السبت، 30 مارس 2013

من قضايا الحوار بين الإسلاميِّين والعلمانيِّين(1/2)


بسم الله الرحمن الرحيم


من قضايا الحوار بين الإسلاميِّين والعلمانيِّين(1/2)


بقلم: عبد العالي مجذوب

الطريق إلى طاولة التعارف والتواصل والتحاور
في المقالة السابقة حاولت أن أرصد أهم المُعوّقات التي تحول دون بدء حوار حقيقيٍّ، جادّ ومسؤول، بين مكونات المعارضين للدولة المخزنية، يُفضي إلى تقارب وتواصل بين هذه المكونات، وإلى تَسَالُمٍ بينهم، على الأقل، إن تعذَّر التعاونُ والتحالفُ.
فهؤلاء المعارضون اليوم، وأخُصُّ منهم الإسلاميين واليساريين، مشتتون ومنقسمون ومتنافرون ومتضاربون، كلٌّ يدعو إلى سِربه غيرَ معتَدٍّ بالآخر ولا معتَبِرٍ له، إلا في عبارات محتشمة في خطابات يغلب عليها الإديولوجي الحزبي الأناني المفرِّق.
لنفْترِضْ أن المعارضين للمخزن تعَافَوْا من العلل والتشوهات والعاهات السياسيّة التي أورثتهم إياها عهودُ العسف والطغيان، وباتوا أحسن حالا، وباتت أحزابُهم ومنظماتُهم وجماعاتُهم أقربَ إلى أن تكون كياناتٍ طبيعيةً سليمةً مؤهَّلةً أن تتجالسَ وتتقارب وتتعارف وتتفاهم، من غير أدنى إحساس بالتعالي على الآخر أو نفيه وإقصائه، وأصبح من همِّهم السياسيِّ أن يسعوا لتوحيد جهودهم، وأن يركزوا رمْيهم، وأن يتعاونوا ويتحالفوا ويتَراصُّوا في مواجهة خصمهم وعدوهم.
لنَفْترِضْ أن المعارضين للمخزن أصبحوا وقد انقشعت عنهم غشاواتُ التعصب والتكبّر والأحلام والمثاليّات، فصاروا أقرب إلى الواقعية السياسية والاعتدال الإديولوجي والتحلي بالأخلاق العالية والروح الرياضية في محاورة الخصم ومنافسته ومدافعته، والاستعداد للرضا والقبول والترزن مهما تكن نهايةُ هذا الحوار، ومهما تكن نتائجُ هذه المنافسة والمدافعة.
أنا أفترِضُ حصولَ كلِّ هذا، وأنا واعٍ كلَّ الوعي بأن الطريق إليه كأداء ليس من السهل سلوكُها على أيٍّ كان، وإنما تَكَؤُدُ هذا الطريق يحتاجُ إلى رجال عقلاء فضلاء، من كلّ الأطراف، يمتازون بوعي وعلم وفهم ورؤيةٍ بعيدة وأخلاق شريفة، تجعلهم قادرين أن يستصلحوا الطريق ويمهِّدوه ويحوِّلوه من طريق ممتَنِع كؤود إلى طريق سالك ميسور.
لنفترضْ حصولَ كلِّ هذا، فإلى أين نحن واصلون؟

حول طاولة الحوار والنقاش
إن نجَح معارضو الدولة المخزنية- وأخُصُّ منهم في هذه المقالة الإسلاميِّين واليساريِّين، وإن كنت لا أنسى الفصائلَ الأخرى، لأني أقدِّرُ وزنَها وأهميتها وتأثيرها- في تخطي الحواجز النفسية، ونسيانِ-ولو مؤقتا- مراراتِ الماضي، المُفتَعَلَةِ في مُعظمها والمنفوخِ فيها أكثرَ من اللازم، وتقديمِ المصلحة العامة ومصلحة الوطن والشعب المُستَضْعَف على المصالح الذاتية والحزبية والإديولوجية، فإنهم سيجدون أنفسهم، لا محالة، حول طاولة واحدة، وجها لوجه، بإديولوجياتهم واختياراتهم وأفكارهم وانتقاداتهم ومشروعاتهم وآفاقهم وأحلامهم، يتحادثون ويتلاومون ويتناقدون ويتخالفون ويتوافقون ويتفاهمون ويتناقضون، وشيئا فشيئا، ولقاءً فلقاءً، وبعد جلسات معدودات-طبعا إن حسُنت النوايا وصدقَت الإرادات وقوِيَتِ العزائم- سيشْعُر المجتمعون المتواصلون بأنهم قد أصبحوا أناسا آخرين يختلفون كثيرا عما كانوا عليه في الماضي قبل أن يتقاربوا ويتجالسوا ويألَف بعضُهم بعضا، وإن كانوا مختلفين في كثير من الأمور إلى حدّ كبير.
فما يزال الإسلاميون واليساريون مختلفين منذ كان لهم خطابٌ سياسيّ. ولأنهم كانوا دائما في حرب ضروس لا تهدأ إلا لتبدأ بأشد وأشرس مما كانت عليه من قبل، ولأن كل الأسلحة في هذه الحرب الإديولوجية بين الطرفين كانت مباحة، ولأن المتحاربين كانوا يعتقدون اعتقادا جازما بأن حربهم هي حرب مقدسة، وأنها حرب وجود أو عدم، حرب حياة أو موت- ولأن الأمر كان كذلك، فإن وضوح الفكر والحجة والبرهان قد ضاع في دخان المعارك الطاحنة، فَسَادَ التجاهل والتناكر والتنافي بين الطرفين، تغذيه وترسخه لغةٌ الكراهية والبغضاء، وتملي له عقلية الكيد والمكر وحبّ الغلبة، وهو ما جعل الأفكار والتصورات والمعلومات والكتابات والمقالات التي يروجها كل طرف عن صاحبه مطبوعة بكثير من المغالطات والتحريفات والتشويهات، فضلا عن الأكاذيب والأباطيل والافتراءات  التي تعتريها في بعض الأحيان.


التجالس حول طاولة واحدة يفترض بداية جديدة تطلق الماضي البغيض بكل عيوبه وسلبياته، يسعى فيها المتحاوران إلى أن يتفاهما، وأن يتعارفا، وأن يتقاربا. وهذه البداية الجديدة المفترضة تقتضي وجود لغة جديدة للتواصل بين الطرفين، وقاموس بمفردات ملؤها الاحترام والتقدير المتبادلان، وفكر متفتح، يسمع ويعي ويتفهم ويراجع وينتقد ويخاصم ويجادل ويحاجج، له من الصبر والآناة والرزانة ما يكفي لإنجاح التحاور، بتطويل زمنه  وإغناء مضامينه وتنويع مسالكه وتحديد أهدافه ومراميه.
أعتقد أن الإسلاميين واليساريين، بعد أن يطمئن بعضُهم إلى بعض حول طاولة الحوار، سيكون عليهم أن يعالجوا قضايا خلافية جذريّة ما تزال تجعلهم على طَرَفَيْ نَقيض، في المرجعية والرؤية والنظر إلى الآفاق والغايات، وفي الوسائل وطرق التناول والمعالجة لكثير من الموضوعات السياسية، التي كانت، وما تزال، مما يباعد بين الطرفين، ويجعل كلا منهما في توجس وريبة دائمين تجاه الآخر.
ثلاث قضايا أراها على رأس هذه القضايا الخلافية، وهي على الترتيب: قضية الدين والدولة، وقضية النظام الملكي، وقضية الديمقراطية والحريات. وسأحاول، فيما يلي، أن أقول كلمة مختَصَرَةً في كل قضية من القضايا الثلاث.

قضية الدين والدولة
الإسلاميون يريدونها دولةً إسلامية، وهي "دولة القرآن"، أو "دولة الخلافة"، كما توصف في بعض أدبياتهم. واليساريون، على اختلاف فصائلهم وتياراتهم، يريدونها دولة علمانية، من أوصافهم لها أنها دولة ديقراطية حداثية.
فهل هناك من وسط يلتقي عنده الاثنان، بعيدا عن الأوصاف الإديولوجية النظرية، وقريبا من المضامين السياسية الواقعية العملية؟
هل هناك، بعد الحوار، توافق ممكن على صيغة مرضية للجميع، تضع حدا لزمن طويل من الصراعات الفكرية والإديولوجية، التي لم يعد لها معنى، والتي لن تنتهي بنا إلى شيء إن هي طالت واستمرت؟
في جملة، هل هناك، بعد حوار جاد ومسؤول، من سبيل إلى حلّ معقول ومقبول في هذه القضية، أم أنه التناقض والتباعدُ والتَّزَايُلُ إلى ما شاءَ اللهُ؟
الإسلاميون باتوا يتحدثون اليوم كثيرا، في خطاباتهم، عن مطالبتهم بالدولة المدنية، ويفسرون مقصودهم السياسي من استعمالهم لمفردات إسلامية كالخلافة، والشورى، والشريعة. فسيكون الحوار مناسبة لليساريين ليناقشوا غرماءهم الإسلاميين في مقصودهم بالدولة المدنية، وهل هناك من علاقة بين مدنِيَّة الدولةِ وقُرآنيّتِها في طرح الإسلاميين.
وبالمقابل، سيجد الإسلاميون في هذه الحوار الهادئ الرزين المسؤول فرصة ليسألوا اليساريين عن مفهومهم للعلمانية التي يطالبون بها، وخاصة وأن الناس اليوم باتوا مختلفين حول هذا المفهوم حتى في بلاد العلمانية الأمّ. ولهم أن يسألوهم أيضا عن المكانة التي يرونها للإسلام، دين الغالبية من الشعب، في دولتهم العلمانية المنشودة.
سيكون الحوار وسيلة فعالة للتخلص من كثير من الغبش التي يغلف كثيرا من المفاهيم والمصطلحات، والذي يمنع الناس من الرؤية الواضحة.
ولا أشك أن المتحاورين، إن كانوا جادين ومتفائلين وعازمين على النجاح في حوارهم، سينتهون إلى إيجاد ملتقى للتوافق والتراضي بخصوص مفاهيم بعض الكلمات، وأيضا بخصوص ما يمكن أن يترتب على هذه المفاهيم من سلوكات ومؤسسات وممارسات على الأرض.
في هذه القضية(قضية الدين والدولة)، لا أرى أن من مقتضيات الحوار الموضوعي والحجاج السليم، أن يرفع اليساريون نماذج دولة (طالبان) أو دولة (إيران)، أو دولة (آل سعود) في وجه محاوريهم الإسلاميين، ليُحاجُّوهم ويقولوا لهم: هذا هو نموذج الدولة الذي تريدون أن تفرضوه علينا.
هذا النوع من السلوك ليس من الحوار الجادّ ولا النقاش الهادف الباني في شيء، لأنه سيرجع بالناس إلى ما قبل الجلوس للحوار، حيث كان التغليط والتخليط والتلفيق والتشويه من أدوات الحرب الإديولوجية الطاحنة بين الطرفين.
وكذلك ليس عندي من الحوار المطلوب في شيء أن يرفع الإسلاميون، من البداية، في وجه اليساريين ورقة الإسلام على أنه مرجعية الشعب التي لا نقاش فيها، وأن الحوار ينبغي أن يبدأ على هذا الأساس، أي أن الدولة المنشودة لا يمكن إلا أن تكون إسلامية.
مثل هذه المواجهات لا يمكن أن تؤدي إلى طائل، بل إن الحوار معها منته لا محالة، بعد لقاءات معدودات، إلى التنافي والتدابر والتعادي، أي إلى التشرذم والصراع والأجواء الوبيئة.
ليس من الحوار الجاد بين الطرفين طلبُ الغلبةِ الإديولوجية، والانتصار على الخصم بالزعيق وإثارة الجلبة والضوضاء، ولهذا وجب على الجميع أن يحتكموا للعقل والحجة الواضحة والمعلومات الصحيحة والبيان الذي هو ضد الغموض والتدليس.
والحقيقة المعروفة والمنشورة هي أن علماء المسلمين اليوم، وكذلك مفكروهم ومثقفوهم وسياسيوهم، لهم اجتهادات كثيرة في قضية الدين والدولة، بل منها اجتهادات متباعدة تصل إلى حد التناقض. فالرأي الإسلامي إذن ليس واحدا، وهذا ما ينبغي أن يكون حاضرا لدى اليساريين وهم يسعون لحوار جاد مع الإسلاميين.
الاجتهاد الغالبُ اليوم في الفكر الإسلامي السياسي، وفي كتابات أعلام معاصرين مشهورين، ينتقد ولا يُقِرّ-بل من العلماء من يرفض ويدين- النماذجَ التي تقترب، قليلا أو كثيرا، من دولة طالبان، السابقة في أفغانستان، أو دولة ولاية الفقيه الحالية، في إيران، أو دولة العائلة السعودية في شبه الجزيرة العربية.
وكذلك التشبثُ بإسلامية الدولة بناءً إسلام غالبيّة الشعبِ هو من معوّقات الحوار، وخاصة وأن عندنا، في البلاد العربية الإسلامية، دولا تنص دساتيرها على أن دينها هو الإسلام، لكنها أبعد ما تكون عن روح الإسلام، نظاما وحكْما وسياسية وأخلاقا، بل إنا نجد معظم هذه الدول التي تتشبث بإسلاميّتها في الدستور من أشد الدول تعسفا وقهرا وسلبا للحقوق وقمعا للحريات وحمايةً للفساد وتكريسا للاستبداد.
أعتقد أن على المتحاورين الجادين أن يبتعدوا عن المزايدات والجدالات الإديولوجية العقيمة، وأن يذهبوا قصدا إلى صميم الموضوع، إلى بناءِ الثقة، أولا، ومد جسور التقارب والتفاهم والتعايش والتراضي والتواؤم.
لنأخذ مثلا ما جرَى في تونس بعد ثورة الربيع العربي العظيمة.
فعندي أن من الحوارات حول قضية (الدين والدولة) بين الإسلاميين والعلمانيين، التي نجحت، إلى حد ما، في نزع فتيل الفتنة والفوضى والتقاتل، الحوارَ الذي كان بين معارضين لنظام الديكتاتور الهارب بنعلي، ينتمون لإديولوجيات مختلفة ومشارب متعددة، كان فيهم القومي والشيوعي والإسلامي والليبرالي والعلماني، كان فيهم التنظيماتُ المُطارَدة المحظورة، وفيهم الأحزابُ "القانونية" التي كان نظام بنعلي يعترف بها، في حدود إعطاءِ مصداقيةٍ لتعدديّةٍ شكليّةٍ دعائيّةٍ.
وبعد ثورة الربيع العربي الباهرة في تونس، شكّلت نتائج الحوار السابق بين فصائل المعارضين(هيئة 18أكتوبر للحقوق والحريات/2005) خلفيةً توافقية لبناء تقارب سياسي انتهى، بعد أول انتخابات حرة بعد سقوط الديكتاتورية(23 أكتوبر2011)، إلى تشكيل تحالف (الترويكا) الذي أمسك بزمام الحكم في البلاد، وهو ائتلاف من ثلاثة أحزاب: حزبُ (النهضة) الإسلامي، وحزب (المؤتمر من أجل الجمهورية) وحزب(التكتل الديمقراطي) المحسوبان على التنظيمات العلمانية. وهم اليوم، رغم ما يعترضهم من عراقيل وما يستشعرونه من تحديات، سائرون نحو الاتفاق على مشروع دستور يرضَى عنه الجميع، يُنظم الحياة السياسية على نحو يشعر فيه التونسيون جميعا بأنهم مواطنون على درجة واحدة في الحرية والكرامة والحقوق والأمن.
المتطرفون من الجانبين في تونس، من الإسلاميين والعلمانيين، لم يهضموا أن يحصل ما حصل بين النهضة وشركائها في الترويكا، ولم يكونوا يريدونها إلا حربا إديولوجية شعواءَ لا تُبقي ولا تذر، وهذا ما جعل التحالف الثلاثيَّ الحاكمَ يعاني كثيرا بإزاء العوائق الموضوعة في طريقه من كل نوع، وما تزال المعاناة مستمرةً، وائتلافُ الترويكا صامدا في وجه عواصف التطرف الإديولوجي من كل الجهات.
إن منطق الإديولوجيا-دينية كانت أم فلسفية فكرية- ليس هو منطق السياسة، ولذلك كان الدخولُ إلى معالجة القضايا المتعلقة بشؤون الدولة من باب الإديولوجيا غالبا ما يؤدي إلى تمزق النسيج الاجتماعي، ومزيد من بؤر الاختلاف، ومزيد من أسباب التصارع والتطاحن. أما الدخولُ من باب السياسة، ومهما كان الاختلاف بين الناس، فإنه سيؤدي، وإن طال الوقت، إلى نوع من التوافق يحفظ على الوطن التئامَ شمله وتماسكَ لحمته، ويجنبه الوقوعَ في هاوية الخراب والدماء.
وهذا المنطق السياسي في التحاور والتحالف وتقديم مصلحة الوطن على المصالح الحزبية الإديولوجية هو الذي أخذت به مكونات الترويكا الحاكمة في تونس اليوم، وهو الذي تتشبث به حركةُ النهضة في مواجهة خصومها ومعارضيها من مختلف التيارات والمرجعيات.
ففي الكلمة التي ألقاها الشيخ راشد الغنوشي، يوم 29 مارس2013، في المؤتمر الدولي الثاني حول الديمقراطية، الذي نظمه (مركزُ دراسة الإسلام والديمقراطية) بتونس تحت شعار "الانتقالات الديمقراطية في العالم العربي؛ التجربة التونسية نموذجا"، نقرأ تأكيدا لهذا الاختيار السياسي الذي سارت فيه حركةُ النهضة في التعامل مع الشأن السياسي في البلاد؛ فالرهان على التعايش بين العلمانيين والإسلاميين، في إطار الترويكا-يقول رئيس الشيخ راشد- كان رهانا صعبا ومعقدا وصادقا، ومن الثوابت التي قام عليها الائتلاف الثلاثي ذَكَرَ الشيخ راشد "أنه لا تعارض بين الديمقراطية والإسلام"، و"أن وصول الإسلاميين للسلطة لا يعني أنهم سيبتلعون الدولة والمجتمع، وسيستحوذون على الثورة لأنهم الطرف الأكثر شعبية"، و"أن تحالف الإسلاميين والعلمانيين شرطٌ أساسيٌّ لإقامة مجتمع ديمقراطي حر، يعالج خلافاتِه، مهما بدت عميقة، بالحوار، والتوافق، والاحتكام لإرادة الناخبين، بعيدا عن منطق الإملاء والإقصاء...". وأضاف رئيس النهضة في الكلمة نفسها أن "تونس في ظل حكومة الترويكا الأولى والثانية[يقصد حكومة حمادي الجبالي السابقة، وحكومة علي العريض الحالية] دولةٌ تحمي الحقّ في المواطنة لكل التونسيين، وتحافظ على حقوق المرأة، وهي متجذرة في قيّم الحداثة ، ومتمسكة بانفتاحها على العالم."
وفي حوار مع صحيفة (الشرق الأوسط)(21 مارس2013)، يؤكد الشيخُ راشد الغنوشي بعبارات واضحة أن "الترويكا ليس تحالفا إيديولوجيا، بل هو تحالف سياسي، وهو ضد الإيديولوجية. ولو نحن اخترنا الإيديولوجيا-يقول رئيس النهضة- لاخترنا الحكمَ وحدنا مع بعض المستقلين الذين يوافقوننا في الإيديولوجيا، بل اخترنا السياسةَ، أيْ نجاحَ التحول الديمقراطي في تونس بما يحقق أهداف الثورة، وبما يحقق المصلحةَ الوطنية، وبالتالي اخترنا الائتلافَ، وهو أصعب أنواع الحكم، لأنه هو الذي يحقق مصلحة الثورة والمصالح الوطنية، ويدرأ عن البلاد سيناريو الاستقطاب الإيديولوجي، لأنه في الاستقطاب الإيديولوجي تضيع السياسةُ، ويتحول البلد إلى معسكرين يستعدان للمواجهة...".
وبعد، فهذا النموذج التونسي هو مثالٌ من الحوارات الممكنة بين الإسلاميين واليساريين العلمانيين، وهي الحوارات التي يتخلى فيها المتحاورون، بجدية ومسؤولية، عن منطق (إما أبيض، وإما أسود)، (إما أنا، وإما الطوفان)، ويجتهدون لإيجاد أرضية تسعهم جميعا، للتعايش السلمي والتنافس الشريف.
تتمةُ الحديث في المقالة القادمة، إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مراكش: 30 مارس2013

السبت، 23 مارس 2013

المعارضون للمخزن؛ مُعوّقاتُ التقارب والتحاور والتحالف


بسم الله الرحمن الرحيم

المعارضون للمخزن؛
مُعوّقاتُ التقارب والتحاور والتحالف

بقلم: عبد العالي مجذوب

في عِلَل المشهد السياسي وتشوُّهاتِه
إن وطأة الاستبداد والقمع التي تحكّمت في حياتنا السياسية لعقود طويلة تركت آثارا راسخة وعميقة في سلوكات نخبنا السياسية، وفي ثقافتنا السياسية عموما.
ومن هذه الآثار هذه النُّدوبُ والتشوهاتُ والانحرافات التي نراها في واقعنا السياسي، بدءا من طبيعة النظام المهيمن وتصرفاته وطقوسه وأعرافه وأسراره وبطانته ومحيطه، مرورا بطبخ الدساتير الممنوحة وفرضها على الناس، وانتهاء ببناء مؤسسات للدولة تعاني من مختلف الأدواء، وشيوعِ سلوكاتٍ سياسية، عند الخاصة والعامة، تحتاج إلى وقت طويل لتتطهّر مما يطبعُها من العيوب والعلل والتشوّهات.
لِنُلْقِ، مثلا، نظرةً عامة على المشهد السياسي؛ ماذا نرى؟ نرى وكأن الأمرَ يتعلق بمُجتَمَعَيْن سياسيَّيْن متنافرين ليس بينهما تواصلٌ ولا تحاور، بل كلُّ ما بينهما يُنذر بأن الانفجار واشتعالَ النيران بات وشيكا.
هناك مجتمعٌ سياسي رسميٌّ قلْبُه ومركزُه النظامُ المخزني، الذي هو عمادُ الدولة التي يرأسها الملك، وأطرافُه وحواشيه وواجهاتُه وتوابعُه الدائرةُ في فلكه أحزابٌ ومنظماتٌ وجمعيات وهيئاتٌ وغيرُها من المؤسسات والشخصيات، تُعتبَر الأدواتِ الرئيسيةَ في تنشيط الحياة السياسية، عبر الانتخابات والبرلمان والحكومة وما إلى ذلك من متطلبات دوران الحياة السياسية.
وداخل هذا المجتمع السياسي الرسميِّ، هناك أغلبيةٌ ومعارضةٌ وتصارعٌ وتجاذبٌ وإعلامٌ وصراخٌ وضجيجٌ ينبئ الناس، في الداخل والخارج، بأن هناك حركةً ونشاطا وحياةً طبيعية واستقرارا وطموحا وأحلاما وما إلى هذا مما يتحدث عنه الخطابُ الرسميّ وتُردّده، بصورة أو بأخرى، أصواتٌ موالية مؤيدة مدافعة، هواها مع النظام السائد وما يتعلق بهذا النظام من رؤية وسياسات وغايات.
وفي مقابل هذا المجتمع الرسمي "النشيط"، الذي يجتهد أهلُه وعرّابوه ومحامُوه ليقدموه للناس على أنه المجتمع الذي يمثل المغاربةَ بمختلف اتجاهاتهم ومرجعياتهم ومعتقداهم وألوانهم وألسنتهم بقيادة النظام الملكي، الذي اختاره المغاربة عن حبّ وطواعية منذ قرون-
في مقابل هذا المجتمع، هناك مجتمع سياسيٌّ ثانٍ ليس بينه وبين الأول، سياسيّا، إلا التباغضُ والتدابر والتنافر والتدافع والتناقض؛ في هذا المجتمع الرافضون مطلقا للنظام الملكي، الذي هو روح المجتمع الرسمي، وفيه معارضون ذوو نزوع عرقي انفصالي، وفيه إسلاميون لا يرون طريقا إلى غايتهم إلا على أنقاض النظام الجبريّ السائد، وفيه يساريون متطرفون لا يرون في النظام المخزني إلا عدوهم التاريخيَّ ونقيضهم الإديولوجيَّ، الذي لا سلام معه ولا مهادنة، وأن معركتهم معه معركةُ موت أو حياة، وفيه الرافضون لكل شيء من غيرِ أن يكون لهم اتجاهٌ ومطالبُ وإديولوجيا تميّزُهم في الناس بلون أو طعم أو رائحة، وفيه القابلون بالنظام الملكي بشرط أن يبتعد الملكُ عن شؤون الحكم، ويكتفيَ بصلاحيات رمزية وسلطات محصورة في مجالات سيادية محدَّدَة، وفيه غيرُ هذا من الأصناف والألوان والمشارب والتيارات، تجمعهم، في الخطاب، المعارضةُ للدولة المخزنية، وتفرقُهم، في الواقع، طرائقُ العمل، وزوايا النظر، وأشياءٌ أخرى فيها التاريخيُّ والإديولوجيُّ والعَقَدِيُّ والعِرقيُّ والعَبَثيُّ.
خليطٌ من الرؤى والمرجعيات والإديولوجيات والتيارات والتنظيمات، يمثل بجلاء التشوهاتِ التي أحدثتها قبضةُ الاستبداد والاستعباد في حياتنا السياسية، كما يمثلُ هذا الخليطُ في المجتمع السياسيِّ المُعارِضِ خطورةَ التشقّقات التي تنخر بنيان حياتنا الاجتماعية والثقافية والفكرية، وتهدد كياننا الوطنيَّ برمّته.
ولا علاقةَ لهذه الصورة القبيحة بحرية الاعتقاد والرأي والتعبير، وبكون المجتمع المغربي بطبيعته مجتمعا متعدِّدَ المشارب والهويات والأعراق والأفكار، وأن حيويته إنما هي في وجود هذا التعدد وفي تفاعل مكوناته وتلاقحها وتكاملها.
فالتشوهاتُ التي أشرت إليها إنما هي حالةٌ مَرَضِيّة مزمنة أورثتْنا إياها عهودُ الاستبداد الطويلة، وهي ما تزال قائمة، لأننا لا نجد إطارا سياسيا يرضَى عنه الجميعُ يُنظم هذا التعددَ، ويجعله، بالفعل، تعددا بناء ومحمودا؛ ولا نجد تواصلا إيجابيا وحضاريا بين مكونات هذا الكيان المُتعدِّد، وإنما هو التباغض والتضارب والتعادي؛ ولا نجد قواعدَ راسخةً ومبادئَ مصونةً تنظم الاختلافَ، وتوجِّه التنافسَ في الاتجاه الصحيح الذي يجب أن يسير فيه؛ ولا نجد في الواقع، فكرا وسلوكا، سيادةً لقيم التعارف والتفاهم والتقارب والتعاون والتحالف، وإنما الغالبُ السائد الراسخ المُجتاحُ هو قيّم التعالي والتناكر والتهارش.
لو كانت اختلافاتُنا منظمةً تنظيما يحترم الناسُ قواعدَه وأخلاقَه، وكان تعدّدُنا وتنافسُنا واختلافُ أفكارنا وألواننا ومشاربنا تحكمُه قوانينُ وأعرافٌ وتقاليدُ يحرص الناس على ترسيخها وحمايتِها ورعايتها، لكان الحديثُ عن الأمراض والتشوهات والانحرافات والتشقّقات حديثا مغلوطا لا معنى له. لكنه الواقع الذي نراه، والحقيقةُ التي نعايشها صباحَ مساءَ.
ثُمّ متى كان الاستبدادُ يسمح بوجود مُعارضة في صحّة وعافيةٍ ونظامٍ وتواصلٍ وبِنَاء؟
ومتى كان الاستبداد يسمح بحريات حقيقية، وممارسات سياسية نبيلة وبناءة ومُجدِية؟
إنها تشوهات وانحرافاتٌ ومَقابحُ ناتجةٌ عن زمان طويل من القمع والمنع والتحكم والتجبر والتعسف والطغيان. إنها أعراض للداء المزمن العضال، داءِ الاستبداد والاستعباد.

ها هي ذي الأقوالُ، فأين هي الأفعالُ؟
ها هي ذي الشعاراتُ والنيات والأماني، فأين ما يصدّقها من الأعمال والمبادرات في السلوكات والأفعال؟
خطابُ المعارضين للدولة المخزنية لا ينفكّ عن لازمةِ ضرورةِ تكاتف الجهود، وتوحيد الصفوف، والتخلص من الأنانيات، وتقديمِ المصلحة العامة، والعملِ الدؤوب من أجل تغيير موازين القوى، والحرصِ على اجتناب ما يفرق والسعيِ لما يجمع، ونبذِ الحزبية الضيقة والطائفية المشتِّتة والإديولوجية القاتلة. هذه لازمةٌ لا يخلو منها خطابٌ من خطابات المعارضين، وكلٌّ يؤديها بلغته وحسب زاوية نظره.
الجميع يتحدث عن ضرورة التحاور والتفاهم والتحالف لمواجهة الاستبداد، لكن العمل على الأرض ما يزال لاصقا بدرجة الصفر، لأن بعض الملتقَيات والندوات والمقالات-ومعظمُها يكون بين مكونات الأسرة الإديولوجية الواحدة، كأسرة اليساريين وأسرة الأمازيغيين- لا يمكن أن تعتبَر عملا حقيقيا وجادا يترجم الأمانيَّ والشعارات التي تزخر بها الخطاباتُ والبيانات.
خُذْ مثلا في هذا الشهر(مارس2013)؛ فقد صدرت عن ثلاث فصائلَ رئيسيّةٍ من فصائل المعارضين للنظام المخزني تصريحاتٌ وعباراتٌ ومقالاتٌ تذهب، في جوهرها، إلى أن قَدَر هؤلاء المعارضين ومصيرَهم إنما هو في نبذ أسباب التباعد والأخذ بأسباب التقارب، وأن منازلةَ الفساد والاستبداد سياسيّا تفرض فرْضا تحاورا وتفاهما وتحالفا بين فصائل المعارضة، وأن واقع الشتات والتشرذم لا يفتل إلا في حبْل النظام.
فقد تحدَّث السيد (محمد الساسي)، وهو من قيادات (الحزب الاشتراكي الموحد)، الذي يدعو مع شركائه في (تحالف اليسار الديمقراطي) إلى نظام ملكي برلماني يسود فيه الملك ولا يحكم- تحدث في جريدة (المساء) عن ضرورة "التوافق التاريخي" بين الإسلاميين والعلمانيين، وذَكَر بعض العوامل التي يمكن أن تمهد وتساعد، في رأيه، على إنجاز هذا التوافق المنشود.
وبَعْد السّيد الساسي، صرح السيد عبد الله الحريف، وهو قيادي في حزب (النهج الديمقراطي) اليساري الثوري، في ندوة سياسية بالبيضاء،  وفي سابقةٍ من قيادي يساري من طينتِه، بأنه لا يرى مانعا في تحالف اليسار مع جماعة العدل والإحسان لمواجهة النظام المخزني.
وبعد الحريف، قرأنا للسيد محمد العبادي، الأمينِ العام لجماعة العدل والإحسان، في حوار مع جريدة (المساء)، أجوبةً تضمّنَت عباراتٍ صريحةً وإشاراتٍ موحِيةً تذهب في اتجاه ضرورة التعاون بين القوى المناهضة للدولة المخزنية. وبعد السيد العبادي، صدَرت عن السيد (عمر إحرشان)، وهو أيضا قيادي بالجماعة، تصريحاتٌ لجريدة (هسبريس) الإلكترونية تسير فى الاتجاه نفسه، أي أن فصائل المعارضين للمخزن، ليس لهم من سبيل إلى الحرية والكرامة والديمقراطية إلا سبيل "حوار وطني مفتوح على كل المواضيع والمكونات والنتائج، تكون خلاصته (ميثاقا جامعا) يشكل أرضية جامعة لطبيعة المغرب الذي ننشده، ويعكس إرادة الجميع في العيش المشترك في بلد متنوع...".
فالجميع، إذن، متفق على ضرورة التقارب والتحاور والتفاهم والتعاون، لكن الكلامَ شيء، والفعل شيء آخر. فمَنْ سيخطو الخطوات الأولى على طريق البداية؟ مَنْ سيعلّقُ الجَرَس؟

في مُعوِّقات التقارب والتعاون والتحالف
هناك عوامل متعددةٌ تمنع اجتماعَ المعارضين للدولة المخزنية حول طاولة واحدة للتحاور والتفاهم والنظرِ في وسائلِ العمل المشتركِ وشروطِه من أجل جعلِ موازينِ القوى تميل لصالح طُلاّب سيادةِ الشعب في دولة الحقوق والحريات والديمقراطية الحقيقة بدَل سيادةِ الاستبداد والاستعباد في دولة المخزن والتعليمات.
وسأحاول في السطور المتبقية من هذه المقالة أن أذكر    -طَبْعاً حسب رأيي وتجربتي ومتابعاتي- أهمَّ الأسباب التي تعوق حدوثَ تقاربٍ وتحاور وتعاون بين فصائل المعارضين.
في اعتقادي، هناك، أولا، الآثارُ العميقة والمزمنة، التي خلفتها عهودُ الاستبداد الطويلة في حياتنا السياسية، وانعكاسُ هذه الآثار على الوعي السياسي لدى نخب المعارَضَة، مما ورّثَهم تشوهاتٍ وانحرافات في ثقافتهم السياسية، حيث أصبح القبولُ بالآخر، ومحاورتُه فكريا، ومنافستُه سياسيا، والتعاون معه من أجل المصالح العامة، من المطالب والسلوكات العزيزة بين مكونات طبقَتِنا السياسية عموما، وأخصّ المعارضين الثوريين للنظام المخزني من جميع الفصائل، الذين لم يعرفوا من المخزن في تجربتهم السياسية إلا لغة القمع والمنع والإرهاب والاستبداد. فهذه النخبُ تحتاج إلى وقتٍ، بل إلى إرادة شجاعة أولا من أجل أن تبدأ السيرَ في طريقٍ تأهيلي ينتهي بها إلى اكتساب قيّم التعايش والتحاور والتعاون والتحالف حسب ما تقتضيه قواعدُ التنافس الشريف، وحسب ما تفرضه الأعرافُ من تعامل نزيه وأخلاق عالية في مواجهة الخصم السياسي والمخالِف الإديولوجي.
ثانيا، هناك ثِقْلُ مرارات الماضي فيما يخص العلاقةَ بين المكونات الأساسية في هذه المعارضة، وهو إرث يطبعه التنافر والتدابر والتصارع والتعادي، لا نكاد نجد فيه صفحةً صافيةً من آثار التباغض والتشاحن، الذي طغى على تاريخ العلاقة بين هذه المكونات. واطّراحُ هذا التاريخِ البغضائي العدائي وراء الظهر واستشرافُ المستقبل بعقلية جديدة وإرادة مُطهَّرَة من الموروثات البغيضة، هو عملٌ يحتاج إلى حكماءِ القوم وعقلائِهم، الذين لهم كلمةٌ مسموعة في قومهم وأصحابهم وأتباعهم، والذين يستطيعون أن يؤثروا ويغيِّروا وجهةَ المسير إلى حيث التقاربُ والتفاهم ونسيانُ الأحقاد القديمة، التي لم يَعد هناك من مبرر للاستمرار في إحيائها والاعتماد عليها في خطابات تجريحية هجائية آثارُها السلبيّةُ على مُنشِئيها أكثرُ وأعمقُ من آثارها في الخصم المقصود.
ثالثا، هناك التعصب الإديولوجي المقيت-مهما تكن الجهةُ التي يصدر عنها، فأنا هنا لا أميز بين يساريّ وإسلاميّ، ولا بين عروبيّ وأمازيغيّ، ولا بين ملكيّ وجمهوريّ- والاعتدادُ بالرأي أكثر من اللازم، فإذا (كلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون)، وهذا ما جعل نُخبَنا تمتاز بالسرعة في الرفض والاعتراض والتجريح، ومِنْ ثَمَّ الانتهاء إلى لَفْظ الآخر وإقصائِه من غيرِ أن يكون هناك داعٍ موضوعيٌّ وحجةٌ معقولة ومقبولة ومفهومة لهذا التعصب الأعمى.
رابعا، هناك حبُّ الزعامة والقيادة، وهو عائق نفسي ولَّدَ لدى كثيرٍ من النُّخبِ السياسية في المعارضة، إحساسا بالنفس تجاوز حدودَ الاعتدال، وهو ما جعل الاعترافَ بالهزيمة أمام الخصم، والتسليمَ للآخر بالأهليّة للقيادة، من القيّم النادرة في ثقافة هذه النخب، بل الغالبُ أن نجد كلَّ طرف يؤمن إلى حدّ الإدمان المَرَضِيّ بأنه هو وحده، حزبَه أو جماعتَه أو مرجعيّتَه أو طائفتَه أو جمعيتَه، المؤهلُ للزعامة والقيادة من دون الآخرين، مهما كانت قيمةُ هؤلاء الآخرين في ميزان العمل والعطاء، ومهما كان وضعُهم وحجمُهم في الواقع، ومهما كان رصيدُهم في التضحية والنضال.
لا أدّعي أنّني حَصَرْت كُلَّ المُعوِّقات فيما ذكرت، لكني حاولت أن أذكر أهمَّها وأكثرها حضورا، بصورة ظاهرة أو خفية، في عرقلة التقارب والتفاهم، وفي الإبقاء على فصائلِ المعارضين للمخزن في حالة تشتت وضعفٍ وانشغال بالمعارك الهامشية والجدالات السطحية عن المعركة الحقيقية، التي تتطلب توفير الجهود، وحشدَ كلِّ الطاقات، ليكون التصويبُ مركَّزا والرّمْيُ قويا مُسَدَّدا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مراكش: 23 مارس2013

الخميس، 21 مارس 2013

حكومةُ صاحبِ الجلالة!!


بسم الله الرحمن الرحيم

حكومةُ صاحبِ الجلالة!!

بقلم: عبد العالي مجذوب

الإضافةُ بين الحقيقة والمجاز
إضافةُ الحكومةِ إلى الملك، في التقاليد السياسيّة المخزنيّة، تعني أنها حكومةٌ تابعة مأمورة تنفّذ التعليمات السامية، وتتّبِعُ التوجيهات المولويةَ، وتجتهد- كلُّ وزارة في قطاعها- لتطبيق برنامج الملكِ وسياساته في مختلف المجالات، وذلك حسب ما يرسمُه مجلسُ الوزراء الذي يترأسه الملكُ، وحسب ما يراه الملكُ ويريدُه في خطبه ورسائله وتوجيهاته، الرسميةِ وغيرِ الرسمية.
فمعنى الإضافةِ إذن معنى حقيقيٌّ، يؤكدّه واقعُ الممارسة والأعراف والطقوس الموروثة، ولا سبيل، مع وضوح هذا المعنى، إلى تأويل الإضافةِ على أنها مجازيّةٌ بحكم ما يتمتع به الملك، في نظامنا السياسي، من رمزية وسلطان واعتبار، حسب ما يذهب إليه بعضُ السياسيين المخزنيين، وبعضُ الكتاب الموالين فيما يكتبونه وينشرونه من مقالات وتحليلات.
معنى إضافةِ الحكومةِ إلى الملك، في العُرف المخزنيّ، أن الحكومةَ لا سلطان لها إلا بالتبعيّة للملك، ولا سلطات تنفيذيةً حقيقيةً  إلا ما يفوّضه إليها الملكُ، ولا حريّة في وضع السياساتِ واتخاذِ القرارات إلا داخل الحدود التي يرسمها الملكُ، بصفته رئيسَ الدولة ورئيسَ الهيئات والمجالسِ الاستراتيجية التي تُقرّر في شؤون الدولة.
فمثلا، من التقاليد المخزنية المرعيّة، التي يجب على الوزراء احترامُها والتشبث بها أنهم -أي الوزراء- حينما يُستَدعون للكلام أمام الملك، في مناسبة من المناسبات، يكونون مُطالَبين بأن يجتهدوا لتقديم مشاريعهم وما أنجزوه في قطاعاتهم على أنه كان من وحْي التوجيهات والتعليمات والإشارات السامية.
ومن هذه التقاليد أن الملكَ دائما حرٌّ في أن يبادر إلى الاتصال أو الاجتماع برئيس الحكومة إن أراد أن يبلغه شيئا، متى شاء، وكيفما أراد. وبالمقابل، فإن رئيس الحكومة، إن رغب في لقاء الملكِ، فعليه أن يمتثلَ لِما تفرضُه (الأصول) المخزنية من عادات وبروتوكولات.
ومن هذه التقاليد أن الملكَ في تحركاتِه وأنشطته وزياراته وغيرِ ذلك من أوجه عملِه الرسمي، الذي لا يبخلُ علينا الإعلام العمومي بكل تفاصيله، يظهرُ وكأن الحكومة لا معنى لها أصلا إلا لتكون في خدمته، وطوعَ إشارته، وجزءا بسيطا أو لونا باهتا وسط ذلك الطّيف المتعدد من الألوان التي ترافقه وتسير خلف موكبه، والتي من أهدافها، في الأعراف والطقوس المخزنية، أن تُضفيَ على تحركات الملك الرسمية سِيماءَ الأبّهة والهيبة والجلال.

حكومةُ مُنتَخَبين أم حكومةُ مُوظَّفين؟
لو كانت حكومتُنا تمثل الشعبَ الذي انتخبَها، أو تمثّل، على الأقل، الهيئةَ الناخبةَ التي جعلت الأحزابَ المشاركةَ فيها تفوز بما فازت به من الأصوات، التي أهّلتها مجتمعةً أن تكوّنَ الأغلبيّةَ المطلوبة، لكان لها برنامجٌ واضحٌ في استجابته لِما وعدَت به هذه الأحزابُ الناخبين إبان الحملة الانتخابية، ولكان لها، مع هذا البرنامج، صلاحياتٌ سياسية حقيقية وسلطات تنفيذية واسعة، للسير في طريق التطبيق متحملةً المسؤوليةَ كاملةً فيما يكون منها من نجاح أو إخفاق أو تقصير أو سوء تقدير أو غير هذه من حصيلةِ العمل الحكومي، سلبا وإيجابا، ليتسنّى للناخبين في انتخاباتِ الولايةِ المقبلة أن يقرّروا ويحكموا ويختاروا ويصوتوا بناء على معطياتٍ واقعية، ونتائجَ يُمكن وزنُها وحسابُها بالأرقام، وأعمالٍ قابلةٍ للمعاينة والتقييم.
الناسُ صوّتوا في الانتخابات، نعم. تحالفُ أحزابٍ شكَّلَ الأغلبيةَ المطلوبة، نعَمْ. هذا التحالفُ اتفقَ على برنامج للحكومة، نعمْ، لكن ما علاقةُ هذا البرنامج بالوعود الانتخابية، إن كانت تلك الوعودُ ممّا يمكن تحقيقُه حسب ما كان يدّعيه الواعدون في أثناء الحملة الانتخابية؟ ما علاقةُ هذا البرنامج المتفَقِ عليه بين الأحزاب المشتَرِكة في الحكومة بما ينبغي أن يكون عليه برنامجُ تحالفٍ سياسيٍّ حقيقيٍّ في مختلف أبعاده، وخاصة في مجالاتِ السياسة الداخلية، والسياسة الخارجية، والاقتصاد، والأمن، وإن كانت المجالاتُ الأخرى، كالقضاء والتعليم والصحة والإعلام، لا تقل أهمية في البرامج السياسية التي تحترم إرادة الناخبين، وتسعى، ما أمكنها، للالتزام بالوعود الموعودة، والوفاء بالعقود المعقودة بين الأحزاب والناخبين.
لقد كَتَب كثيرٌ من المتخصصين في نُظُم الحُكْم والفقه الدستوري، فضلا عن السياسيين والإعلاميين المهتمين الموضوعيّين، في موضوع العِلَل التي يعاني منها نظامُنا السياسي، وفي مقدمتها علةُ السيادة الشعبية المسلوبة، وعلّةُ ادعاءِ تمثيلية هذه السيادة في مؤسسات الدولة. ومما كُتِب في هذا الموضوع أن نظامنا السياسيَّ لن يتعافى من هذه العلل ما دامت إرادةُ الأمة/الشعب مغيَّبةً، وما دام تزوير هذه الإرادة والتلاعبُ بها وادعاءُ تمثيلها هو قوام الفكر السياسي المسيطر، وروح الثقافة الدستورية التي يُراد لها الرسوخُ والدوام، وما دامت الطريقُ الديمقراطية السياسية السلمية إلى المراجعةِ والتصحيحِ والتغيير واستردادِ السيادة السليبة للأمة/الشعب، وبناءِ مؤسساتٍ تمثل هذه السيادةَ حقيقةً لا ادعاء وتزويرا، طريقا منعدمةً بالمَرّة، أو طريقا يعاني نقائصَ وتشوهاتٍ وانحرافات تجعلُه، في المُحَصِّلة، طريقا غير مسلوك، وحتى إن سُلك فإنه لا يمكن أن ينتهيَ إلى شيء.
فهذه الأبواق الرسمية المادحة الصادحة الزاعقة في كل الاتجاهات، بلا حدود ولا روادع، لا تفتأ تُروّج للتزوير الكبيرِ حينما تقدم الحكومةَ للناس على أنها حكومة سياسية مسؤولة، وأن لها برنامجَها الذي تعاقدت في شأنه مع الناخبين، وأنها سائرة في طريق تطبيقه بما تملكه من صلاحيات دستورية وسلطات تنفيذية، ومِنْ ثَمَّ، فإنها حكومة تمثل الإرادةَ الشعبية لأنها مستندة إلى شرعية انتخابية لا غبار من الشك على نزاهتها وصحتها ومصداقيتها.
وجهُ التزوير فيما تروّجه الأبواقُ والمنابر والأقلام الموالية للنظام المخزني والمدافعةُ عن شرعيته وصلاحيته للمغاربة إلى الأبد، أن حكومةَ صاحبِ الجلالة، التابعةَ المأمورةَ، بنصوص الدستور المكتوب وأعراف وطقوس الدستور العرفي، والتي ليس لها في لبّ الحُكم شيءٌ إلا الاتباع والسمع والطاعة، والتي كان الحسن الثاني، رحمه الله وغفر لنا وله، يصف وزراءها بأنهم أعوانُ الملك، تتحول في أبواق الدجل والتزوير، وفي مناظير السلب والاحتيال والخداع والدعاية الكاذبة، إلى مؤسسة مستقلة مسؤولة عن قراراتها وسياساتها وتطبيق برنامجها!!
أين هو هذا البرنامجُ وما يتعلق بتطبيقه من سياسات وقرارات؟
أليس برنامجُ الحكومة مجتمعةً في (مجلس الوزراء) برئاسة الملك، ومفرَّقةً في القطاعات الوزارية، هو البرنامج الذي يُصنع في المطبخ المخزني الأصيل بعيدا عن أيّ نوع من أنواع المتابعة والمراجعة والمحاسبة، ثم يُفرض من فوق فرْضا، ولا يملك الأعوانُ السامون إلا أن يجتهدوا في إيجاد الصيغ الملائمة للتطبيق، باقتراح النصوص القانونية المناسبة، وإصدار المراسيم التنفيذية؟
انظرْ، مثلا، إلى المشاريع الاقتصادية الكبرى التي هي قيد التنفيذ، والتي تكلف ميزانيةَ الدولة أموالا طائلة، أين هي رائحةُ الحكومة في ميلاد هذه المشاريع فكرةً واقتراحا ودراسةَ جدوى ومصادرَ تمويل وغيرَها من المتعلَّقَات قبل أن تصبح أوراشا مفتوحةً على الأرض تأكل جزءا مُعتبَرا من المال العام؟
أين هي بصماتُ الحكومة التي تميز سياستَها في العلاقات الخارجية؟ أين هي سلطةُ الحكومة في تدبير شؤونِ الأمن والداخلية عموما؟
باختصار، أين هي إرادةُ الحكومة الحرة، وأين هي قراراتُها  المستقلة، وأين هي سياساتُها المتميزة في كل المشاريع الاستراتيجية، وفي كلِّ المؤسساتِ والإدارات الحسّاسة والنافذة في سياسات الدولة العليا؟
حكومةٌ أعضاؤها موظَّفون سامون لدى الدولة، التي يرأسها الملكُ، والتي أساسُها نظامٌ مخزنيّ قوامُه ملكيةٌ وراثية تنفيذية تحتكر سلطةَ رسمِ السياسات واتخاذِ القرارات، بنصّ الدستور المكتوب وواقعِ الدستور العرفي- حكومةٌ بهذا الوصف لا يمكن أن يَنتظر منها المواطنون أن تمثلهم وتدافعَ عنهم وتُقدمَ مصالحهم على مصالح النظام، وإنما المُنتَظرُ منها-وهذا هو الواقع المعيش حقيقةً لا توهُّما أو تأويلا أو تَقوُّلا- أن تكون مدافعا عن النظام الذي هي موظفةٌ لديه، حريصةً على مصالحه أولا قبل أية مصلحة أخرى، وعاملةً ومجتهدةً لترسيخ سلطانه وتأبيد دولته.

أمثلة
ومن الأمثلة التي تؤكد أن حكومة صاحبِ الجلالة ليس لها من أمر الحكم شيءٌ، وأنها حكومة مأمورة مُنفِّذة، وليست حكومة مُقرٍّرَةً آمِرةً، مثالُ ملفاتِ (الحزب الديمقراطي الأمازيغي)، و(حزب الأمة)، و(حزب البديل الحضاري)، التي لا شك في أنها ملفات سياسية مائة في المائة، إلا أن الحكومةَ لا تستطيع أن تقتربَ منها وتحسمَ فيها بالقرار السياسي الواضح الذي يُعيد الأمور إلى نصابها، ويُرجعُ الحقوقَ المغتصَبة إلى أصحابها، لأن هذا القرار السياسيَّ الحاسمَ ليس بيدها، وإنما هو بيد دولةِ المخزن التي تملك السلطاتِ الحقيقية للحسم في الملفات السياسية.
أحزابٌ ممنوعة لأسباب سياسية لا علاقة لها بالقانون والقضاء، وإنما المخزنُ هو الذي يعمل، بأساليبَ قديمة معروفة وأخرى جديدة مُستحدثة، ليجعلها تظهرُ على أنها ملفاتٌ ذاتُ طبيعة قانونية، والقضاءُ، في زعمهم المناور الماكر، هو المُخوَّل بالحسم فيها، وفي دولة الحق القانون، حسب شعارات المخزن في واجهته "الديمقراطية الحداثية"، ليس أمام الناس إلا أن يقصدوا القضاء "العادل" ويُذعِنوا لقراراته وأحكامه!
مثلُ هذه الملفات كانت تُعالج في عهد (تازمامرت)، و(سنوات الرصاص)، بخشونة القمع الصريح، وسوْقِ الناس إلى مسالخ التعذيب والموت البطيء، وغَيَابَاتِ المعتقلات العلنية والسرية، وصناعةِ مُحاكمات فاضحة تنتهي بأحكام ظالمة قاسية.
أما في سنوات هذا العهد، عهد (تازمارة)، فقد حصل اجتهادٌ وتطورٌ في طرق المعالجة ووسائلها- وإن بقي الجوهر والهدف في العهدين واحدا لم يتغير- فأصبحت ملفاتُ المعارضين المسخوط عليهم تُعالَج بنعومة سياسية ولغة قانونية مُراوغة ومُخَاتِلة، حيث يتمّ رفضُ ملفات تأسيس الأحزاب التي لا يرغب النظامُ المخزنيّ في وجودِها، مرةً بحجة عدم استيفاء الوثائق المطلوبة، ومرة بسبب عدم الالتزام بمقتضيات قانون الأحزاب، ومرة بحجة عيب في عبارة أو رقم أو تاريخ، وهكذا في دوامة مسطرية تنتهي بحكم قضائي مُعلَّل بالرفض. وهذا الحكمُ القضائي هو البديل الناعم للغة القمع والمنع والإرهاب في وجهها البشع الكالح السافر التي طبَعَتْ عهدَ (تازمامرت).
ومن الأمثلة أيضا على تبعيّة الحكومَة ووقوفِها عند الحدود التي ترسمُها لها دولةُ المخزن لا تتجاوزها، ملفُّ مَن يُعرفون بـ(معتقلي السلفية الجهادية)، وخاصة أولئك الذين تم اعتقالهم ومحاكمتهم بعد انفجارات 16 ماي 2003 الإجرامية بالدار البيضاء، لأنه ملف شابته الكثير من التجاوزات والخروقات، بشهادة النظامِ نفسه، وتم فيه الحكم ظلما على أبرياء في قضية جنائية واضحة. ورغم ما كان من مبادرات من هنا وهناك، وما كان من مساعٍ من عدة جهات، ومنها جهاتٌ حقوقية، كان وزيرُ العدل والحريات الحالي السيد مصطفى الرميد واحدا من العناصر النشيطة فيها، من أجل إحقاقِ الحق وإطلاق سراح الأبرياء وإصلاح ما اعترى الملف برمته من نقائص شكلا ومضمونا- قلت رغم ما كان من مبادرات ومساع، فإن القضية-فيما نعلم من الأخبار الرائجة، ومن بيانات عائلات السجناء- لم تعرفْ أيَّ تقدم إيجابي لصالح الأبرياء المظلومين. واليومَ لا تستطيع حكومةُ السيد بنكيران، وفيها المناضلُ الحقوقي السيد الرميد وزيرا للعدل، أن تفتح هذا الملف وتعالجَه المعالجةَ السياسية المطلوبةَ، وكأنّ عصا المخزن تقول للحكومة: اِلْزَمِي حدودَك المرسومة، ولا تنبشي في ما لا يعْنيكِ.
ومن الأمثلة أيضا، في موضوع المعتقلين دائما، ملفُّ ما عُرف بـ(خلية بلعيرج). فرغم إطلاقِ سراح السياسيين الستة، الذين اشتَهَروا من بين المعتقلين في هذا الملف، فإن غموضا كثيفا ما يزال يلف هذه القضية، وهو ما يقتضي معالجةً سياسية أساسا، قبل المعالجة القضائية، من أجل مراجعة شجاعة وعادلة، ترفع الالتباس والغموض، وتميز بين الوقائع الحقيقية والروايات المُختَلَقَة، وغير ذلك ممّا الشأنُ فيه قرارٌ سياسيٌّ لا تملك الحكومةُ التابعة أن تتخذَه.
أمثلةٌ أخرى كثيرة يمكن أن نجدها في قطاعات عديدة، كوزارة الخارجية، التي ليس للحكومة، وإن كان منها وزيرُ الشؤون الخارجية والتعاون، في شأنها سياسةٌ مستقلة، وإنما هي تابعةٌ ومنفِّذة بالحرف ما يرسمه النظامُ من سياسات في هذا الباب. ونفسُ الشيء يُقال عن وزارة الداخلية، التي كانت، وما تزال، الذراعَ الأمنية الضاربة للمخزن، ولا يمكن أن يَسمح  النظامُ أن يكون للحكومة سياسةٌ فيما يخص هذه الوزارة ووظائفِها تخالف، ولو في حرفٍ واحد، ما يخطّطه وما يراه وما يقدّره وما يستشرفه، فضلا عن أمور يعدّها النظامُ من أسرار الدولة ستبقى بعيدة عن علم الحكومة ولو من باب الإخبار.
وبعد، فهذه هي حكومةُ صاحبِ الجلالة، باختصار، في وظيفتها وتبعيتها ومأموريتها وضعفها أن تكون حكومةً منتَخَبة تمثل المواطنين، حرةً مستقلةً، تتمتع بسلطات وصلاحيات حقيقية، وتنفذ برنامجها، كيفما كان هذا البرنامج، بكل مسؤولية، وتتحمل عواقب عملها، لأن ربط المسؤولية بالمحاسبة، عندئذ، سيكون له معنى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مراكش: 21 مارس2013  

الخميس، 7 مارس 2013

تأويلُ الدستور بين الواقع والأماني


بسم الله الرحمن الرحيم

تأويلُ الدستور بين الواقع والأماني

بقلم: عبد العالي مجذوب

لبابُ الموضوع وقشورُه
هناك كُتّاب موالون لحكومة السيد بنكيران،يسعون بكل ما أوتوا من معرفةٍ وجدل وبرهان وحيلة-وهذا من حقهم- أن يدافعوا عن مواقف السيد رئيس الحكومة، وخاصة فيما يخص علاقتَه بالملك، أميرِ المؤمنين، ورئيسِ الدولة، ورئيسِ المجلس الوزاري، ورئيسِ المجلس الأعلى للأمن، ورئيسِ المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ورئيسِ القوات المسلحة، ورئيسِ المجلس العلمي الأعلى، باختصار، رئيسِ كلِّ المؤسسات الحساسة والاستراتيجية في الدولة.
يصرّ بعضُ هؤلاء الكتاب، ومنهم تلامذةٌ قدامى للسيد بنكيران، تعلمُوا على يديه وتخرّجوا من مدرسته في الدعوة والفكر والسياسة، على ألا يقرأوا الواقع السياسي كما هو   بقسماته الواضحة الصارخة الحارقة، بل قد نجدهم، في بعض الأحيان، يذهبون بعيدا في الجدال والاحتيال حتى لا يقتربوا من "صميم الموضوع" ويبقوا دائما حائمين حول قشوره، يناوشون الهوامش والجزئيات، وإن هم تظاهروا، في بعض المناسبات وبضغط من بعض الأحداث، بشيء من الجرأة في الاقتراب من "الصميم"، فلكي يُضفوا، في رأيي وتقديري، المصداقيةَ على نظراتهم الجزئية وتحليلاتهم القشورية، التي تخشى أن تُسميَ الأشياء بأسمائها.
أما الصميمُ الذي يتفادى هؤلاء الكتابُ الموالون تناولَه هو هذا "الدستور العُرفيّ" غيرُ المكتوب، الذي ما تزال حياتُنا السياسية ترزح تحت سلطانه من غير أن يكون هناك طريق واضح وسالك للاعتراض على هذا الدستور أو إبعاده والتخلّص منه.
ننظرُ في الدساتير الممنوحة المكتوبة، فنقرأ مِنْ بين السطور حضورا قويا للدستور العرفي، الذي يرفع النظام المخزنيَّ إلى حيث لا تصله يدُ النقد والمراجعة والمتابعة والمحاسبة.
ننظرُ في الواقع، فنرى ممارسات النظام المخزني بطقوسها القرونية وتجلياتها الاستبدادية وأوصافها الاستعبادية- نرى هذه الممارسات معبرة عن رسوخ الدستور العرفي في مختلف مفاصل حياتنا رسوخا يَظهر منه أنه دستور يُراد له أن يدوم إلى الأبد، وأن من يطلبون زوالَه ويتمنون إلغاءه إنما يطلبون مستحيلا ويتمنون بعيدا.
هذا هو الصميم الذي يتركه الكتابُ الموالون ليشتغلوا بهوامشه وجزئياته، والذي لا يقربه الخطابُ الرسمي، الذي بات السيد بنكيران، بعد انتخابات 25 نونبر2011، أحدَ الناطقين باسمه.
عبارةُ "النظام المخزني" باتت قليلة جدا، إن لم نقل منعدمة،  في كتابات المؤيدين الموالين، وهو ما يجعلنا نستنتج من هذه الكتابات أن مشكلاتنا السياسية لم تَعُد مع النظام بما هو معدن الاستبداد وحاضن الفساد، وإنما هي مع كيانات سياسية وشخصيات نافذة ومؤسسات ولوبيات و"عفاريت" لا علاقة لها بالمخزن بما هو روحُها وقوامُ مشاريعها وأصلُ نشأتها وعرّابُ وجودها واستمرارها. وهكذا تنحاز هذه الكتاباتُ، من حيث لا تريد، إلى تزكية الدستور العرفي، وتعملُ على ترويج خطاب القشور على حساب خطاب اللب والحقيقة الحارقة في الواقع والممارسة.
 حينما نقرأ للكتاب الموالين، في بعض مقالاتهم، أن التجربة السياسية بالمغرب، بعد عاصفة الربيع العربي، التي تجلّت عندنا في حركة 20 فبراير، ما تزال تحتاج إلى تطوير وإغناء وإصلاح وتقدم إلى الإمام حتى نصل إلى إنتاج نص دستوري يستجيب للتطلعات، ويحقق مطالب الشعب في الحريات الحقيقية وممارسة سيادته في أعمق معانيها ومختلف أبعادها، والتمتع بحقوقه من غير وصاية ولا قمع ولا قيود، وفي مقدمتها الحقوقُ السياسية وما يترتب عليها من بناء دولة المؤسسات، والانطلاق في حياة ديمقراطية مدنية، روحُها العدلُ والكرامة وسيادة القانون-
حينما نقرأ للكتاب الموالين مثلَ هذه المقالات، وحينما نسمع رئيسَ الحكومة يصرح في مناسبات كثيرة بأن المغرب ما يزال أمامه أشواطٌ أخرى قبل أن يصل إلى النظام الديمقراطي المنشود، فإننا نفهم ضمنيا أن أصحابنا يقصدون أن نظامنا السياسي ما يزال نظاما ناقصا ومائلا لصالح الاستبداد السياسي، ومن ثَمَّ فإن الحاجة إلى "الإصلاح في إطار الاستقرار"، حسب أدبيات حزب "العدالة والتنمية" ومَنْ وراءه من الكتاب، ما تزال قائمة.
نعم، رئيسُ الحكومة ومَنْ يذهب مذهبه في الاعتراف بالنقص والعيب والفساد في حياتنا السياسة، يبتعدون عن التشخيص وتحديد الجهات المسؤولة بالاسم أو الصفة، ويتحدثون دائما حديثا عاما، لكننا يمكن أن نفهم من بين سطور هذا الحديث العام أن الأمرَ يتعلق بالنظام المخزني، الذي ما يزال يمثل العمود الفقري للدولة ومؤسساتها، والذي ما يزال الملك يلعب فيه دورا محوريا من حيث تمتعه بأهم السلطات، إن لم يكن كل السلطات، وخاصة في القطاعات الحيوية، والمجالات الاستراتيجية سياسيا واقتصاديا وإعلاميا وأمنيا وعسكريا.
ومع هذا الغموض المتعمد في خطاب رئيس الحكومة، ومعه الموالون المؤيدون، في شأن تسمية الجهات المسؤولة عما يطبع حياتنا السياسية من عراقيل ونقائص وقُوىً تَجُرّ نحو تكريس هيمنة النظام المخزني على هذه الحياة، نجد خطابا آخر واضحا في الدفاع عن النظام المخزني باسم الدفاع عن الملك والنظام الملكي، إلى درجة يتحول معها السيد بنكيران إلى كائن مسكون بالدفاع عن النظام، غير آبِهٍ بالانتقادات الموجهة لهذا النظام، ولا مهتمٍ بممارسات النواة الصلبة لهذا النظام لتبقى له اليدُ العليا على كل شيء، ولا معترضٍ على مناورات المخزن ومراوغاته ومخادعاته لعرقلة الإصلاحات الحقيقية أو تأجيلها إلى أجل غير مسمى.
العرقلة، والتحكم، والإقصاء، والاستبداد، والفساد، والرغبة في الرجوع بنا إلى الوراء، إلى ما قبل 20 فبراير2011، وغيرُ هذه من الاتهامات والسلوكات والأوصاف التي يميز بها رئيس الحكومة وموالوه خصومَهم السياسيين، النظامُ المخزنيُّ بريءٌ منها في خطاب الإسلاميين المشاركين، وإنما التّهم عندهم باتت موجهة إلى كيانات سياسية وأفراد معروفين بنفوذهم وقربهم من أصحاب القرار؛ لكن الذي يعرفه الجميع، ومنهم السيد بنكيران ومعه الإسلاميون المشاركون والكتاب الموالون، أن هؤلاء المتهمين لم يكونوا ليفعلوا ما فعلوا، قبل 20 فبراير، وما يفعلون اليوم بعد 20 فبراير، لولا علاقتُهم بالنظام، سابقا ودائما، ولولا ما راكموه من نفوذ سياسي ومالي اقتصادي، وما أسّسوه من شبكات واسعة من العلاقات والاتصالات التي تشمل مختلف طبقات المجتمع، وتشمل خاصة النخبَ من أصحاب الفكر والسياسة والثقافة والمال والأعمال.
الدنيا كلُّها تعرف أن هذه الجهات التي يتهمها الإسلاميون المشاركون، من غير أن يعينوها بالاسم، في الغالب، ما هي إلا البديلُ الجديد لما كان يسمى بـ"الأحزاب الإدارية"، وهي الأحزاب التي كانت تشكل أساس "اللعبة الديمقراطية"، كما تصورها ووضع قواعدَها ورسمَ حدود ملعبها وبيّنَ أهدافَها النظامُ المخزنيُّ على عهد "تازممارت".
اليوم، وخاصة بعدما حققته الشعوبُ من مكاسبَ بفضل الربيع العربي، حصلت تطوراتٌ في سياسات الدولة المخزنية وأساليبِ عملها ومضامينِ شعاراتها  وطبيعة ممارساتها، لكنها تطوراتٌ ما تزال تحوم حول القشور، لأن الروح ما زال باقيا كما هو لم يتغير. وقد ظهرت هذه الحقيقة بجلاء في أثناء الأحداث التي عرفها الربيع العربي بالمغرب، وخاصة منذ ظهور حركة 20 فبراير في الواقع، حيث كانت هذه الأحزابُ المواليةُ هي رأس الحربة في الدفاع عن "المخزن"، ومحاربة حركة 20 فبراير بكل الأساليب المشروعة والخسيسة، وكانت بعد ذلك بوقا صارخا في التنويه بخطاب 9 مارس2011 وما تلاه من مبادرات وقرارات انتهت بإقرار دستور فاتح يوليوز، وتنظيم انتخابات 25 نونبر، وتعيين حكومة جديدة في يناير2012.
فالفصل بين هذه الكيانات السياسية التي توصف بأنها تقاوم الإصلاحَ والتغييرَ والتطوير وبين النظام المخزني، بمعناه السلبي بما هو أصل الداء وبؤرة الفساد، هو فصلٌ تعسفي لا أظن أن أصحابه أنفسهم مقتنعون به، إلا أن يكونوا من طينة المخزنيين الخلص الأقحاح. هو فصل تعسفي يجعل خطاب الإسلاميين المشاركين الذين يتبنونه يعاني اضطرابا واضحا لا يملك مقومات الصمود أمام نقد الناقدين.
      
فقهٌ دستوريٌّ أم أماني دستورية؟!
يجدُ الكتاب الموالون حرجا كبيرا في تأويل مضامين نصوص الدستور المكتوب وهم يحاولون أن يجدوا لسلوكات رئيس الحكومة ووزراء حكومته مخرجا قانونيا وتفسيرا يبرر عملَهم، لأنهم، مهما فعلوا وفسّروا وبرّروا، لا يستطيعون أن يُنكروا الوجود الفعلي القوي لـ"الدستور العرفي" في حياتنا السياسة، لأنهم يعرفون أن رئيس الحكومة ووزراءه مُجبرون أن يخضعوا للعرفيِّ قبل المكتوب. بل هناك وقائعُ وَقعت، وأخبارٌ نُشرت، وحكاياتٌ رُويت، تؤكد أن تعامل المخزن مع مؤسسات الدولة ومسؤوليها الكبار ما يزال، في جزء كبير منه، خاضعا للأعراف المخزنية الموروثة، وإن حاول بعضُ الكتاب الموالين أن يحتالوا ليجدوا المخارج والمسوغات والمُلطِّفات، التي تخفف عنهم الحرج، وتحافظ للدستور المكتوب على هيبته ومركزيته وسلطته القانونية السامية، ولو ظاهريا على الأقل.
هناك فرق بين الأماني والأحلام والتطلعات والرغبات والتشهّيات، وبين ما هو واقع بالفعل، ظاهر للعيان، راسخ بالممارسة.
أن يقومَ الملكُ بدور تحكيمي هو من الأماني التي يتمناها بعض الناس، ومنهم باحثون مختصون في الفقه الدستوري، يدفعُهم ولاؤهم ودفاعهم وتعصبُهم للتجربة السياسية التي أسفر عنها الربيع العربي في المغرب، والتي رفعت الإسلاميين المشاركين لأن يرأسوا أول حكومة في زمن هذا الربيع- قلت يدفعهم ولاؤهم ليتكلفوا خطابا في تفسير نصوص الدستور وتأويل بعض مضامين هذه النصوص ليرسموا صورة وردية للتجربة ليس لها وجود إلا في أحلامهم وأمانيهم.
كتّاب وفقهاء دستوريون ومفسرون ومؤولون ومتكلِّفون يشتركون في الحلم والتمني، لأنهم يقفزون على الواقع المعيش، وهم واعون يحسون وينظرون، ليقرروا معانيَ ومفاهيمَ ومقاصدَ لا يُسعف النص المكتوب بها ولو في أقصى حالات التأويل وأبعد حالات تقويلِ النص ما لا يقوله، وتحميله ما لا يحتمله.
أن يكون الملكُ حَكَما بين اللاعبين وليس طرفا في اللعبة هو من الأماني التي كرسها الفكرُ الدستوري المغربي الأكاديمي الموالي أو المهادن والمسالمُ، ليس لها في الواقع ولا في ما هو مكتوب أيُّ سند ولا دليل، بل كلُّ ما عندنا من الواقع والنصوص أن الملِكَ لاعب مركزي في الساحة السياسية، والمؤسسةُ الملكية طرفٌ في اللعبة يتمتع بسلطات تنفيذية واسعة فاعلة ومؤثرة.
فالملك، مثلا، هو القائد الأعلى للقوات المسلحة؛ فهذه القيادة مسؤوليةٌ تنفيذية لا غبار عليها، بل إن رئيس الحكومة نفسَه يعترف بأن الجيش وما يتعلق به هو مجال محفوظ للملك، لا يناقشُه ولا يشاركه فيه أحد. وهذا يعني أن القرارات والسياسات والمبادرات التي تُتَّخذ في هذا المجال تَفرض أن الملك هو المسؤول الأول عنها، وإنْ فوَّض في شأنها لمرؤوسيه من الرتب الدنيا، وإن كان في الحكومة منتدَبٌ مكلَّف بإدارة شؤونها. فكيف يَسمح فقهاؤنا الدستوريون الموالون أن يتأولوا نصوصا واضحة الدلالة، ليعطونا مضمونا جديدا بعيدا عن الواقع يستجيب لمتمنياتهم ويحقق أحلامهم؟
مثالٌ آخر في الأوقاف والشؤون الإسلامية؛ فهذا أيضا مجال يحتكر الملك، بنص الدستور المكتوب والعرفي، القرارَ في كل كبيرة وصغيرة من شؤونه. وقد وَسّع العرْفُ من مدلول "إمارة المؤمنين"، التي هي في أصلها صفةٌ لا تترتب عليها أيةُ امتيازات ولا سلطات، حتى بات "أمير المؤمنين" يتمتع بصلاحيات مطلقة في الشأن الديني، بل بات هو وحده من دون الناس من يحقُّ له أن يجمعَ بين السياسة والدين. فهل الملك هنا يلعب دورا تحكيميا لا علاقة له بالسلطة التنفيذية، ولا يقتضي لا متابعةً ولا محاسبة؟
الملك عندنا يمارس سلطاتٍ تنفيذية حقيقية، بمقتضى الدستورين المكتوب والعرفي، لكنه لا يُحاسب ولا يُناقش فيما يفعلُ وفيما لا يفعل، وهذا الوضعُ المتميزُ للملك في الدستور والعرف والواقع المعيش هو الذي يَعجز الكتّابُ الموالون ومَنْ على هواهم من فقهاء الدستور عن مواجهته ونقدِه ورفضِه، فيعوّضون عن عجزهم بالهروب إلى الأماني والأحلام، بصناعة تأويلات غاية في البعد والغرابة. وقد تجد بعضَ هؤلاء الكتاب، ومنهم متعصبون لرئيس الحكومة ومواقِفه واختياراته، قد استحلى صناعةَ الأحلام والأوهام، وبات شبهَ متخصص في الحديث عن الدستور الحالي وتأويل مضامينه، وخاصة فيما يتعلق بصلاحيات الملكِ وعلاقته بالمؤسسات الدستورية الأخرى، وكأنه الدستور الديمقراطي الذي طالما ارتقبنا بزوغَ فجره، إلا أنه يحتاج منّا دائما إلى "تأويل ديمقراطي" عند التطبيق.
وبعد،
فبحكم الواقع المعيش، وبحكم الأعراف والعادات والممارسات التي رسختها عهودٌ طويلة من الاستبداد بالسلطة والقرار والحكم ووضعِ السياسات الاستراتيجية، فإن الملك يمارس سلطات تنفيذية واسعةً بصلاحيات مطلقة، بعضُها مذكور في الدستور، وبعضُها غيرُ مذكور، لكنه مفهوم بالعرف والأمر الواقع. وسيظل هذا العرفُ المخزني القروني في ممارسة الحكم والاستبداد بالسلطة واقعا ما دامت الطبقةُ السياسية، في غالبيتها، تقبل بأن تلعبَ اللعبةَ بقواعدَ وشروطٍ وحدودٍ هي أول من يعلم أنها لعبة لن تنتهيَ بنا إلى تحقيق الحلم الديمقراطي الذي تتطلع له الأفئدة ويتمناه المواطنون.
فالخلطُ بين إمارة المؤمنين، التي تبسط يدَ الملك في الشأن الديني ومتعلقاته، ومنها ما هو اقتصادي وسياسي واجتماعي، من غير أن يكون لأي أحد، مهما كان شأنُه، أن ينتقدَ أو أن يقترح، أو أن ينصح، وبين رئاسة الدولة، التي تجعل الملك على رأس المؤسسات الأساسية في صناعة القرارات ووضع السياسات وتنفيذها، وفي مقدمة هذه المؤسسات المجلسُ الوزاريُّ الذي يُعد بمثابة المِصْفاة التي لا يمر منها إلا ما يخضع للمقاييس المحددة، والسياسات المرسومة، والأهداف المرجوة، وبين "البيعة"، التي يستند إليها علماءُ السلطان ومن على شاكلتهم من خدّام الدولة ورجالاتها الأوفياء، ليضاعفوا للملك بالفعْلِ والعُرف ما يأخذُه منه الدستورُ المكتوب لفظا وشكلا-بل إن "البيعة" عند فقهاء النظام، وبالصورة التي نعرفها، شكلا ومضمونا، هي عَقْدٌ يجعل للملك حقوقا على الرعية يُلخصها حقُّ السمع والطاعة والولاء في كل الأحوال، في المنشط والمكره، والعسر واليسر-
قلت إن الخلط بين هذه الأمور والمجالات والصلاحيات إلى حدّ يتعذر معه التمييز والفهم، هو الذي يجعل الكتّابَ الموالين الحالمين مرتاحين في أحلامهم، لا يخشون تنغيصا يقضّ عليهم مضاجعهم، ولا يخافون تشويشا يحرمهم من نومهم العميق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مراكش: 7 مارس2013