السبت، 31 مايو 2014

ثرثراتٌ في الهوامش



بسم الله الرحمن الرحيم


ثرثراتٌ في الهوامش



(1)

كثُر الكلام، في هذه الأيام، حول الإعلام العمومي، الذي تحول إلى ميدان من الميادين، التي تعرف صراعا محتدما بين الحكومة ومناصريها وبين معارضي هذه الحكومة، وخاصة أولئك الذين يتربصون بها في المجال الديني والأخلاقي، مؤوّلين كلَّ نأْمة منها في هذا المجال بأنه توجه نحو تشديد قبضة "الإسلاميين" الموالين على الإعلام، وفرضِ الرأي الواحد، ومنع التعدد والحرية والفن، باسم الدين والأخلاق، وانتهاكِ حقوق المواطنين في إعلام متنوع يعكس تنوعَ التيارات والاختيارات والاجتهادات، التي يمتاز بها المجتمع المغربي.

هذا الصراع الدائر بين الحكومة وبين مناوئيها، في مجال الدين والأخلاق، يرجع، في جوهره، إلى الصراع المبدئي الموجود دائما بين الإسلاميين وبين أعدائهم وخصومهم ومنافسيهم من اللادينيِّين، الذي لا يرون مكانا للإسلام، دينِ المغاربة، إلا في مطوِيّات الضمائر وزوايا المساجد بعيدا عن حيوية المجتمع بمختلف نشاطاته، وخاصة في مجالات السياسة والاقتصاد والآداب والفنون. وسيظل هذا الصراع قائما ما دام هناك إسلامٌ وإسلاميون يناضلون، حقيقةً وفعلا، لا أمانيَ وخطابا، من أجل حماية مقدسات الإسلام وثوابته وحرماته وآدابه وأخلاقه أن ينتهكَها الضٌّلاّلُ والفُساق، وأن يعبثَ بها العابثون من أهل الشك والزندقة والإلحاد.

إنه صراع وجودي دائم ما دامت السماوات والأرض.

(2)

أما الثرثراتُ التي أقصدها في هذه المقالة، فهي هذه الخطابات الموالية للحكومة وسياساتِها، التي لا يجرؤ أصحابُها على تسمية الحقائق بأسمائها، ويخوضون بنا في الهوامش بعيدا عن قلب الأمر. وهذه بعض التوضيحات.

السيد وزير الاتصال، والناطق الرسمي باسم حكومة السيد بنكيران، يصرح، في مجلس المستشارين، في عبارات لا تحتمل التأويل، أن الإعلام العمومي ينتهك الدستور والقانون، وأن هناك منكرا فيما يبثه هذا الإعلام، الذي يموّله المواطنون. ثُمَّ لا نجد من السيد الوزير، ومعه حكومتُه، إلا العجزَ التام عن إزالة هذا المنكر، وفرضِ احترام الدستور والقانون في الإعلام العمومي.

فالسيد وزير الاتصال، يعرف، كما يعرف المدافعون عنه، أن المسؤولين عن الإعلام العمومي هم موظفون تابعون للحكومة، والواجبُ يفرض عليهم، نظريا على الأقل، أن ينفذوا سياسات الحكومة، باحترام ما تنص عليه دفاتر التحملات. وإن حصل أن موظفا رفض القيامَ بواجبه، أو كان منه ما يشوش على سياسة الحكومة، أو يعرقل سيرها، فإن المنطق يقتضي الاستغناء عن هذا الموظف وتعويضه بغيره. فلماذا لا تسير الحكومةُ في هذا الاتجاه القانوني الواضح؟ لماذا لا نرى منها حسما وحزما في التعامل مع موظفين متمردين، يحسبون أنفسهم فوق المحاسبة والمتابعة، ويعتقدون أن الحكومة لا تملك سلطة إزاحتهم عن مناصبهم "السامية"؟

السيد الوزير، ومعه سائرُ أعضاء حكومة السيد بنكيران، عاجزون، سياسيا، عن المبادرة في هذا الشأن، وإن كان الدستور والقانون في صالحهم، لأنهم يعرفون-إلا أن يتعاموا ويتجاهلوا- أن مؤسسات الإعلام العمومي هي من "مَحميّات" النظام المخزني، التي لا يجوز للحكومة أن تقترب من حماها. وهذه الحمايةُ السامية هي التي جرّأت موظفةً كـ"سيطايل" على أن تتحدى رئيس الحكومة، في العلن، بلا حياء ولا خوف، وهي مطمئنة أنها لن ينالها أيُّ شكل من أشكال العقوبة!!

لقد جرّب السيدُ وزير الاتصال حينما تقدّم، في أول عهده بالوزارة، بمشروع دفاتر التحملات في صيغتها الأولى، وعرَف، بالواقع الملموس، أن الحكومة لا تملك سلطة حقيقية في مجال تدبير سياسات الإعلام العمومي، حينما اضطر، مع رئيسه السيد بنكيران، للتنازل عن صلاحياته الدستورية والقانونية، تنفيذا للتعليمات العليا.

الحكومةُ كلها تعلم أنها، في مجال الإعلام العمومي، وفي غيره من المجالات، لاعبةٌ في الهوامش، أما القلبُ والمركز والجوهر، فاللاعب الأساس فيه هو الدولة المخزنية، التي يرجع إليها القول الفصلُ والكلمة النهائية.

ما كان لموظفين إداريين، سامين أو غير سامين، أن يعارضوا الحكومة، ويشوشوا على سياساتها-إن كان لها سياساتٌ مستقلة عن المخزن- ويقفوا في وجه رئيس الحكومة وقوف الندّ للندّ، بل ويتجاوزا هذا ليصبحوا معارضين سياسيين لهم آراؤهم وانتقاداتهم وتقديراتهم لعمل الحكومة-


قلت ما كان لهؤلاء الموظفين الإداريين أن يكونوا على ما هم عليه تجاه الحكومة، وبخاصة تجاه رئيسها، لولا تيقّنهم بأنهم بمنأًى عن أيّ محاسبة أو عقوبة، وبأنهم محميّون من فوق، وأنهم زمّارون وفق الألحان التي يطلبها دافع الأجر، حسب المثل الإنجليزي. أما دافع الأجر هنا، فهو النظام المخزني.

هذا، في رأيي، هو الهزل السياسي الذي ما بعده هزل.

(3)

لقد عرف السيدُ رئيس الحكومة، ومعه السيد وزير الاتصال، بالتجربة الواقعية في دواليب دولة المخزن طيلة ما يقارب سنتين ونصف، أن الإعلام العمومي هو آلة ضرورية من آلات التحكم والاستبداد. وليس عند الحكومة، كما لم يكن عند سابقاتها، الشجاعةُ السياسية لتعترف بهذه الحقيقة التي وقفت عليها بالتجربة والممارسة. فهي إذن، حكومة خاضعة تابعة سامعة مطيعة منفذة، ولو على حساب المبادئ والوعود التي نقرأها في الخطابات والشعارات.

فلو كان عند الحكومة الشجاعةُ السياسية، التي تحترم المبادئ وتفي بالوعود، لأشارت، بالعبارة الصريحة والموقف الصارم، إلى اللاعب الحقيقي في المشهد السياسي، الذي يوجه الإعلامَ العمومي الوجهةَ التي يرضاها، والذي يفرض على الحكومة أن تبقى لاعبا في الهوامش، لا تملك حلاّ ولا عَقدا.

وكذلك الكتّابُ الموالون للحكومة، كان عليهم أن يخرجوا من دائرة التعمية والتخليط والتردد، ويصرحوا بأن العائق الحقيقي في حياتنا السياسية، هو النظام المخزني، الذي ما يزال هو المتحكم في كل خيوط اللعبة، وأن منْ يسمّونهم بالعفاريت، أو التماسيح، أو مراكز المقاومة والتحكم، إنما هم تجلياتٌ طبيعية للاستبداد المخزني، بل ما هم إلا أدواتٌ في خدمة سياسات المخزن.

حزبُ الأصالة والمعاصرة، مثلا، من أسّسه؟ وكيف؟ وأين هو مؤسسُه اليوم؟ هل غاب عن المشهد؟ هل كفّ عن الفعل في الحياة السياسية؟ وهل الملكُ، رئيس الدولة، بعيدٌ عما يجري في المشهد السياسي؟ وهل يصدق أحدٌ أن الملك، بصفته صاحبَ القرار الأول والأخير، في الدولة، لا علاقة له بسياسة الإعلام العمومي؟ وهل هذا الإشهارُ لمهرجان "موازين"، مثلا، في الإعلام العمومي، الذي تعدى كلَّ الحدود، لا علاقة له بالنظام المخزني، وسياساته المرسومة؟ وهل تنظيمُ هذا المهرجان "المقدس"، تحت الرعاية السامية، لا علاقة له بسياسات الدولة الاستراتيجية، التي لا تملك حكومةُ السيد بنكيران، ولا المئاتُ من أمثالها، أن يمَسُّوا منه شعرة واحدة بغير إذن من السلطات العليا؟

هذه الأسئلة وأشباهها تؤكد أن الذين يسكتون اليوم عن الحديث عن المخزن، ويبرِّئونه، بسكوتهم، من أيّ مسؤولية عما يجري في حياتنا السياسية من تشويش وتلبيس وتخليط وعرقلة وتأزيم، ويركّزون رميَهم على التوابع والظلال والأدوات، على أنهم هم الفاعلون الأصليون، إنما هم ثرثارون في الهوامش، لن يكون لكلامهم، في اعتقادي، أيُّ أثر إيجابي، ما داموا، بوعي أو بغير وعي، بنية حسنة أو مشوبة، يفتلون في حبل دولة الاستبداد، ويدافعون عن دولة التعليمات، ويشاركون في هدم أساس من أسس دولة المؤسسات والحقوق والحريات المسؤولة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مراكش: 31 ماي 2014




السبت، 17 مايو 2014

رأيٌ في قضية "السلفية الجهادية"



بسم الله الرحمن الرحيم



رأيٌ في قضية "السلفية الجهادية"





توضيحات

لقد تكلم الناسُ كثيرا فيما اشتهر، في الإعلام، بقضية "السلفية الجهادية" بالمغرب، التي احتلت مكانا بارزا في حياتنا السياسية والأمنية والإعلامية، بعد تفجيرات الدار البيضاء الإجرامية في 16 ماي 2003.

ليس من غرضي في هذه المقالة أن أكرر ما قيل في الموضوع، وإنما غرضي الأساسُ أن أركز على نقطة لم تأخذ حظَّها الكافيَ والمنصفَ فيما تداوله الناسُ، وكتبه الكتابُ، ونشره المتتبّعون والدارسون، من أحكام وأفكار وآراء ونظريات وتحليلات.

وأقدمّ لحديثي بتوضيحات أعتبرها بمثابة مقدمات:

التوضيح الأول أنَّ الجميع-ومن هذا الجميع الدولةُ المخزنيةُ نفسُها- بات يعترف أن ملف ما يُسمّى بـ"السلفية الجهادية" قد حصلت في معالجته تجاوزاتٌ، على المستويَين الأمني والقضائي. وكان من آثار هذه التجاوزات أن كثيرا من المواطنين قد ظُلموا ظلما بيّنا من غير جريرة ارتكبوها، ومن غير أن تكون لهم أيُّ علاقة موضوعية ولا جنائية بجرائم 16 ماي، فزُّجَّ بهم في السجون ظلما وعدوانا.

والتوضيح الثاني أننا، وبعد مرور أحد عشر عاما على تفجيرات الدار البيضاء، يمكننا أن نقسّم المتهمين في هذا الملف قسمين اثنين، لا ثالث لهما في رأيي. يضم القسمُ الأول المتهمين الذين ثبتت عليهم التهمةُ، بالأدلة المعتبرة في القضايا الجنائية، ومن ثَمَّ فهم مجرمون يجري عليهم ما يجري على سائر المجرمين. والقسم الثاني يضم المعتقلين الذين أُقْحِموا في الملف إقحاما، واخْتُلقت عليهم التهمةُ اختلاقا، لا لجريمة ثبتت عليهم، ولا لدليل قانوني رجَّحَ تورطَهم في الجريمة، وإنما الأمر، ببساطة، أنهم كانوا ضحايا الحملة التي شنتها الدولةُ المخزنية، والتي اختلط فيها الجناة بالأبرياء.

والتوضيح الثالث أن الدولة، لو كانت عادلة في هذا الملف، لكانت، منذ زمان، قد بادرت إلى إطلاق سراح الأبرياء، الذين تم الحكم عليهم بناءً على الشبهات، والتقارير البوليسية المبالغ فيها، والآراء المسبقة تجاه المتهمين، فضلا عن الأجواء العامة التي خلفتها التفجيراتُ الإجرامية، والتي امتازت بالكراهية والتحريض على كل ما هو "إسلامي"، وكذلك المتنفَّسُ الذي أتيح للدولة وأجهزتها البوليسية، بعد المصادقة على "قانون الإرهاب" مباشرة بعد أحداث 16 ماي، وهذا ما جعل هذا القانون وتلك الأجواء يشكلان غطاء مناسبا للممارسات المخزنية الظالمة التي شابت هذا الملف.

والتوضيح الرابع أن الدولة، رغم اعترافها بأن ملف ما يُعرف بـ"السلفية الجهادية" قد كانت فيه تجاوزات، أي أخطاءٌ وظلمٌ، فإنه لم يكنْ منها خلال إحدى عشرة سنة سلوكٌ مسؤول لتصحيح هذه الأخطاء، ولرفع الظلم عن المظلومين. وإنما ظلت الدولة لامبالية بالموضوع، حتى باغتتها عواصفُ "الربيع العربي"، كما باغتت العالم، فبادرت، تحت ضغط الضرورة، إلى الإفراج بعفو ملكي عن بعض المظلومين في الملف، الذين نعتَهم الإعلام، بالرغم عنهم، بـ"شيوخ السلفية"، وما هم في الحقيقة بشيوخ للسلفية ولا لغيرها، وإنما هم رجال لهم أفكار وآراء واجتهادات، ومواطنون لهم حسناتهم، ولهم أخطاؤهم، فَرضَت عليهم الحملةُ المخزنية، بعد أحداث 16 ماي 2003، أن يلبثوا في السجن مظلومين حوالي تسع سنوات قبل أن تقرر الدولةُ الإفراجَ عنهم تحت وطأة هزّات الربيع العربي التي كانت تهدد الدولة المخزنية في القلب. 

في صميم المقالة

أرى اليوم، في ذكرى تفجيرات 16 ماي2003، أن كثيرا من السياسيّين وبعض الصحافيين وكتاب الرأي، فيما يرَون ويقترحون ويكتبون، يربطون التسوية النهائية لملف ما يُسمى بـ"السلفية الجهادية"، في بعض جوابها، بوجوب حصول ما يسمونه "مراجعات"، في فكر المعتقلين المظلومين وآرائهم واجتهاداتهم، التي يرون، بحق أو بغير حق، أن لها أساسا في الإسلام.

أما موضوع "المراجعات"، فإني أنظر إليه من جانبين: الأول أن "مراجعات" المعتقلين الذين ثبت تورطُهم، المباشر أو غير المباشر، في جرائم 16 ماي، إما باعترافهم الصريح، وإما بقوة الأدلة ووضوح القرائن التي تُدينهم-بغض النظر هنا عن الظروف التي تمت فيها الاعتقالات والاستنطاقات وكتابة المحاضر، وعن الطرق التي اعتُمِدت في جمع حجج الادعاء وأدلة الإدانة- ستكون أمرا يخصهم هم، ولن يكون لها كبير الأثر في ملفهم الجنائي. فمراجعاتهم-إن تمت بالفعل- ستكون أمرا يهمهم في دينهم ودنياهم، وفي علاقتهم بمجتمعهم. وهذا الحكمُ يشمل جميع المدانين في قضايا جنائية؛ فالتوبة والإصلاح مطلوبان، بل هما راجعان بالنفع، إن شاء الله، على التائبين المصلحين أولا وأساسا، ثم يكون للمجتمع، ولا شك، نصيبُه من هذا النفع.

أما الجانبُ الثاني الذي أنظر منه إلى موضوع "المراجعات"، فيتعلق بالمساجين المظلومين في هذا الملف، الذين لم يثبت عليهم، بوسائل الإثبات المعتبرة في القضاء العادل، أن لهم يدا، من قريب أو بعيد، في جرائم تفجيرات 16 ماي، وإنما شملتهم الحملةُ المخزنية، إما لأنهم  كانوا معدودين من أصحاب الفكر والرأي والاجتهاد، وإما لأنهم ربطتهم، في وقت من الأوقات، علاقةٌ ما بواحد أو أكثر من المجرمين الرئيسيين، وإما لأنهم حاضروا في ندوة، أو كانوا، في يوم من الأيام، في مناسبة حضرها، من غير ميعاد أو اتفاق مسبق، واحد أو أكثر من المتهمين المتورطين في القضية، وإما لغير هذه من الأسباب والتهم، التي لا تساوي شيئا في ميزان العدل والتحقيق النزيه.

مطالبةُ هؤلاء الأبرياء بمراجعة آرائهم ومواقفهم واجتهادتهم هو، في رأيي، ظلمٌ ثان بعد الظلم الأول، الذي نالهم بالحكم عليهم بالسجن النافذ لمدد طويلة تصل إلى ثلاثين سنة.

هؤلاء أبرياء، ولا علاقة لهم بالملف الجنائي، وإنما وقع ما وقع في حقهم لأن الحملة شملتهم. وكان الصواب أن يُطلق سراحهم، ويُردَّ لهم اعتبارُهم منذ زمن طويل.

وهل مِن خير يُرْجى من مراجعات تقع تحت الضغط والابتزاز؟

وهل من مصداقية لمراجعات تتم تحت الطلب، ولا تنبثق تلقائيا من قلبٍ مطمئن، وفكر مقتنع ومتبصّر؟

هل كان هؤلاء المظلومون يحملون أفكارا لا تعجب بعض الناس؟ نعم، وأين التهمة في هذا؟ لو كانت الأفكار التي لا تعجب المخزنَ تشكل في حد ذاتها جريمةً، لوجب اعتقالُ جميع أصحاب الأفكار التي تعارض المخزن، وإدانتُهم وسجنُهم.

هل كانوا يدافعون عن آراء ومواقف معينة، لا ترضَى عنها بعض الجهات؟ نعم، وماذا في هذا من ذنب أو عيب؟ لماذا هم بالذات، وليس غيرهم، من اليساريين المتطرفين العدميين، مثلا، أو من غلاة الأمازيغيين العنصريين، أو من الحداثيين اللادينيّين، أو من غير هؤلاء من الآراء والمواقف والاختيارات؟

لماذا التركيزُ، في مسألة التشدد والتطرف والسلفية والجهاد، على من لهم انتماء إسلامي؟

ألم يكن دائما في اللادينيين متشددون متطرفون، يجاهرون بأفكارهم ومواقفهم التي تناقض مقدسات المجتمع، وتجحد ثوابتَ الإسلام، وتستهزئ بمعتقدات المسلمين؟

ألم يكن دائما في اليساريين راديكاليون لا يفتأون يدعون للعنف وما في حكم العنف، لمعالجة القضايا الفكرية والسياسية؟

أليس اليوم في الأمازيغيّين متطرفون يمتازون عن سائر المغاربة برايتهم، وبمقالاتهم الشاذة والغريبة والعنيفة في مجالات الدين والتاريخ واللغة وغيرها من مقومات مجتمعنا؟

لا أحد ينكر أن يكون في هؤلاء الأبرياء في ملف "السلفية الجهادية" متشددون وغلاة في الدين، لكنه غلو وتشدد في الفكر والفهم والتأويل، لا يرقى، مهما كانت التبريرات والتفسيرات والتكييفات، إلى أن يصبح جريمة جنائية تسوق صاحبها للسجن لسنوات طويلة.

الغلو في الدين قديم في المجتمعات الإسلامية، وروحُ علاجه إنما هو بالفكرة السليمة من غبش التطرف، وبالمجادلة بالتي هي أحسن، وبالتواصل البناء، لا بالتنابذ والتباعد الهدّام.

العدلُ يفرض أن يكون لهؤلاء الحقُّ في أن يعبروا بحرية عن آرائهم وقناعاتهم، ما داموا في حدود القانون لا يتعدونها، وما دام أسلوبُهم لا يخرج عن نطاق الكلمة والفكرة والرأي والاجتهاد إلى السلوك العنيف والفعل الدموي الإجرامي المحرم.

أحرامٌ على بلابِله الدوْحُ، حلالٌ للطّيْر من كلِّ جِنسِ؟

أحلالٌ حريةُ التعبير، في كل الاتجاهات والموضوعات، وحقٌّ مصون، لكل التنظيمات والتيارات والمشارب من غير الإسلاميين، حرامٌ على ذوي المرجعية الإسلامية، الذين لا يفتأون، بأقوالهم وأفعالهم، يتبرؤون من العنف وأصحابه، ومن الإرهاب ومُحتضنِيه ومُتبنِّيه أسلوبا في العمل السياسي، ومطيةً في مواجهة الأفكار والإديولوجيات المخالفة؟

أمِن العدل أن يتمتع كلُّ من هبّ ودب، في مجتمعنا المسلم، بحريات لا حدود لها، للتعبير عما يطعن على ديننا بالمقالة الصريحة، وينتهكُ حرماتنا وأخلاقنا بالسلوكات الفاضحة، ويُحاصرَ الإسلاميون، وتُحسبَ عليهم أنفاسهم، ويُعاملوا دوما على أنهم مُدانون حتى تثبت براءتُهم؟  

هذا ليس بعدل، وإنما هو الظلم الصُّراح، الذي يعمق الجراحات، ويغذي أسباب الفتنة، ويمكّن لقيم الكراهية والعداوة والبغضاء، ويخرّب أساسات البناء.

وبعد، فإني أرى بعضَ الحقوقيين والسياسيين، وخاصة من الإسلاميين المشاركين في الحكومة، بسكوتهم أو مناوراتهم أو تلاعبهم بالكلام في هذا الملف، يُكرسون هذا الظلم الواقع على هؤلاء المسجونين منذ سنوات بغير ذنب اقترفوه، ولا جرم ارتكبوه، سوى أنهم رأوا رأيا، أو قالوا مقالة، أو اعتنقوا فكرة واجتهادا، جعلهم يُصنَّفون، عند الظالمين، في المغضوب عليهم.

ألا (إن الظلم ظلمات يوم القيامة).

ألا، إن الظلم مؤْذن بخراب العمران.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مراكش: 17 ماي 2014