الأحد، 29 سبتمبر 2019

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(10)


بسم الله الرحمن الرحيم

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(10)

الدعوةُ الإسلاميّةَ في مواجهة العواصف
يجب الاعتراف بأن جماعة العدل والإحسان-رغم ما اشتهرت به من اختيارات سياسية ثورية-ما تزال تمسك بالجمر، وتَحضُن الدعوةَ وسط عواصف هوجاء تحيط بها من كل جانب؛ ما تزال تسعى وتجتهد في السعي، لكي تبقى الروحُ الدعوية مشتعلة رغم الرعود القاصفاتِ والرياح العاصفاتِ من كل الاتجاهات، لا تمرّ بشيء في طريقها إلا اقتلعته وجرفته.
أقصد بهذه العواصف الهوجاء والرياح العاتيات هذه السهامَ المسمومةَ التي تُرمى بها المرجعيةُ الإسلامية في العمل السياسي بغرض القتل والإبادة، أو التجريح والتشويه والتشكيك في أضعف الأحوال.
ما كان لأنظمة الجور والطغيان، قبل الاستكبار العالمي، أن تهتم بشأن الحركات الإسلامية لولا ما بات لهذه الحركات من حضور مشهود وصوت مسموع في المضمار السياسي، فضلا عن حضورها في سائر المضامير الفكرية والاجتماعية والأدبية والفنية.
وفي تقديري أن هذا الاهتمام بالشأن الإسلامي إنما عظم واتسع نطاقه بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979، وتأسيس الجمهورية الإسلامية على أنقاض حكم الشاه محمد رضا بهلوي الاستبدادي، الذي كان يدور في فلك الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد هذا التاريخ، تغيرت المعايير، واختلفت السياسات، وتبدلت الرؤى في شأن التعامل مع هذا "المارد" الذي خرج من القمقم، وبات له دولةٌ يَخشى الخصومُ والأعداء أن تتحول إلى نموذج يُغري بالاتباع، ويدعو بالنموذج الحي والفعل الواقع الآخرين المستضعَفين، وخاصة الواقعين تحت نير الأنظمة الاستبدادية، إلى الثورة على نهجه والنسج على منواله.
كانوا يظنون أن هذا "المارد" قد أصبح من التاريخ-تاريخ الفتوحات الإسلامية، وتاريخ الحروب الصليبية، وتاريخ حركات التحرر الوطنية-فإذا به يبعثُ حيا ثائرا نشيطا مؤثرا طموحا، شاهدا ومؤكدا أن الإسلام-مهما اختلفت المذاهبُ الإسلامية والاجتهادات الفقهية-كان، وسيظل دائما، حاضرا في قلب اهتمامات الإنسان، ومنها الاهتمامات السياسية وما يتعلق بها من شؤون الدولة وخطط الحكم والنظام.
ظنوا-وهم مخطئون-أن الإسلام/الدولةَ والحضارة والعمران قد انتهى، ولم يبق منه إلا هذه المظاهر والرسوم والذكريات التي تحتفل بها هذه الدويلات الفاشلة الناشئة في كنف الاستعمار، والتي هي أشبه بالتراث الفلكلوري، الراسخ في العادات والتقاليد، ليس لها علاقة بروح الدين وصحيح الاعتقاد وقويم السلوك، إلا في الأسماء والأشكال.
ظنوا، وما يزالون يظنون ويحلمون ويتمنون.

التطرف والغلو والعنف آفة على الدعوة الإسلامية
في الحديث الصحيح: (أن الله يُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف) و(أن الرفقَ ما كان في شيء قطُّ إلا زانَه، ولا نُزِع من شيء قطُّ إلا شَانَه).
لقد ابتُليتِ الدعوةُ الإسلامية، منذ القديم، بهذه الآفة التي يمثلها أهل التشدد والغلو؛ وهي آفة عرفتها جميع الديانات، وستظل موجودة إلى ما شاء الله؛ والدليل على أنها كانت موجودة، وستستمر، التحذيرات التي وردت في السنن الصحيحة، والتي تحض على الرفق وترغب فيه، وتحذر من العنف وتدعو إلى اجتنابه. وقد كتب العلماءُ كثيرا في هذا الموضوع، مما يؤكد أن المسألة ليست مسألة فكر ونظر ونصوص، وإنما هي مسألة إيمان وتربية وسلوك.
"التطرف" و"العنف" و"الجهاد" و"الإرهاب" مفرداتٌ أصبحت تتصدر المبررات التي تُقدَّمُ لمواجهة أي نشاط سياسي يستند إلى المرجعية الإسلامية، وإن كان هذا النشاط صافيا من شوائب العنف والتشدد والغلو، وكان أصحابه ملتزمين بنصوص القوانين التي تنظم الحياة السياسية.
وهذه المبرراتُ قد يكون لها ما يُعضِّدها من الحقائق والأفعال والمعطيات التي يشهد عليها الواقع المعيش، كالعمليات الدموية التي أعلن تنظيم "القاعدة" عن مسؤوليته عنها، وكذلك أعمال التقتيل والتحريق والتدمير والتخريب التي تنسب لتنظيم "داعش"(مختصر "الدولة الإسلامية في العراق والشام"؛ وقد تغير اسم هذا التنظيم ليصبح "الدولة الإسلامية" فقط).
هذا النوع من التطرف والتشدد والعنف الذي يطبع هذه التنظيماتِ والحركات والجماعات التي تحمل شعار السلفية والجهاد، واضحٌ وصريحٌ، ولا نحتاج إلى كبير جهد لإثبات مُوجِبات تجريمه ورفضه وإدانته، قانونيا وإسلاميا وإنسانيا، وإن كان لأصحابه-المتطرفين المتشددين العُنُف-نصوصٌ وتفسيراتٌ واجتهاداتٌ لتجويزه وتسويغه.
المُهمُّ هنا أن هذا النوعَ من العنف والتطرف بيّنٌ في اختياراتٍ واجتهادات وعباراتٍ وأعمال وسلوكاتٍ ومظاهر تعبر عن نفسها بلا التفاف ولا روغان، ويمكن معرفتُه وتمييزُه بلا كبير عناء. أما النوع الآخرُ من التطرف والعنف، في اعتقادي، هو الخفيُّ، الذي يصعب معاينته بسهولة، لما يمتاز به من تخفٍّ والتفاف والتباس.
هذا النوعُ الخفيُّ من العنف قد يتزيّى بزِيِّ نقيضه، فيأتي في معرض الرفق والحكمة واليسر واللين، وهو ما يوَلِّدُ في شأنه الالتباسَ والغموضَ والاضطراب.
مثلا، قد يكون عالمٌ من العلماء معروفا باعتداله واجتهاداته ومواقفه التي تدين العنف وترفض الغلو والتطرف، ثُمَّ يأتي عالمٌ آخر، فيحيل عليه ويسوق اجتهاده على أنه الكلمة الفصل والرأي النهائي الصحيح؛ ففرضُ رأيٍ اجتهاديٍّ على أنه الرأي الصحيح الوحيد الذي لا يقبل النقاش، ولا يمكن تناوله إلا بالتصديق والتسليم، هو، في تقديري، نوعٌ من العنف، لا يقل في خطره وأثره البعيد عن العنف المادي الدموي، وإن كان مسوقا في معرضٍ يندِّد بالعنف ويدينه.
فالإحالة على الماضين-مهما كانت درجتهم في الفهم والعلم والاجتهاد-الذين اجتهدوا لزمانهم، وأفتوا على ضوء أحوالهم وأوضاعهم، وأبدعوا وطوّروا وجدّدوا بحسب مستجدات وقتهم وملابسات ظروفهم-الإحالةُ على هؤلاء على أن كلمتهم هي الكلمة الفصل في الموضوع، وأن اجتهادهم هو النهاية التي ما بعدها اجتهاد، هي، في رأيي دائما، نوعٌ من العنفُ الذي أصفه بأنه خفيٌّ، لأنه يأتي متلبسا بسياقات توهم بنقيض العنف، ومدسوسا في خطابات وأدبيات وكتابات تدّعي الرفق والرحمة والتيسير، وترفع شعار الدفاع عن حرية الانسان في الفكر والاختيار، ومناهضة التشدد والغلو وكل أشكال العنف والإكراه.
كم من عنف مورس-وما يزال-باسم الأئمة-تمثيلا لا حصرا-مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، رحمهم الله، في الفقه والفتوى؟
كم من إرهاب مورس-وما يزال-باسم الأئمة-تمثيلا لا حصرا-ابن القيم والشوكاني والجويني، رحمهم الله، في الأصول؟
كم من إكراه مورس-وما يزال-باسم الأئمة-تمثيلا لا حصرا-ابن جرير وابن كثير والقرطبي، رحمهم الله، في التفسير؟
كم من عنف عنيف مورس-وما يزال-باسم العلماء المجتهدين، من القدماء والمحدثين، في غير الفقه والأصول والتفسير من العلوم والمباحث والنوازل؟
ولا بأس أن أؤكد هنا-حتى لا يفهم رأيي على غير وجهه-أن هذا العنف الخفيَّ الذي أقصده إنما هو قائم، أساسا، في اعتبار اجتهاد المجتهد في زمن معين اجتهادا ملزما وصالحا لسائر الأزمنة من غير اعتبار لما يكون بين الأزمنة من اختلافات في الظروف والأحوال والملابسات والأعراف والتقاليد والعادات.
وبهذا المعنى، يمكن أن أزعم أن من الإسلاميين منْ يمارس هذا العنف الخفيَّ، وإن كانوا يعلنون أنهم ضد العنف، ويصنفهم المصنفون في المسالمين المعتدلين.
وقد تكون لهذا العنف الخفيِّ تبعاتٌ ومضاعفات قد تصل في مخاطرها وآثارها ومفاسدها درجة قد تفوق، في بعض الظروف والحالات، ما يترتب على العنف المادي الصريح من نتائج مذمومة وحصاد مر قاتل. 

السبت، 21 سبتمبر 2019

في تبذير المال العام


بسم الله الرحمن الرحيم

في تبذير المال العام


التقارير التي يصدرها المجلس الأعلى للحسابات-وهو مؤسسة دستورية مخزنية-باتت مرجعا رسميا لرصد الاختلالات والمعوقات والمفاسد التي تطبع التدبير المالي للمؤسسات العمومية.
وعلى الرغم من الإنذارات والتنبيهات والتوجيهات والأرقام الناطقة الفاضحة، التي تزخر بها هذه التقارير الرسمية، فإن تحريك المساطر القانونية والزجرية لمحاسبة المسؤولين تظل ضعيفة، بل لا وزن لها مقارنة بحجم الفساد والإهمال والفوضى والاضطرابات الذي يشمل كثيرا من حسابات مؤسساتنا العمومية، التي تتصرف في المال العام، جباية وإنفاقا.
أين هي مصداقيةُ هذه التقارير الرسميّةِ إن كانت ستبقى، في غالبيتها، حبرا على ورق؟ وأيّة قيمة لتقارير وكشوفات وتدقيقات إن بقيت حبيسة في الأوراق، لا تكاد تظهر وتُنشر حتى تختفيَ في الأرشيف ويطويَها النسيان؟ أم هو الخداعُ والتمويه وذرُّ الرماد في العيون، والإيهامُ، في الظواهر والأشكال والأوراق، بأن هناك جديةً في التفتيش والمراقبة والمحاسبة، ثم ينتهي الأمر إلى الإهمال والنسيان؟

المالُ المُسَيَّب
الغالب على التصرّف في المال العامّ، في دولة الجبر والتعليمات، أنه تصرف لا تحكمه سياسةٌ رشيدةٌ ولا قانونٌ معقول يمكن تتبّعُ مسالك تنفيذِه، ومراقبةُ ما يتعلق به من جبايات ونفقات مراقبةً فعّالة، تمنع أيدي الفاسدين من أصحاب الأهواء والضمائر الخربة أن تمتدّ إليه بسرقة أو تلاعب أو غش أو غيرها من أشكال الفساد وصور التصرفات اللاقانونية، التي تُصنَّفُ ضمن الجرائم التي يجبُ في حقّ مرتكبيها، أياّ كانوا، المتابعةُ والحسابُ والعقاب.
المال العام، في دولة الاستبداد، مالٌ سائبٌ يُبَذّر سفاهةً، بلا حسيب ولا رقيب؛ جزءٌ منه، يُعدّ بالمليارات، يذهب هدْرا، في شكلِ رَيْعٍ ورِشاً (جمع رشوة)، لأحزاب سياسية، ليس لها من معنى السياسة إلا الاسم، معظمُها مهمّتُه الحقيقيةُ أن يظهرَ ويتكلم ويُمثّلَ ليسوِّغَ الاستبدادَ ويزكيَ الفساد. وجزءٌ من هذا المال السائبِ يُبذَّر فيما يسمّونه، تلبيسا ومغالطة وتمويها، دعمَ الثقافة والفن، وما ثمَّةَ ثقافةٌ ولا فنٌّ، وإنما هو-مع استثناءاتٍ ذريّة لا تكاد تُذكر-العبثُ والسخف واللاشيئية، في كل شيء، في الشعر، في المسرح، في السينما، في الأعمال التلفزية؛ وأيُّ شعر؟ وأيُّ مسرح؟ وأيّ سينما؟ وأي مسلسلات؟ اسألوا النقادَ والمهتمين من أهل الاختصاص والميدان.
المال يُبَذّرُ، وحسابُ السيئات يتضخَّم على إخوان الشياطين، ومؤشراتُ التخلف تتفاقم، والمبذرون السفهاءُ لاهون غافلون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

السينما المغربيّة والمالُ العام
هل عندنا صناعةٌ سينمائية تستحق أن تشجَّعَ ويُنفقَ عليها من المال العام؟
هل عندنا فنٌّ سينمائي (يحمّرُ) الوجهَ، ويعبّر، بحق، عن هويتنا الدينية والثقافية، وعن تقاليدنا وأعرافنا، حتى يكون ما ننفقُه عليه من المال العام بمثابة استثمارٍ فني وثقافي حقيقي، يَجني المجتمعُ ثمرتَه في مجالات التربية والتعليم والذوق الفني الجمالي؟
الجواب على مثلِ هذه الأسئلة أتركه للنقاد المختصين، الذين لا يفتأون ينتقدون واقعنا السينمائي، ولا يكفّون عن الشكوى من هذا التردي الذي يطبع هذا الواقع، والذي يشمل جلّ متعلّقَات الفن السابع، بدءا من كتابة السيناريو وانتهاء بالإخراج والتوزيع والاستهلاك؛ واقعٌ يشهد المختصون أنه يعاني أمراضا مُزمِنة، ومع ذلك ما تزال حكوماتُنا تُغدق عليه الملايير من المال العام، ولا من رقيب ولا حسيب، ولا من يقول: كفى، اللهم إن هذا منكر.
هذا أيضا بابٌ من أبواب الرّيْع والتبذير، يحرص الاستبداد أن يبقيَه مفتوحا-مثلُه مثلُ باب الرَّيْع والتبذير في مجال الصحافة-وأن يرعاه بالدعم المادي اللازم، من أجلِ الدعاية والتخدير وصناعة الواجهات "الحداثيّة"، التي تزكي القبحَ، وتروّج للمنكرات، وتطبّع مع الفواحش، وتفتل في حبل التخلف والانحطاط.
وهذه بعضُ الأرقام التي استقيتها من تقرير صادر عن (المركز السينمائي المغربي) عن الحصيلة السينمائية لسنة 2017:
تم دعم 17 فيلما طويلا بـ(6ملايير و237 مليون سنتيم).
تمّ تقديمُ تسبيق على المداخيل لـ42عملا بـ(7ملايير350مليون سنتيم).
تمّ دعم 48 مهرجانا له علاقة بالسينما بـ(مليار و881مليون سنتيم). تأملوا: 48 مهرجانا!! كيف؟ ولأي إنتاج؟ ولأي صناعة وفن؟ 48 مهرجانا!!
تمّ تقديم دعم لإصلاح 7 قاعات، (10شاشات) بـ(مليار و127مليون440ألف سنتيم).
تم عرضُ-نحن دائما في سنة2017-تسعةِ أفلام في القاعات، بيعت فيها (25.843) تذكرة، بلغت مداخيلها (51 مليون و707 آلاف سنتيم)؛ تصوّروا، في سنة واحدة (2017) بُذّرت الملايير من المال العام، من أجل ماذا؟ من أجل أعمال لم تتجاوز مداخيلها (جوج فرنك)!! هي إذنْ أفلامٌ نكرةٌ، لا تكاد تظهرُ وتُعرضُ حتى تموت ويطويَها النسيان في أرشيف المهملات، في أرشيف القبح السينمائي المغربي، ثُمّ مِنْ ظلام هذا الأرشيف إلى الدفن النهائي وبغير رجعة.
سُحْقاً وبُعداً لقبحٍ لا ثمارَ له//إلا المرارُ، وإلا الحنظلُ العفنُ
الناسُ تبدعُ في المعقولِ ينفعها//وعندنا الرَّيْعُ والتبذيرُ والأَفَنُ
الأفَنُ في اللغة نقص العقل وضعف الرأي. والمأفونُ الضعيف الرأي والعقل.

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)
الأحزاب السياسية اللاعبةُ في ملعب الاستبداد، وَفْق قواعده التي يفرضها، وبشروطه التي يضعها، وحدوده التي يرسمها، وأهدافه التي يريدها-هذه الأحزاب، مهما بُذِّرَتْ عليها من ملياراتٍ من المال العام، يستحيل-إلا في الأحلام والأوهام والشعارات الكاذبة-أن تنتج مبدعين، وتصنعَ كفاءات، وتُخرّج أطرا سياسية لخدمة الصالح العام.
الاستبدادُ، بطبيعته، بأساليبه في الحكم والإدارة والتدبير، وبقبضته البوليسية الحديدية في القمع والمنع والحصار، يتناقضُ مع وجود طاقات وكفاءات سياسية حقيقية في الأحزاب، لأن التجديد والابتكار، في المجال السياسي، ممتنعٌ مع طقوس الاستبداد، في الحكم والإدارة والتسيير، وممتنعٌ مع جذور السلطة الفردية الضاربة في الجبرية والاستعلاء والانغلاق.
يحلُم، بلْ يكذِب ويُزوِّرُ، مَنْ يتصوّرُ من "السياسيِّين" و"المثقفين" و"المفكرين" ومَنْ يسمّونهم بـ"الفقهاء الدستوريّين"، خروجَ إبداعٍ وتطويرٍ وتجديدٍ حقيقي من رحِم استبدادٍ قروني وأعرافٍ وتقاليد سياسية مخزنية راسخة رسوخ الجبال.
أنا هنا أتكلم عن الإبداع والتطوير والتجديد الحقيقي، وليس عن الأصباغ الشكلية، والمظاهر الزائفة، واللافتات الماكرة الخادعة.
ومما يلفِت النظرَ ويستدعي التأملَ أنَّ كرَاكِرَ من الأحزاب السياسية وجودُها قائمٌ بالمال العمومي، أي أنها ليس لها منْ مداخيل إلا ما تأخذه من الدولة. وقد ذكر تقريرُ المجلس الأعلى للحسابات، في شأن تدقيق حسابات الأحزاب السياسية لسنة2016، أن أربعة عشر حزبا من الأربعة والثلاثين الذين شملهم التقرير، "اعتمدت كليا على الدعم العمومي خلال سنة 2016، مقابل خمسة عشر(15) حزبا سنة 2015، وثلاثة عشر حزبا(13) سنة2014".
أحزابٌ مجهولة إلا عند وزارة الداخلية ومجلس السيد إدريس جطو!
أحزابٌ بلا جمهور، أي بلا وجود شعبي، ومع ذلك فحصتها من المال العمومي مضمونة!
أحزابٌ لا يدخل صندوقَ ماليتِها سنتيمٌ واحد من اشتراكات أعضائها! أيْ أنها أحزاب بلا مُشتركين! أي أنها أحزابٌ وهمية "شبحيّة"!
أحزابٌ أخرى، ذكر تقريرُ مجلس السيد جطو أن عددها ثمانية، استحوذت على حصة الأسد من المال العمومي بما مجموعه حوالي ثمانية وعشرين(28) مليار سنتيم! وماذا تنتج هذه الأحزاب في حياتنا السياسية حتى تأكل كلَّ هذا المبلغ؟
رَيْعٌ في رَيْع، ورشاوى، وتبذيرٌ للمال العام ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال، من أجل ماذا؟ من أجل صناعة واجهةٍ ديمقراطية خادعةٍ كاذبة، يسكنُ وراءها داؤنا العضالُ، داء الاستبداد.
(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)(الإسراء)
صدق الله العظيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

الجمعة، 13 سبتمبر 2019

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(9)


بسم الله الرحمن الرحيم
مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(9)

الفرعُ "السياسيّ" يطغى على الأصل "الدعويّ"
إن كانت "مراجعاتي"، في ظاهرها ومواضيعها وأمثلتها، تتناول بالنقاش والنقد والتقويم بعض الجوانب في منهاج جماعة العدل والإحسان، فإنها، في حقيقتها وعمقها، مراجعاتٌ تتناول أفكاري أنا وقناعاتي واختياراتي. وهذه المراجعاتُ قد بدأت حينما كنت في الجماعة، وفي حياة الأستاذ المرشد، رحمه الله. واسألُوا الأحبةَ أهلَ السابقة والمعرفة، تجِدُوا عندهم الخبرَ اليقين في هذا الشأن، ولا أقول هنا أكثرَ من هذا.
إنها مراجعاتٌ تقع في سياق أوسع وأكبر من جماعة العدل والإحسان، وهو سياق الفكر السياسي الإسلامي الحديث وإشكاليات قضايا الدولة وأنظمة الحكم وتدبير الشأن السياسي.
الدعوةُ الإسلامية-كانت هي الأصل وستظل هي الأصل-هي اليوم متهَمةٌ ومتابَعة ومحاصَرة بسبب اختيارات سياسية واجتهادات فكرية وآراء فقهية. فقد أصبح الشأنُ الدعويُّ تابعا للشأن السياسي بالرغم عنه، وإن كنا ما نزال نقرأ في أدبيات معظم الحركات الإسلامية أن الدعوةَ هي الأصل وهي أكبر وأرفع وأشرف أن تخوض في أوحال السياسة وتنشغل بمشكلاتها وتتيه في دروبها وتعْلَق بحبائلها وتتْلَفَ في ألاعيبها.
ماذا بقي من الدعوة عند الإخوة "الإسلاميين" في حزب العدالة والتنمية، بعد أن سَرَطتْهم بلاّعةُ الدولة المخزنية وروَّضتهم دواليبُها الطاحنة؟
ماذا بقي من الدعوة عند الإخوة "الإسلاميين" في حركة التوحيد والإصلاح؟
ماذا بقي من الدعوة عند الإخوة "الإسلاميين" في حزب البديل الحضاري؟
ماذا بقي من الدعوة عند الإخوة "الإسلاميينّ في حزب الأمة؟
مثَّلْتُ بهذه الحركات، لأنها جميعا خرجت من رَحِمٍ واحدة، وهو الدعوة الإسلامية، لكن انظروا ماذا فعلت السياسةُ بها، وأين أوصلتها.
(العدل والإحسان)، وفي قلبها الأستاذُ المرشد عبد السلام ياسين، رحمه الله وأجزل له الأجر والثواب، في أصلها وفصلها، تنظيمٌ تربويّ روحُه الدعوةُ ثُمَّ الدعوةُ ثُمَّ الدعوةُ، فكيف أصبحت الجماعةُ اليوم مشهورةً بعنوانها السياسيّ الفرعيّ المتغيّر أكثر من شهرتها بعنوانها الأصلي الثابت؟
كيف بات السياسيُّ يُغطِّي على الدعويّ إلى درجة الغَمْر والطَّمْر والذوبان؟
كيف بات الناس اليوم يعرفون الجماعةَ باختياراتها ومواقفها السياسية المعارِضة "الثورية" أكثر من معرفتها بمنهجها الدعوي الأصيل وعطائها التربوي الكريم؟
ولا بد أن أنبه هنا أنني أتحدث عن معرفة الجماعة وشهرتها في أوساط الدائرة الواسعة من الناس، داخل البلاد وخارجها، وليس في أوساط الدائرة الضيقة من الأعضاء والأنصار والمتعاطفين.
الدعوةُ الإسلامية اليوم محاصرةٌ بسبب السياسة، في معظم بلدان العالم، بل هي متهمة بالإرهاب ابتداءً وأصلا عند كثير من اللادينيِّين المتطرفين والملحدين المناضلين، وفي كثير من الدول الأوربية، وخاصة عند تيارات اليمين العنصري ومناهضي الهجرة.
وقد أصبحت هذه التهمُ المختلَقةُ مطية وطيئة لتبرير سياسات القمع والمنع والحصار التي تنتهجها الأنظمة الاستبدادية تجاه الحركات الإسلامية.
لقد استغل المتربصون بالدعوة الإسلامية، بكل تياراتها وتوجهاتها، في العصر الحديث، الاجتهاداتِ المتطرفةَ والعمليات العنيفة الدموية لبعض الفصائل المحسوبة على الإسلام، والتي تدّعي الاجتهادَ والجهاد والانتسابَ لـ"الدعوة السلفية"-مثل "القاعدة" و"داعش"(الدولة الإسلامية في العراق والشام)ـ فأعلنوا حربا شعواء، ما تزال مستعرة إلى اليوم، على جميع الحركات الإسلامية، باسم محاربة "الإرهاب" و"التطرف".
سبيلُ الدعوة الإسلامية، في جوهرها وأساسها، سبيلُ الحرية والرضا والاختيار، وسبيلُ التيسير واللين والرفق، وسبيلُ الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وهو سبيلٌ يناقض سبيلَ التكفير والتقتيل والإكراه والعنف والغلو والتشدد والتطرف.
طبعا، الاستبدادُ وتوابعُه هو المسؤول الأول عما آلت الدعوة الإسلامية في الوقت الراهن، وخاصة بعد أن أعلن تحالفُ الاستكبار العالمي، بقيادة أمريكا، حربَه على ما يسمّيه "الإرهاب"، وساق في ركابه أنظمةَ الجور والفساد، وسائرَ الكارهين للإسلام من ملاحدة مناضلين وحداثيين لادينيّين متطرفين وحاقدين متربصين.
الدعوةُ الإسلاميّةُ لا يمكن أن تزدهرَ وتنموَ نموا طبيعيا إلا في أجواء الحريّة؛ وهذه الأجواء التي هي بمثابة الأوكسجين الضروري للتنفس والحياة مفقودةٌ، كليا أو جزئيا، في ظل الأنظمة الديكتاتورية، وعلى السياسيين الإسلاميين أن يجتهدوا، ما وسعهم الاجتهاد، وأن يعملوا بكل الوسائل المتاحة، وأن يبدعوا ويخترعوا ويطوّروا أساليبَ جديدةً تناسب الزمن وملابساتِه وأحوالَه وظروفه ومستجداتِه، من أجل "تسليك القافلةِ"، وسط جغرافية ومناخ وتضاريس ليست سهلة ولا مواتية، بل قد تشكل، في كثير من الأحيان، عوائق مقاوِمةً وحواجز خطيرة وموانع عنيدة في الطريق.
في اعتقادي أن السياسةَ ينبغي أن تكون في خدمة الدعوة، تمهد لها الطريق، وتيسّر لها الوسائل والإمكانيات، وتهيئ لها الأجواء المناسبة للسير في الناس وإبلاغ الخطاب إلى حيث يجب أن يبلغ من غير معوقات خانقة، ولا موانع قامعة، ولا قيود رادعة.

الأربعاء، 4 سبتمبر 2019

مراجعات في الفكر والسياسة(8)


بسم الله الرحمن الرحيم                               

مراجعات في الفكر والسياسة(8)

تعليقاتٌ وردودٌ مقتضَبة
(1)
التواصل والتحاور والتفاهم هو الأساس، وليس لكاتبٍ مثلي لا يملك إلا قلما ورأيا ووِجهةَ نظر إلا أن يغمره الفرحُ وهو يرى حبلَ التواصل والتحاور والتفاهمِ موصولا بينه وبين قرائه، مهما كان رأيهم وموقفهم مما أكتب.
قد يختلف الناس، وتتباين آراؤهم، وتتباعد وجهاتُ نظرهم، لكن الإصرار على طَرْق باب التواصل والتحاور لا بد أن يؤتي أكله، عاجلا أو آجلا، ولا بد أن ينتهيَ التحاورُ-إن حسنت النيات وعزمت الإرادات وسمَت الغايات-إلى نتيجة ما، تكون بديلا إنسانيا حضاريا راقيا عن التخاصم والتباغض والتشاحن.
وفي اعتقادي أن الشرط المشروط ليكون التحاورُ مثمرا ومفيدا أن تُتَجَنَّب اللغةُ الإيديولوجية الجافة والحجاجُ العقديُّ المتعالي، لأن هذا الحجاج المتعاليَ وتلك اللغةَ الجافة ليس وراءهما، في نهاية المطاف، إلا الصدام والعداوة والجفاء.
أعرف أن المناضلَ المسلمَ لا يمكنه أن يتجرد عن هويته الإسلامية، وما تمثله عنده هذه الهويةُ من روح وقوة دافعة. لكن الخوض في القضايا السياسية يحتاج من السياسيين التحليَ بكثير من المرونة والصبر وحُسن التلطّف والتأتّي، لأن إشكاليّات الميدان السياسي-في الفكر والممارسة-لا يمكن معالجتها بالثنائيات الجازمة الحاسمة القاطعة، مثل: إيمان/كفر، حق/باطل، جنة/نار، ملك/شيطان، وإن كنت أقولُ، وأؤكد وأكرر وألحُّ في التَّكرار، أن المرونة والتلطف وحسن التأتّي لا تعني التخلِّيَ عن المبادئ، ولا المساومةَ والمداهنةَ والبيعَ والشراء على حساب ثوابت المعتقدات وقواطع الأحكام ومكارم الأخلاق. 
(2)
أريد أن يكون واضحا للقراء الأفاضل، ولكل المتتبعين والمهتمين، أني لا أريد بكتاباتي أن أفتح بابا للجدالات العقيمة التي لا تنتهي، كما لا أريد أن تكون آرائي سببا لتكريس الانقسامات الإيديولوجية التي ما زلنا نكتوي بنيرانها، فضلا عن نيران الاستبداد وما ينتجه من ظلم وفساد.
أيها السادة والسيدات، يا إخواني، ويا أخواتي، التعصبُ الأعمى في أمرٍ ظنيٍّ اجتهاديٍّ خلافيٍّ لا يورّث إلا التحجر والقسوة والعنف بوجهيه المعنوي والمادي.
أيها الناس، يا إخواني، ويا أخواتي، إن من أمارات التعصب المقيت والتحيز الإيديولوجي الوبيل التحرّجَ مِن كل مقالة فيها نقدٌ، والتضايقَ من كل رأي فيه اعتراضٌ، والغضبَ من كل صوت مخالف.
لقد كتبت في موضوع "المراجعات" عشرات المقالات، فصّلتُ وأطلتُ في بعضها، ولخصّت وأوجزتُ في أخرى، والقراءُ الأفاضل الذي يتابعون كتاباتي يعرفون هذا. وأنا أنصح قرائي الجدد أن يرجعوا إلى هذه المقالات حتى يتسنى لهم فهمُ كلامي في هذه الملخصات التي كتبتها بين يدي نشر كتاب "المراجعات"، الذي سيظهر قريبا، إن شاء الله، في نشرته الرقمية الأولى.
بعضُ الإخوة-وخاصة ممن يُسلمون المَقادةَ لعواطفهم، ولا يحتَفِلون كثيرا بالعقل والمنطق والمعطياتِ الواقعية والموضوعية-يُعلّقون على كلامي وكأنني لم أبدأ الكلامَ في موضوع "المراجعات" إلا اليوم. أقول لهؤلاء، بكل أخوة وصدق وصفاء سريرة-أقول لهم إن كنتم حديثي الاهتمام بالسياسة، فنصيحتي إليكم أن تتركوا جانبا العواطفَ الجياشة والانفعالَ والغضبَ والتعصبَ، لأنها لن تفيدكم شيئا في المعرفة والنظر والفهم؛ اسألوا أهلَ السابقة، واطلبوا إليهم أن يَدُلُّوكم ويَهدُوكم وينوِّرُوكم في هذا الباب.
النقدُ الحقيقيُّ البناءُ والمفيدُ لا يكون إلا بعد اطلاع وتحصيل وتدقيق واستيعاب. اقرؤوا، أيها السادة الأفاضل ما كتبْتُ، واستوعبوه وأحيطوا بمضامينه وغاياته، ثُمَّ بعد ذلك، هاتوا ما عندكم من نقد وتصويب وتصحيح، وما أنا إلا صاحبُ رأيٍ أتحرّى الصوابَ فيما أراه وأقدّره وأظنّه وأرجّحه، وقد أخطئ في الرأي والتقدير، وقد أصيب، وأنا في الحالتين أكتبُ بصفتي باحثا ومهتما ومتتبعا، وليس بصفتي كنت في الجماعة، وأنا اليوم خارجها.
إن الذين يقرأون مقالاتي ويقوّمون آرائي بهذا الميزان المختل، أيْ ميزان "في الجماعة/ليس في الجماعة"، لن يصلوا إلى طائل، لأنهم يشتغلون عن اللب بالقشور، ويلهون عن صُلْب المَتْن بالهوامش والحواشي والقيل والقال.
جرّبوا مرة، وكونوا جادّين في التجريب، وانظروا إلى ما أقول، وناقشوه وانتقدوه بمعزل عن كوني كنت أو لم أكن في الجماعة؛ اُسْمُوا وارتفعوا في نَظَرِكم ونقدكم، يرحمكم الله، ولا تكونوا إمّعاتٍ ترفضون مع الرافضين، وتغضبون مع الغاضبين، وتنوهون مع المنوهين، وترضون مع الراضين.
وأنا هنا لا أعمّم، ولهذا وجَب عليّ أن أعتذر للقراء الأفاضل، الذين ينتقدون مقالاتي ويرفضون آرائي على أساس أنها اجتهاد من باحث صاحبِ رأي، وإن هم استحضروا في بالهم علاقتي بالجماعة، فإنهم لا يتعدّون بهذا الاستحضارِ دائرةَ الأخوة والمودّة التي ما زالت تربطني بالجميع، ولا يجعلون من هذه العلاقة معيارا فاصلا في النظر والتحليل والحكم.
ومن الناس-سامحهم الله-من يطلب التعكير من أيِّ وجه، لأنهم لا يجدون لصيدهم حلاوة إلا في الماء العَكِر. قال الله، عز وجل: (وَقُل لعِبَادِي يَقُولُواْ التِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ، إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا)، وقال الرسول، صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللّعّان ولا الفاحش ولا البذيء". (يتبع)