الجمعة، 17 يناير 2014

دعوة ٌ إلى "ميثاقٍ" مستحيل



بسم الله الرحمن الرحيم

دعوة ٌ إلى "ميثاقٍ" مستحيل


 المقصودُ بعنوان هذه المقالة هو الدعوةُ التي ما فتئت جماعةُ العدل والإحسان تكررها في جميع المناسبات، للفضلاء السياسيِّين، من أجل "ميثاق جامع"، لمواجهة الفساد والاستبداد، الذي تمثله وترعاه الدولةُ المخزنية، وفي قلبها النظامُ الجبريّ، أيْ النظامُ الملكي.

والملاحظةُ الأساسيةُ على هذه الدعوة أنها تستثني النظامَ الحاكمَ أن يكون شريكا في هذا الميثاق، لأن رأسَ هذا النظام هو المطلوبُ من وراء هذا الميثاق المنشود.

وبعبارة أخرى، فإن الميثاقَ الذي تدعو إليه جماعة العدل والإحسان هو ميثاقٌ بين معارضي الدولة المخزنية، وفي مقدمتهم التنظيماتُ الثوريَّة المطالبةُ بسقوط هذه الدولة من أساسها.

  
تذكير

أذكّر القارئ الكريمَ أني قد كنت كتبت في شهر يونيو من سنة 2011 مقالا مطولا في جزأين عن "الميثاق" في منهاج جماعة العدل والإحسان. في الجزء الأول، الذي عنونته بـ"الميثاق الإسلامي في الأصل المنهاجي"، والذي يمكن مراجعُته على على الرابط التالي:


بيّنتُ بالنصوص الواضحة التي أوردتها من كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله، أن "الميثاق"، الذي تحدث عنه الأستاذُ في كتاباته، إنما هو "ميثاق إسلامي"، أو "ميثاق جماعة المسلمين"، "يتميز، أولا، بأن زمانَه بعدَ القومة الإسلامية، وأنه، ثانيا، دعوةٌ لغير الإسلاميِّين من موقع القَويّ المُنتصر، وأنه، ثالثا، مشروعُ تعاهد وتعاقد يُدعى الفضلاء المنافسُون للدخول فيه بشرط يشترطُه الإسلاميون الغالبون...ولهذا، يمكنُ وصفُ هذا "الميثاق الإسلامي"، الذي يطرحه مرشدُ الجماعة في كتاباته، وخاصة في كتاب "العدل"(ط1، سنة2000)، بأنه "ميثاق الغالب"، لأن هناك في المُتواثِقين المُفترَضِين طرفاً يَشترط على طرفٍ آخر من موقع القوة."

وفي الجزء الثاني، الذي عنونته بـ"الميثاق الجامع والضرورة السياسية"، والذي يمكن مراجعتُه على الرابط التالي: http://www.hespress.com/permalink/32849.html،

ذكرتُ أن الميثاقَ الذي كان "إسلاميا"، في اجتهاد الأستاذ ياسين، رحمه الله، بات، تحت وقع الضرورة السياسية، "ميثاق الفُضول"، الذي يمتاز بأنه "يُسقط شرطَ المرجعية الإسلامية، وهو ما يعني انفتاحَه على جميع المرجعيّات، بما فيها المرجعيات اللادينية بكل تياراتها".

فالدعوةُ اليومَ إلى هذا الميثاق المُعَدَّل، الذي فرضَته الظروفُ السياسيةُ المتطورة، هي، كما قلت في جزء المقالة المشار إليه، "دعوةٌ من طرف واحد، هو جماعةُ العدل والإحسان، لا نجد لها، لحدّ الآن، أيَّ نوع من الاستجابة لدى الأطراف المَعنيّة". وقد أضفْت، في السياق نفسه، أن "الدعوة إلى "ميثاقٍ"، كيفما كان نعتُ هذا الميثاق، لا يمكن أن ترقى لتصبح "إنجازا سياسيا" حقيقيا ما دامت دعوةً قائمةً من طرف واحد لا تكاد تجد لها مُجيباً". فالدعوةُ التي لا تجد لها صدى لدى الآخر، هي، عندي، في حكم "الفكرة"، أو "الأمنية"، أو "النداء"، أو ما تشاء من الرّغبات التي يُمكن أن يحلم بها كثيرٌ من الناس، ما دامت لم تتمثَّلْ "كيانا واقعيا" له نَسبٌ بما هو معيش ومُعطى، وليس بما هو مطويٌّ في الأماني والأحلام".

وممّا قلتُه في نهاية المقالة المذكورة أن الأصل هو "أن جميع المقترحات والمبادرات السياسية تحتمل الصحةَ وتحتمل عكسها. وكان ينبغي، من باب وجوبِ النقد الذاتي، أن تسألَ الجماعةُ نفسَها بكل صدق وصراحة: لماذا لم نتقدم خطوةً واحدةً بعد كل هذه السنوات؟ لقد افترضنا دائما أن الآخر هو السبب، فلنُجرّبْ اليوم، ولْنفْترضْ أن العلّة كامنةٌ في الفكرة ذاتها، في مبادرة الميثاق نفسِها. لِنفترضْ، ولو مرة، أن العلةَ فينا، ولْنرَ النتيجة.

لماذا لا تجرؤ الجماعةُ على مثل هذا التجريب؟ لماذا توجّهُ الاتهامَ دائما للآخر، مع أن الذاتَ، وخاصةً في أمر سياسي اجتهادي، هي مَظِنَّة الخطأ والوهم وسوءِ الفهم والتقدير؟".



لماذا هي دعوةٌ إلى "ميثاق" مستحيل؟

لقد جدّدت الجماعةُ، في البيان الأخير الصادر عن الدورة السابعة عشرة للمجلس القطري للدائرة السياسية(مقدس) (يناير2014)، "الدعوة لفضلاء البلد والغيورين على مصالحه وأمنه واستقراره، لصياغة ميثاق جامع يؤسس لعمل تشاركي، تعبئة للجهود، واقتساما لأعباء تغيير يعيد للشعب سيادته وقراره في اختيار ومحاسبة من يحكمه، وكيف يحكمه".

هي، إذن، دعوةٌ تتكرر وتتجدد منذ سنوات، وكأن الجماعةَ لا تملك من مشروع تتقدم به إلى "الفضلاء" و"الغيورين" غير هذه الدعوة.

والجدير بالذكر أن التقريرَ السياسيَّ المقَدَّمَ في هذه الدورة لـ(مقدس) يشهد بأن هذه الدعوةَ من الجماعة لم تحقق شيئا ملموسا على أرض الواقع، بل لم يستطعْ هذا التقريرُ السياسيُّ أن يأتيَ برقمٍ، أو اسمٍ، أو مبادرةٍ، أو أيِّ معطى آخر مادي واقعي مُنْجَز، مما يمكن اعتباره نوعا من البداية على طريق هذا الميثاق المنشود؛ لا شيء على الإطلاق، ومع ذلك، تتكرر الدعوةُ، ويتجدد النداء، ولا من سامع ولا مجيب!

المفتَرَضُ أن هذا الميثاقَ المرجوَّ سيكون مع كياناتٍ سياسية واقعية، لا مع أشباح ومخلوقات لا وجود لها إلا في الخيال والأوهام.

أشرتُ في مطلع هذه المقالة إلى أن الميثاقَ الذي تدعو له جماعةُ العدل والإحسان لا يمكن أن يكونَ النظامُ المخزنيُّ طرفا فيه، لأن الجماعةَ، في منهاجها السياسي، تنطلق من أن النظامَ المخزنيَّ، وقوامُه النظامُ الملكيُّ، هو أصلُ البلاء الذي ينبغي استئصالُه، وما "الميثاقُ"، إلا وسيلةٌ أو "آلية"، كما وصفَه رئيسُ الدائرة السياسية، الأستاذُ عبد الواحد متوكل، في كلمته في افتتاح أشغال (مقدس17)، من أجلِ تحقيق هذا الاستئصال.

ويترتّبُ على استثناءِ النظام المخزني الحاكمِ من المشاركة في الميثاقِ المطلوب استبعادُ جميعِ الكيانات السياسيّة، الممثَّلةِ في تنظيمات أو في أفراد، المدافعةِ عن بقاء النظام الملكي، والمقتنِعَةِ بأنه النظامُ الصالح لحياتنا السياسية، مهما اختلفتْ اجتهاداتهم وزوايا نظرهم، لتبرير اقتناعهم ودفاعهم.

المقتنعون بالنظام الملكي، المدافعون عن شرعيته وصلاحية وجودِه، هم واقعٌ سياسيٌّ لا يمكن إغماضُ العين عنه، وإن كنا نختلف معهم إلى حدّ التناقض.

هؤلاء موجودون في الواقع، سواء أكانوا في صورة مخزنيِّين أقحاح، أم في صورة سياسيِّين لهم رأيٌ واجتهاد ووجهةُ نظر تُرجِّحُ في أعينهم أن النظامَ الملكي ضروريٌّ في حياتنا السياسي، بل منهم من يرى، عن اجتهاد بريء، أن الانتقالَ الديمقراطيَّ عندنا لا يمكن أن يتحقق بمعزلٍ عن النظام الملكي.

ويمكنُ أن أمثِّل على التنظيمات السياسيِّة، التي تقول بأن مستقبلَ الديمقراطية في بلادنا مرتبطٌ بالملكية، بِـ"الحزب  الاشتراكي الموحّد"، ومعه في "تحالف اليسار الديمقراطي" "حزبُ الطليعة الديمقراطي الاشتراكي"، و"حزبُ المؤتمر الوطني الاتحادي".

فهذا التحالف، مثلا، لا يمكننا أن نصنّفه في التنظيمات المخزنيّة الصريحة، كحزب "الحركة الشعبية"، أو حزب "الاتحاد الدستوري، تمثيلا، لا حصرا. وهو تحالفٌ يتزعم اليوم الدعوةَ إلى تبني نظامِ الملكية البرلمانية، حيث الملكُ يسود، بصلاحيات رمزية وسيادية مقلصة ومحددة، ولا يحكم. وقد صدَرتْ عن الحزب الاشتراكي الموحد، في هذا الموضوع، أكثرُ من وثيقة تتضمن اقترحاتٍ فيها بيان وتفصيل.

بل خذْ مثالا آخر، وهو "حزب النهج الديمقراطي"، الذي له خلفيةٌ إديولوجية يسارية متطرفة. فهذا الحزب، على الرغم مما نقرؤه في أدبياته عن معاداته للدولة المخزنية، فإنه، رسميا، لا يقول بوجوب زوالِ النظام الملكي، بل هو اليوم، أقربُ إلى تبنّي اختيارِ رفاقه في "تحالف اليسار الديمقراطي".

فماذا يبقى من الكيانات السياسية المُنظَّمَة، المعترفِ بها قانونيا، والتي يُحتَمَل أن تستجيب لدعوة جماعة العدل والإحسان؟ بل حتى الأحزاب الممنوعةُ، كحزب "البديل الحضاري"، و "حزب الأمة"، و"الحزب الديمقراطي الأمازيغي"، لا نعرف عنها، فيما هو منشورٌ من أدبياتها السياسية، أنها أحزاب تناهضُ النظام الملكي، وتسعى لإسقاطه.

فالأحزابُ "القانونية"، وعددها خمسةٌ وثلاثون حزبا، فضلا عن الأحزاب الممنوعة، إما أحزابٌ مَلكيةٌ أكثر من الملك، وتشكلّ الغالبيةَ، وإمّا أحزابٌ ملكية إصلاحية، أقصد التي تدعو إلى ملكية برلمانية حقيقية، وإما أحزابٌ ملكيةٌ مترددة أو غامضة.

فمع مَنْ تتوقعُ أو تتمنَّى جماعةُ العدل والإحسان عَقْدَ ميثاقها، والطبقةُ السياسية جميعُها مع الملكيّة؟

أنا هنا أتحدثُ عن اليوم، وعن الغدِ القريب، أما الغدُ البعيد فعلمُه عند الله، ولا أحدَ يستطيع أن يتنبأ بأحداثِ المستقبل ومستوراته على وجه التدقيق واليقين، وإنما هي نظراتٌ، وتوقعات، وتمنيات، واستشرافات للآفاق، لا أقل ولا أكثر. وقد أكدتْ لنا الثورةُ التونسية المجيدة الرائدةُ أن أشهر مراكزِ الأبحاث والرصد والتوقع، وأكبرها في العالم، لم يكن بمقدورها أن تتوقع، ولو من باب التخيّل البعيد، ما حصلَ في دجنبر من سنة 2010.

أنا أتحدثُ هنا عن الفعل السياسيِّ الذي ينبَني، في أساسه، على ما يعيشه الناس في واقعهم، ويحسّونه في حياتهم، لا على ما يحفظونه في معتقداتهم، ولا على ما ينشدونه في متمنياتهم وأحلامهم.

هذا الواقع السياسيُّ المعيشُ يؤكدُ أن دعوة العدل والإحسان إلى "ميثاق جامع"، حسبَ ما هو مسطَّرٌ في منهاجها السياسي الذي كان، وسيظل، اجتهادا من مرشدها، رحمه الله، إنما هي صيحةٌ في واد، ودعوةٌ إلى "ميثاق مستحيل"؛ لماذا؟

لأنها، في رأيي، دعوةٌ من طرف واحد، لا تجد لها صدى لدى الآخر. فهي عبارة عن خطاب إنشائي عام ما زلنا نقرأ أشبَاهَه في كثير من الخطابات والبيانات السياسية، وخاصة منها الصادرة عن المعارضين.

وأيضا، لأنها دعوةٌ تتعامى عن الواقع السياسي المعيش، ولا تكاد تُقيم اعتبارا لموازين القوى المتحكِّمةِ فيه، بل نجدها تتعالى على هذا الواقع، وتهربُ من مواجهتِه إلى جميلِ النظريات ومعسولِ الأمنيات.

وثالثا، لأنها دعوةٌ صادرة عن رؤية سياسية جامدةٍ عند اجتهاد سياسيٍّ لا يعرف التطويرُ والتعديلُ إليه سبيلا. فهي دعوة، في اعتقادي، لن تجد لها مجيبا، حتى من أصحاب الإديولوجياتِ التي تتقاطع مع الجماعة في بعضِ الآراء السياسية، وتلتقي معها في بعض المبادئ الحقوقية والمحطات النضالية والأنشطة الاحتجاجية.

ورابعا، لأنها دعوةٌ لا يصحبُها الوضوحُ اللازمُ، مع ما يعنيه هذا الوضوحُ من مسؤولية؛ الأستاذُ عبد السلام ياسين، مرشدُ الجماعة، رحمه الله، كان واضحا إلى أقصى حدّ، حينما تحدث عن "الميثاق الإسلامي" أو "ميثاق جماعة المسلمين"، عن أهدافه ومضامينه، وعن طبيعةِ الفصائل المدعُوَّة إليه، وعن مكانةِ أو ريادة الإسلاميِّين في المبادرة والدعوة وقيادةِ المرحلة الانتقالية التي تلي الطوفانَ. أما اليوم، فالدعوةُ تكاد تكون جافةً إلا مِنَ التكرار الممل، الذي لا يطمع أحدٌ في طائل من ورائه، اللهمَّ إلا ما يكون مِنْ بعضِ الأفرادِ الذين لا يمثلون إلا أنفسَهم، مِنْ مجاملاتٍ وتنويهات وتقديرات تفرضُها أخلاقُ العلاقات العامة، وآدابُ لقاءاتِ المواسم والمناسبات.

وبعد، فإني أقدّرُ-والله تعالى أعلم- أن الجماعة بتكرارها الدعوة إلى "ميثاق مستحيل"، قد تبتعدُ شيئا فشيئا عن ملعب السياسة، بحدوده ومعالمه ومميزاته المعروفة، وتقتربُ لكي تصبح بلا مشروع سياسي حقيقي يحظى بالجاذبية والمصداقية، ويمتاز بالوضوح والمسؤولية.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

الجمعة، 10 يناير 2014

الحكومة الفرنسيةُ "الحداثيّةُ" تمنع عروضا فنية ساخرة



بسم الله الرحمن الرحيم



الحكومة الفرنسيةُ "الحداثيّةُ" تمنع عروضا فنية ساخرة


موضوع هذه المقالة يختلط فيه الفني بالسياسي والقانوني والحقوقي. لكني مهتمٌ بالتركيز على ما هو قانوني وحقوقي، لمعرفة القواعد التي يجب احترامُها في دولة الحق والقانون، مهما كانت خلفياتُنا الإديولوجية، واختياراتُنا السياسية.

في دولة الحق والقانون، من حقِّ الحكومة أن تمنعَ وتعتقلَ وتتّهمَ وتفعلَ غيرَ هذا مما يدخل في نطاق صلاحياتها، ويقع تحت مشمولات سلطاتها. وفي المقابل، من حقّ المواطن أن يحتج ويعترضَ على الحكومة، ويطعن على قراراتها، ويدافع عما يراه من صميم حريته وحقِّه وكرامته.



(1)

إن الذين يعتبرون أنفسَهم حداثيّين عندنا، ومنهم اللادينيّون بصفة خاصة، والذين لا يفتأون يفرضون علينا سلوكات منحطةً، وأخلاقا داعرة، باسم الفن وحرية الإبداع، في انتهاكات سافرة للدين والقوانين والأعراف- هؤلاء الحداثيون يصعب عليهم أن يعلقوا على ما يجري في هذه الأيام في فرنسا، وخاصة بعد صدور دورية لوزير الداخلية، يوم 6 يناير2014، تدعو مسؤولي الأمن والسلطات الإدارية باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع عروض الفنان الساخر(ديودوني مبالا مبالا Dieudonné M’Bala M’Bala)، لأن الحكومةَ ترى في هذه العروض دعوةً إلى العنصرية، وتحريضا على الكراهية، ومعاداة للسامية، وعملا من شأنه الإخلال بالأمن العام.

بعضُ عروض (ديودوني) الفنيةِ منشورةٌ على (اليوتوب)، لمن يريد الاطلاعَ عليها، وتكوينَ رأيه الخاص في شأنها من غير وسائط.

الحداثيّون العبثيّون عندنا لا يأبهون بشيء اسمُه القانون حينما يزعمون أن من شأن حرية الفنان أن تكون مطلقةً، لأن الإبداع، في اعتقادهم، لا يمكن مواجهتُه بالمنع، وتقويمُه بنصوص القانون.

ويذهب العبثُ ببعضهم إلى أقصى حدّ حينما يزعم أن موضوع الفن الحقيقي إنما هو انتهاكُ المحرمّ والمقدس والأخلاقيّ، ومن ثَمَّ، فإن مواجهةَ الفن بالدين والقانون والأخلاق، هو اعتداء على روح الإبداع، لأن الحكمَ على الفنان وتقويم أعماله لا يكون، في زعمهم، بالمنع والاتهام والمحاكمات، وإنما هو بعرضه على القواعد والمقاييس الفنية الخالصة، التي بها وحدها يمكن تمييزُ العمل الفني من غيره، وبها وحدها يمكن الحكمُ على عمل فني بأنه جيّد أو رديء.

وقد يخرجُ العبث ببعضهم من دائرة المعقول إلى متاهات اللامعقول. لكن موضوعَ هذه المقالة ليس مخصصا للحديث عن هذا العبث الحداثيّ.

في كل مجتمعات الدنيا هناك قوانين لحماية الناس، وجميعُ الناس متساوون ومسؤولون أمام هذه القوانين، لا فرق بين جاهل وعالم، ولا بين سياسيّ وحرفي، ولا بين فنان ومواطن عادي.

فمن أعطَى للفنان، مهما كانت درجتُه في إبداعه، هذا الامتيازَ الذي يرفعه فوق الدين والأخلاق والأعراف؟

من أعطى للفنان هذا الحقَّ، الذي يجعله فوق المتابعة والمحاسبة القانونية، إن كان هناك موجِبٌ لهذه المتابعة والمحاسبة؟

من أعطى لهذا أو ذاك من الناس أن يفرضَ على الناس قاذورات معنويةً، وانحرافات سلوكيةً، وإفرازات مَرَضية، باسم الفن وحرية التعبير؟

هناك نصوصٌ قانونية يجب احترامها، مهما كان موقفُنا من هذا القوانين، وإلا فهي حياة الغاب، والفوضى، واللاأمن.

هل عندنا قانون يجرّم المس بأصول الدين والطعن على أحكامه وانتهاك حرماته؟

هل عندنا قانون يجرّم المسَّ بمقدسات المسلمين؟

هل عندنا قانون يجرّم الدعارة والفساد والإخلالَ بالحياء في الأماكن العمومية؟

فالأصل في هذه القوانين أن نحترمَها، وأن نعمل على تعديلها أو تغييرها بالطرق القانونية الشرعية المعلومة إن كنا غيرَ راضين عنها، وغير مقتنعين بالحيثيات التي انبنت عليها.



(2)

في هذه المقالة، أنا لست معنيّا بأن أُثبت إن كنت مع الفنان الممنوع، أو ضده، وإنما أنا هنا مع وجوب الاحتكام إلى القانون، ما دام هناك في هذا القانون نصوصٌ تجرّم سلوكاتٍ ومواقفَ وأقوالا وإشاراتٍ وغيرَها مما يُقدِّر عمرو أو زيدٌ من الناس أنها أفعالٌ تمس حقوقه، أو تعتدي على حرماته، أو تهدد أمنه، أو غير هذا مما يؤذي ويضرّ.

أنا أعتقد، إلى حد اليقين والجزم، أن الحملةَ الشعواء، التي تُشنُّ على الفنان الساخر (ديودوني) منذ سنوات، لها ارتباط وثيق باللوبي الصهيوني في فرنسا، الذي تمتد أذرعُه الطويلة والقويةُ إلى مختلف مؤسسات الدولة، السياسيةِ والإعلامية والاقتصادية والفكرية. فيهود فرنسا، بما لهم من نفوذ وإمكانيات، كانوا دائما وراء قرارات المنع التي تَعرّضَ لها الفنان (ديودوني)، بتهمة معاداة السامية، وهي تهمة مفصَّلةٌ في القانون على قدّ اليهود. وهناك سوابق عديدة، في فرنسا، تتعلق بالمنع والمتابعات والمحاكمات والإدانات لفنانين ومفكرين وصحفيين كان وراءها اللوبي اليهوديُّ.

وليس من شك في وجود خلفيّة إديولوجية وسياسية، فضلا عن اللوبي اليهودي، وراء كثير من قرارات المنع، التي صدرت في حق العديد من الأنشطة الفنية في فرنسا.

وأكتفي هنا بمثال واحد يُثبت بكل وضوح أن الحكومة الفرنسية، في التعامل مع قضايا الفكر والنشر والفن، تكيل بأكثر من مكيال.

وهذا المثال هو من التاريخ القريب(2012)، في ظل حكم الاشتراكيين. فكلُّنا يتذكر ذلك الموقفَ السلبيَّ الذي وقفته الحكومةُ الفرنسية، حينما تم نشرُ صور كاريكاتورية مسيئةٍ إلى الإسلام والمسلمين، وساخرةٍ من الرسول، صلى الله عليه وسلم. وقد كان التفسيرُ الذي تشبثت به الحكومة لهذا الموقف السلبي هو أنها تنحاز لمبدأ حرية التعبير المقدس في الجمهورية، وأن الذي يرى في الصور المنشورة أنها تؤذي مشاعرَه وتمس كرامته، عليه أن يلجأ إلى القانون. لكن هذه الحكومة نفسها، وفي مناسبات عديدة، لم تتردد أن تقف موقفا صارما تجاه أعمال فكرية وفنية، بحجة أنها أعمال تدعو إلى الكراهية، وتعادي السامية، وتمس الكرامة الإنسانية، فضلا عن كونها أعمالا يمكن أن تؤديَ إلى الإخلال بالأمن العمومي.

لم تعترض حكومةُ (جان مارك إيرو) على نشر الصور المسيئة للمسلمين، مع أن هذا النشرَ كان ذا طابع عدائي وتحريضي ضد طائفة من الشعب الفرنسي، وكان خليقا أن يثير حزازات وقلاقل اجتماعية يمكن أن ينتج عنه إخلال بالأمن وفوضى وصدامات.

أما المبررات التي ذكرتها مذكرةُ وزير الداخلية الفرنسي(مانويل فالس) لمنع عروض (ديودوني)، كانت موجودة سنة 2012 لمنع صحيفة (شارلي إيبدو) من نشر الكاريكاتورات الساخرة المجرِّحة المُحرِّضة، لكن الحكومة لم تفعل، واكتفت بخطاب سياسيّ يدعو الجميع إلى وجوب التحلي بالمسؤولية واحترام القانون.

أحرامٌ على بلابله الدّوْحُ، حلالٌ للطيْر من كلِّ جنس؟

السخريةُ من رسولنا، صلى الله عليه وسلم، فعلٌ حلال، وعملٌ مسلوك في الحريات التي تحميها الدولة والقانون. والسخريةُ من اليهود وأساطيرهم فعلٌ حرام يُعرِّض فاعلَه للمساءلة والمحاكمة والعقاب!!

إن مواقف الحكومة الفرنسية، على المستوى القانوني والحقوقي،  ليست دائما بريئة، وهذا معروفٌ في فرنسا، التي توجد غالبيَّةُ مكونات طبقتِها السياسيةِ تحت تأثير النفوذ اليهودي المُستشرِي في مفاصل الدولة.



(3)

قلت إنني أركز في هذا المقالة على وجوب الاحتكام إلى القضاء، حينما يكون هذا القضاءُ نزيها وفوق الشبهة، لحلِّ الخلافات التي تكون بين المتخاصمين، ولتجنّبِ الفوضى والصدامات العدائية المكلّفة، التي تكون هي البديل في غياب سلطان القانون والعدالة.

دوريّة وزير الداخلية الفرنسي صدرت يوم 6 يناير2014، وعلى إثرها صدرت قراراتُ منعِ عروضِ الفنان الساخر (ديودوني) في عدة مدن وبلديات. وأمام هذا المنع، قام محامو الفنان الممنوع برفع دعاوى ضد الجهات السلطات المانعة، ومنها الدعوى الاستعجاليةُ التي رفعوها أمام المحكمة الإدارية بمدينة (نانت). ويوم الخميس 9 يناير، بتَّت المحكمةُ في الدعوى الاستعجالية لصالح (ديودوني)، مُبيّنةً في حيثيّة الحكم أن مضمونَ العرض الفني، موضوعِ قرارِ المنع، لا يمكن اعتباره مضمونا يمس بالكرامة الإنسانية، كما ادعى قرارُ المنع الصادر عن السلطة المحلية، وهو الحكمُ الذي اعترضَ عليه وزير الداخلية، في اليوم نفسه وعلى وجه السرعة، حيث طلب انعقادَ اجتماعٍ عاجلٍ لمجلس الدولة، وهو أعلى هيئة قضائية إدارية في فرنسا، لتثبيت قرارِ منعِ العرض الفني لـ(ديودوني)، الذي كان مقررا أن يتمَّ مساء اليوم نفسه، الخميس 9 يناير، بقاعة العروض(زينيت) بمدينة (نانت). وبالفعل، وبعد ساعاتٍ معدودات من صدور حكم المحكمة الإدارية لصالح الفنان الساخر، اجتمع مجلسُ الدولة، ليخرجَ، بعد حوالي ساعة ونصف، بقرار لصالح السلطةِ بتأكيد المنع في حق (ديودوني)، في مدينة (نانت).

ورَأْيُ الخبراء أن مجلس الدولة في فرنسا، في مواقفه وآرائه، يميل أكثر لصالح قرارات السلطة التنفيذية، وهو مجلسٌ كان دائما متعاطفا مع قضايا اليهود، ومِنْ ثَمَّ فإن رفضَه لعرضٍ ساخرٍ لفنّان متهم منذ سنوات بمعاداة السامية هو تحصيل حاصل.

وهنا تجب الإشارة إلى أن العرضَ المعنيَّ بالمنع في (نانت)، وعنوانه((Le Mur قد سبق عرضُه عدة مرات، طيلة أشهر، في العاصمة (باريس)، وهو ما يُبرئه من تهمة المس بالكرامة الإنسانية، والحضِّ على الكراهية، التي بنت عليها السلطةُ الإدارية قرارها بالمنع، فضلا عن تبرئته من تهمة الإخلال بالأمن العام، لأن العروض السابقة كلها مرت من غير أن تتسبب في اضطراب في النظام العام.

وملاحظةٌ أخرى جديرةٌ بالتأمل، وتتعلق بهذه السرعة الفائقة والعجيبة التي استجاب بها مجلسُ الدولة لطلبِ وزير الداخلية، وكأن هذا المجلسَ كان مهيأً للاجتماع، ولا ينتظر إلا إشارةَ وزير الداخلية. هنا نجد الحدود بين السياسي والقانوني والحقوقي تتلاشى، بل يمكن أن نلاحظ أن السلطة التنفيذية هي صاحبة اليد العليا في النهاية. الدولةُ كلُّها، من رئيسها إلى آخر مسؤول إداري فيها، يتحرّكون بكل ما يملكون من وسائل، لمنع عرض فني متهمٍ بمعاداة السامية، والسخرية من المآسي التي عاناها اليهودُ على أيدي النازية. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على ما لليهود من تأثير في مؤسسات القرار التنفيذي في فرنسا.

لاحظْ أنه في يوم واحدٍ فقط، الخميس9 يناير2014، صدر حكمُ المحكمة الإدارية لصالح الفنان المشتكي، وتبعه طلبٌ من وزير الداخلية لاجتماع عاجل لمجلس الدولة، ثُمَّ جاء قرار مجلس الدولة في آخر النهار بتثبيت المنع.

هذه هي قواعد اللعبة في دولة الحق والقانون؛

الحكومةُ، بخلفية إديولوجيّة، أو بضغط من أحد اللوبيات، أو بدافع الحرص على المصلحة العامة، ترى في منعِ عملٍ من الأعمال الفنية-مهما كان موقفُنا من هذا العمل- سلوكا سليما، واختيارا ضروريا. وكلُّ من أحسّ أنه متضرر من هذا القرار، عليه أن يلجأ إلى القضاء للدفاع عن حقه.

وهكذا، قام (ديودوني) للدفاع عما يراه حقَّه في حرية التعبير، فاعترضَ على قرار المنع، في مدينة (نانت)، فحكمت لصالحه المحكمةُ الإدارية، فقامت السلطةُ، ممثلة في وزير الداخلية، بالاعتراض على قرار المحكمة أمام مجلس الدولة، الذي انتهى إلى تأييد قرارِ السلطة بالمنع. وهناك، بعد قرار مجلس الدولة، إمكانيةُ لجوء الفنان الممنوع إلى المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان.

واليوم الجمعة 10 يناير 2014، وأنا أكتب هذه المقالة، علمتُ أن المحكمة الإدارية بـ(أورليون) نظرتْ في الدعوى التي تقدّمَ بها (ديودوني) للاعتراض على قرارِ عمدةِ مدينةِ (تور) بمنع عرضه، الذي كان مقررا تقديمُه بالمدينة مساء اليوم نفسِه، فقرّرتْ(أي المحكمة الإدارية) تثبيتَ قرار المنعِ، بعكس قرارِ المحكمة الإدارية بـ(نانت)، التي حكمت لصالح (ديودوني) يوم الخميس. ومن حقّ (ديودوني) أن يعترضَ على حكم محكمة (أورليون)، في دعوى استعجالية، أمام مجلس الدولة، الذي حكم أمسِ لصالح الحكومة بتأكيد قرار المنع الذي اتخذته السلطات المحلية بـ(نانت).

وهناك قرارات إداريةٌ أخرى بمنع (ديودوني) من تقديم عرضه تنتظره في مدن أخرى. فالمعركة القانونية ما تزال في بدايتها، وقد تطول، وقد تتولد عنها معاركُ موازية في الساحة السياسية والإعلامية والحقوقية، داخل فرنسا وخارجها.

هذه هي القواعد المرعية في دولة الحق والقانون. وحينما تكون أسسُ العدالة راسخةً ومحمية، فإن قراراتِ المنع الحكومية قد تخسر قضيتها أمام القضاء، وهذا ما حصل مرات عديدة مع (ديودوني)، الذي ربح أكثر من قضية ضد الإدارة أمام القضاء، الذي أنصفه، وأقرَّ حقه في حرية التعبير.

نعم، لجوءُ الحكومة في حالة (ديودوني) إلى مجلس الدولة، للاعتراض على حكمٍ قضائي صدر لغير صالحها، وإن كان لجوؤها مشروعا حسب قوانين الدولة، يرى فيه بعضُ المحللين مبالغة من الحكومة، للتغلّب على مواطن فنانٍ معدودٍ في المغضوب عليهم. وهناك من يذهب إلى أن قرارَ مجلس الدولة لصالح الحكومة هو قرار يقوي جانبَ التحكم والمنع على حساب الحريات، وهو ما يسيء إلى سمعة الديمقراطية، وإلى قيم المساواة بين المواطنين.

لقد انتهى الشوط الأول من المعركة القانونية بين (ديودوني) والحكومة، بتثبيت قرار المنع في (نانت) و(تور). ويُنتظَرُ أن تتبع هذا الشوطَ أشواطٌ أخرى. وقد تنتقلُ المعركةُ القانونية من فرنسا إلى رحاب المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان.

وبعد، فإني ألخّص ما أردت بيانَه في هذه المقالة في أمرين اثنين: الأول هو أن الفنان، مهما علا شأنُه في مجال الإبداع، هو خاضع، مثلُه مثلُ سائر الناس، إلى القانون، ومطالبٌ، رضي أم لم يرض، بأن يحترمَ قيم المجتمع وثوابته ومعتقداته، ومسؤولٌ عما يكون منه من مخالفات وانتهاكات و انحرافات.

فمثلا، تهمةُ معاداة السامية والتشكيك في المحرقة اليهودية في ظل الحكم النازي، هي تهمة منصوص عليها وعلى عقوبتها في القانون الفرنسي، سواء اتفقنا معها أم اختلفنا، ومِنْ ثَمَّ، فإن جميعَ المواطنين مسؤولون أمام هذا القانون، إن صدرت عنهم انتهاكات ومخالفات. 

والأمر الثاني هو أن القوانينَ موضوعة للجميع، ومن ثَمَّ فإن احترامَها واجب على الجميع أيضا، سواء كنا راضين أم كارهين. وليس مقبولا ولا معقولا، إن كنا بحقٍّ من دعاة دولة الحق والقانون ومناصريها، أن ننظرَ إلى القوانين بعيْنين مختلفتَيْن، عينِ الرضا والاحترام حينما نُقدّر أن هذا القانونَ هو في صالحنا، وعينِ السخط والانتهاك حينما نُقدّر أن هذا القانون ليس لصالحنا. بل الأصلُ في القوانين أن يُنظر إليها بعين واحدة، هي عينُ القبول والاحترام. وفي حالة اعتراضِنا أو اختلافنا، فإن تغييرَ القوانين أو تعديلَها بالزيادة أو النقصان، لها مساطرُها وطرقها الشرعية المعروفة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الأربعاء، 8 يناير 2014

مثالٌ من تونس على اللادينيّة المتطرّفة



بسم الله الرحمن الرحيم



مثالٌ من تونس على اللادينيّة المتطرّفة


 (1)

(اللادينيةُ) في تونس العربية الإسلامية هي من غِراس الاستعمار وثمار التغريب. وقد حظي هذا الغرسُ الاستعماري في العهد البورقيبي برعاية خاصة إلى درجة أن المجاهرة بانتهاك مبادئ الإسلام، وإلغاء بعض أحكامه القطعية، والتنكر لأخلاقه وآدابه، باتت من مميزات الدولة العصرية البورقيبية المستبدة. ثُم جاء وريثُ بورقيبة الجنرالُ بنعلي، فسار على نهج سلفه في رعاية اللادينية بقبضة من حديد، وواجه الإسلاميِّين بسياسة قمعيّة استئصالية، في جو بوليسي مرعب، وبأدوات نظام ديكتاتوري فاق في بشاعته كلَّ تصور. وقد شاء الله، عز وجل، أن تُنشَر مخازي  هذا النظام، ويقفَ العالم بالتفصيل على فظاعات ديكتاتورية بنعلي، بعد نجاح الثورة المجيدة، التي اندلعت في دجنبر2010، وهروب الديكتاتور خارج البلاد.

إن سياسة القمع المتطرفة التي انتهجها نظامُ الديكتاتور بنعلي لاستئصال الحركة الإسلامية في تونس، جعلت كثيرا من الناس، ومنهم دارسون متابعون، يظنون أن الإسلاميِّين في تونس باتوا في خبر كان، وأن وجودهم الاجتماعي والسياسي انتهى إلى غير رجعة.

وما يزال كثيرٌ من الناس يعتقدون أن تونس أضحت من قلاع اللادينية الحصينة في البلاد العربية، حتى بعد هروب الديكتاتور، وسقوط دولة البوليس والاستبداد والاستئصال.

سقطت الديكتاتوريةُ، وأخذ الشعب التونسيُّ الحر زمام المبادرة، فبدأت فترةٌ انتقالية حُدِّد لها أن تنتهيَ بإقرار دستور ديمقراطي، وتنظيمِ انتخابات عامة، ثُم بعدها تنطلق مسيرةُ العهد الجديد ببناء مؤسسات الدولة، وحماية مكتسبات الثورة.



(2)

في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي(أكتوبر2011)، لم يكن اللادينيّون، وغالبيّتهم من التيارات اليسارية، يتوقعون ذلك الفوزَ الساحق الذي حققته حركةُ النهضة الإسلامية. فقد قامت قيامتُهم، وما تزال إلى اليوم، وضربوا في كل الاتجاهات، وجرّبوا مختلف الوسائل، ووَظّفوا كل ما يمكن توظيفُه، من أجل عرقلة السير، ووضعِ الحواجز في الطريق، حتى لا تنتهيَ الفترة الانتقالية بسلام.

لقد تفاجأ اللادينيّون بذلك القدر الهائل من الشعبية، الذي تتمتع به حركة النهضة الإسلامية، والذي كشفته الانتخاباتُ، ومن ثَمَّ بات بالُهم مشغولا، أساسا، بالعمل من أجل التشويش على المسار الديمقراطي، والسعي بكل الوسائل لمنع وصول الإسلاميين إلى السلطة في أجواء صافية.

اللادينيون هم أولُ من يعلم أن  حظوظهم في التغلب على الإسلاميِّين في منافسات شريفة ونزيهة، في مجتمع مسلم، ضعيفة جدّا، إن لم تكن منعدمة، فلهذا، فليس عندهم من وسيلة في المواجهة إلا التشويش والتأزيم والتعطيلُ والعرقة، ليحافظوا على وجودهم، ولتظل الأنظار متجهة إليهم.

بالرغم من المرتبة الأولى التي حصلت عليها حركةُ النهضة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، فإنها حرصت على تكوين حكومة توافقية، فلجأت إلى التحالف مع حزبين محسوبَيْن على التيار العلماني المعتدل، فيما عُرف بحكومة الترويكا(حزب النهضة، وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات).

ورغم كل ما قدمته حركةُ النهضة من تنازلات ومرونة في التفاوض وتحقيق التوافق، من أجل أن تنتهيَ الفترة الانتقالية إلى أهدافها المرسومة، فإن سهام اللادينيِّين ظلت تستهدفها من كل جانب، بسبب وبغير سبب، مع أن الحكومة يسيرها تحالفٌ من ثلاثة أحزاب، وليس حزب النهضة وحده.

اللادينيون لا يعرفون حكومةَ الترويكا، وإنما يعرفون حزب النهضة الإسلاميَّ وحده، ومِنْ ثَمَّ فإنهم ظلوا يُحمّلونه المسؤوليّة عن كل مشاكل البلاد، بما فيها أحداثُ القتل التي سقط فيها اثنان من قيادات اليسار(البراهمي وبلعيد)، والتي انتهت التحريات الأمنية فيها أنها من توقيع التيار السلفي المتطرف، الذي تمثله جماعة (أنصار الشريعة)، التي يُعدُّ حزب النهضة هو الآخر من خصومِها المستهدفين.

كلُّ هذا لم يشفع لحركة النهضة أمام تهجمات اللادينيِّين المتطرفين واتهاماتهم الباطلة وكراهيتهم وعدائهم المستحكم للإسلاميين.

وفي هذه الأجواء الملوثة التي صنعها اللادينيون من رافضي المسار الديمقراطي، وبعد انسحاب ممثلي هؤلاء اللادينيِّين من المجلس الوطني التأسيسي، ونجاحهم في تعليق أعماله لبضعة أشهر، وتوجههم لإثارة الشارع على الحكومة الشرعية، وإصرارهم على المطالبة بحل المجلس المنتخب، وتكوين حكومة جديدة لاحزبية، ومراجعةِ القرارات التي اتخذها وزراءُ محسوبون على حركة النهضة، وغير هذا من الشروط التي فرضوها حتى يرجعوا للمشاركة في المسار السياسي-في هذه الأجواء المضطربة، التي خيّمت على تونس طيلة سنة 2013، توسّطَ بعضُ العقلاء بين الطرفين، لإنهاء التوتر والجمود الذي طبع الحياة السياسية، فكانت النتيجة، بعد جولات من اللقاءات والمفاوضات، أن الجميع، الترويكا الحاكمةَ والمعارضةَ، اتفقوا على بدء حوار وطني، بعد قبول الترويكا، وحزب النهضة أساسا، بحلّ الحكومة الحزبية الحالية، وتكوين  حكومة لاحزبية جديدة برئاسة شخصية يرضى عنها الجميع، ورجوع المنسحبين إلى المجلس التأسيسي لإنهاء أشغاله، وفي مقدمتها المصادقة على مشروع الدستور الجديد، الذي ينتظره الشعب التونسي.

لقد قبِل اللادينيون المُمَثَّلون في (الجبهة الشعبية)، التي تضم أكثرَ من عشرة تنظيمات سياسية، منها أحزابٌ محسوبة على اليسار العدمي المتطرف، والتي تجمعها إديولوجية الكراهية المبدئية الراسخة للإسلاميِّين، على مضض وبكثير من التحفظات، الاتفاقَ التي تم التوصل إليه بين الترويكا، وفي قلبها حركةُ النهضة، ومعارضيها من مختلف الأحزاب والتيارات.

ويجب التذكيرُ في هذا السياق أن مكونات هذه (الجبهة الشعبية) المعاديةِ للإسلاميِّين لم تحصد في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي إلا بعض الغبار من أصوات الناخبين، أيْ أن صناديق الاقتراع، في أول انتخابات نزيهة تجري في البلاد، بعد الثورة، أظهرت أن اللادينيِّين، في وجههم المتطرف، لا يمثلون شيئا في المجتمع التونسي، وإنما وجودهم السياسي مرتبط، في حقيقته، بما يتقنونه من زعيق وقدرة على التشويش والتهريج ونشر الاتهامات ذات اليمين وذات الشمال، وبرصيدهم الضخم من الخبرة الفائقة في التأقلم مع الأجواء الوبيئة، واستغلال ما يكون في هذا الأجواء من ثغرات وفرص وتناقضات وتوترات، للفت الانتباه وإثبات الذات.



(3)

قبِل اللادينيون المتطرفون، وهم كارهون، ما انتهت إلى المفاوضات في أواخر السنة الماضية، لكنهم ظلوا ينشرون خطابات التشكيك، والتشويش، والاتهام، التي لم يسلم منها رئيسُ الحكومة الذي تم التراضي حوله، وهو السيد مهدي جمعة، الذي سيُكَلف بتأليف الحكومة الجديدة اللاحزبية، التي ستحل محل حكومة السيد علي العريض.

قبْل أيام استأنفَ المجلس الوطني التأسيسيُّ أعماله، وبدأ في المصادقة على المشروع النهائي للدستور التونسي الجديد. وما هي إلا أيام معدودات حتى عاد اللادينيون إلى عادتهم في العرقلة والتشويش واصطناع الأزمات، فتوقفت بسبب ذلك أعمالُ المجلس التأسيسي لبعض الوقت.

الذي حصل هو أن نائبا من اللادينيِّين المتطرفين المنتمي إلى (الجبهة الشعبية)، اتهم نائبا من حزب النهضة بأنه أفتى بقتله، وزعم أنه مهدد بالتصفية خلال 48 ساعة. ولم يكد الناسُ يسمعون الاتهام حتى قامت قيامةُ عصابة اللادينيِّين، فجعلوا يرددون الاتهامات الجاهزةَ في حق حزب النهضة، ونادوا بضرورة حماية أرواحهم من الظلاميِّين، ووجوب اتخاذ العقوبة اللازمة في حق المتهم الإسلامي، إلى آخر ما تحمله جعبة اللادينيِّين المتطرفين من الأباطيل والأكاذيب والتلفيقات.

وملخصُ ما قاله النائب الإسلامي المتهم  في حق النائب اللاديني، في برنامج إذاعي، أنه وصفه بما فيه، أي بأنه يكره الإسلام، وما من كلمة أو جملة أو معنى يُشتم فيها رائحة الدين، إلا ويقف النائب اللاديني رافضا لها ومحتجا على ورودها ومطالبا بحذفها. لقد وصفه بأنه من الكارهين الحاقدين المعادين لكل ما له علاقة بالإسلام. فتلقّف أهلُ الإفك والبهتان تصريحاتِ النائب الإسلامي، فأولوها تأويلا فاجرا، وحمّلوها ما أرادوا لها أن تحمله، وانتهوا إلى فهمها على أنها فتوى بالقتل.

ومع كلّ هذا البهتان اللاديني الفاجر، فقد اعتذر النائبُ الإسلاميُّ عما صدر منه من كلام، واعتذر لكل عضو من أعضاء المجلس التأسيسي أحسَّ بأن كلامه كان فيه أذى له أو تجريح أو انتقاص. كما أصدرت حركة النهضة بالمناسبة بيانا عبرت فيه عن عدم رضاها عما صرح به النائب المحسوب عليها، وبينت أن ما قاله النائب الإسلامي في حقّ نائب الجبهة الشعبية لا تعبر عن توجهات حزب النهضة، وإنما هو رأي لا يلزم إلا صاحبه.

أشغالُ المجلس التأسيسي اليوم مستمرةٌ وفق الخريطة المتفق عليها، وليس هناك ما يؤكد أن المسيرةَ ستنتهي بسلام ما دام هناك متطرفون لا يمكن أن يعيشوا في أجواء الصفاء والتوافق والتنافس الشريف. فاللادينيون المتطرفون يتربصون بالإسلاميِّين، ويحسبون عليهم الأنفاس، ويترصّدونهم أن تصدرَ عنهم نأمةٌ لا تعجبهم، لكي يشعلوا النار من جديد.

إن اللادينيِّين اليوم في تونس، وأشغالُ المجلس التأسيسي مستمرةٌ على قدم وساق، يعيشون في حزن وتعاسة وضيق، وهم يتحيّنون أيّ هفوة تكون من الإسلاميِّين ليقلبوا الطاولة من جديد، ويعودوا بالبلاد والعباد إلى شقاوة التوتر والاختلاط والالتباس. 



(4)

إن حركة النهضة الإسلامية في تونس قد قدّمت الكثير من أجل أن تمر الفترة الانتقالية بسلام، حتى ينطلق الشعبُ في بناء مؤسسات دولته الديمقراطية، لكن الأعداءَ المتربصين، والمنافسين المتطرفين الفاشلين، وخاصة من اللادينيِّين، يكرهون أن يروا الشعبَ يمارس اختيارَه وسيادتَه بكل حرية، ويكرهون أن يروا الإسلاميِّين في السلطة، ويكرهون، بصفة عامة، أن يصفوَ مشربُ الحياة السياسية.

إن التطرفَ، من أيِّ جهة كان، لا يمكن أن يثمر توافقا ولا أمنا، ولا سلاما، كما لا يمكن أن يوفرَ ظروفا طبيعية ومواتية للعمل السياسي الجاد والبناء.

في جملة، التطرفُ والخرابُ توأمان.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.