الاثنين، 30 نوفمبر 2015

تقديم "ذاكرة الحصار"

بسم الله الرحمن الرحيم

"ذاكرة الحصار" هو الاسم الذي اخترته لعملي الرقمي الجديد؛ وهو ديوان جمعت فيه قصائد منتقاة نظمتها في مناسبات مختلفة، على مدى حوالي خمس وعشرين سنة. والمضمون الأساس لهذه القصائد، كما يشي بذلك العنوان، هو الحصار المخزني الذي تضربه الدولة المخزنية على جماعة العدل والإحسان خاصة، وعلى كل المعارضين الحقيقيين لدولة الاستبداد والقمع والفساد عامة. وفيما يلي نص التقديم الذي كتبته لهذه الذاكرة:

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد الله ربّ العالمين حمدا طيّبا مباركا فيه، يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، وأصلي وأسلم صلاة وسلاما تامين كاملين على خاتم النبيئين والمرسلين، سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آل بيته الأطهار، وصحابته المنتجبين الأخيار، وبعد؛
فهذا ديوان "ذاكرة الحصار"، جمعت فيه قصائد انتقيتها مما نظمته، في مناسبات متعددة، خلال فترة زمنية تمتد لحوالي خمس وعشرين سنة.
أما الذاكرة، فإنما هي للحفظ والتّذكار، والدراسة والاعتبار، ومعرفة الماضي وصيانة الآثار، وكذلك للتفكر والتدبّر ومدّ حبل التواصل بين الأجيال.
وأما الحصار، فإن المقصود به، بالتحديد، الحصارُ الذي تفرضه الدولة المخزنية المغربية على جماعة العدل والإحسان، وهي جماعة دعوية إسلامية، يقوم منهاجها على أساس تربوي سياسي، من أجل موعود الخلافة الثانية على منهاج النبوة.
وقد بدأ الحصار المخزني على الجماعة منذ بيانها الأول، الذي ظهر قبل تأسيس "أسرة الجماعة" سنة1981، وهي نواة الجماعة، التي ستشتهر، فيما بعد، بجماعة العدل والإحسان. وهذا البيان هو رسالة "الإسلام أو الطوفان"، التي كتبها مرشد الجماعة، الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله، في سنة 1974 للملك الحسن الثاني، ينصحه ويبشره وينذره، بأسلوب جمع بين القوة والرفق، وبلغة الرجل الداعية، الذي يقول الحق، لا يخاف في الله لومة لائم.
وقد كنت دائما أرى أن الحصار المخزني المضروب على جماعة العدل الإحسان حصاران، وليس حصارا واحدا؛ الأول، وهو الأصل الثابت في السياسة المخزنية، وهو الحصار الشامل الجذري، الذي أصفه بالأكبر، وهو الذي يستهدف الجماعة من أصلها، بما هي كيان ووجود وحياة، وبما هي دعوة في القلوب، وبما هي أفكار في العقول، وبما هي تنظيم ومقاصد، وبما هي منهاج، وبما هي بشر يتحركون في الأرض، وبما هي نقيض للنظام المخزني. فالحصار، بهذا المعنى، الغاية منه استئصال الجماعة من جذورها، حتى يصبح وجودها في حكم العدم. إن الحصار الأكبر هو معركة حياة أو موت: إما أنا، وإما هو.
والحصار الثاني، الذي أصفه بالأصغر، إنما هو تجليات عملية "تكتيكية" تنفيذية لمخطط الحصار الاستراتيجي الأكبر. وقد تجلى هذا الحصارُ، أكثر ما يكون التجلي، في محاصرة مرشد الجماعة، الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله، في بيته، لأكثر من عشر سنوات(1989-2000). وقد تجلى أيضا، وما يزال، في عمليات المنع والقمع، والاعتقالات والمحاكمات، وسائر أشكال الاستفزازات والمضايقات والمتابعات، التي ما فتئت الدولة المخزنية تنفذها ضد جماعة العدل الإحسان، التي ما تزال تشكل المعارض (رقم1) على قائمة معارضي النظام المخزني، الذين يرفضون دولة الاستبداد والتعليمات من أساسها، ويناضلون من أجل بناء دولة المؤسسات والقانون والحريات.
***
أهدي هذا العمل إلى روح الشريف سيدي محمد العلوي السليماني، رحمه الله، وأسكنه في أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين والمحسنين، وحسن أولئك رفيقا.
إننا، في هذه الأيام، نعيش في أجواء الذكرى السابعة لوفاة سيدي العلوي، بالتقويم الميلادي (دجنبر2008-دجنبر2015)، وهي المناسبة التي اخترتها لنشر هذه الذاكرة، لتكون، لجميع إخواني وأحبائي، الذي عرفتهم وعاشرهم وخالطتهم وشاركتهم وشاركوني في كثير من الأفكار والأعمال والمشاعر، ذاكرةً للمحبة والوفاء والوداد والأخوة الصافية من الشوائب[1].
الذاكرة، مع الشريف سيدي العلوي، هي ذاكرةٌ للصبر والمصابرة، وذاكرةٌ للعطاء والغَناء واحتساب الأجر عند الله، وذاكرةٌ للوفاء والإخلاص والاجتهاد في المصاحبة والدعوة والإنفاق في سبيل أن تعلوَ كلمة الحق ويزهق الباطل، ومن أجل أن يفلح المؤمنون القائمون الصابرون المصابرون، ويخسأ الظالمون المجرمون.
لقد أحب الناس الشريفَ العلوي، مَنْ عرفه عن قرب ومن عرفه عن بعد، وكانت له في قلوب الإخوان والأخوات، من جماعة العدل والإحسان، مكانةٌ كبيرة وعالية وراسخة، ولم يكن منهم ومنهن إلا مَنْ يرفعه ويجله ويقدره محبة واعترافا ووفاء.
لقد شهد له مرشدُ الجماعة، الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله وأكرم مثواه، بالسابقة والغَناء حينما ذكر، في حوارات خاصة كانت معه في سنة1989، عن الظروف التي أحاطت بكتابة رسالة "الإسلام أو الطوفان"، في سنة 1974، أنه، عند كتابة الرسالة، لم يجد بجانبه إلا رجلين اثنين، هما الأستاذ محمد العلوي السليماني، والأستاذ أحمد الملاخ، الذي توفي، رحمه الله وجزاه أوفى الجزاء، في يناير من سنة 2011.
وقد شهد المرشدُ لصاحبه، في الكلمة التي سجلها للحفل التأبيني، الذي نُظّم ببيت سيدي العلوي يوم 3دجنبر2008، بأنه "كان سباقا إلى الجماعة، إلى نصرة الحق، يوم كان بعض الناس يخنسون ويترددون ويخشون مَن لا يخشى الله، عز وجل...".
وفي الكلمة نفسها وصف المرشدُ، رحمه الله، صاحبه سيدي العلوي بأنه "كان رجلا وأيَّ رجل"، وهي عبارة تفيد في العربية معانيَ الإكبار والمدح والتعجب والتقدير؛ كان رجلا وأيَّ رجل، أي كان رجلا كاملا، في كل صفاته وسلوكاته ومشاعره ومواقفه؛ كان راحلة في زمن العسرة، وكان مخلصا وفيا مضحيا في زمن عز فيه الأصحاب، وقل فيه الظهير، واستحكم فيه إرهاب الدولة المخزنية.
في وصفٍ جامع مانع، وأسلوبٍ شائق رائق فصيح: كان سيدي محمد العلوي السليماني رجلا وأيَّ رجل.
ولم يزل قلبه، رحمه الله، يتسع لكل الناس، منذ عرفته، أول مرة، في يوم من أيام سنة 1983 أو 1984، حتى وفاته، نوّر الله ضريحَه، في دجنبر2008.
***
شعب الإيمان، في الخطابات المتلوة والنصوص المحفوظة والشعارات المرفوعة والدروس المستَظهَرَة، هي غيرها في السلوك والمعاملات والأفعال المنجزة في الواقع.
قد تتحول شعب الإيمان، إن هي ظلت حبيسة الخطابات والمحاضرات والمحفوظات، إلى "إيديولوجيا" تخنق الإرادة، وتحبس الهمم أن تنطلق إلى فضاءات الإيمان الرحبة، وترتقيَ في درجات الإحسان العالية.
لقد كان الشريف سيدي محمد العلوي، رحمه الله وجزاه عما قدّم أكرم الجزاء وأوفاه، في سلوكه ومعاملاته ومشاعره وأعماله، في الواجبات والنوافل، وفي التطوع والتصدق وأعمال القربات وغيرها من أعمال البر والطاعة والإحسان والإكرام،  مثالا حيا على شعب الإيمان الراسخة في القلب المطمئن والمحبة الصادقة والذكر الدائم.
لقد كان، في خطابه، رحمه الله ورفع مقامه، بعيدا عن التقعر والتكلف والتعقيد. بل كان خطابه من السهل الممتنع، يفهمه الصغير والكبير، والمتعلم والأمي، والحرفي والإطار العالي، لا تشوبه شائبة من "الإيديولوجيا"، التي ابتلينا بها في كثير من خطابات دعاة هذا الزمان ووعاظه وخطبائه.
لقد كانت صحبتُه، رحمه الله، للأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، أعلى الله مقامه، صحبةً راسخة الجذور في تربة المحبة المحمودة في الشرع وفي موازين الأخلاق والعواطف الإنسانية، السليمة من شوائب الصحبة الإيديولوجية، التي يغرق أصحابها في أفهام ومعتقدات وتأويلات، وخاصة فيما يخص المربي المصحوب، يصعب الدفاعُ عنها، عقديا وفقهيا، وتصعب استساغتُها واستساغة الأساس الفكري التي تنبني عليه.
رحم الله الشريف سيدي محمد العلوي؛ فقد كان صاحبا وفيا، ومحبا صادقا، ومؤمنا مجتهدا، في فرضه ونفله وسائر طاعاته وقرباته. وكان كلامه، مع إخوانه خاصة، ومع الناس عامة، في موضوعات، كالصحبة والذكر والإحسان والقومة والخلافة -على سبيل المثال- كلاما بسيطا بعيدا عن التفلسف والتعالم والتعقيد الفكري والتشدق اللفظي، بل كان الشريف يحرص دائما ألا يتيه بالناس، الذين يستمعون إليه، في مجاهل الأفكار والاعتقادات، وفي عويصات الاصطلاحات والمفاهيم والتصورات المجردة. وكان  مخاطَبُ سيدي العلوي لا يلاقي أي صعوبة في فهم كلامه واستيعاب مقصوده وإدراك مرماه، وذلك بسبب أن ما كان يعتمل في صدر الشريف وجنانه من أفكار ومعان ومقاصد، كان يجده المستمع جاريا على لسانه بسلاسة في التعبير، وبألفاظ غاية في البساطة والوضوح.
رحم الله الشريفَ سيدي العلوي؛ لقد كان رجلا وأَيَّ رجل.
***
وبعد، فقد ضمّت "ذاكرة الحصار" قصائدَ منظومة في مناسبات مختلفة، الجامعُ بينها أنها كانت من وحي أجواء القمع والمنع، التي كانت تفرضها الدولة المخزنية -وما تزال، وإن اختلفت الشعارات والأساليب والأدوات- على مختلف مناحي الحياة السياسية والفكرية والإعلامية والاجتماعية، وخاصة على المعارضين الثوريين للدولة المخزنية، أفرادا كانوا أم جماعات وتنظيمات.
وقد قصدت بنشر هذا الجزء من الذاكرة تحقيق ثلاثة أمور، على الأقل:
الأمر الأول إبقاء هذا التاريخ حيا في متناول يد كل من يريد الاطلاع عليه، وقراءته من خلال لغة النظم والوزن، وعبارة المشاعر والمجاز.
الأمر الثاني هو التعبير عن مشاعر الوفاء والإخاء والمودة، التي ما تزال جوانحي تفيض بها تجاه كل إخواني، الذين صاحبتهم وخالطتهم وعايشتهم، في هذه الفترة التي تستغرقها قصائد هذه الذاكرة، والذين كانت لي معهم، منفردين أو مجتمعين، ذكريات ومشاركات وسفريات ونضالات ورباطات، عمرت زمنا طويلا.
الأمر الثالث هو اعتقادي أن هذا الجزء من الذاكرة المنظومة هو، في حقيقته، مِلكٌ لكل من عاشه وشارك فيه بعضَ المشاركة، كثيرا أو قليلا، وكذلك هو ملك لمن لم يعشه، وإنما قرأ عنه، هنا وهناك، أخبارا وتحليلات، وسمع عنه حكايات، أو رُويت له من بعض القدماء السابقين بعضُ الروايات.
نَعم، إنها ذاكرةٌ مصبوغةٌ بلونِ عواطفي ومشاعري وانطباعاتي، ومتلبِّسةٌ بحقيقة تأملاتي وتقديراتي وتقويماتي، ومنغرسة في أرض قناعاتي وتصوراتي، وآمالي وتشوفاتي. إنها، بتعبير آخر، ذاكرةٌ جماعية بمذاق أو بمنظار فردي شخصي. وكونها على هذه الصفة يجعلها، في اعتقادي، أكثر مصداقية، وأصدق نقلا وتوثيقا، وأعمق تعبيرا عن واقع الأحداث والتاريخ، وأدق تصويرا في رصد المشاهد، ووصف الأحوال، وعرض المشاعر والأفكار. ومن هنا خاصّيةُ الذاكرة المنظومة وميزةُ شهادتها بمقارنتها بالتاريخ المكتوب وشهادة التعبير المنثور.
***
لقد أثبت القصائد في الصورة التي نظمت عليها في الأصل، لم أغير شيئا في مضامينها، ولا في عباراتها، إلا ما كان من ضبط لغوي لبعض المفردات، وتصحيح لبعض الأخطاء التي وقعت بسبب السهو أو إهمال المراجعة، فضلا عن إضافة بعض الهوامش للشرح والتوضيح والتوثيق.
وإني لأرى أن من الأمانة والوفاء لهذه الذاكرة إثباتَ النصوص في صياغتها الأصلية، بكل ما حملته من أفكار وآراء وقناعات ومشاعر، وبكل ما عبرت عنه من رؤى ومواقف، وإن كانت  آرائي اليومَ وأفكاري ومواقفي قد تغيرت في شأن بعض الاجتهادات والسياسات والاختيارات، التي عليها الجماعة، وخاصة فيما يتعلق بمنهاجها السياسي.
وقد رتبت معظم نصوص هذه الذاكرة حسب التسلسل التاريخي؛ الأول يتبعه الثاني ثم الثالث، وهكذا في تتابع زمني إلى آخر نص. واتباع هذا الترتيب الزمني التصاعدي، في نظري، يفيد في إعطاء القارئ فكرة واضحة عن الأحداث والوقائع وتواريخها وتطورها، وعن تطور أسلوب النظم والتعبير، كما يفيد في تيسير التقاط صورة عامة وشاملة عن "الذاكرة" التي تعرضها النصوص المختارة.
***
(رَبَّنَا، اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنَا، إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)
(رَبَّنَا، لَا تُواخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، رَبَّنَا، وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، رَبَّنَا، وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا، وَاغْفِرْ لَنَا، وَارْحَمْنَا، أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

فاس: 14 صفر 1437، الموافق لـ26 نونبر 2015.

تنبيه: يمكن تصفح هذا الديوان وتحميله(نسخة جديدة ومعدَّلة) على الرابط التالي:
https://drive.google.com/file/d/0B1_swnxRNjyoUVF6NjlMUGJOOEE/view?usp=sharing


[1]  يجب الترحم ههنا على واحد من رجالات جماعة العدل والإحسان السابقين، وصاحب من أصحاب الأستاذ عبد السلام ياسين الأوفياء المخلصين، وهو الحاج علي سقراط بن منصور، الذي فاضت روحه إلى بارئها صباح يوم الأحد 18 محرم 1437، الموافق لفاتح نونبر 2015. رحم الله الحاج عليا، ورضي عنه ورفع مقامه في المحسنين مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين.

السبت، 6 يونيو 2015

القانونُ في دولة المخزن

بسم الله الرحمن الرحيم

القانونُ في دولة المخزن

(1)

القانونُ في الدولة الديمقراطية السليمة يكون لإقامة العدل، وحماية الحقوق، المادية والمعنوية، وزجر المخالفات والانحرافات، الفكرية والسلوكية، ومعاقبة المجرمين المعتدين على الحق العام.
في دولة الحق والقانون، يكون الناس سواسية أمام القضاء، مدّعين ومدّعى عليهم، والمتهمُ، في هذه الدولة، بريء حتى تثبت إدانتُه. هذه الأساسيات التي تقوم عليها دولة الحق والقانون، نجدها مفصلة في مبادئ الدستور، الذي يُفتَرض فيه أن يعكس إرادة الأمة، وكذلك نجدها مفصلة في مدونات القوانين المختلفة، التي تنظم شؤون الناس.
هذا هو الغالب في الدول الديمقراطية، التي تمثل فيها المؤسساتُ إرادة الأمة، بخدمة مصالحها، وحماية حقوقها، والدفاع عن هويتها ومقدساتها.
أما الدول المستبدةُ، فالغالبُ فيها أن يكون القانون-والدستورُ جزء منه- واجهةً للدعاية الداخلية والخارجية، ونصوصا قد يتم استغلالُ بعضها لقمع المعارضين، والانتقام من المواطنين، وسلبِ حقوق المظلومين، وذلك بسلوك عدة طرق، واستعمالِ كثير من الوسائل، منها ما هو ظلمٌ صراح لا غبار عليه، ومنها ما هو ظلم، لكنه مقنَّع بأقنعة للتمويه والتدليس والتزوير، ومنها ما يكون ظلما بلبوس قانوني حقوقي، يتواطؤ فيه صوتُ القضاء مع عِصيّ القمع وقنوات الإعلام، كما هو حاصل اليوم في مصر، بعد الانقلاب العسكري الدموي، الذي أطاح يوم 3 يوليوز2013 بالرئيس الشرعي المنتخب، وارتكبَ عدة مجازر في حق معارضيه، وما يزال، من أجل تثبيت أركانه، وفرض استبداده بقوة الحديد والنار، في ظل مباركة مجتمع دولي لم يعد عنده اعتبار لكرامة الإنسان العربي المسلم، ولا لدمه وعرضه وسائر حقوقه.
وما يزال المستبدون يخترعون في كل يوم لونا جديدا من ألوان التزوير والتمويه، حتى يجلبوا لأنظمتهم شيئا من الشرعية والمصداقية. وهيهاتَ وهيهات لِما يطلبون، لأن ضمائر الشرفاء الفضلاء ستظل تلفِظُهم وتلاحقهم وتطلبهم للعدالة جرّاء ما أجرموا وأفسدوا ودمروا.
لقد كتبت في أكثر من مناسبة، وأؤكد هنا أن النظام المخزني عندنا في المغرب هو قوام الاستبداد، وما الدستور والبرلمان والحكومة والوزراء وغيرُها من القوانين والمؤسسات، المنتخبة والمعينة، إلا أدواتٌ لخدمة النظام المخزني، أي لخدمة دولة الاستبداد. ويكفي لتقرير هذه الحقيقةَ أن نعرف أن موظفا إداريا تابعا للحكومة، يُفترض فيه أن يخدم برنامج هذه الحكومة، ويأتمر بأوامرها، لا تملك هذه الحكومة أن تقيله وتستغنيَ عن خدماته، ولو كان ممن يعترض على سياساتها، ويعرقل تنفيذ مخططاتها، ويخرج في مظاهرات للاحتجاج ضدها.
إنه العجَب العُجاب، لكن في دولة المخزن، كل هذا أمر طبيعي لا يدعو إلى تعجب ولا إلى استغراب.
(2)
في الأيام الأخيرة اشتغل الرأي العام، السياسي والإعلامي والاجتماعي، بموضوعات أراد لها صانعوها ومثيروها أن تحتل المركزَ أو ما يشبه المركز في اهتمامات الناس، بل أرادوا لها أن تكرّس التخديرَ وسط جماهير المواطنين، وتلهيَهم عن الاشتغال بلباب الأمر بدل تضييع الوقت والجهد في الظواهر والقشور.
شريطٌ داعِر يصور مشاهد داعرة، ينبو عنها الذوق العام، ويمجّها الرأي العام الاجتماعي الأخلاقي الإسلامي المغربي، بسبب قذارتها وسوقية تعبيراتها وجرأتها على القانون والأخلاق والأعراف. ويصر أصحابُ هذا الفعل الداعر العاهر السافل البذيء أن يفرضوه على المغاربة المسلمين باسم الفن وحرية التعبير والإبداع، وما هو من الإبداع في شيء، بشهادة أهل الفن والخبرة والاختصاص، وإنما هو فعل فاحش يجرمّه القانون، ويرفضه العرف، وترده الأخلاق والفطر السليمة.
إذن، الشريط الداعر هو جريمة بلغة القانون، ومِن ثَمّ كان ينبغي التعامل معه على هذا الأساس، إن كنا حقا في دولة الحق والقانون، وليس في دولة الاستبداد والفساد والتعليمات.
ما كان لهذه الدعارة أن يكون لها شأنٌ بيننا لو أنّ مؤسساتنا الأمنية والقضائية قامت بواجبها الذي يفرض عليها حمايةَ مقدسات المواطنين، وصيانة أخلاقهم وأذواقهم أن تغزوَها السفالة والقذارة، وتجتاحها العهارة الصريحة المنكَرة.
ما كان لمثل هذه الجرائم أن تكثر وتنتشر، باسم الحرية والفن والأدب والإبداع، لو كانت عينُ القانون ساهرة بحقٍّ على مصالح المواطنين، وساهرة على ردع المجرمين والمنحرفين والضالين المعتدين.
لقد نجحت جرائمُ نبيل عيوش وأمثاله من المنتحلين المدّعين أن تظهرَ للناس على أنها فن وإبداع، وأن الشأن في تقويمها والحكم عليها، كما يروج الفساقُ من أهل المجانة والفساد، هو الاحتكام إلى قواعد الفن والإبداع- قلت لقد نجحت هذه الجرائمُ أن تفرض نفسَها على الناس على أنها موضوعات إشكالية للتحاور والنقاش، لأنها وجدت عينَ القانون نائمة، بل مفتوحة لحماية النظام أساسا، وليس لحماية الأخلاق والأذواق والأعراض، وإلا، فإن نصوص القانون الجنائي واضحة في هذا الشأن، فضلا عن المبادئ التي سجلها الدستور الممنوح فيما يخص حماية هوية المواطنين وحقوقهم وأخلاقهم.
بعد جريمة نبيل عيوش، جاءت جريمة جينيفر لوبيز، المغنية الراقصة الأمريكية الداعرة، في مهرجان "موازين" المقدس، الذي بات يُفرض سنويا على المغاربة تحت الرعاية السامية للملك "أمير المؤمنين". ورغم الكلام الكثير الذي قيل عن هذا الحفل الداعر للوبيز، فإن المتكلمين لم يذكروا، أو قل تجاهلوا، أن الأميرة زوجة الملك كانت في مقدمة الحاضرين، الذين "شرّفوا" حفلة لوبيز الداعرة.
والقانون في هذه الحالة أيضا واضح لا غبار عليه؛ فالتعري أمام الجمهور، وأداء رقصات غارقة في الإيحاءات الجنسية الفاحشة، وعرضُ كل ذلك للعموم في التلفزة، كلُّ هذا يُعدّ جريمة يعاقب عليها القانون المغربي. لكن المشكل ليس في وجود القانون، ولكن فيمن سيطبقه. وهذه هي مصيبتنا الكبرى. النيابة العامة، التي يُفترض فيها أن تحرك الدعوى العمومية ضد كلّ مجرم أو نصّاب أو منحرف أو منتهك للقانون، لا ترى في فعل لوبيز جريمة تستحق الزجر والمنع والعقاب، بل لا تستطيع هذه النيابة-وهذه إحدى مصائبنا في دولة المخزن- أن تنظرَ، ولو بخفقة عين، بعدم الرضا إلى نشاط يرعاه الملك "أمير المؤمنين"، لأن الشائع الراسخ المفروض عندنا أن النشاط الذي يرعاه الملك لا يمكن أن يكون خارج القانون، ولا يمكن أن يكون موضوعا للمنع والزجر والمتابعة والمحاسبة، مهما كان عليه عند الناس من اعتراض واحتجاج ورفض.
هذا عن حفلة لوبيز الماجنة الفاجرة، التي "تشرّفت" بحضور الأميرة زوجة الملك.
أما عن نقل هذه الحفلة للعموم عبر التلفزة، فهو جريمة أخرى، لأنه فعل يخالف الدستور والقانون، وينتهك الأخلاق العامة، ومن ثَمّ، كان هذا النقلُ، بشهادة رئيس الحكومة ووزيره في الاتصال، جريمةً يعاقب عليه القانون.
فهذه الحكومةُ، على لسان رئيسها، تشهد بأن الذين أمروا بنقل حفلة لوبيز لعموم المواطنين قد أتَوْا عملا يجرّمه القانون، ومع ذلك لا يملك رئيس الحكومة-وهذه قمة الذل والهوان- أن يقررَ في شأن المسؤولين عن ارتكاب هذه الجريمة في إدارة التلفزة الوطنية العمومية. لا يملك رئيسُ الحكومة مع وزرائه في دولة المخزن إلا الكلام، والتلميح البعيد، والعبارات التي تحتمل وتحتمل، وكل هذا لا يغني شيئا في مضمار إقامة العدل وإحقاق الحق وتطبيق القانون.
إنها قمة الذل والهوان أن يجد رئيسُ حكومة، ومعه وزراؤه، نفسه عاجزا أن يتخذ قرارا في شأن موظف، يُفترض نظريا أنه تابع له، انتهك الدستور، وخرق القانون، ومسّ الحياء العام عن عمد.
ثمَّ جاءت بعد هذا حادثةُ باحة صومعة حسان بالرباط؛ فقد قامت امرأتان فاسقتان من فواسق ما يُعرف بمجموعة "فيمن"، بالتصوّر في باحة صومعة حسان وهما يتبادلان القبلات، وقد كتبتا على صدريهما العاريين، على طريقة هذه المجموعة العاهرة في التظاهر والاحتجاج، جملةً تعبر عن تضمانهما مع الشواذ المغاربة. وقد زاد في شناعة هذه الجريمة أن التصوير قد تم في مكان عمومي بعاصمة المغرب، له رمزيته التاريخية، وبه قبور الملك محمد الخامس، والملك الحسن الثاني وأخيه عبد الله، رحمهم الله وغفر لنا ولهم.
نعم، لقد قامت السلطاتُ المختصة بتوقيف الفاعلتين عندما كانتا تهمان بمغادرة البلاد في مطار الرباط-سلا، لكن هذا التوقيف لم يدم طويلا، إذ سرعان ما نشرت وسائل الإعلام أن السلطات المغربية قد أفرجت عن المرأتين الفاجرتين، وسمحت لهما بمغادرة البلاد، بعد أن اقترفتا جريمة واضحة تم تصويرها وبثها للعموم عبر شبكة الإنترنيت.
تصوروا معي لو أن مغربيين أو مغربيتين من المواطنين المغمورين ارتكبا مثل هذه الجريمة التي ارتكبتها الفاسقتان من تنظيم "فيمن"، فهل كانت السلطات ستعفو عنهما، وتقرر عدم متابعتها؟
المؤكد عندي أن هذه الجريمة، المتمثلة في التعرِّي في مكان عمومي له خصوصيته ورمزيته، وارتكابِ فعل فاحش يمس بالحياء، والتضامنِ مع مدانين بجريمة يعاقب عليها القانون، لو كانت مِن مغربي عادي لكان مصيره المتابعة والمحاكمة وربما السجن. ولكن لمّا كانت الفاعلتان الفاجرتان من فرنسا، فإن القانون أصبح لاغيا، والمتابعة لا معنى لها، والتسامح والعفو صارا هما الأسلوب المختار للتعامل والتفاهم وتجاوز المشكل.
بل هذا ما حصل بالفعل؛ فقد أصدرت وزارة الداخلية بيانا بعد اعتقال مغربيين من الشواذ قاما يوم الأربعاء 3 يونيو الماضي بمثل ما قامت به الفاسقتان الفرنسيتان من مجموعة "فيمن"، وفي باحة صومعة حسان نفسها. أما الفرق بين تعامل السلطات مع الحالتين هو أن الفرنسيتين تم السماح لهما بمغادرة المغرب من غير عقاب، وأن المغربيين تم اعتقالهما، لإحالتهما على القضاء.
لماذا هذا التمييز؟ لأن احترام مبادئ الدستور وتطبيق القوانين في ظل الاستبداد إنما يكون بحسب الهوى والتعليمات واعتبار العلاقة مع هذا أو ذاك من الأشخاص والدول والمؤسسات، أي أن علاقة الاستبداد بالقانون ليس مبدئية، وإنما هي حسب الاعتبارات الطارئة، والتقديرات السياسية، وهذا هو عين الظلم والفساد.
أيُّ قانون هذا الذي يطبق على المغمورين من المواطنين الضعفاء، مهما كانت جريمتهم، ويُعفى منه الأجانب، لأنهم من هذا البلد أو ذاك، وإن بلغت جريمتُهم من الفظاعة والبشاعة ما بلغت؟
أيُّ دولة هذه، وأي حكومة، وأيُّ عدالة-يا سيدي وزير العدل والحريات- حينما يصبح القانون لا يساوي شيئا، بل يصبح فاقدَ المصداقية والهيبة أمام فاجرتين مجاهرتين بسلوكهما الشائن الحقير؟
أيُّ مثال هذا، وأيّ درس، وأيّ عبرة، نعطيها للمواطنين حينما تعلّمهم الدولةُ بقراراتها ومواقفها وسياساتها المخالفة للقانون، أن العدالة في بلادنا مسألة نسبية، وأن الأمر فيها مرهون بالهوى والمزاج والتعليمات التي تنزل من فوق؟
ماذا بقي لوزارة العدل والحريات، وقبلها ومعها وبعدها رئاسةُ الحكومة، من مصداقية؟ وهل بقي لهم من وجه يقابلون به الناس؟
إن التعاملَ مع القانون بهذه الصورة التي تقوم على الانتقاء والتمييز، لهو الدليل القاطع أننا ما زلنا متخلفين عن دولة الحق والقانون بمسافات بعيدة وبعيدة جدا.
إن الوزير الذي لا يملك أن يطبق القانونَ في جريمة لا غبار عليها إنما هو-رضي أم لم يرض-مخزنيٌّ برتبة وزير، لأن الوزير الحقيقي، الذي يدّعي أنه يمثل إرادة الشعب، وأنه يمثل القانون، لا يمكن، في رأيي، أن يكون منه هذا التهاون والتردد والتخوفُ والإهمال، الذي رأيناه من الحكومة، ومعها المسؤولون السياسيون، من كل الألوان والأطياف، في شأن الجرائم المحقَّقَة التي مثلها الشريط الفاحشُ لنبيل عيوش، والسهرةُ الفاجرة لجينيفر لوبيز، والنقلُ لهذه السهرة الفاجرة في التلفزة العمومية، والسلوكُ الفاسق الحقير من عضوتي "فيمن".
هذه جرائم محققة بنص القانون المغربي، لا علاقة لها بالفن والإبداع وحرية التعبير. قد تكون هذه الجرائم في دول أخرى مسلوكة في الفن المباح، والتعبير الحر، والإبداع المقبول. وقوانينُ الدول تختلف باختلاف هوياتها ودياناتها وحضاراتها  وثقافاتها وأخلاقها وأعرافها. فليس ما يقبله الذوقُ الفرنسي، مثلا، مقبولا، لزوما ووجوبا، في الذوق المغربي. وإن كان هناك مغاربةٌ أهواؤهم وأذواقُهم وقلوبهم مع فرنسا، فإن هذا لا يعني أن نلغيَ قوانينها وديننا وحضارتنا وأعرافنا وأخلاقنا لنرضيَهم، بل الواجب المطلوب هو أن يحترم هؤلاء المُغَرَّبون المفرنسون الذوقَ المغربي العام، الذي يمتاح من أخلاق الإسلام، وحضارة الإسلام، وسمو الإسلام.
ومما له علاقةٌ بما نحن بصدده ما صرحت به إحدى الوزيرات المنتدبات في حكومة السيد بنكيران، في أثناء ندوة صحفية يوم الثلاثاء الماضي 2 يونيو، في شأن موقفها من اللغة العربية، وهي لغة رسمية كان على الوزيرة أن تعتبرها وتحترمها وتقدر مكانتها الدستورية، حيث ردّت على من طالبها بالحديث بالعربية بأن "العربية كطلع لي السخانة"، بمعنى أنها تصاب بالحمىّ إن هي تكلمت بالعربية.
هذه وزيرة في الحكومة تتحدث بهذا الأسلوب الركيك الساخر عن اللغة الرسمية للبلاد، فماذا تركت لأعداء العربية من خارج الحكومة؟ ثم، بعد هذا-وهذا بيت القصيد عندنا- لا تجد هذه الوزيرة من نفسها الشجاعة لتستقيل، بل لا تجد من يفرض عليها هذه الاستقالة فرضا، لأن الجميع في الحكومة يعرف أن المبادئ الدستورية في شأن اللغة الرسمية، وفي شأن كثير من الموضوعات المتعلقة بهوية المغاربة ومقدساتهم، لم تُوجد لتطبَّق، بل وُجدت للزينة والواجهة والدعاية. وقد تطول هذه المقالة إن أنا أردت أن أسرد الحالات التي تم فها خرقُ الدستور ومخالفة القانون على يد الوزراء، الذين يفترض فيهم أن يكونوا أول من يحترم الدستور، ويسهر على تطبيق القانون.
وبعد، فعندي أن مِن أوجه مصيبتنا السياسية أننا لم نبدأ حتى الآن الخطوة الأولى على طريق بناء دولة الحق والقانون، وهذه الخطوة الأولى هي تطبيق القانون- مهما كان موقفنا من هذا القانون- بقوة وعدالة وإنصاف ومساواة بين الجميع، لا فرق بين غني وفقير، ولا بين مغربي عادي وفرنسي سائح، ولا بين مشهور ذي جاه ومال وبين خامل منسي في الهوامش.
في جملة، الخطوة الأولى أن نحترم القانون، وأن يكون جميع الناس سواسية أمامه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.




السبت، 2 مايو 2015

فصولٌ في موسيقى الشعر

بسم الله الرحمن الرحيم

فصولٌ في موسيقى الشعر


 "فصولٌ في موسيقى الشعر" هو عنوان كتابي الجديد، الذي اخترت أن أنشره، كسابقه(فصول في الشعر المُحدَث)، في صورة رقمية، كي يتسنى وصولُه إلى جمهور واسع من الباحثين الدارسين وغيرهم من القراء المهتمين بموضوع موسيقى الشعر العربي وما يتعلق به من موضوعات تخص أساسا علميْ العروض والإيقاع.
ترجع الأصول الأولى لفصول هذا الكتاب إلى التسعينيات من القرن الماضي حينما كنت أهيّئ أطروحة الدكتوراه.
ولم أزل، منذ ذلك الوقت، أراجع المادة العلمية النقدية لهذه الأصول، وأعمّق النظر فيها، وأشذبها على ضوء ما كان يقع بين يدي من كتب ودراسات، وما كنت أطالعه من أفكار ونصوص جديدة، حتى أصبحت هذه المادة اليوم-فيما أرى وأقدر-ناضجة لإخراجها إلى الناس في كتاب.
يدور مضمون هذا الكتاب على بحث نقدي في "موسيقى الشعر"، ركزت فيه على تبيان أهمية "الوزن" في الإبداع الشعري، وأن الشعر العربي، منذ اكتمل نضجه، لم يزل لصيقا بصناعة الألحان، نظما وإنشادا ودندنة. ووقفت فيه وقفات حاولت فيها بيان تهافت دعوى الحداثيين المتطرفين أن الحداثيّة قد حكمت حكمها المبرم أن يموت "الوزن" أصلُ كل الشرور، في زعمهم وحكمهم الإيديولوجي النهائي الظالم، ليحل محله "الإيقاع" بما حمّلوه من مفهوم فضفاض لا علاقة له بصناعة الشعر، وإنما هو، عند التحقيق، الادعاءُ والفوضى والتحرر من كل قاعدة أو مقياس أو ضابط أو ميزان.
فمنذ بدأت تجتاح حياتنا الأدبية جائحةُ "الشعر الحداثّي" الذي لم يتردد أصحابُه، منذ بدء ظهور أمرهم، في المجاهرة بعدائهم الصريح لعلم العروض، ومن ورائه لأوزان الشعر العربي السليقي، لم تفلح جميعُ المحاولات التي سعت لإيجاد بديل عن قواعد موسيقى الشعر العربي، التي أوجدتها السليقية العربية وطورتها وصقلتها عبر أزمان طويلة، حتى استقامت موازينَ فنية صالحة لأداء مشاعر الشاعر العربي، في مختلف مناحيها النفسانية، ورفرفاتها الروحية، ونزوعاتها العاطفية، وتأملاتها الفكرية، وتعبيراتها الحماسية، وألحانها الموسيقية.
فكل الدراسات التي اجتهدت أن تضع قواعد بديلة عن علم العروض للوفاء بمتطلبات الإيقاع الشعري، انتهت إلى الفشل، بعد أن ظلت محصورة في الكلام النظري، والأمثلة المجردة، والتمارين الافتراضية، فضلا عن خطاب الأماني والأحلام.
لم يستطع أحد إلى اليوم ممن يعادي الأوزان العمودية، أو، على الأقل، ممن يستثقل هذه الأوزان ويرى فيها قيودا وتكاليف لا يطيقها الشاعر الحديث، أن يأتيَنا بشيء جديد بديع تقبله السليقة، وتستريح له الفطرة، وتهتز له النفس، ويستجيب لحاجة الوجدان إلى اللحن الجميل والإيقاع المطرب.
لم يأتِنا من أعداء علم العروض وخصومه، مِن رافضيه ومنتقديه، على طول سبعين سنة تقريبا، شيء له قيمة في مجال الإيقاع الشعري. بل إن المحاولات الأولى للتجديد، كمحاولة نازك الملائكة(1923-2007)، التي بسطتها في كتابها "قضايا الشعر المعاصر"، لم تخرج عن القواعد التي استنبطها الخليل، بل ظلت تدور في فلكها لا تستطيع عنها فكاكا.
وأمام هذا العجز الفني لمواجهة علم العروض ببديل فني مقبول ومعقول، لم يبق أمام المعارضين الرافضين، وخاصة في وجههم الحداثي المتطرف-حسب ما انتهيت إليه في بحثي- إلا الاحتماءُ بخطاب الإيديولوجيا، وخطاب الرفض من أجل الرفض، ولو كان ذلك على حساب العلم والموضوعية، وأدى إلى هدم تراث تليد شاهق باذخ شاركت في بناء صرحه الماجد أجيال وأجيال من الشعراء عبر مسيرة امتدت لعدة قرون.
لقد انتهى الخطاب النقدي الحداثي إلى رفض علم العروض وما يعنيه هذا العلم من التزام وقواعد ومقاييس في صناعة الشعر وأوزانه، لا لسبب نقدي فني مفهوم ومعتبر، وإنما لأنه علم جاءنا من الماضي، وما يزال يسومنا ما نطيق وما لا نطيق من القيود-حسب ما يزعمون في تعليلاتهم الضعيفة الداحضة- ومِن ثَمّ وجب رفضه والتخلص منه نهائيا، وإن لم يكن عندنا بديل.
بلى، هناك عند الحداثيّين المتطرفين بديل يسهّل المشقات، ويقرب المسافات، ويبلغ الغايات، وهو الكتابة بالنثر على أنه "شعر" له "إيقاع"، وله كذا وكذا من الصفات والمميزات والإيجابيات، التي اخترعوها من عند أنفسهم، وروجوا لها بإعلامهم الحداثي الجبار، ومكنوا لها بما يملكون من وسائل ووسائط وإمكانيات في أوساط الباحثين الأكاديميين، والدارسين الجامعيين.
لقد وضعوا من عند أنفسهم نظرية لشعرهم الحداثي، واخترعوا له قواعد، جمعوها من هنا وهناك، ثم كان منهم أنفسهم "الشعراء" المثالُ، الذين يصدقون هذه النظرية الموضوعة، ويطبقون القواعد المخترعة.
فالغالب اليوم، وخاصة في أوساط الباحثين الجامعيين الشباب، هو هذه النظرية الحداثيّة، التي فرضت على الناس أن ينسوا أن هناك شيئا اسمه "علم العروض"، وأن الوزن هو من أعظم أركان موسيقى الشعر، وأن الإيقاع في الشعر العربي كان دائما ملازما للأوزان العمودية.
لا يكاد الباحث الشاب اليوم يعرف شيئا عن أوزان الشعر، وإنما معرفتُه باتت محصورة في الإيقاع، ولا شيء غير الإيقاع. وعندما تأتي تفتش عن هذا الإيقاع، مفهومه وصفاته ومحدداته ومقاييسه، فإنك لا تجد إلا الذوق الشخصي المتحرر من كل مقياس، الضارب في كل الاتجاهات، ولا تجد إلا التعبيرات الإنشائية، التي يجتهد أصحابها ألا تقول شيئا، والتأويلات والافتراضات والانطباعات، التي تتعدد بتعدد المؤولين، وتتباين بتباين المفترِضين، وتختلف باختلاف طبائع القارئين.
فالقارئ ملزم أن يجد لِما يسمونه "شعرا حداثيا" إيقاعا موسيقيا ما، وإن كان هذا "الشعر" غارقا في النثرية، لا يختلف عن الكلام العادي في شيء، بل قد ينقص عنه درجات حينما يتردى في حضيض البذاءات والزندقات والضلالات، وينزل إلى مستوى الركاكة والإسفاف والمعجم النابي السوقي.
فحينما يُفرض على القارئ أن يقرأ، مثلا، الكلامَ التالي لأدونيس:
"...وقال القرمطي:
الجسد صورة الغيب
وحمل الأرض في كتفيْ ناقة وأعلن
أنا الداعية والحجة

استغونا أيها السيد استدرجنا
قل لنا من كذَبَ ومَخْرَقَ
 مَنِ البليّةُ
                  مَن خدع الجسد بنواميسه؟"

                               (مفرد بصيغة الجمع، لأدونيس، ص79)

حينما يُفرض على القارئ أن يقرأ مثل هذا الكلام على أنه شعر بديع من شاعر حداثي كبير، فإن هذا القارئ الواقع في أسر الحداثيّة المتطرفة العبثية، علاوة على إلزامه باعتبار كلام أدونيس شعرا، ملزمٌ كذلك بأن يجد لهذا الكلام ما يُثبت ما يُدَّعَى له من إيقاع وشعرية، وإن كان هذا الكلام، في حقيقته، لا يمت إلى الشعر بأي صلة.
ويجتهد المجتهدون من القراء المأسورين، والنقاد المؤيدين المتواطئين، ليجدوا قواعد، من أي نوع، وإن كانت عبثية لا تقوم على أي أساس، لإثبات أن ما يقرأون إنما هو شعر له إيقاع بديع فاتن، وفيه من الصفات الموسيقية ما يرفعه إلى قمة الإبداع.
والكثرة الكاثرة مما ينشر اليوم في موضوع الإيقاع الشعري-حسب النماذج التي اطلعت عليها- هي من هذا النوع؛ فهذا يكتب عن الإيقاع في شعر السياب، والآخر في شعر أدونيس، والثالث في شعر درويش، ورابع وخامس إلى ما لا يُحصى من الدراسات والأبحاث والأطروحات.
إنك قد تجد المؤلف أو الباحث في غالبية هذه المنشورات، التي تبحث في الإيقاع، كمن أُتِي بأصوات مختلطة كلها نشاز في نشار، وطُلب إليه أن يجتهد، معتمدا، أساسا، على ذوقه وتخمينه وتأويله ووهمه، ليجد لهذه الأصوات التي لا يجمعها جامع إلا الضوضاء والتخليط والنشاز، قواعدَ-كيفما كانت هذه القواعد- تسوّغ نشازها، وتبرره، وتُجمّله وتقدمه على أنه تأليف موسيقي جميل، ولحن فني بديع.
فكذلك هي معظم تجارب الحداثيين اليوم، التي تنشر، ويروج لها على أوسع نطاق، على أنها "شعر"؛ نثر عادي-وقد يكون أقل من العادي- مؤلفٌ من أصوات لا يكاد يكون فيها شيء يربطها بالإيقاع الفني الشعري، يُفرض على أنه "شعر" له إيقاع، وعلى الباحث القارئ الناقد، أن يبحث عن هذا الإيقاع المزعوم، وأن يخلقه خلقا مِن عدم، وأن يحتال، من هذا الطريق أو ذاك، لإيجاد قواعد وتفسيرات ومبررات، تثبت أن هناك، حقيقة وفعلا، إيقاعا شعريا يسلك هذا "النثر" المدروس في الأشعار الرائعة!
هذا هو باختصار مشهدنا الشعري اليوم؛ نثرٌ عادي-وقد يكون في غموضه وعبثيته وبذاءة مفرداته وركاكة تعابيره، لا يساوي قطميرا في موازين نقد الكلام-بات مفروضا بالإيديولوجيا الحداثيّة على أنه "شعر"، وعلى الناس أن يقولوا أي شيء، ويتوهموا أي شيء، وأن يفسروا ويؤولوا كيفما يحلو لهم، ليثبتوا ما يستحيل إثباته. ولن تكون أقوالهم وأوهامهم وتفسيراتهم وتأويلاتهم إلا مقبولة ومقوّمة أحسن تقويم، بل وحائزة على أكبر الميزات والتقديرات.
وبعد، فقد توزعت مباحث هذا الكتاب على ثمانية فصول، عناوينها، على التوالي، هي:  "الشعر والغناء"، و"رُكنيّة الوزن في صناعة الشعر العربي"، و"وقفة سريعة مع علم العروض"، و"خاصية التساوي الكمي في الوزن الشعري"، و"علم العروض وحركات التجديد"، و"التجديد في "شعر التفعيلة" أو "الشعر الحر"، و"انقلاب من أهل الدار"، و"قوام الشعر بين قانون الوزن وفوضى الإيقاع".
وقد سعيت من خلال هذه المباحث، أن أثبت، بالأساس، كما ذكرت في مطلع هذه السطور، أن إيقاع الشعر العربي كان دائما نابعا من الوزن، أساسا، ومعه عناصر أخرى قد أولاها النقاد القدماء من اهتماماتهم الشيء الكثير، وأنه لا إيقاع لشعر غير موزون، إلا أن يكون من قبيل الإيقاع العامي المبتذل الذي نصادفه في كلام الناس اليومي، وأن الوزن سيظل ركنا من أركان الشعر، يميزه عن الكلام المنثور، وإن كان الصوت المرفوع الطاغي اليوم، في الساحة الأدبية النقدية، هو صوت الحداثية الإيديولوجية الهدمية المتطرفة.
وقد أثبت في خاتمة الكتاب أهم الخلاصات التي انتهيت إليها في بحثي، والتي أوجزتها فيما يلي:
أولا: إن جميع المحاولات التي رامت إيجاد بديل فني وعملي تطبيقي حقيقي لعلم العروض، أي للأوزان السليقية التي استنبطها-أقول استنبطها ولم يفرضها من عنده- الخليلُ بن أحمد الفراهيدي من الشعر العربي لم تنته إلى شيء ذي بال، ولم تفلح، ولو قيد أنملة، أن تزيح الأوزان العمودية عن عرش موسيقى الشعر العربي، وإنما ظلت حبيسة النظريات والافتراضات والأمنيات، ومنها ما بقي دائرا في فلك الخليل لا ينفك عنه.
ثانيا: إن الأسباب التي ذكرها المجددون، ومن بعدهم الحداثيون، بمختلف اتجاهاتهم، لرفض الأوزان العمودية، والتشكيك في مؤهلاتها الفنية، لا تصمد أمام النقد الجاد والتمحيص العميق. بل يمكن القول بأن بوصلة البحث عن أسباب تدهور الإبداع الشعري ينبغي أن تتوجه إلى ذوات الشعراء؛ فضعف المواهب وقلة المبدعين الكبار، وليس العروض وأوزانه وقواعده ومقاييسه، هي المعدن الأساس الذي منه تتشكل الأسباب الحقيقية لتدهور الفن الشعري.
ثالثا: إن النقد الحداثي المتطرف، الذي يتبنى اليوم إزاء علم العروض موقف الرفض من أجل الرفض، هو نقد غير مسؤول، بل قل إنه، بموقفه الإيديولوجي العبثي هذا، نقد مسؤول عن التردي الذي بات عليه الإبداع العربي في مجالات الآداب والفنون. وإنه لمن أعمال التخريب الصريح-كما عبر عباس محمود العقاد-أن نعمل معاول الهدم في صرح تراث موسيقي شامخ خالد، شهد على رسوخه وصلاحياته لحمل معاناة الشعراء، في كل الأزمان، أجيال وأجيال من الشعراء، من مختلف الاتجاهات والفلسفات والحساسيات الشعرية، عبر مسيرة قرونية ما تزال موصولة بالزمن الحديث.
رابعا: لقد أحل النقد الحداثي الإيديولوجي المتطرف "الإيقاع"، بالمفهوم العامي الفضفاض-وليس بالمفهوم الفني الموسيقي المنضبط-محل الوزن، ولم يعد هناك ذكر لعلم العروض، في الخطاب الحداثي، إلا في سياقات القدح والرفض والتجريح والتشنيع. ولن يكون "هذا الإيقاع الحداثي" بديلا عن الأوزان العمودية، لأن الفوضى والتسيّب لم يكونا قطّ، ولن يكونا، بديلا للقانون والنظام والانضباط. هذا هو الإيقاع الذي يبشر به الحداثيون؛ فوضى جامحة في الذوق والنظر والتحليل، لا تقوم على أي أساس من القواعد والمقاييس والضوابط. إنها "الشيء" الذي لا يعني شيئا!
وبعد، فإن كثيرا من النقاد والباحثين يعتقدون اليوم، إما عن تقليد وموقف محفوظ، وإما عن اجتهاد واقتناع، أن المعركة الأدبية النقدية التي اشتعلت، في نهاية النصف الأول من القرن الماضي، حول أوزان الشعر العمودي قد انتهت منذ زمان، وأنها حُسمت لصالح "الشعر الحداثي"، الجاحد بعلم العروض.
لكني، وأنا ما زلت في بحث مستمر، لم أجد من المعطيات ما يقنعني بأن هذه المعركة قد انتهت وحسمت، فعلا وحقيقة. والذي ما زلت أعتقده إلى اليوم هو أن المعركة حول الأوزان السليقية العمودية ما تزال مستمرة. نعم، كان هناك حسمٌ، لكنه لم يكن حسما أدبيا فنيا، بل كان حسما إيديولوجيا إعلاميا، كما شهد بذلك شاهد من أهلها، غلبتْ فيه الضوضاء والأضواء والشعارات والأصوات العالية.
وفي رأيي أن هذا الضعف والانحسار والتقهقر والانحدار الذي يعانيه الإبداع الشعري اليوم، إنما هو من مضاعفات هذه الغلبة الإيديولوجية الإعلامية الحداثية على مجالات الآداب والفنون. ورجوع العافية إلى
 فن الشعر، في تقديري، مرهون برفع الوصاية الحداثية الإيديولوجية عن الإبداع، لترجع الكلمة الفصل، في التقدير والتقويم، إلى مقاييس نابعة من الفن نفسه، يعرفها ويقدّرها أهلُ الفن والصنعة والاختصاص، لا أهل الإيديولوجيا والضوضاء والهدم الصراح.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

ملاحظة: الكتاب متاح مجانا على الرابط التالي:
/http://www.alukah.net/literature_language/0/86208





السبت، 28 فبراير 2015

فصولٌ في الشعر المُحدَث(نص الكتاب الكامل)

بسم الله الرحمن الرحيم
(فصولٌ في الشعر المُحدَث) هو عنوان كتابي الأخير، الذي آثرت أن أنشره في صورة رقمية، ليتسنى له الوصولُ إلى جمهور واسع ومتنوع من القراء.
إنه كتابٌ في النقد الأدبي، وهو ما يعني أنه موجه، أساسا، إلى شريحة معينة من المهتمين من الباحثين والدارسين المتخصصين. لكن موضوعه، وإن كان يدور حول ما عُرف بالشعر المُحدَث في تاريخنا الأدبي، فإنه وثيق الصلة بموضوع أعم وأشمل وأعمق، هو موضوع الحداثيّة(الموديرنيزم)، التي تغزو اليوم، بالحديد والنار، حقيقة ومجازا- وخاصة في مجالات الفكر والآداب والفنون- عقولنا وقلوبنا وأذواقنا، وتجتاح ناشئتنا في المدارس، وشبابنا في المعاهد والجامعات، وتستنزف طاقاتنا وأموالنا وأوقاتنا- وهي غالية لا تقدّر بثمن عند من يعرف قيمتها- في مراكز الأبحاث والدراسات.
والمتتبع لكتاباتي ومقالاتي يعرف أن الحداثيّة التي أقصدها إنما هي الحداثية في وجهها المتطرف الهدمي التخريبي العبثي، التي تنبع من خلفية عقدية فلسفية إيديولوجية عمادُها ما أسميه بالإلحاد المناضل، الذي يسعى معتنقوه، بالليل والنهار، لا يكلون ولا يملون، من أجل إطفاء نور الله، (والله متم نوره ولو كره الكافرون).

وهذه مقتطفات من مقدمة الكتاب:
لقد زوّر الحداثيّون اللادينيّون-وما يزالون يفعلون- الأخبارَ والحوادثَ والروايات التاريخية، واقتطعوا النصوصَ من سياقاتها الطبيعية، لتوافق هواهم ومقاصدَهم، وانتقوا من الأسماء والأحداث والوقائع، بعد تأوليها حسب ما يناسب مبتغاهم، والتصرف فيها بالزيادة والنقصان، والتلاعب ببعضها بالتحريف والاختلاق، ما يخدمُ أهدافهم، ويُصدّقُ مسلّماتهم التي وضعوها بداية، وانطلقوا يبحثون لها عن المثال، ويجلبون لها ما يسوّغها من النصوص والأخبار.
ومن معدن هذا التزوير المُنكر صاغ أدونيس(علي أحمد سعيد إسبر) ما أسمّيه "مُسَلَّمَتَه الحدَاثيَّة"، التي ترى أن الإلحاد، في تاريخنا العربي الإسلامي، كان "أول شكل للحداثة". وقد بنى على هذه المسلمة أن جميع كبار شعراء العربية، كبشار بن برد، وأبي نواس، وأبي تمام، والمتنبي، وأبي العلاء المعري، لم يكونوا مؤمنين بالوحي، بل-في زعمه- كان لهم وحيهم الخاص، و"أن جميع العباقرة العرب الذين نبغوا في الإسلام، من أبي نواس إلى المعري، وجميعَ كبار الشعراء والفلاسفة، كانوا لادينيّين. ولم تَخرُجْ من الدّين مباشرةً ولا فكرةٌ واحدةٌ، مثلما يخرج العطرُ من الوردة. فالمفكرون والشعراءُ خلقُوا ورودا جديدة للحصول على عطر آخر"، وأن "الشعر، على طول تاريخه، كان معاديا للدين".
والغالب على هذا التزوير الحداثيّ ركوبُ مركب التنَكّر والتمويه والمغالطة أسلوبا في المجادلة والحجاج، من أجل الغلبة والإقناع، فضلا عن الخلفية الإديولوجية اللادينية التي لا تغيب. بل إن هذا التزوير كان يظهر، في بعض الأحيان، في صورة في غاية الوقاحة والدناءة والافتراء، وهو ما ينبهنا إلى هذا الحضيض الذي بلغه الحداثيون اللادينيون المتطرفون المزوِّرون في الجراءة على مقدسات الإسلام، وثوابت التاريخ، وحقائق العلوم، ونزاهة العلماء.
فالشعر المحدث بمنظار هذا التزوير الحداثي هو الرحم الشرعي الذي فيه تخلّق الشعر الحديث. كيف؟ وبأي حجة أو مقياس أو مسوّغ يقرر الحداثيون هذا؟
ليس هناك من حجة ولا مقياس ولا مسوغ علمي يقبله المنطق، وتسلم به العقول إلا الهوى الجارف والإيديولوجية العمياء...
لقد بلغ البهتان الحداثي أوْجَه حينما  تمّ وصفُ شعراء مُحدَثين مُسلمين، كأبي نواس وأبي العلاء، مثلا، بأنهم كانوا مُلحدين. وهذا البهتانُ إنما يفضحه أن أشعار هؤلاء الشعراء، وما وصلنا من أخبارهم الموثوق بها، وليس الأخبار الموضوعة المدسوسة، تشهد بإيمانهم، رغم ما اشتهر عن بعضهم من خلاعة ومجانة وسخافة. أما مطويات ضمائرهم، وسرائر قلوبهم، فأمرها إلى الله، سبحانه، الذي (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور).
فليس بين الشعر المُحدَث، الذي تحدث عنه نقادنا القدماء، وبين "الشعر" الحداثي الذي يجتاح حياتنا اليوم، في اعتقادي، أي علاقة قرابة، وإنما هو التزوير الحداثي الذي فرض أن هناك علاقة "عائلية" "فنية" "إبداعية" عريقة بين الاثنين. وقد لا نستغرب هذا السلوك المنكر من "لقيط" ناتج عن حرام، يريد أن يثبت لنفسه نسبا شرعيا، وهو يعلم حق العلم أنه مولود غير شرعي. إذن، سيجتهد في فعل كل شيء، بالحق والباطل، من أجل أن يدفع عنه التهمة والنظرات المريبة التي لا تني تلاحقه.
وبعد، فإني أرى فصولَ هذا الكتاب خطوة جديدة في الطريق، أتمنى أن تتبعها خطوات وخطوات، من أجل فضح هذا التزوير الحداثي الذي بات يخنق حياتنا الأدبية، ومن أجل تحطيم أصنام النقد الحداثي اللاديني المتطرف، التي بات لها سطوة على العقول والقلوب والأذواق، في المدارس والجامعات، وفي مراكز التأطير والبحث، وفي غير أولئك من مناحي حياتنا، وبالخصوص في مضمار الفكر والثقافة والفنون والآداب.
ومن الله، تعالى، العون والتيسير والتوفيق.