الأحد، 20 فبراير 2022

كلمة في الذكرى الحادية عشرة لميلاد حركة 20فبراير

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كلمة في الذكرى الحادية عشرة لميلاد حركة 20فبراير

 

بين 20فبراير2011 و20فبراير2022 عرفت الحياةُ السياسية المغربية بعضَ التغيرات والتطورات والأحداث، لكن أسباب الاحتقان والاختناق ظلت قائمة، بل تفاقمت وباتت تنذر بالانفجار في أي وقت، لأن داءنا العضال، وهو الاستبداد والفساد، لم يزدد إلا تجذرا واستفحالا.

انتهت حركة 20 فبراير إلى البرود والاضمحلال بعد عشرة أشهر من ميلادها، تقريبا، وذلك بسبب الخلافات الإيديولوجية بين مكوناتها، ولم يبق منها، في الواقع، إلا الاسم والشعارات. وقد حاولت التنظيمات اليسارية، أن تعيد الحياة إلى الحركة، في كثير من المناسبات، بعد أن سطت على قيادتها واحتكرت الحديثَ باسمها، وكأنها "ماركة" مسجلة باسمها، لكن من دون جدوى. والذي شاهده الناس في الواقع أن كل الأنشطة التي حاول اليساريون تنظيمَها باسم الحركة، لم تعرف أي نجاح ملحوظ، وخاصة على مستوى تحريك الشارع وتعبئة الجماهير.

قبل سنتين، جمع هؤلاء اليساريون جموعَهم، وحشدوا تنظيماتهم، وأسسوا ما سموه "الجبهة الاجتماعية المغربية"، لنفخ روح جديدة في حركة 20فبراير، لكن، بلا جدوى دائما، إلا الخطابات الحماسية، والتصريحات النارية، والشعارات الثورية، التي لم يكن لها أي صدى ولا تأثير في الشارع.

أكثر من ثلاثين هيئة تابعة لتنظيمات اليسار، من أحزاب ونقابات وجمعيات و"شبيبات" وتنسيقيات وغيرها من الأشكال والألوان، شاركت في تأسيس هذه "الجبهة الاجتماعية"، ثم ماذا كان؟

الذي كان هو أن هذه "الجبهة" باتت رقما جديدا أضيف إلى "الجبهات" السابقة، التي كان منها ما وُلد ميتا، والتي لم يكن منها، في واقع التدافع والنضال، شيء ذو بال إلا الضوضاء والزعيق في دائرة حزبية ضيقة، بل تضيق، في بعض الأحيان، حتى عن فصائل من نفس العائلة.

ولست أبالغ في الوصف، لأنه الواقع الذي نعيشه.

ما يزال هذا اليسارُ الذي ابتُلينا به-ولا أعمّم، لأن في اليساريين أفرادا فضلاء، لكنهم، مع الأسف، بلا تأثير كبير-يصرّ على احتكار الكلام باسم الديمقراطية والحقوق والحريات، ولا يرى غيرَه جديرا بأن يشاركه في التنظير والتأطير وقيادة النضال في الميدان.

احتكروا الكلامَ باسم حركة20 فبراير، حتى أحالوها إطارا فارغا إلا من أنانيتهم الإيديولوجية الصماء، وكالوا لمنافسيهم الإسلاميين، الذين انسحبوا من الحركة، وخاصة جماعة العدل والإحسان، من كل ألوان الاتهام والتجريح والتبخيس. ثم بادروا إلى إنشاء جبهتهم الاجتماعية، في نهاية 2019، متعمدين إقصاء الإسلاميين، كما صرح بذلك بعض قيادييهم، لينتهوا إلى ما كانوا ينتهون إليه دائما، وهو الانحباس في "شوفينية" مقيتة، "يحسبون أنهم على شيء". وما يزال هذا ديدن تنظيماتهم في التعامل مع الإسلاميين، إلا من رحم ربك-وهم أفراد معدودون، لا ثقل لهم حتى الآن-عندهم البقاءُ، ولو إلى الأبد، في برجهم الإيديولوجي الحالم أهونُ من أن يقبلوا بالإسلاميين شركاء لهم في التأطير والنضال.

أليس للإسلاميين المعارضين جمهور واسع وعريض من أبناء الشعب؟

أليست يدُ هؤلاء الإسلاميين المعارضين ممدودة للتواصل والتحاور والتعاون بلا تعاظم ولا تعالم ولا اشتراطات سابقة؟

أليس الناس جميعا يناضلون من أجل العدالة والحرية والكرامة؟

أليس الناس جميعا مع سقوط الاستبداد والفساد؟

أليس الناس جميعا من أجل الديمقراطية ولوازمها من الحقوق والحريات؟

أليس الناس جميع ضد احتكار السلطة والثروة؟

أليس الناس جميعا مع حقوق المستضعفين؟

ففيم الاحتكارُ والإقصاءُ والتعالي والتقوقعُ داخل البيت الإيديولوجي المظلم؟

ففيم هذه العداوة الدفينة المستحكِمة للإسلاميين من قوم لا يفتأون يدعون النضال من أجل الحقوق والحريات؟

وأذكر هنا أن الاستثناء لا يغير في القاعدة شيئا. فبعض مناضلي حزب النهج الديمقراطي يرفضون هذا الإقصاء الفِجّ من رفاقهم تجاه جماعة العدل والإحسان، لكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا في الاتجاه الصحيح، لأن الآصرة الإيديولوجية غَلاّبة.

وبعد، ألم يأْنِ للإسلاميين، من غير المخزنيين، بعد أربعين سنة، تقريبا، من الصبر والتلطف والترقب وحسن الظن، أن ييأسوا من هذا اليسار "المريض" "المستكبر"، وينفضوا أيديهم منه جملة وتفصيلا؟

أما يزال عندكم أيها الإسلاميون صبرٌ على هؤلاء القوم العادين الإقصائيين؟ وإلى متى هذا الصبر؟

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

الخميس، 17 فبراير 2022

مراجعات في الفكر والسياسة(14)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مراجعات في الفكر والسياسة(14)

 

دعوةُ جماعة العدل والإحسان "الفضلاءَ الديمقراطيين"، لطاولة الحوار دعوةٌ قديمة جديدة، وما زلنا نرى الجماعة تجدّدُ هذه الدعوة في كثير من المناسبات، ومنها المناسبةُ الأخيرة في الندوة الحوارية، في الذكرى التاسعة لوفاة الأستاذ المرشد، رحمه الله.

لكن الذي يلاحظه كلُّ متتبع مهتمٍ بهذا الموضوع أن عدد المستجيبين لدعوات الجماعة في تراجع واضح، منذ سنوات، فضلا عن كون المستجيبين، على قلتهم، هم أفرادٌ لا يمثلون، في الغالب، إلا أنفسهم، حتى وإن كانوا ينتمون لبعض التنظيمات، كالسيد عبد الله الحريف، مثلا، الذي ينتمي إلى حزب النهج الديمقراطي؛ فداخل هذا الحزب اليساري الراديكالي، هناك اختلاف كبير بين "الرفاق" في موضوع الاتصال والتحاور مع جماعة العدل والإحسان، إلى درجة أن من "رفاق" السيد الحريف من له مواقف متطرفة في رفض أي تواصل مع جماعة "إسلامية" "أصولية" "رجعية" "ظلامية"، حسب أوصافهم العدمية المتطرفة.

وعلى ضوء النتائج التي تنتهي إليها مثلُ هذه اللقاءات "الحوارية"، كنت خلصت في واحدة من مقالاتي السابقة إلى نتيجة مفادها أن دعوة الجماعة المتكررة إلى "ميثاق جامع" إنما هي دعوة إلى "ميثاق مستحيل"، وبيّنتُ، من عدة أوجه، لماذا هذه الاستحالة ، طبعا حسب رأيي وتقديري. ويمكن للقارئ المهتم بالتفصيلات أن يرجع إلى مقالاتي في موضوع "الميثاق"، الذي ما فتئت الجماعة تدعو إليه.

والحديث عن "التحاور" وعن "الميثاق" هو حديث في موضوعين أولهما بمثابة الأساس الذي لا قيام للثاني إلا به، فهما إذن، من هذه الزاوية، موضوعان متلازمان متداخلان لا ينفك أحدهما عن الآخر.

لقد كتبت عدة مقالات في موضوع تحاور الإسلاميين واليساريين، وخاصة بعد هبوب عواصف الربيع العربي، التي كان من تجلياتها المغربية حركةُ 20 فبراير سنة 2011. ويمكن أن أسميَ هنا سبع مقالات، وهي، على التوالي، حسب تواريخ كتابتها:

"الإسلاميون واليساريون اختبار في الميدان"(ماي2011)

"هل يردّ اليساريّون تحيّةَ العدل والإحسان؟"(ماي2011)

"عن تحاور الإسلاميين واليساريين"(شتنبر2011)

"المعارضون للمخزن-معوّقات التقارب والتحاور والتحالف"(مارس2013)

"في قضايا الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين(1/2)"(مارس2013)

"في قضايا الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين(2/2)"(مارس2013)

"الإسلاميون واليساريون بين السياسة والإيديولوجيا"(يونيو2014)

وسيلاحظ الناظر في هذه المقالات أن رأيي في موضوع العلاقة بين الإسلاميين واليساريين قد عرف شيئا من التطور خلال السنوات الثلاث التي كتبت فيها هذا المقالات، لأني كنت أكتب بوحي مما يجري في الواقع.

ومنذ سنة2011، وخاصة بعد الاحتكاك والاختلاط والتواصل المباشر التي حصل بين الإسلاميين، ممثَّلين في جماعة العدل والإحسان، وبين اليساريين، في خضم أنشطة حركة 20 فبراير، وأنا أتابع، ككل مهتم، ما يجري في الواقع من تغيرات وتطورات بخصوص العلاقة بين الإسلاميين واليساريين.

فقد انتهت حركة 20فبراير إلى ما انتهت إليه من برود واضمحلال، بعد انسحاب جماعة العدل والإحسان، وكان الاختلاف الإيديولوجي، في تقديري، هو السبب الرئيسي وراء ما حصل. وقد حسمت "فيدرالية اليسار الديمقراطي" في موقفها من التعامل مع الجماعة، وقررت قطع أي نوع من العلاقة معها، وإن كان بعض الأفراد-أقول بعض الأفراد-من هذه الفيدرالية ما يزالون غير مقتنعين بهذا الموقف المقاطع. للتذكير، فقد بقي في هذه الفيدرالية حزبان من ثلاثة، وهما حزب "الطليعة الديمقراطي الاشتراكي"، وحزب "المؤتمر الوطني الاتحادي"، بعد انسحاب "الحزب الاشتراكي الموحد" قبيل انتخابات 8 شتنبر الأخيرة، بسبب خلافات داخلية.

إذن، لم يبق من اليساريين الذين أراهم معنيين بالحوار مع جماعة العدل والإحسان إلا حزب "النهج الديمقراطي"، الذي ما يزال مترددا في الحسم في العلاقة مع العدل والإحسان بصورة رسمية قاطعة، وإن كان بعض قيادييه، كالسيدين مصطفى البراهمة وعبد الله الحريف، لا يفتأون يؤكدون إيجابيات التواصل مع الجماعة، ولا يتخلفون عن المشاركة في المناسبات "الحوارية" التي تجمعهم معها على طاولة واحدة.

ما هي الخلاصة من كل هذا الكلام، بعد التأمل والتمحيص والغربلة؟  

الخلاصة، في رأيي، هي أن خُطى السائرين في طريق التحاور-وهم قلة كما لاحظنا-ما تزال بطيئة جدا، لأننا لا يمكن أن نحكم بأن هناك، بالفعل، مبادرات جادة لبدء حوار مسؤول بين فاعلين سياسيين معروفين بإيديولوجياتهم وتنظيماتهم ورموزهم؛ فكل ما هناك هو هذه اللقاءات التي تنعقد، من حين لآخر، في شكل ندوات أو مناظرات أو احتفالات، بهذه المناسبة أو تلك، ثم ما هو إلا أن ينتهي اللقاء حتى يرجع المشاركون إلى شواغلهم العادية، في انتظار مناسبة أخرى، يَدْعُون إليها، أو يُدْعَوْن.

نعم، هناك فضلاء ديمقراطيون من ذوي الخلفية اليسارية، كالسادة "أبو بكر الجامعي"، و"فؤاد عبد المومني"، و"المعطي منجب"، تمثيلا لا حصرا، لا يزالون يجتهدون لتقريب الشقة بين الطرفين، في كثير من الندوات والاستجوابات والتصريحات، وكذلك في بعض البرامج السياسية والحقوقية، التي تُبث على الإنترنيت، وخاصة في بعض قنوات (اليوتوب)، لكنها محاولات محاصرة، هي الأخرى، بأجواء القمع والتشويش والتشكيك والاتهام، التي يفرضها الاستبداد وأبواقه وأذرعه المبثوثة في كل مكان. 

وهذا لا يعني تبخيسَ ما قد يُجنى من هذه اللقاءات والمبادرات من قطاف مثمرة، أو ما يمكن أن توفره من مادة أولية أساسية يمكن التعويل عليها في البناء غدا أو بعد غد.

وفي نظري، هناك عدة عوامل تعوق السير الطبيعي في طريق التواصل والتحاور بين معارضي الاستبداد.

هناك، أولا وأساسا، عامل القمع والمنع والحصار، الذي يُطيل عمر هذا الاختناق الذي تعانيه حياتنا السياسية. فاليوم، المعارضون للدولة المخزنية، وأخُصّ الثوريين منهم، ليس عندهم لممارسة حقهم وحريتهم في الرأي والتعبير والتنظيم، إلا هذه الثقوب الضيقة في هذا الجدار الاستبدادي السميك المحصن، تحاصرهم، من كل المنافذ والجهات، عيون المخزن، لا تنام عنهم، ليل نهار، وتتصدى لهم مقامعُه، من كل الألوان والأحجام، البوليسية والقضائية والإعلامية والاستخباراتية، لا تتركهم يتنفسون حتى تعاود الكرة والكرات عليهم، في مشهد سيزيفي لا يطاق.

وهناك، ثانيا، عامل الاختلاف الإيديولوجي، الذي ما يزال يكدر الأجواء، ويبطئ السير، ويذكي نار الحزازات والنعرات، لا يتركها تخمد وتزول.

فما يزال بعض اليساريين، في بعض اللقاءات، يحتجون على جماعة العدل والإحسان ببعض النصوص من كتابات مرشد الجماعة، رحمه الله، على أنها الأصل في أدبيات الجماعة السياسية. ويرد بعض ممثلي الجماعة في هذه اللقاءات بأنه من الظلم محاكمة الجماعة على ضوء كتابات "متجاوَزة" بدل أن يحكموا عليها على ضوء ما يرون منها ويسمعون الآن.

والواقع أن الناس يسمعون من الجماعة، اليوم، خطابا مختلفا عما هو مدون في منهاجها السياسي الأصلي، لكنهم لا يجدون بين أيديهم من الوثائق المكتوبة والأدبيات المنشورة ما يثبت أن الجماعة، بالفعل، قد راجعت منهاجها وطورته، وتجاوزت ما فيه من أطروحات سياسية كانت وليدة اجتهادات أملتها، قبل سنوات، ظروف وأحوال وملابسات وصراعات هي غير ظروف الحاضر وأحواله وملابساته وصراعاته. وهذا التباين الذي يظهر لبعض الناس ما بين الكلام المسموع والنص المكتوب يجعل بعض الفضلاء من ذوي المقاصد الحسنة غير مطمئنين لما يسمعون، وهم يرون أدبيات الجماعة المكتوبة والمنشورة ما تزال على صورتها الأصلية، لم يطرأ عليها أي تغيير.

ومن جهة أخرى، هناك هذا التعالي والأستاذية من جانب اليساريين-ولا أعمم، لأن من بين اليساريين فضلاء متواضعين، يعرفون قدرهم ويقفون عند حدودهم، ويحترمون خصومهم، ويسعون للتحاور مع منافسيهم، بلا تعالم ولا اشتراطات مسبقة-قلت هناك هذا التعالي والأستاذية من جانب اليساريين، وكأنهم هم وحدهم من يفهم في الحريات والحقوق والديمقراطية والتقدمية، وغيرهم محتاج دائما إلى أن يتعلم منهم، ويخضع لشروطهم، ويقدم بين أيديهم، دائما، ما يشهد لهم بصفاء النية وحسن السلوك، وقد يرضون، وقد لا يرضون!

وبعد، فعندما نرى معارضي الدولة المخزنية على هذه الحال من التشتت والفرقة والتيه في الصراعات الإيديولوجية الصماء، فإننا يمكن أن نفهم كثيرا لماذا لا يزداد الاستبداد في حياتنا السياسية إلا تسلطا وتحكما وتشددا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

الخميس، 10 فبراير 2022

مراجعات في الفكر والسياسة(13)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مراجعات في الفكر والسياسة(13)

 

توضيحات مركزة

أريد أن أتقدم بهذه التوضيحات، لوضع النقط على بعض الحروف، حتى يعرف بعض القراء، الذين يتساءلون عن الغاية من وراء رجوعي إلى الكلام على موضوع "المراجعات"، أني أتكلم، أولا، لأني صاحب رأي حر، ومن حقي أن أعبر عن هذا الرأي، يقبله من يقبله، ويرفضه من يرفضه، ويُعْرض عنه من يُعْرض؛ فلماذا يتضايق بعضُ الناس من آراء بعض الناس؟

وإني أتكلم، ثانيا، في موضوع "المراجعات" وفي غيرها من الموضوعات، وغرضي من كل ذلك، في تقديري، أن أشارك، من جهتي وبطريقتي، في النقد والتقويم والتصحيح والبناء، وقد أصادف بعضَ الصواب وقد أخطئ. وإني لا أهتمّ بمن يشكّك في نيتي وهدفي من وراء ما أرى وأكتب، لأني تعودت على مثل هذه الاتهامات، التي لا تستند إلى شيء سوى الرجم بالغيب، والثرثرة الخالية من أي معنى. وإني أعرف أن من هؤلاء الذي يروجون مثل هذه الثرثرات الفارغة مَنْ لا يحلو لهم صيدٌ إلا في الماء العكر، وأن منهم مَنْ له مآربُ أخرى من وراء هذه التُّرّهات، والله أعلم بنيات العباد.

والغرضُ من تركيزي، في هذه المراجعات، على "المنهاج السياسي" لجماعة العدل والإحسان، يمكنُ تحديدُه في نقطتين رئيستين: الأولى هي أن منهاج الجماعة عموما، ومنهاجَها السياسيَّ خصوصا، هو منهاج معروض على الناس، كلِّ الناس، ومن ثَمَّ، فهو مُعرَّض للنقد، مثله مثل أي فكر أو اجتهاد أو نظرية، لا يدعي له أصحابُه العصمة والتنزه وقولَ الحقيقة النهائية المطلقة. وقد قيل قديما: "مَنْ صَنَّفَ فقد اسْتَهْدَف"، و"استَهْدَفَ"، بالبناء للمعلوم، أي أصبح منتصِبا لرماية النقاد.

والنقطة الثانية هي أن جماعة العدل والإحسان، اليوم، في تقديري، هي التنظيم الإسلامي الوحيد الذي ما يزال له صوتٌ مسموع، ومنهاجٌ مقروء، ومصداقيةٌ معتَبَرة، وزئير محذور في الساحة، بعد أن اختفى، أو كاد، صوتُ الآخرين؛ فماذا بقي من "البديل الحضاري"؟ وماذا بقي من "حزب الأمة"؟ بل ماذا بقي من "حركة التوحيد والإصلاح"؟ بعد صولات القمع والمنع والإخضاع والتدجين المخزنية. أما "حزب العدالة والتنمية"، فلم يُبْقِ منه الطاحونُ المخزنيّ إلا الأشلاء، التي لا يمكن التعويل عليها، على الأقل في المستقبل القريب، في بناء اللحمة الإسلامية، والتصدي لسطوة الاستبداد والفساد.

ففي تقديري، ما تزال جماعة العدل والإحسان، رغم محن القمع والمنع والحصار والملاحقات الظالمة-ما تزال مَرجُوَّة ليكون لها فعلٌ قويّ ومؤثر في مشروع التحرر والانعتاق من قبضة السلطوية الخانقة، مع سائر الفضلاء المخلصين من التيارات الأخرى، التي تسعى من أجل دولة الحق والقانون والحريات والمؤسسات المسؤولة.

وما أحوج الطلائع، في كل زمان، إلى التقويم والنقد والتمحيص.

وأرجع، بعد هذه التوضيحات، إلى سياق الحديث عن المراجعات.

هل "المرجعية الإسلامية" خط أحمر في الحوار مع الآخر؟

لا أقول إن على الجماعة اليوم أن تتكلم مع الآخر بلغة القوة والثقة والحسم، كما تكلم الأستاذ المرشد، رحمه الله، في حواره مع الفضلاء الديمقراطيين، حينما قال، بلا تردد ولا تلعثم: "المستقبل إسلام يا قوم!(...) وإنه دائما الإسلام أو الطوفان. خاطبنا من يعلم أن للكلم معنى، وأن بعد اليوم غدا. والله المستعان."(من مقدمة الطبعة الأولى من كتاب "حوار مع الفضلاء الديمقراطيين"، ص7-8)

ولا أقول إن عليها أن تتكلم إلى "الفضلاء الديمقراطيين" بما تكلم به الأستاذ المرشد حين قال: ""نحن نريد أن نسمع من المثقفين من ذراري المسلمين كلمةً صريحة واضحة معلنَة أنهم مسلمون. وإذاً فلا أرضية تجمعنا، ولا بساط يسعنا إلا الإسلام.

"قد يحاول أحدُهم أن يتفلّت مما يُلزمه به اعترافُه أنه مسلم، فيجرنا إلى أرضية الوطنية، وبساط المصلحة العامة. وما هي إلا اللائكية تدافع عن مواقعها."(ص32 من الكتاب السابق)

في اعتقادي، لقد قال الأستاذ المرشد، رحمه الله، ما قاله، في حواره مع الفضلاء الديمقراطيين، بلغة رجل الدعوة، أولا وأساسا، قبل رجل السياسة، لأنه، رحمه الله، كان يعلم أن للسياسة رجالها ونساءها وقواعدها ولغتها وضروراتها وإكراهاتها وأساليبها، في الكر والفر، وفي الحوار والنقاش والتفاهم والتفاوض.

همّ رجل الدعوة الأول والأخير أن يهتديَ الناس ويتوبوا إلى خالقهم. وهذا الهم نقرأه جليا في دعوة الأستاذ المرشد، رحمه الله، للفضلاء الديمقراطيين قائلا: "هلموا يا إخواننا المسلمين الفضلاء الديمقراطيين إلى الكلمة السواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.(ًص88)

الدعوة، في جماعة العدل والإحسان، هي الأصل؛ هي النهر العظيم الجاري إلى مصبه، لا يرجع إلى الوراء، ولا تحبسه عن الاندفاق زمجرةُ الرعود، ولا يوقفه عن الجريان قصفُ الرياح وهبوبُ العواصف. هذا هو الأصلُ الذي تكاد تطمسُ معالمَه وتُذهب رونَقه مَخَاوِضُ السياسة وأحابيلُها وتشعباتُ دروبها.

ولا ينبغي أن يُفهم من هذا الكلام أن لا اتصال، مطلقا، بين الدعوة والسياسة، وإنما المقصود من كلامي أن قواعد السياسة وميدانَها ولغتها وأساليبها هي غير قواعد الدعوة وميدانِها ولغتها وأساليبها، وإن كان بين الاثنين جسور واتصال.

فعلى طاولة الحوار السياسي، مخاطبةُ الآخر "اللاديني"[أقصد بـ"اللاديني" هنا مَنْ يقول: "لادين في السياسة"، وإن لم يكن ملحدا] بلغة الدعوة الصريحة القاطعة، ابتداءً، هو حُكمٌ مُبْرَمٌ على الحوار بالفشل، لأن "الإيديولوجيا" و"السياسة" لا يلتقيان على طاولة الحوار الجاد، وإن هما التقيا، فلا يكون من لقائهما إلا التنافر والتدابر والتصارع.

وأنا هنا أستعمل مصطلح "الإيديولوجيا" بمعنى الأصول والثوابت والقيم، التي يكون بها قوامُ المعتقدات والفلسفات والمذاهب والنظريات. وبهذا المعنى، يمكن اعتبار عقائد الإسلام ومبادئه وشرائعه وأحكامه وآدابه وأخلاقه قوامَ "إيديولوجيا" المسلم الملتزم. وقِسْ على هذا "إيديولوجيا" الملحد، واللائكي، واليساري الاشتراكي، والليبرالي الديمقراطي، وغيرهم من أصحاب النِّحَل والمشارب والانتماءات.

ففي رأيي أن لغة الحوار السياسي، الذي يُراد له أن يصل إلى نتيجة بناءة، تتنافى مع لغة الاشتراطات المسبقة، ومِن ثَمّ، فإن وضعَ المرجعية الإسلامية شرطا سابقا لبدء الحوار مع الآخر اليساري، مثلا، هو من قبيل إغلاق باب الحوار قبل بدئه، ولنا من تجارب الواقع أمثلة كثيرة تؤكد هذا الرأي.

فالمراد من أي حوار جاد ومسؤول أن يصل المتحاورون، أولا، إلى مد جسور التفاهم والتعارف، ونسج الثقة المتبادلة، ثُم البحث، ثانيا عن نقط التلاقي والاتفاق، وتأجيل نقط الافتراق والاختلاف، ثُمَّ، النظر، ثالثا، في الصيغ الممكنة والأساليب المتاحة لبدء نوع من العمل المشترك لتفعيل المشترك المتفق عليه، ووضع الآلية المناسبة لحصر نقاط الخلاف وتدبيرها، بعيدا عن "الإيديولوجيا" الصماء العمياء، وتغليبا للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، واستشراف آفاق المستقبل بدل البقاء في قوقعة الماضي واجترار "حزازات" أيام زمان.

والذي أعرفه بالمعايشة والتجربة أن جماعة العدل والإحسان، منذ قررت فتح باب التواصل والتحاور مع الآخر، لم تشترط قطّ المرجعية الإسلامية لبدء هذا التواصل والتحاور، وإن كان همُّ الدعوة عندها حاضرا لا يغيب. وقد شاركت أنا شخصيا في عدة لقاءات من هذا النوع، وأشهد أنه لم يكن هناك من جانب الجماعة اشتراط سابق، ولكن، مع الأسف، الاشتراطات كانت تأتي من الآخر، وما تزال.

وإغناء لهذا الحديث، سأعيد نشر بعض ما كنت كتبته فيما له علاقة بموضوع الحوار بين "الإسلاميين" و"اليساريين".

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

الاثنين، 7 فبراير 2022

مراجعات في الفكر والسياسة(12)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مراجعات في الفكر والسياسة(12)

 

(ربّ اشرحْ لي صدري، ويسّرْ لي أمري، واحلُلْ عقدة من لساني يفقهوا قولي).

اللهم إني أعوذ بك أن أغلُوَ في قول أو عمل، أو أتطرف في فكر أو مقالةٍ، أو أتشدد في رأي أو عبارة.

اللهم إني أعوذ بك من كل جدل عقيم، وكلِّ مِحالٍ وبيل. اللهم آمين.

"أدبيّاتٌ" منسوخة

رأيتُ في المقالة السابقة أن جماعة العدل والإحسان باتت، اليوم، تسير، مُكرَهَة وعلى استحياء، في طريق "مراجعة" الأدبيّات المكتوبة والمنشورة، التي يقوم عليها منهاجها السياسي، وعندنا في بعض تصريحات قيادييها ومسؤوليها ما يقوّي هذا الرأي.

ومع ذلك، فإن الجماعة، ممثَّلَة في قيادتها، لا تجرؤ على التصدي، بشجاعة وصراحة، لموضوع علاقة الإيماني التربوي بالسياسي الاجتهادي في تراث مرشدها الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله؛ هذا التراث الذي يشكل روحَ "أدبيّات" الجماعة وعمودها الفقري.

وللتذكير، فإن مما تمتاز به هذه الأدبيات أنها، أولا وأساسا، لم تكن وليدة تشاور جماعي، أو نقاش في مجلس تأسيسي، أو توافق بعد تحاور وتبادل للرأي، وإنما كانت وليدة اجتهاد رجل واحد هو الأستاذ المرشد، رحمه الله، مع حفظ ما كان للرجل من سابقة وفضل، تربية وعلما وفهما.

وتمتاز هذه الأدبيّات، ثانيا، بـأنها تقوم، في جوهرها، على اجتهاد الأستاذ المرشد في فقه حديث الخلافة الثانية؛ وفي هذا الاجتهاد الفقهي أن "الخلافة الثانية على منهاج النبوة" هي حتميةٌ لا ريب فيها، ووعدٌ من الله غير مُخْلَف. ويسبق هذه الخلافةَ الحتمية الموعودة إقامةُ "الدولة الإسلامية القطرية"، التي تأتي بها "قومة إسلامية"، يشعل شرارتَها زحفٌ يكون في طليعته "جماعة المسلمين"، تربيةً وتنظيما. أما "الميثاق الإسلامي"، في أدبيات الجماعة-نتذكر أن هذه الأدبيات هي من بنات أفكار الأستاذ المرشد، رحمه الله-فزمانُه بعد القومة وليس قبلها.

وههنا وضْعٌ يظهر أنه غريب وشاذ؛ من جهة، هذه الأدبيات/الثوابت/الأسس في منهاج الجماعة السياسي ما تزال هي هي في برامج التربية والتكوين والتأطير داخل الجماعة، ومن جهة أخرى، هذه الأدبيات غائبة في حوارات الجماعة مع الآخر خارج الجماعة، بل يظهر، في هذه الحوارات، وكأنها باتت أدبياتٍ منسوخةً بأدبيات جديدة. وكأن الجماعة، كما يزعم بعض خصومها، لها وجهان، وجهٌ داخلي خفيّ، ووجهٌ خارجي معلَن.

والذي أراه-والله أعلم-أن الأمر لا يتعلق بوجهين، وإنما هو وجهٌ واحد، إلا أن الالتباس حاصل من كون الجماعة، كما ذكرت، لا تجرؤ، "رسميا" وعلى الملأ، على الاقتراب من اجتهادات المرشد بمراجعة أو تعديل أو تبديل، وإن كانت، في الواقع، تسير في طريق هذه المراجعة، لأن النفس ما تزال مترددة في أمر علاقة العطاء التربوي بالاجتهادي السياسي في هذه الاجتهادات، وهو ما يعطي الانطباع بأن الجماعة ما تزال تقدم رجلا وتؤخر أخرى في شأن الحسم في هذه العلاقة، هل هي علاقة انصهار وتطابق، أم علاقة تمايز وانفصال، أم علاقة تلازم وتكامل، أم شيء آخر، وإن كنت متيقنا بأن في الجماعة قياديين ومسؤولين موقفُهم محسوم من هذه العلاقة منذ زمان لصالح التماهي والتطابق، وأن الاجتهاد السياسي للمرشد، عندهم، هو جزء لا يتجزأ من إشعاعه الإيماني التربوي.

المهم من كل هذا الكلام أن "المقولات الأساسية" في منهاج الجماعة السياسي(الخلافة الثانية، الدولة الإسلامية، القومة الإسلامية، جماعة المسلمين، الميثاق الإسلامي)، في حوارات الجماعة مع "الفضلاء الديمقراطيين"، أصبحت مُغَيَّبَة، بل باتت منسوخة بأدبيات جديدة.

ورأيي أن هذا النسخ والتجديد شيء إيجابي ومطلوب لو كان مسبوقا بإعلان صريح ورسمي، يطمئن الناس ويرفع الالتباس ويقطع ألسنة المرجفين المتربصين الصائدين في الماء العكر.

المراجعة والتجديد والتطوير مطلب ضروري وحيوي عند الأستاذ المرشد، رحمه الله

لماذا التردد والاستحياء؟

أين العيبُ في أن تراجعَ الجماعة بالتعديل والتطوير والتجديد المنهاجَ الذي وضعه الأستاذ المرشد؟

أين العيب في أن تعيد الجماعةُ النظرَ في اجتهادات مرشدها الفقهية والسياسية، وتجتهدَ في النظر إليها بمنظار الحاضر ومتغيراته ومستجداته، بمنظار التطور والتجدد والتغير، لا بمنظار الجمود والتقليد والسكون؟

أليس الأستاذُ المرشدُ نفسه، رحمه الله، هو القائل، مُعلِّما ومرشدا: "ما مِنْ إمام من أئمتنا الصالحين إلا ويقول لسانُ حاله ومقاله: افعلوا كما فعلت، واجتهدوا لزمانكم كما اجتهدت، وارجعوا إلى منبثَق العلم ومنطلَق الوحي كما رجعت"؟.(ص150 من الطبعة الأولى لكتاب "العدل")

أليس الأستاذ المرشد نفسه، رحمه الله، هو القائل، في لقاء كان معه ببيته بسلا سنة 1989، منبها ومحذرا من الانغلاق والجمود عند ما وصل إليه فكرُه واجتهادُه: "ما كان لي، وما يكون لي، وما ينبغي أن أزعم للناس وأن أدعوهم: هلمّوا، اتخذوا هذا الفكر وثنا، وقفوا عنده وتحجروا.

أليس هو، رحمه الله، القائل، في نفس اللقاء، حاثّا على التجديد والتطوير والإبداع: "على الناس، في زماني وبعد زماني، في هذه الجماعة وفي غيرها، أن ينتقدوا، وأن يحللوا، وأن يردّوا، وأن يأخذوا، وأن يطوروا، وأن يحوروا، فذلك ما أريده، وأرجو الله ألا يقف أحد معي أُحاجّه عند الله عز وجل إن اتخذ فكري وثنا وصنما."

يُتبع في مقالة جديدة، إن شاء الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

الخميس، 3 فبراير 2022

مراجعات في الفكر والسياسة(11)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مراجعات في الفكر والسياسة(11)

 

إخواني أخواتي، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته؛

لقد بدا لي اليوم أن أستأنف الكلام بعد سكوت دام وقتا طويلا. وسبب هذا السكوت الطويل، باختصار وبساطة ووضوح، أني ظننت أن الكلام مني قد بلغ درجة خشيت معها أن أقع في التكرار، وألا يكون مني جديد أفيد به من يهتمون بآرائي ويتابعون مقالاتي.

الجو السياسي السائد يمتاز بالجمود والاختناق واستمرار اشتداد القبضة الحديدية في مواجهة المعارضين، الثوريين والإصلاحيين، وخنق الأنفاس في مجالات حرية الرأي والتعبير والتنظيم، وخاصة بعد عواصف الربيع العربي، وما تلاها من ترميمات مخزنية في المشهد السياسي، ومن خلط للأوراق وإعادة ترتيبها بما يفتل في حبل الاستبداد، ويُبقي على سيطرته على كافة مناحي المناشط السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لقد قضى النظامُ وطرَه من حزب "العدالة والتنمية"، المحسوب على "الإسلاميين"، بعد أن أكل الثومَ بفمِه، وهوى بمصداقيته في قاع الحضيض، ثم رمى به في الهامش ذليلا حقيرا. ويظهر بجلاء أن الحزب لم يعتبر بما وقع، وما يزال يعبر عن استعداده لخدمة الدولة المخزنية، مصرا على أن اختياره السياسي، وخاصة في عشر السنوات الأخيرة، كان ناجعا!! ويمكن ههنا الاستئناسُ بما كتبته، سنة 2017، في مقالة بعنوان "ومنْ لا يكرّمْ نفسَه لا يكرّمِ"[الرابط: https://majdoubabdelali.blogspot.com/2017/03/blog-post_29.html]، وفي أخرى، في نفس السنة، بعنوان: "هل بقي للعدالة والتنمية من مصداقية سياسية؟"[الرابط:

https://majdoubabdelali.blogspot.com/2017/03/blog-post.html]

أما المنابر السياسية والإعلامية المحسوبة على النظام، بصورة مباشرة ناصعة أو بصورة مقنَّعة مموَّهَة، فما تزال على طريقتها في النيل من المعارضين، من كل المشارب والاتجاهات، راكبة كل السبل إلى حد الإسفاف والبذاءة والتزوير والتضليل، مستغلةً هذا التطور الهائل الهائج المائج الحاصل في مجال المعلوميات وتكنولوجيا التواصل، وخاصة فيما بات يعرف بشبكات التواصل الاجتماعي، موظفةً جيوشا من هذا الذباب الإلكتروني، الذي يتغذى من القاذورات والسفالات وغيرها من إفرازات النفوس المريضة ونُفاثات الضمائر الخربة.

وفي مقابل السلطوية المخزنية، ما يزال المعارضون، على اختلاف فصائلهم وتباين إديولوجياتهم، يصارعون، أولا من أجل البقاء، ويناضلون، ثانيا، من أجل توسيع النَّقْب في الجدار السميك الذي بناه المخزن، منذ عهود، للحيلولة دون وصول صوت الحق والحرية والعدالة إلى جمهور المواطنين، ويسعون، ثالثا، من أجل مدّ جسور التعارف والتفاهم فيما بينهم، لإيجاد صيغ مقبولة لمواجهة الاستبداد والفساد.

والحقيقة أني لم أعد أسمع من أصوات هؤلاء المعارضين الآن إلا صوت "جماعة العدل والإحسان"، وصوت "حزب النهج الديمقراطي"، وصوت بعض الأفراد الفضلاء. أما الآخرون، في غالبيتهم، فإما أنهم غارقون في مشاكلهم الحزبية الضيقة، وأنانياتهم المستعلية، وخطاباتهم العدمية، وإما أنهم طامعون في الاستفادة مما يفتحه المخزن من ثقوب في جداره السميك للتهوية والتلهية وتدجين النخب.

هذا هو ملخص رؤيتي للمشهد السياسي؛ استبداد وفساد خانقان من جهة، ومحاولات من أجل الانعتاق وحق العيش في مجتمع الحرية والعدالة والكرامة في الجهة المقابلة، لم تزل السلطوية تحاصرها من كل الجهات.

أرجع، بعد هذا التقديم، إلى سياق "المراجعات".

دعاني إلى الرجوع إلى الكتابة اليوم، واستئناف كلامي على "المراجعات" في الفكر والسياسة، التي بدأته منذ سنوات، بعضُ الانطباعات والملاحظات التي طافت بنفسي وأنا أتابع تدخلات السيدة والسادة الأساتذة، الذين شاركوا في الجلسة الأولى من الندوة الحوارية، التي نظمتها جماعة العدل والإحسان، يومي السبت والأحد 11 و12 من شهر دجنبر الماضي، بمناسبة الذكرى التاسعة لوفاة الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، رحمه الله، والتي اختير لها عنوان "المغرب وسؤال المشروع المجتمعي".

شارك في هذه الجلسة الحوارية الأولى، التي دار موضوعها حول قضية "الدولة والحكم"، من خارج الجماعة الأستاذ "أبو بكر الجامعي"، من فرنسا بواسطة الفيديو عن بعد، والأستاذ عبد الله الحريف، من حزب النهج الديمقراطي، حضوريا، فضلا عن مسير الجلسة الأستاذ "عبد الرحمن خيزران"، والأستاذة "أمان جرعود"، من داخل الجماعة.

وقد لاحظت أن المتكلمين كانوا، على العموم-إذا استثنينا بعض الاختلافات البسيطة- متفقين على أسباب الأمراض والمعوقات التي تعانيها حياتنا السياسية، وفي مقدمتها الاستبداد والفساد. كما لاحظت أن الجميع، تقريبا، بغض النظر عن الزاوية التي ينظر منها كل واحد منهم، كانوا متفقين على مبادئ الدولة المنشودة وخصائص نظام الحكم المطلوب.

لقد رجع بي ما دار في هذه الجلسة من آراء واقتراحات، إلى موضوع "المراجعات"، في المنهاج السياسي لجماعة العدل والإحسان، الذي كتبت فيه مجموعة من المقالات، جمعتُ معظمَها، فيما بعد، وبالتحديد سنة 2019، في كتاب بعنوان "مراجعات في الفكر والسياسة".

والسياق هنا يفرض عليّ التذكيرَ ببعض الأمور.

لقد ذكرت، في إحدى مقالاتي عن هذه "المراجعات"، أن من الأسباب الرئيسية التي كانت وراء اختلافي مع إخواني في جماعة العدل والإحسان، أني كنت أرى رأيا، ثم تجرأت، في يوم من الأيام، على التعبير عنه بكل وضوح، شفويا وكتابيا-وسأنشر هذه المكتوبات في الوقت المناسب، إن شاء الله؛ لقد كنت أرى وجوبَ الفصل في شخص السيد المرشد، رحمه الله، بين ما هو إيماني تربوي إرشادي ثابت، وبين ما هو اجتهادي سياسي ظنيّ متغير. لكن إخواني لم يكونوا-وأعتقد أنهم ما يزالون-يرون تمييزا بين التربوي والسياسي في شخص المرشد، بل كانوا يعتقدون أن الأمرين، التربوي والسياسي، إنما هما وجهان لعملة واحدة، ومن ثَمَّ، فلا مكان عندهم لمراجعة أو انتقاد اجتهادات المرشد وآرائه السياسية.

ومضت أيام وشهور وسِنون، وها هي ذي الجماعة اليومَ تَقْبَلُ، مُكرَهَة وعلى استحياء-وسأشرح لماذا على استحياء-بإعادة النظر في هذه المسألة-مسألة العلاقة بين التربوي والسياسي-وتتحدثُ بالعبارة الصريحة، على لسان بعض قيادييها ومسؤوليها، لا سيّما في الدائرة السياسية، بوجوب فصل القضايا الإيمانية عن القضايا السياسية، وأن السياسة، تنظيرا وممارسة ونضالا، ميدان له خصوصياته وقواعده وفنونه وأساليبه ولغته، وخاصة حينما يتعلق الأمر بالتواصل مع الآخر ومحاورته ومحاولة التفاهم معه.

 قلت قَبِلت الجماعة إعادة النظر في هذا الأمر "مكرهة" و"على استحياء"، لأن الواقع السياسي المعقد-بطبيعته-فرض عليها ذلك، حتى يتسنّى لها التنفسُ والتخلصُ من ربقة "الإيديولوجيا الحزبية" الخانقة. فههنا وجهُ الإكراه. أما القبول "على استحياء"، فلأن أدبيات الجماعة، في منهاجها السياسي، المكتوبة والمنشورة، ما تزال على ما كانت عليه، من غير أن يمسها تعديل أو تغيير. وكأن هناك ترددا لدى الجماعة في إعلان هذه المراجعة، صُراحا بَرَاحا، وهذا الإعلان من الجماعة سيعني، من بين ما يعنيه، أن اجتهاداتِ الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، رحمه الله، السياسيةَ إنما كانت مظروفة بظروفها، وأنه، رحمه الله، كان مجتهدا لزمانه، وحسب ما كان يلابس هذا الزمان من فلسفات ونظريات وصراعات وإيديولوجيات، وأيضا حسب ما كان متاحا في هذا الزمان من اختيارات ووسائل وإمكانات. ويعني، أيضا من بين ما يعنيه، أن بعض ما كان صالحا من رؤى واجتهادات وتنظيرات، قبل خمسين عاما، لم يعد صالحا اليوم، وحقُّه أن يراجع ويُطوّر ويعاد فيه النظر.

قلت إن الجماعة قبلت "على استحياء"، لأن من شأن المستحيي الترددَ والإبطاءَ وعدمَ الإقبال دفعة واحدة.

يا عباد الله، أنا أتكلم في صميم الفكر السياسي، فافهموا مقالتي، يرحمكم الله.

تتمة الحديث في تدوينة جديدة، إن شاء الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.