍ وشعاراتٍ تخفي وراءها نظاما سياسيا يطغى فيها صوتٌ واحد على كل الأصوات.
لماذا لا يعترض الناسُ على سياسات الملك وقراراته ومشروعاته؟
لماذا لا نسمع إلا أصواتَ المدح والتعظيم حينما يتعلق الأمر بما يصدر عن الملك، في خطبه ورسائله وسياساته وتوجيهاته، أما الاعتراضُ والنقد والتقويمُ والمحاسبة، فهي موجهةٌ إلى الحكومة، التي يعترف الجميع-في مقدمتهم رئيس الحكومة ووزراؤه-أنها حكومةُ صاحب الجلالة، أي أنها حكومةٌ تنفذ برامج الملك وسياساته وتعليماته؟
فعلى سبيل المثال، سياساتُ الدولة المتعلقة بأفريقيا، والتي دشنها الملكُ بقرار استرجاعِ عضوية المغرب في منظمة الاتحاد الإفريقي، وما تلا هذا القرارَ من جولة طويلة زار فيها الملك عدة دول في القارة السمراء، وأشرف فيها على تدشين عدة مشاريع وتوقيعِ عدة اتفاقيات بعضُها كلف خزينة الدولة أموالا طائلة، حسب ما عُرِفَ ونُشِرَ.
أنا سقت هذا المثال، لا لأناقش أهمية الرجوع للمنظمة الإفريقية من عدمه، ولا لأقوّم الجدوى من المشاريع المدشَّنة والاتفاقيات المبرَمة والأموال الموهوبة، لأن الأمر، ولا شك، يتعلق بسياسات وقرارات واختيارات يكمن وراءها أهداف وغايات استراتيجية، وقد تكون سياسات ناجحةً حسب ما خُطط لها، وقد يعتريها بعضُ الفشل أو تقومُ في سبيل تنفيذها بعضُ المعوِّقات، فلا تكون مردوديتُها بمستوى الآمال والأهداف التي رُسمت لها.
ويحسن التذكير هنا أن جولة الملك الإفريقية وما يتعلق بها من قرارات واتفاقيات وهبات جرت في ظل حكومة تصريف أعمال، وفي أجواء البلوكاج التي طبعت مساعي السيد بنكيران من أجل تشكيل الحكومة الجديدة بعد انتخابات2016.
غايتي من سوق هذه المثال أن أبين أن الملك هو صاحب اليد العليا في وضع السياسات ورسم الاستراتيجيات، وما الحكومة والبرلمان وسائر المؤسسات والمجالس والهيآت إلا أدوات للتنفيذ. فالملك، بنص الدستور الممنوح في الفصل48، يترأس المجلس الوزاري، الذي من مهامه، حسب الفصل49، "التداول في شأن التوجهات الاستراتيجية لسياسات الدولة". والذي نعرفه عن هذا المجلس الوزاري أن أعضاءه لا يناقشون الملك فيما يعرضه عليهم، ولا يعترضون ولا ينتقدون، بل إنهم يحضرون للموافقة والتصديق، حسب ما نعرفه من المُلخّصات التي تُنشرُ عن أعمال هذا المجلس، لأن الإعلام الرسمي، فيما أعلم، لم يسبق له أن نقل لنا بالصوت والصورة كيف تجري الأمور في هذا المجلس، لكن التسريبات التي تخرج من هنا وهناك تتحدث عن مجلس لا يكاد يعرف مناقشات أو مداولات أو مشاورات سياسية حقيقية.
من هذه التسريبات التي عرفناها عن مجلس الوزراء الذي يترأسه الملك ما حكاه القيادي الاشتراكي محمد اليازغي عن الأزمة التي اشتعلت بين المغرب وإسبانيا بسب جزيرة "ليلى" سنة2002؛ فقد قرر الملك، من غير أن يخبر الوزير الأول آنذاك السيد عبد الرحمن اليوسفي، أن يرسل أفردا من القوات المساعدة والدرك الملكي لحراسة الجزيرة، فحاول السيد اليازغي، في اجتماع مجلس الوزراء(يوليوز2002)، أن يبدي رأيه في المسألة، لكن الملك-حسب ما يحكيه السيد اليازغي في أحد حواراته المنشورة-"كان له رد فعل تجاهي، بعد أن واجهني بتدخل عنيف، ففضلت ألا أدخل في جدال معه، وفضلت ألا أناقش الأمر. وأذكُر-يضيف السيد اليازغي-أنه كان بجانبي إدريس جطو، الذي كان وزيرا للداخلية، وبدأ يضرب على ركبتي من تحت طاولة الاجتماع في المجلس الوزاري، ويردد: "باراكا، باركا آ السي محمد". فهذه الحادثة تبين، ولو بصورة غير مباشرة، أن مجلس الوزراء، في النظام السياسي المخزني، ليس للنقاش والتداول وإبداء الرأي، وإنما هو للإخبار والاستماع والمصادقة.
فالذي يقرر في شأن السياسات الاستراتيجية هو الملك ومساعدوه في دائرة المقربين من مستشارين ومكلفين بمهام. أما باقي مؤسسات الدولة فدورها الأساسي محصور في التنفيذ. وعلى هذا يمكن أن نزعم أن "برنامج" الحكومة الذي نالت به من الأصوات في الانتخابات ما نالت هو برنامج شكلي تمويهي لكي يقع في الأوهام أن الأمر يتعلق بحكومة لها حريتها وصلاحياتها وسلطاتها المستقلة لتنفيذ برنامجها-أو البرنامج التوافقي الناتج عن أغلبية مؤلفة من عدة أحزاب. وإن لم يكن هذا البرنامج/البرامج الانتخابية شكلية تمويهية، فما معنى أن أي حكومة، ومهما كانت طبيعة مكوناتها، لا يمكن أن تكون حرة في وضع برنامجها ومستقلة في اتخاذ قراراتها، وإنما هي مجبرة أن تتبع سياسات وتنفذ برامج لا علاقة لها بالبرامج الانتخابية، وإنما هي سياسات وبرامج طُبخت في مطبخ دائرة الملك ومساعديه الأقربين، ونزلت في شكل تعليمات وتوجيهات وقرارات لكي تأخذ طريقها إلى التنفيذ.

المعارضة الحقيقية
المعارضة الحقيقية هي التي تتوجه بالاعتراض والنقد والمراجعة للأصل لا للفرع، للآمر لا للمأمور، للواضع المتبوع لا للمنفذ التابع.
وهذه المعارضة عندنا نوعان، أحدها ضعيف ومهمش، والثاني محظور ومحاصر ومتهم.
النوع الأول الضعيف والمهمش، يمثله، في تقديري، الملكيون الإصلاحيون، أي الذي يطالبون بملكية برلمانية يسود فيه الملك ولا يحكم، وخير من يمثل هؤلاء، في مشهدنا السياسي، الحزب الاشتراكي الموحد وحليفاه في فيدرالية اليسار الديمقراطي، حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي وحزب المؤتمر الوطني الاتحادي. ويمكن، في رأيي، اعتبار الوثائق الصادرة عن الحزب الاشتراكي الموحد بشأن مطلب الملكية البرلمانية وثائق مرجعية في هذا الباب.
والنوع الثاني هم المعارضون الثوريون، الذين يتعدون الاعتراض على سياسات النظام وتدبيراته لشؤون الدولة إلى الاعتراض على النظام الملكي نفسه، في شرعيته وفلسفته والأسس التي يقوم عليها سلطانه، وخير من يمثل هذا النوع من المعارضة، في رأيي، جماعة العدل والإحسان الإسلامية.
وقد تكلمت على هذا الموضوع في كثير من مقالاتي، وملخص رأيي أن البداية المعقولة للإصلاح ينبغي أن تنطلق من الواقع كما هو، أي أن تكون البداية على أساس سياسي لا إيديولوجي، لأن التجارب أثبتت أن الصراعات الإيديولوجية لا تنتهي إلا بالحطام والخراب والفتن.
أن تكون للملكية سلطةُ السيادة والرمزية الجامعة للأمة وما يتعلق بهذين العنصرين-السيادة والرمزية-من وزن معنوي ومكانة اعتبارية وتشريفات وأعراف وتقاليد، وأن يكون للحكومة الناتجة عن انتخابات سليمة من الغش والتزوير وتأثير المال الحرام، سلطةُ الحكم وصلاحيات التنفيذ، وأن تكون مسؤولة أمام البرلمان، وأمام الناخبين عما يكون منها من سياسات وقرارات واختيارات-على ما هو متعارف عليه في الملكيات البرلمانية الحديثة-هو بدايةٌ في سبيل الخروج من هذه المآزق التي ما فتئت تهدد حياتنا السياسية بالاختناق والانفجار.
وفي اعتقادي أن المعارضين الثوريين، طال الزمن أم قصر، لا بد أن يتعاملوا مع الواقع السياسي بمنظار سياسي-وليس عيبا أن يكون هذا المنظار السياسي محكوما بخلفية إيديولوجية من هذا الاتجاه أو ذاك.
ولْنبْقَ في الواقع ونسأل: هل للنظام المخزني عندنا إرادة للخروج بحياتنا السياسية من ضيق الاستبداد إلى سعة الحرية والديمقراطية؟ هل للنظام المخزني استعداد للتطور والانتقال إلى نظام برلماني يسود فيه الملك ولا يحكم؟ وإلى متى ستدوم معاناتنا في هذا الوضع الشاذ؟ أم أن الأمر تدافعٌ وتنازُعٌ وتغالبٌ محكوم بموازين القوى على الأرض، والغلبةُ، في النهاية، للأقوى؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.