الأربعاء، 28 أغسطس 2019

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(4)


بسم الله الرحمن الرحيم

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(4)

المفكرُ العالمُ الفقيهُ المجتهدُ مأجورٌ في حالَتَيْ الصواب والخطأ.
الأصلُ في الفكر السياسيّ أنه فكرٌ ظنيٌّ اجتهاديٌّ ترجيحيّ، لا علاقة له بالقطعيات والمطلقات والمقدسات. وقد يُرجِّح الفكرُ السياسيُّ اليوم ما يردُّه غدا، وقد يستحسن الفكرةَ والرأيَ ويقبلهما في ظروف معينة، ويستقبحهما وينفيهما في ظروف أخرى مغايرة؛ وهكذا، لا يستقر الفكرُ السياسيُّ على حال واحدة في جميع الظروف والأحوال، بل هو متغير بحسب هذه الأحوال، وإن بقيت الأصولُ والثوابت والمبادئ والكلّيات التي يقوم عليها الاجتهاد والترجيح هي هي، في جميع الأحوال والملابسات.
ومن هنا يجب التنويهُ بالقواعد التي استنبطها الأصوليون، والتي جعلوها بمثابة الموازين الثابتة في عِيَارِ الأفكار وترجيح الأحكام، والتمييزِ، عند النظر والاجتهاد، بين الأصل الكلي الثابت، وبين الفرع الجزئي المتغير.
لقد اجتهد الأستاذُ عبد السلام ياسين، رحمه الله، لزمانه، وكَتب ما كتب، منتقدا ومُنظّرا ومحلِّلا ومرجِّحا، وهو، في كل ذلك، لم يدَّعِ أن ما كتبه لا يجوز عليه النقدُ والمراجعةُ والتطويرُ والتمحيصُ، بل صرّح بالعبارة الواضحة التي لا تقبل التأويل، أن ما كتبه إنما كان أَقْصَى ما وصل إليه نظرُه واجتهادُه، ولِمَن سيأتي بعده أن يجتهدَ لزمانه، ويزيد وينقص، ويحوّر ويطور، بحسب ما يستجد من معطيات، ووفق ما يشهده الواقع من تغيرات وتحولات.
فكيف أصبح "المنهاج النبوي" منهاجا فوق النقد والتطوير والتحوير؟
مَنْ هذا الذي قَضَى أنّ فكرَ الأستاذ المرشد السياسيَّ الظنيَّ الاجتهاديَّ هو المقالةُ الفصلُ التي تنتهي عندها كلُّ المقالاتِ، وهو الاجتهادُ النهائيُّ الذي تقف عنده مختلفُ الاجتهادات، وهو الرأيُ القاطع الذي يَجُبُّ جميعَ الآراء؟
مَنْ حوَّل فكرا بشريا إلى صنمٍ مقدَّس؟
مَنْ حوّل تراثا سياسيّا غنيّا أراد له صاحبُه أن يكون مفتاحا للاجتهاد والإبداع والتحرر إلى فكر محنَّط جامد منغلق؟
إني هنا أتحدث عن فكر سياسيّ، لا عن هذا الشخص أو ذاك؛ فمقالاتُ كتابي تدور حول أفكارٍ سياسيةٍ، تُراجعُها وتناقشُها وتنتقدها على أساس أنها أفكار اجتهادية، تصيب وتخطئ.
وهل يمكن للمفكر العالم الفقيه المجتهد أن يخطئ؟
نعم، وذلك بصريح العبارة في الحديث المتفق عليه المشهور عن الحاكِم إذا اجتهدَ فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد؛ فالمجتهد المصيبُ والمجتهد المخطئُ كلاهما مأجور، لأن خطأ المجتهد لم يكن في أمر ممنوع محرم، ولا كان خطأ مقصودا، وإنما كان في أمر فكري علمي فقهي ترجيحي استنباطي، فاستحق الأجرَ، وإن لم يُصِب، لِمَا يكون منه من جهد وتقصٍّ في النظر وتتبّع الأدلةِ واستعراضِ الأشباه والنظائر وسائرِ ما يتوَسّل به المجتهد لتحرير الدليل واستنباط الحكم.