الخميس، 29 يونيو 2017

داؤنا العُضال وتشخيصاتُ القُشوريّين

بسم الله الرحمن الرحيم

داؤنا العُضال وتشخيصاتُ القُشوريّين

داؤنا العُضالُ هو الاستبداد
داؤنا المزمن مكمنُه في نظامنا السياسي، الذي به قوامُ الدولة المخزنية ومؤسساتِها وسائرِ دواليب إداراتها، وتشعبات سلطاتها ومصالحها.
هذا النظامُ السياسي-للتذكير- هو الذي يُنعت، في اللغة السائرة، بالمخزني-نسبة للمخزن- والذي روحُه وعمادُه ملكية وراثية توصف بأنها تنفيذية، حيث الملك يسود ويحكم بسلطات شبه مطلقة-إن لم نقل مطلقة- لا يُراقَب، ولا يراجَع، ولا يتابَع، ولا يحاسَب، لأنه لا توجد مؤسسة فوقه، لا دستوريا، ولا قانونيا، ولا عرفيا؛ فهو فوق جميع المؤسسات، بكل أنواعها ودرجاتها، بل إن جميع هذه المؤسسات إنما هي موجودة، في أصلها وحقيقتها، لخدمة الدولة المخزنية، تنفذ الأوامر والتعليمات والتوجيهات، وتطبق السياسات المرسومة وفق استراتيجيات الدولة، وأولوياتها وأهدافها. وهذه الاستراتيجيات والأولويات والأهدافُ لا تشارك الحكومة، ولا البرلمان، ولا الوزراء، ولا المنتخبون، ولا غيرهم من الهيئات والمناصب والسلطات في الدولة، في وضعها، بل لا تعرف عنها شيئا حينما تكون قيد التخلّق والتصور والتبلور والبناء والإخراج.
في النظام المخزني، المطبخُ الرئيس والوحيد الذي تنضج فيه السياسات الكبرى، والقرارات المهمة، والمواقف الحاسمة، هو الملكُ ودائرُته الأولى من المقربين والمستشارين والخبراء.
العللُ التي تعاني منها حياتُنا عامةً، وفي المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية خاصةً، إنما هي آثار ومضاعفات ناتجة، في أصلها، عن الداء العضال، الذي ينخرنا منذ قرون؛ هذا الداء هو الاستبداد، وما يكون من كلِّ استبدادٍ ومعه وحوله من ظلم وفساد وترف وطغيان.
التشخيص الحقيقي لأسباب العلل التي نعاني منها إنما هو، عندي، في تجاوز القشور والظواهر والسطوح، والبحث في اللبوب والبواطن والأعماق.
التشخيص الحقيقي، في اعتقادي، لا بد أن ينتهيَ إلى النظام السياسي الذي يتحكم في حياتنا، إلى النظام المخزني الذي يخنق حياتنا حتى لا تكاد تجد فيها متنفسا سياسيا حقيقيا، مهما كان حجمه ومساحته.
القشورِيّون، أو القِشْرِيّون-والنسبةُ إلى المفرد فصيحة، والنسبة للجمع صحيحة- عنوانٌ يجمع، عندي، كل أولئك الذين يضربون، في تشخيصاتهم، في كل الاتجاهات، يعللون ويحللون ويبررون ويفسرون ويتوقعون، لكنهم لا يتجاوزون القشور، بل لا يبحثون عن الأسباب الحقيقية للعلل التي تعانيها حياتنا، في مختلف المجالات، إلا داخل حدود معينة، وكأنها حدودٌ مرسومة بخطوط حمراء يحرم تجاوزُها.
ومن هؤلاء القشوريّين قومٌ غير متهمين في نياتهم ومقاصدهم، ومنهم أقوام ضالعون في التزوير والتمويه والتغليط والبهتان.
منهم سياسيون مرتزقة، ومنهم إعلاميون مخزنيون مأجورون، ومنهم "بلطجية" سيّاحون في أرجاء الشبكة العنكبوتية(الشابكة/الإنترنيت)، يكذبون، ويزورون، ويلفقون، ويشككون، ويسبون، ويقذفون، لا ينفكون عن إشاعة الأباطيل، وبث الشبهات والمغالطات، بأساليب تغلب عليها لغة السوقة والعوام، وعبارات غارقة في البذاءة والدناءة والسفالة وانعدام الحياء، فضلا عن نشر الأخبار المضلِّلة، والصور المزورة، والفيديوهات المفبركة.
ومن هؤلاء القشوريّين "مثقفون" جبناء أو منافقون، أو نصابون انتهازيون، أو ملكيون "إصلاحيون" مداهنون، أو فقط رعاع غوغائيون، لا يميزون كُوعا مِن بُوعٍ في مضمار السياسة وألاعيبها، وأميّتُهم وجهلُهم يكاد يكون مطلقا في مضمار الفكر والتنظيم والنضال.
وعندي أن جميع الأحزاب المشاركة في اللعبة السياسية المخزنية مسلوكون في هؤلاء القشوريّين، ويمكن أن أستثني هنا-إلى حد ما-أحزاب فدرالية اليسار الديمقراطي(الحزب الاشتراكي الموحد، حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، وحزب المؤتمر الوطني الاتحادي)، لأن خطابهم السياسي يتجاوز الخطوط المخزنية الحمراء، ويضع اليد، في مناسبات عديدة على أصل الداء المستشري في أوصال حياتنا السياسية، ويناضلون من أجل نظام ملكي برلماني، حيث يسود الملك ولا يحكم.

الملك هو المسؤول الأول عن سياسات الدولة المخزنية
القشوريّون، في تشخيصاتهم وتحليلاتهم، لا يشيرون، ولو بإيماءة خفية، إلى مسؤولية الملك المباشرة وراء ما تعانيه حياتُنا العامة من مشاكل واهتزازات واختلالات وانحرافات وغيرها من الأمراض والعاهات.
فعند هؤلاء القشوريّين أنّ ما تشهده منطقة الريف-الحسيمة وما حولها-مثلا، من اضطرابات واحتجاجات منذ بضعة أشهر إنما سببُه الحكومة، أو هذا الحزبُ أو ذاك، أو هذه الجهةُ أو تلك، أو هذا الوزيرُ، أو ذاك الوالي أو العامل، أو جهةٌ من الخارج، أو مجموعةٌ من العملاء والانفصاليين، أو عصابات من المجرمين والمهربين، أو عملاء من الشيعة لهم ارتباط بالحشد الشعبي العراقي، أو عملاء في خدمة البوليزاريو، أو مغامرون معادون للملكية والراية الوطنية، أو سياسيون مراهقون يسعون لإشعال نيران الفتنة والنعرات العنصرية، أو غير هؤلاء من الأسباب والدوافع والغايات.
في الخطابِ القشوريّ، كلُّ الأسباب مباحة ومبرَّرَة ومسوَّغَة ومقبولة ومفهومة في تحليل ما يقع في الريف منذ أشهر ما دامت هذه الأسباب لا تقترب من حمى القصر، ولا تُحمّل الملك، من قريب أو بعيد، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مسؤوليةَ ما يجري هناك.
في الخطاب القشوري، قد يمكن الرجوع ُ إلى التفاهة والعبث للحديث عما بات يُعرف بحراك الريف، لكن ولا كلمة، بل ولا رائحة كلمة، عن الملك ومسؤوليته وراء ما يحدث.
وأسأل هؤلاء القشوريّين، أصحاب النوايا الحسنة، وهم قليل، وأصحاب النوايا السيئة، وهم كثير- أسألهم:
أليس للملك، حسب نصوص الدستور الممنوح، وحسب أعراف الدستور غير المكتوب، سلطاتٌ وصلاحيات واسعة شبه مطلقة، إن لم نقل مطلقة، تجعله طليق اليد في كل المجالات، لا تحد حركته حدود، ولا توقف مبادراته حواجز من سلطة أعلى أو ما يشبهها؟
أسألهم: هل هناك، حسب ما هو مدوَّن في الدستور الممنوح، سلطةٌ فوق الملك، يمكن أن تراجعَه، أو تراقبه، أو تحاسبه؟
أليس ينص دستورنا الممنوح في فصله الأول على ربط المسؤولية بالمحاسبة؟ فلماذا يُستثني الملك من المحاسبة، وهو يملك من السلطات والصلاحيات ما يملك؟ لماذا لا يوجد حرفٌ واحد، في مدوناتنا القانونية، ولا في اجتهاداتنا الدستورية، يُفهم منه جوازُ خضوع الملك للمراقبة والمتابعة والمحاسبة، مثلُه مثل أي مسؤول يملك صلاحياتٍ ويمارس سلطاتٍ؟
أسأل هؤلاء القشوريّين، بكل ألوانهم ومشاربهم وفصائلهم، بصراحة لا تعرف التلعثمَ واللف والدوران: أليس هذا الامتيازُ القانوني الذي يتمتع به الملك في نظامنا السياسي، والذي يرفعه فوق كلِّ المؤسسات، ويجعله بمنأى عن النقد والمراجعة، يؤكد الطابعَ الاستبدادي للدولة المخزنية، التي يسود فيها الملك ويحكم، والتي تكون فيها جميعُ المؤسسات والإدارات والهيئات، المنتخبة وغير المنتخبة، في خدمة الملك، تأتمر بأوامره، وتتبع سياساته، وتنفذ قراراته؟
إن لم يكن رجوعُ أمور الدولة إلى رجل واحد، لا يخضع لمراقبة ولا محاسبة، استبدادا، فما هو الاستبداد إذن؟
الملك يتحكم في كل دواليب الإدارة من طريق وزارة الداخلية، التي تدين له بالولاء المطلق، وإلى الملك وحده ترجع الكلمةُ الفصل في تعيين المسؤولين الكبار بهذه الوزارة.
كيف يمكننا أن نصدق-إلا إن كنا بلا عقول-أن الملك لم يكن يعرف حقيقةَ ما يجري في منطقة الريف منذ اندلاع شرارة الحراك الأولى منذ بضعة أشهر؟
هل يمكن أن يصدق عاقل أن الملك-عندما نقول الملك، المقصود طبعا المؤسسةُ الملكية بكل طاقاتها وخبرائها ومستشاريها ومخابراتها وغير أولئك من أذرعها الكثيرة القوية النافذة- كان يحتاج أن تمر ثمانية أشهر منذ بداية احتجاجات حراك الريف حتى يعرفَ أن الحكومة لم تقم بواجبها، وأن بعض الوزراء لم يفوا بالتزاماتهم، وأن تنفيذ مشاريع "منارة المتوسط" عرف تعثرات أثرت في مواعيد الإنجاز؟
أليس الملك هو رئيس الدولة؟
أليس هو رئيس مجلس الوزراء؟
أليست الحكومة تعمل تحت إمرته؟
أليس الملك، دستوريا وعرفيا ومخزنيا، هو المتحكم في كل خيط من خيوط عمل الحكومة؟
أليس ما يصدر عن الحكومة من قرارات ومراسيم ومواقف وبيانات، يمر، بالضرورة، على يد الملك، بما هو الرئيس والمسؤول الأول عن شؤون الدولة المخزنية؟
كيف يمكننا أن نصدق-إلا أن نكون بلا عقول- أن ما يجري في منطقة الريف، في هذه الأيام، من قمع واعتقالات وتدخلات همجية عنيفة، لا يتحمل فيه القصرُ أي مسؤولية؟
من سيصدق أن قرارات وزير الداخلية والولاة التابعين له في الأمن والإدارة، بقمع المظاهرات والمسيرات، واعتقال النشطاء، ليس بضوء أخضر من القصر؟
من سيصدق، في نظامنا المخزني الاستبدادي القروني، أن وزير الداخلية عندنا يتصرف بأمر من رئيس الحكومة؟
من سيصدق أن السيد سعد الدين العثماني هو الآمر الحقيقي بقمع تظاهرات حراك الريف؟
من سيصدق أن الولاة يتصرفون وفق القانون، ووفق ما يعطيهم هذا القانون من سلطات، وما يحدده لهم من صلاحيات؟
من يصدق-إلا البُلْه الحُمْق- أن وزير الداخلية لا يأتمر بأوامر القصر؟

كلمة عن "غضبات" الملك
بعد اجتماع مجلس الوزراء، الذي طال انتظاره، برئاسة الملك بالبيضاء يوم 25 يونيو، روّج المروّجون أن الملك قد عبر، في هذا الاجتماع، عن غضبه من بعض الوزراء، الذين لهم علاقة مباشرة بمشروعات "منارة المتوسط"، وأنه دعا هؤلاء الوزراء إلى إيلاء كل جهودهم واهتمامهم للوفاء بالالتزامات التي وقعت عليها وزاراتهم.
في اعتقادي أن الذين يروجون، بين الحين والآخر، هذا الحديث عن "غضبات" الملك، إنما يسيئون إلى الملك من حيث يظنون أنهم يحسنون.
إن هؤلاء، بالحديث عن غضبات الملك، هنا وهناك، على هذا المسؤول أو ذاك، من هذا التصرف أو ذاك، يسيئون إلى الملك، ويفضحون النظامَ المخزني، لأنهم يجعلون مصالح الناس، وتدبيرَ شؤون البلاد والعباد، رهنا بحالات شخصية مزاجية طارئة؛ فالغضب حالة نفسية مزاجية استثنائية، تكون وراءها ظروف وعوامل غير مستقرة، يتعذر معها، في معظم الحالات، الرؤيةُ الواضحة والتشخيص السليم.
فالقول بأن الملك قد غضب، مثلا، من بعض الوزراء يعني، من بين ما يعنيه، أن الملك لم يكن له علم-وهو رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء-بما يجري، وهذا، في الحقيقة، غير صحيح، لأن الملك-أعني دائما المؤسسة- يعرف الشاذة والفاذة عن عمل الوزارات، بل له سلطة مطلقة في مراقبة أعمالها ومحاسبة مسؤوليها.
والحديث عن غضب الملك على فلان أو فلان، يعني أيضا أن تدبير الشأن العام وما يتعلق به من سياسات وقرارات قد يكون خاضعا لحالات مزاجية تلمّ بالملك، في هذا الظرف أو ذاك، وهذا يخالف ما ينبغي أن تجريَ على الأمور في الحالات العادية، حيث تكون المواقف والقرارات والسياسات مبنية على القواعد المعتبرة في تدبير السياسات وتسيير الإدارات واتخاذ القرارات؛ فالقواعد المعتبرة في عمل رجل الدولة وسلوكاته وقراراته وتدبيراته ليس فيها مكان للمزاج والغضب والظرف الطارئ والحالة الاستثنائية.
والحديث عن "غضبات الملك"، هنا أو هناك، يسيء للنظام المخزني، لأنه يقدمه، في وجهه الحقيقي، على أنه نظام استبدادي، تسير في أمور السياسة وفق هوى الحاكم ومزاجه وانفعالاته، لأن الحاكم المستبد يعرف، بحكم نفسيته، أنه أكبر من المتابعة والمحاسبة، ومن ثَمَّ فإن مزاجه وذوقه وتقلباتِ أحواله ومشاعره وانفعالاته تصبح من القواعد والمراجع المعتبرة في تدبير الشأن العام.
ليس هناك اعتبار للمزاج والذوق والعاطفة والمشاعر الشخصية في تدبير شؤون السياسة والإدارة في الدول التي يحكمها قانون ومؤسسات، والتي تستوجب فيها ممارسةُ السلطة والمسؤولية، بقوة القانون، محاسبةً ومراقبةً ومتابعة، والتي لا يرجع فيها القرارُ إلى شخص واحد، مهما كان صلاحُه وعلمه وذكاؤه وتجربته.
السياسات والقرارات في دولة القانون والعدل والحقوق لا تكون مرهونة بأمزجة الأشخاص ونفسيات الأفراد، بل بقواعد السياسة الرشيدة، التي يحكمها، أولا وأساسا، القانون واحترام صلاحية المؤسسات واستقلالها، والتي ترتبط فيها المسؤولية بالمحاسبة ارتباطا لازما وواجبا وحقيقيا.
وبعد
فالملك، شاء القشوريّون، من المخزنيين وغير المخزنيين، أم أبوا هو المسؤول الأول عن سياسات الدولة وما يقع في هذه السياسات من انحرافات وإخفاقات وتجاوزات وتعثرات.
نعم، عندنا حكومة، ووزراء، وبرلمان، ومسؤولون كبار، لكنهم، في نظامنا السياسي المخزني، مسخرون لخدمة الملك وسياساته، لا يملكون حرية التصرف واتخاذ القرار إلا بضوء أخضر من القصر.
هذه هي مصيبتنا السياسية؛ هذا هو مكمن دائنا العضال المزمن.
المؤسساتُ ليست حرة ولا مستقلة؛ فالجميع مقيد بالمؤسسة الملكية، تابع لها، وسائر في ظلها، وعامل وفق تعليماتها وأوامرها وتوجيهاتها.
اقرأوا نصوص الدستور الممنوح، أيها القشوريون؛ كلُّ خيوط نظامنا السياسي تنتهي إلى المؤسسة الملكية، وهذا ما يجعل صلاحياتِ المؤسسات الأخرى فارغة من أي معنى، بل يجعلها فضاء تتردد فيه أصداء التعليمات العليا.
مصيبتنا التي أعيت المداوين أنّ الملك، الذي يعطيه الدستورُ والعرف والتقاليد والقرون الجبرية المتطاولة، سلطاتٍ تنفيذية شبه مطلقة-إن لم تكن مطلقة- تجعل جميع مؤسساتِ الدولة وإداراتها تابعة له، ورهن إشاراته وتعليماته، وخادمة لسياساته وبرامجه ومخططاته-
قلت مصيبتنا أن الملك، الذي يسود ويحكم بسلطات تنفيذية واسعة وصلاحيات تقريرية كبيرة، لا يُحاسبُ ولا يُراجع، ولا يُراقب. فجميع المسؤولين معرّضون للمساءلة والمراجعة والمحاسبة، إلا الملك!!
لقد ألغى دستور 2011 الممنوح قداسة الملك في اللفظ وأبقى عليها في الواقع والممارسة والطقوس.
منْ يملك أن يسائل الملكَ عن سياساته وقراراته؟
من يملك من المسؤولين أن ينتقد الملكَ ويقوِّم أعمالَه بما هو رجلٌ سياسي يملك صلاحياتٍ ويمارس سلطاتٍ ويتخذ قرارات؟
من يملك من هؤلاء المسؤولين أن يقول للملك: يا سيدي، مع الاحترام الواجب لك، لقد أخطأت هنا، ولم تحسن هناك، وتوهمت في هذه المسألة، وغلطت في هذا التقدير؟
هذه هي مصيبتنا، التي تبدأ من معالجتها كلُّ العلاجات.
هذا هو داؤنا العضال، الذي تهون بإزائه جميع الأدواء.
و(إنا لله وإنا إليه راجعون).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

الجمعة، 16 يونيو 2017

عمارةُ المساجد باتتْ مشروطةً بترخيص المخزن!!

بسم الله الرحمن الرحيم

عمارةُ المساجد باتتْ مشروطةً بترخيص المخزن!!

(1)
الدافع الأساس إلى هذه المقالة هو قرار السلطات المخزنية بمنع المسلمين من الاعتكاف ببيوت الله في هذه الأيام الفاضلات من العشر الأواخر من شهر رمضان.
وقد دأب النظام المخزني عندنا على استغلال الدين استغلالا في غاية الصفاقة والوقاحة والجراءة، لإخضاع الناس وجعل أمورهم القلبية الروحية الدينية تحت رقابته ووصايته؛ فلم يكتف الاستبداد عندنا بالقمع والمنع والحصار والظلم في شؤون الدنيا وما يتعلق بها من معاملات وحقوق وحريات، بل تعداها إلى أمور المسلمين الروحية، حتى وصل الأمر إلى أن أصبحت العبادة-والاعتكاف في المساجد، في العشر الأواخر من رمضان، من العبادة- تحتاج إلى رخصة من السلطة المخزنية، وإلا فلا عبادة، ولا اعتكاف!!
منعُ الناس من الاعتكاف في بيوت الله، على سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هو ظلم صراح، لا يملك أحد- مهما أوتي من حيل وبراعة في اللف والدوران، والتأويل وصناعة العلل، وتلفيق الأدلة- لا يستطيع أحد أن يجد له مسوغا مقبولا ومعقولا ومفهوما، شرعا وقانونا.
إنه الاستبداد في أشنع معانيه وصوره وممارساته.
إنه التسلط والطغيان، ولا شيء غير التسلط والطغيان.
إنه الظلم الصريح، ولأمّ المعترض الهبل.
إنه المخزن في وجهه الكالح المقيت، و(إنا لله وإنا إليه راجعون).

(2)
لقد اعتاد النظام المخزني، منذ سنوات، على منع المسلمين من الاعتكاف. وفي مواجهة هذا المنع الظالم، الذي ليس له أي مسوغ من شرع أو قانون، إلا التحكم والتسلط والتجبر، لم يكن هناك من يحتج، ولا من يعارض ويرفض، ولا من يدافع عن حقوق المسلم في العبادة، وعن حريته في ممارسة شعائر دينه بلا إكراه ولا وصاية ورقابة، إلا أصوات قليلة معروفة، يتقدمها صوت جماعة العدل والإحسان، التي ما فتئت تدين بأعلى صوت هذا الظلم المخزني الفاضح الشنيع، ولا من يسمع، ولا من يجيب!
فأين هي الهيئات الحقوقية، التي عرفناها مدافعة شرسة عن حقوق الملحدين واللوطيين والعواهر والسكارى وغيرهم من ذوي العاهات السلوكية والنفسانية والاجتماعية، باسم الحريات الفردية؟
أين هم أولئك الذين عرفناهم، باسم الحداثة والحريات وحقوق الإنسان، يحصون على المسلمين أنفاسهم، في مقالاتهم وخطبهم وتصريحاتهم، ويقعدون لهم كل مرصد، ولا يتركون أي شاذة ولا فاذة توحي لهم بشبهة، أو يفهمون منها فكرة لا تعجبهم، أو يؤولونها بحسب قناعاتهم وخلفياتهم الإيديولوجية اللادينية، إلا وأقاموا الدنيا بالصياح والاتهام والإدانة، والمطالبة بنصب المشانق لمن يصنفونهم، زورا وظلما وعدوانا، في أغلب الحالات، في التكفيريين، والإرهابيين، وأضافوا وصف الداعشيين، بعد ظهور (داعش)، الكلمة التي تختصر (الدولة الإسلامية في العراق والشام)؟
أين هم العلماء والفقهاء والخطباء وأهل الفكر والثقافة، من الحقوقيين والسياسيين؟
أين هم المرتزقة الذين يتعيّشون بشعارات الحقوق والحريات والحداثة، وما ثَمّ حقوق ولا حريات ولا حداثة، وإنما هي واجهات خادعات كاذبات يسكن وراءها تجارةٌ رابحة تدر على مزاوليها ريعا لا ينضب معينه؟
أين هم المدافعون عن حقوق الأقليات الدينية؟ ماذا يقولون عن حقوق غالبية المسلمين، الذين يحرمهم المنع المخزني حقهم في عمارة بيوت الله في الليالي الفاضلات من شهر رمضان المعظم؟
أين الحداثيون اللادينيون، وأين جمعياتهم، ومنظماتهم، وجبهاتهم، وائتلافاتهم، التي تملأ الدنيا زعيقا عندما يتعلق الأمر بالعواهر والشواذ والسكارى وغيرهم من المبتلين بالخبائث والرذائل والموبقات؟
أين هم اليوم-وأبوابُ المساجد توصد في وجه القاصدين إلى عمارتها تعبدا وتقربا إلى الله، وذلك حقهم، بكل الشرائع والقوانين والمبادئ والقيم- أين هم المدافعون عن مهرجانات الفسق والفجور والعهر، باسم الفن والحداثة، والفن والحداثة بريئان من منكراتهم وسفالاتهم وانحطاطاتهم وبذاءاتهم؟
أين هم اليوم-والسلطات المخزنية تقتحم المساجد لإخراج عمّارها منها بغير حق- أين هم المدافعون عن كل الحقوق، حقيقية كانت أم باطلة، قانونية معتبرة أم مختلقة لاغية، شريفة سامية أم وضيعة منحطة، إلا حقوق المسلمين الحريصين على إقامة دينهم، قرآنا وسنة، فرضا ونفلا، سلوكا وأخلاقا، وسمتا وعفة؟
لماذا تستثنى حقوق المسلمين المتشبثين بدينهم؟
لماذا يصيب القومَ السعار إذا مُست ما يعتقدون أنها حقوق اللادينيين، ويصمُتون صمت القبور إذا ما انتهكت حقوق المسلمين، كما هو حاصل اليوم مع منع المسلمين من الاعتكاف ببيوت الله، في شهر فضيل، وفي أيام مباركات طيبات؟
(3)
أنا لا أطرح مثل هذه الأسئلة لأطلب جوابا عنها، وإنما أطرحها لأؤكد هذا الحضيض الذي وصلنا إليه في شأن الحقوق والحريات.
أما الأجوبة على الأسئلة التي طرحتها، وعلى أمثالها مما لم أطرحه، فهي معروفة يجمعها عنوان واحد موحد: الحقوق والحريات التي يتحدث عنها المرتزقة والمأجورون والمتعصبون من أصحاب الإيديولوجيات، ويدافعون عنها، إنما هي، في أساسها، حقوق اللادينيين وحرياتهم.
خذ، مثلا، خطبة الجمعة التي احتج عليها السيد ناصر الزفزافي المظلوم-فرّج الله عنه وعن إخوانه المظلومين- وأصحابه من المسلمين في مسجد محمد الخامس بالحسيمة يوم 26 ماي الماضي؛ فلولا هذا الاحتجاج العلني، الذي بلغ خبره إلى الأقاصي بفعل وسائط الاتصال الحديثة، لم يكن أحد ليتحدث عن منابر الجمعة التي يستغلها النظام المخزني، لفرض سياساته، وللجم العامة أن تخوض في الشأن العام، وجعل الناس تنقاد وتسلم وتنحني، وهي مكرهة مخدرة بفعل المقدس الديني الذي دنسه الاستغلال المخزني الظالم، وحوله إلى سيف مسلط على الرقاب للقمع والمنع والإسكات.
ما كان للرأي العام أن يعرف أن الدولة كانت دائما ضالعة في استغلال المساجد لحساباتها السياسية، لولا ذلك الاعتراض الزفزافي(نسبة إلى ناصر الزفزافي الرجل الشهم) على تلك الخطبة المخزنية البئيسة المخزية الضاربة في حضيض معاني القمع والتسلط والإكراه.
خذ مثلا ثانيا ما حدث في دوار الشيخ، جماعة العامرية بإقليم قلعة السراغنة، حينما أقدمت السلطة المخزنية، في أبريل الماضي، على إعفاء الخطيب (سعيد الصديقي)، الذي كان محبوبا ومقبولا عند جميع الناس بشهادة الجميع، وتعويضه بخطيب آخر. وحينما قام السكان بالاحتجاج والمطالبة بإرجاع الخطيب المبعد، ردت السلطات باللغة التي تجيدها جيدا، وهي القمع والمنع، وهو ما أدى إلى اعتقالات ومحاكمة صورية انتهت بإصدار أحكام قاسية ظالمة تراوحت بين سنة وثلاثة أشهر حبسا نافذا، فضلا عن الغرامات المالية.
فأين إدانة هذا الظلم الصارخ في حق ساكنة العامرية في خطابات الحقوقيين وبياناتهم وتصريحاتهم؟
أين إدانة استغلال المخزن لمنابر المساجد لحساباته السياسية، التي لا علاقة لها بقداسة الدين وسمو مبادئه وقيمه؟
أين هو الصوت المدافع عن حقوق هؤلاء المظلومين في مواجهة بطش السلطة وطغيانها؟
وكيف يمكن أن يفرض على الناس إمام وهم له كارهون؟
أين هم فقهاء المذهب؟ ماذا يقول الإسلام في صلاة رجل يؤم الناس وهم له كارهون؟
كل هذا لا يعني شيئا عند المخزن، لأن الغاية هي الإرهاب والقهر والإخضاع والإسكات.
لقد أبعدت السلطات المخزية كل إمام أو خطيب أو واعظ تشتم فيه رائحة الانتماء إلى فكر أو تنظيم أو اختيار سياسي لا ترضى عنه الدولة؛ وما يزال هذا دأبها حتى حولت المساجد والمنابر إلى أبواق خانقة لا تطاق، وإلى وسائل للجم والسوْق والاستبداد.  
ثم ماذا بعد؟ وإلى متى سيستمر الوضع على هذه الحال؟ ألا يعتبر الظالمون المستبدون بالتاريخ البعيد والقريب؟ ألا يخافون حكم المنتقم الجبار؟ ألم يبلغهم أن (الظلم ظلمات يوم القيامة)، وأن (دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب)، و(أن الله تعالى يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته)؟

(4)
يا مجتمعنا "المدنيّ" المتحيز البئيس، والله لن تكون على شيء من الحق ما دمت ساكتا عن الدفاع عن حقوق المواطنين، كل المواطنين، بلا تعصب، ولا فرز ولا تصنيف ولا تمييز.
يا أيها الذين يضحكون في وجه جماعة (العدل والإحسان)، في لقاءات المجاملات والعلاقات العامة، لستم على شيء، مهما قلتم عن أنفسكم، وقال الناس عنكم، ما دمتم تستثنون حقوق المسلمين من اهتماماتكم بدافع إيديولوجي معروف، ولغايات سياسية باتت مفضوحة.
عمارة المساجد، بلا وصاية ولا رقابة، حق من حقوق العباد، يا من لا يعرفون للمساجد معنى ولا حرمة ولا قيمة، في ثقافتهم ونضالهم ومواقفهم.
يتحدث بعضهم عن تحييد المساجد في الصراعات السياسية؛ طيب، ونعم وألف نعم؛ فابدأوا إذن بمن بيده السلطة والإشراف والتسيير والإدارة والتدبير لشؤون أكثر من أربعين ألف مسجد ومصلى في البلاد.
اِبدأوا، إن كنتم جادين، بمن يستغل هذه المساجد على طول السنة، وفي كل المناسبات، السياسية وغير السياسية، لفرض خطاب الدولة السياسي وتوجهها ورؤيتها واجتهادها.
اِبدأوا بمن يتحكم في رقاب الأئمة والقيمين والخطباء والوعاظ والمرشدات والمرشدين، ويوجههم حسب هواه السياسي، واستراتيجيته فيما يخص ما يسمونه بالحقل الديني.
اِبدأوا بمن له التصرف المطلق في أموال الأوقاف، بلا رقيب ولا حسيب، ولا مُراجع، ولا متابع، إلا ما تخبرنا به الدولة، حسب ما تراه، وفي الوقت الذي تختاره، وبالمعلومات المنتقاة التي يراد لها أن تصل إلى الناس.
اِبدأوا، أيها الغيورون، كذبا ونفاقا، على قداسة المساجد، بسياسات المخزن فيما يسمونه بالحقل الديني، ولتكن عندكم الجرأة في المساءلة والمتابعة وطلب المراقبة والمحاسبة.
لماذا تتجرأون على الخطباء والوعاظ المأمورين المنفذين، ولا تقتربون من حمى المخططين الآمرين؟
لماذا، أيها الجبناء، تواجهون الضعفاء، وتخشون الأقوياء؟
لماذا تروجون لخطابات النفاق والتدليس والمغالطة والتخليط، وتتحاشون خطابات الحق والمسؤولية والصراحة والوضوح؟
أليست الدولة المخزنية اليوم هي المسؤولة الوحيدة، بما في يدها من سلطات مطلقة لا يشاركها فيها أحد، عن استغلال المساجد خاصة، والإسلام عموما، لفرض هيمنتها، وسجن المواطنين في مضايق سياساتها، وزنازين مخططاتها، ومطامير حساباتها وقراراتها؟
أليس الدولة المخزنية هي المسؤولة الوحيدة عن الدجل الذي يخنق فضاءات بيوت الله باسم الأئمة مالك والأشعري والجنيد، وهؤلاء الأئمة الأعلام، رضوان الله عليهم، برآء من هذا المسخ الذي يتحكم فينا باسمهم؟
المخدرات والخمور والدعارة والقمار وخبائث أخرى صارت من علامات مجتمعنا المغربي المسلم؟ فمن المسؤول عن انتشار هذه الخبائث؟ وأين الذين يدّعون أنهم مسؤولون عن الأمن الروحي للمغاربة؟
ما معنى إمارة المؤمنين في الواقع، والدولة المخزنية تفرض ضرائب على المحرّمات، بل إن الخمر، وهي أم الخبائث، ينظمها في مجتمعنا المغربي المسلم ظهير صادر عن الديوان الملكي؟ هذا معناه أن الدولة مع وجود هذه المحرمات وانتشارها ما دامت لها مصالح فيها، اقتصادية وسياسية واجتماعية، وليذهبْ المذهب المالكي والأمن الروحي للمغاربة إلى الجحيم.
وبعد، (فقد بلغ السيل الزُّبى، وجاوز الحزامُ الطُّبْيَيْن)، وما سياسات الترقيع والتنكيل والترهيب وتكميم الأفواه إلا برهان صارخ على العجز والفشل والتحير.

نسأل الله، جلت عظمته، في هذه الأيام والليالي الفاضلات الطاهرات أن يجنبنا أسباب الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن ييسر لنا أسباب الصلاح والفلاح والتحرر من قبضة الاستبداد الغاشم، وأن يقضي بيننا وبين نظامنا المخزني بالحق، إنه، تعالى ناصر المستضعفين والمظلومين، وقاهر الجبارين الظالمين المترفين الفاسقين، آمين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

الأربعاء، 29 مارس 2017

(ومَنْ لا يُكرِّمْ نفسَه لا يُكَرَّمِ)

بسم الله الرحمن الرحيم

(ومَنْ لا يُكرِّمْ نفسَه لا يُكَرَّمِ)

(1)
عنوانُ هذه المقالة هو عَجُز بيت من معلقة الشاعر الجاهلي الحكيم زهير بن أبي سُلْمَى، وصدرُه: (ومنْ يغتربْ يحسبْ عدوّا صديقَه).
ومغزى هذا العنوان أنَّ مَن لم يجتنب أسباب الهوان والمذلة والاستخذاء، فلا ينتظرْ مِن الناس أن يُعزّوه ويرفعوه ويكرّموه؛ مَن رضي بالذّل منهاجا في عمله السياسي، فلْينتظرْ، في دولة المخزن، المزيدَ من ألوان المهانة وأشكال الاحتقار.
فحزبُ العدالة والتنمية اليوم يجني ثمارَ طريق الذّلة والصَّغَار التي اختار أن يسلكها في مشواره السياسي تُجاه النظام المخزني؛ فقد بدأ هذا المشوارَ بالخضوع والانقياد والتسليم، ولم يكن عنده إزاء المخزن إلا السمعُ والطاعةُ، مهما كانت الظروف والمناسبات.
لقد انبنت العقيدةُ السياسية لحزب العدالة والتنمية، وخاصة بعد التبرؤ من الشبيبة الإسلامية وتأسيس جمعية "الجماعة الإسلامية" سنة 1983، التي تحوّلت فيما بعد إلى "حركة الإصلاح والتجديد"-لأن أبرزَ قيادات الصفّ الأول في حزب العدالة والتنمية هم مِن خريجي هذه المدرسة-على الانصياع المطلق لإرادة المخزن، مهما كانت مطالبُه وأهواؤه وأوامرُه.
أذكّر بهذه الحقيقة من التاريخ القريب، التي كثيرا ما ينساها الناس، وخاصة من الشباب الحديث الذي فتح عينيه البارحة فلم ير إلا السيد بنكيران يصول ويجول بخطاباته النارية ضد "التحكم" و"العفاريت" و"التماسيح". وإني أدعو وأتحدّى كلَّ من يرفضُ أو يشكّك أو يعارضُ هذه الحقيقة أن يأتيني ولو بشذْرة مِن جملةٍ أو موقف أو خطاب أو قرار من أدبيات إسلاميّي حزب العدالة والتنمية منذ 1983 تُشتمّ منها رائحةُ الاعتراض على المخزن، أو السيرِ في غيرِ اتجاه هواه، أو رفضِ شيء مما كان يفرضُه عليهم.
هذا ما يشهد به التاريخُ الحديث القريب على حزب العدالة والتنمية، الذي نراه اليوم ينزل إلى حضيض العمل السياسي، حينما قبل أن يرميَ كلَّ المبادئ والقيم والشعارات المعسولة والتصريحات العنترية وراء ظهره، وأن يخضع لإرادة المخزن، ويهرول إلى حجز مقاعده في حكومة المخزن.
لقد كان بعضُ الناس يؤمّلون بعضَ الخير، وينتظرون من حزب العدالة والتنمية أن يفيَ ببعض وعوده والتزاماته السياسية، وخاصة بعد مخاض الربيع العربي سنة2011، لكن ظنَّ الجميع قد خاب، بعد إعلان السيد العثماني خضوعَه الكلي للمخزن، وقبولَه بكل الشروط والإملاءات لتكوين الحكومة الجديدة.
إن إعلان 25 مارس بميلاد الأغلبية الحكومية كان، في اعتقادي، بمثابة الصعقة التي أيقظتْ ونبّهتْ كلَّ مَن كان ما يزال لديه شكٌّ في مخزنيّة حزب العدالة والتنمية، وفي عدم أهليّة قيادتِه مِن الصف الأول للارتقاء بالعمل السياسي إلى المستوى الذي يليق بالقيم الديمقراطية الأصيلة، وبما يعلنه الحزبُ من مبادئ، وبما يرفعه من شعارات، وبما يبثّه من خطابات، وبما ينشره من أدبيّات.
لقد سقط القناع بإعلان 25 مارس، ولم يعُدْ أحدٌ من العقلاء الفضلاء ينخدع بخطابات "المظلومية"، التي طالما احتمَى بها حزبُ العدالة والتنمية في مواجهة خصومه، وكذلك في مواجهة ما كان يُوجَّه له من طعون وانتقادات، وخاصة فيما ينصَبُّ منها على اجتهاده السياسي وإيديولوجيته المخزنية.
وإني أذكّر دائما بأنه ليس عندي أيُّ مشكل مع الأشخاص، ولا مع ما يعتقدون وما يضمرون؛ فكل امرئ رهينٌ بعمله، حسب نيته ومقاصده، والله هو الذي يتولى السرائر؛ فلا شأن لي بضمائر الناس، وإنما شأني بما يكون منهم مِن سلوكات ومواقف وقرارات يمكن معاينتُها وقراءتُها وتفسيرُها وتقويمُها.
فأنا هنا أقرأُ وأقوّم وأحكمُ على مواقفَ واختيارات وقرارات باتت منشورة ومعروفة، ولا أحكمُ على مغيَّبَاتِ الصدور، ومُعتقدَات القلوب. أذَكّر بهذا حتى يترسَّخَ ويصبحَ واضحا عند جميع القراء.
أنا، حينما أصنّف حزب العدالة والتنمية في الأحزاب المخزنية، فبناءً على معطيات مَعِيشَة، وأدلة واضحة، ومواقف صريحة، وخطابات قاطعة، وليس بناء على موقفي من هذا الشخص أو ذاك، وإن كان لي رأيي في بعض أفراد قيادة الصف الأول في حزب العدالة والتنمية، الذي كوّنته مِن معرفتي بهم في فترة ماضية، ومما خَبَرته، بالتعامل المباشر، مِن بعض خصالهم ومبادئهم ومواقفهم وتصرفاتهم.

(2)
بعد هدوء عواصفِ الربيع العربي التي عرفها المغرب في سنة 2011، وبعد فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات نونبر2011 بالمرتبة الأولى، سرى في الناس أثرُ مُخَدِّرٍ قويٍّ، بمساعدة وجُهدٍ كبيرين من الدعاية المخزنية التي كانت ترمي إلى طمأنة الرأي العام والرجوع بالشارع إلى الهدوء، فأسلمَهم لنوم عميق استغرق خمسَ سنوات، تخللته أحلام عامرة بالأماني المعسولة. ولم يكد ظلامُ الليل ينقشع حتى انقلبت الأحلامُ اللذيذة إلى كوابيس مرعبة منفّرة، قد جمّعت مِن البشاعَات والنتانات ما لا يطاق.
لا أشك أن كثيرا من الناس قد انخدعوا بالمرجعية الإسلامية لحزب العدالة والتنمية، كما انخدعوا بالخطابات العاطفية المدغدِغة للمشاعر، والموَلِّدة للآمال والأحلام، وخاصة خطابات السيد عبد الإله بنكيران.
في الأثر: (مَن خدَعنا بالله انخدعْنا له). وهذا لا يعني إطلاقا التشكيكَ في نوايا الناس، والحكمَ على مطويات ضمائرهم ومعتقداتهم. فلست أقصدُ أن قيادة حزب العدالة والتنمية كان تستغل، عن قصد مبيَّت، عواطفَ الناس الإسلامية، لتركبَها لبلوغ أهداف حزبية أو ذاتية.
مقصودي بانخداع الناس بالخطاب الإسلامي، أو بالخلفية الإسلامية لحزب العدالة والتنمية، أن الناس كانوا يتصورون أن وجود الحزب في الحكومة، أو وجودَه، على الأقل، قريبا من المصادر العليا للقرار في البلاد، سيكون له انعكاسات إيجابية في حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأن الحزب-كما يتصور عامة الناس الذي تعاطفوا معه وصوتوا لصالحه-ذو مرجعية إسلامية، ويده نظيفة لم تتلبس بشبهة من شبهات استغلال المناصب، ونهب المال العام، والحرص على المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة.
والحقيقةُ التي كان على الحزب أن يبيّنها للناس فلمْ يفعلْ، هي أن الذي يقعُ بين أضراسِ النظام المخزنيِّ لا ينفعه إيمانٌ ولا إسلام، وإنما النافعُ الصالح المُرْبح مع النظام المخزني هو الولاء والسمع والطاعة والانقياد المطلق.
هذا هو الأساسُ الذي انبنى عليه الاختيارُ السياسي لحزب العدالة والتنمية منذ أكثر من ثلاثين سنة. وقد اجتهد بعضُ قادته، كالسيد سعد الدين العثماني، والسيد محمد يتيم، في كثير من كتاباتهم، منذ وقت مبكر، أن يجدوا لمراجعاتهم السياسية مسوّغاتٍ فقهيةً، فراحوا يبحثون في فتاوى القدماء، ويَنْظُرون في الأدلة التي بنى عليها العلماء بعضَ اجتهاداتهم السياسية في شأن علاقة الحاكمين بالمحكومين، وفي شأن الموقف الشرعي من الأنظمة الجائرة، فاجتمع بين أيديهم مِن ذلك متْنٌ لا بأس به، اتخذوه تُكَأَةً اعتمدوا عليها في تبرير انصياعهم للمخزن، والتحوِّل مِن اتجاههم الأول، الذي نبَت في أحضان (الشبيبة الإسلامية)، إلى اختيار المشاركة في اللعبة المخزنية بلا قيد ولا شرط.
لقد بالغ هؤلاء المحلّلون-بمعنى المُحلِّلِ الذي يتزوّج المطلقَةَ ثلاثا حتى يحلّ لها الرجوعُ إلى مُطلِّقِها الأول، أيْ الذي يجعل ما كان محرَّما بالطلاق البائن حلالا-مِن حزب العدالة والتنمية وتعسّفوا بعضَ التعسف في إسقاط فتاوى القدماء واجتهاداتهم الفقهية على واقعنا السياسي، فكان مِن سلوكهم هذا أنهم رأوا الانبطاحَ السياسيَّ وما يكون معه مِن ذل وهوان اختيارا راجحا على البقاءِ في دائرة المعارضة ومواجهة النظام المخزني، ورفضِ الفساد والاستبداد.
كان هذا في بدايات تحوّلهم. ومع الأيام، وبعد سنواتٍ من الترويض في الطاحون المخزني، أصبحوا يرون أن الشرعية كلَّ الشرعية إنما هي للنظام، وأن المصلحةَ الراجحة تقتضيهم أن يكونوا دائرين مع المخزن، حيثما اتجه، وكيفما فعَل.
وقد ترجمَ حزبُ العدالة والتنمية، ووراءه (حركة التوحيد والإصلاح)، ووراء الجميع، مِن قبلُ، (حركة الإصلاح والتجديد) و(رابطةُ المستقبل الإسلامي)، هذه الاستفاداتِ الفقهيةَ مِن اجتهادات القدامى إلى برنامج سياسي متكامل، يَدين في روحه بالولاء التام للدولة المخزنية. ومِنْ رَحِم هذا البرنامج، خرج الجيلُ الثاني والثالث من قيادات الحزب وأطره؛ أما مَنْ شذَّ، فهو من الاستثناءات التي تؤكد القاعدة.  
إن الذين انخدعوا بالخلفية الإسلامية لحزب العدالة والتنمية، من عامة الناس، لا يعرفون كثيرا في هذا "التحليلات" الفقهية، والتبريرات المقاصدية، التي ما فتئ يستند إليها منظّرُو الحزب، كالسيدين العثماني ويتيم، في إيجاب السمع والطاعة، في المنشط والمكره، للنظام المخزني الحاكم.
وهل مِن المقاصد الشرعية أن يكون مِن الحزب الخضوعُ التام، لا لعلَّةٍ إلا لأن في عدم الخضوعِ توهمَّ احتمالِ التصادم مع النظام، أو توهُّمَ احتمالِ غضبه وردّه القاسي الذي لم يعودوا مستعدِّين لتحمُّله، أو توهُّمَ احتمالِ الرجوع إلى النسيان ومعاناة الوحشة بعد أن ذاقوا نعيم القرب والأنس؟
هل مِن المصلحة الراجحة القبولُ بالهوان والذل مِن أجل تثبيت المكتسبات المحقَّقَة؟ وعن أيِّ مكتسبات يتحدثون؟
وأين هو وجهُ المفسدة اليوم في مقاومةِ الاستبداد والفساد؟
وأين هي المصلحةُ في التطبيع مع المفسدين، و"تحليل" سياساتِ المستبدِّين؟
نعم، في هذا المستوى يظهرُ الاستغلالُ السيء للدّين، لأنه استغلالٌ يزيد من تنويم العامّة وتخديرهم، ويجعلهم لُقَما سائغة في حلوق أهل الجور والتحكم والفساد.

(3)
لم يكد خبرُ الإعلان عن مكونات الحكومة المخزنية العثمانية-نسبة إلى الدكتور سعد الدين العثماني-ينتشرُ حتى انطلقَ "المحلّلون"-مِن تحليل الحرام، كما سبقت الإشارة-مِن الأنصار الموالين في تسويغِ ما وقع وتبريره، وتقديمِه على أنه عمل سياسيٌّ طبيعيٌّ ومشروعٌ، وأنه ليس مِن الانبطاح والتخاذل والقبول بالذِّلة في شيء.
فمِن قائل-من هؤلاء "المحللين" المسوِّغين الموالين، ومنهم أعضاء في قيادة الأمانة العامة للحزب-إن السياسة لا بد فيها من التنازل، وأن قراراتِ الحزب ليست مقدسة، وأن الأحكامَ تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، وأن السيد العثماني لم يكن له محيد أن يختار أحدَ الضَّرَرين فاختار أخفَّهما؛ أيْ أنَّ أثقلَ الضرريْن المتروكَ هو الخروجُ إلى المعارضة، والدفاعُ عن المبادئ والقيم، ومواجهةُ دولة الاستبداد!
ومنهم مَن استعان في دفاعه عن الأغلبيّة المعلنِ عنها-مِن مكوّنات هذه الأغلبية، كما بات معلوما، حزبُ الاتحاد الاشتراكي الذي طالما أبدت قيادةُ الحزب تشددا وصلابة في رفض وجوده داخل الحكومة، إلى درجة أن السيد بنكيران قال في بعض تصريحاته-وهو ما يشبه القسَمَ-إنه لن يكون هو بنكيران إن أصبح الاتحاد الاشتراكي مِن مكونات الحكومة؛ وها هو ذا قد أصبحَ من مكوناتها، وأنفكَ راغم، فماذا أنت فاعلٌ، يا سيدي؟ هل ستفي بما قطَعْته على نفسك؟ -
قلتُ ومِن "المحللين" مَن ذهب في دفاعه عن الأغلبية الحكومية الجديدة إلى استدعاء مبررات "مُحَلِّلاتٍ" من السيرة النبوية، فذكّر بقصة "حلف الفضول" في الجاهلية، و"صلح الحديبية" في الإسلام؛ وكل هذه الاستدعاءات من أجل بيان أن المصلحة الراجحةَ مُقدَّمة على المفسدة، وهذا يعني، عندهم، على ضوء واقعنا السياسي، أن الخضوعَ والاستسلام لإرادة المخزن هو مِن المصلحة الراجحة. طبعا، المصلحةُ المرجوحة هي النأيُ بالحزب عن المخزن وفلكِه، والتشبّثُ بالدفاع عن إرادة الناخبين، والمبادئ الديمقراطية النظيفة.
ومن هؤلاء "المحللين" مَن زعم أن السيد بنكيران لم يفشل، وأن خلَفَه لم يستسلم ولم يفرّط في المبادئ، وأن الحكمةَ السياسية فرضت على الحزب أن يرجعَ خطوة إلى الوراء من أجل التقدم خطوات إلى الأمام. أيُّ وراء؟ وأيُّ أمام؟ وأي حكمة؟ وأي تقدّم؟ وهل أشنعُ وأردأُ وأحطُّ وأسخفُ مِن هذا اللف والدوران لتسويغ الذل والمهانة والانبطاح ولَعْق الأحذية؟!!
ومنهم مَنْ أرجع سببَ هذا الانبطاح العبثي إلى الشعب، الذي، في زعمهم، اختار أن يُعطيَ لحزب العدالة والتنمية المرتبة الأولى في الانتخابات، ليكون في الحكومة، لا ليرجعَ إلى المعارضة!
ما أكثرَ الفظاعاتِ والبشاعاتِ التي تُرتكب باسم هذا الشعب المسكين!
وما أكثرَ المصائبَ والجرائمَ التي تُبرَّر باسم المصلحة الوطنية العليا المفتَرى عليها!
وما أكثرَ السفالاتِ والحقاراتِ والدناءاتِ التي تُسَوّغُ وتُفرضُ باسم العزة والشرف والكرامة!
المهمُ عند "المحلّلين" هو الاجتهاد والاحتيال من أجل إيجاد المبررات، مهما كانت متهافتة، ومهما كان ضعيفة ومجرَّحة ومُهَلْهَلة، وإلا، فما علاقة السيرة النبوية الشريفة الطاهرة بهذه "التحليلات" الحضيضيّة-من الحضيض أي النزول إلى القاع-التي تصل في بعض عباراتها إلى الوقاحة الصريحة؟
ما علاقةُ القواعد الأصولية بالتفاهات السياسية التي تُقَرَّر وتُعتَمَد باسم "الإجماع" و"الشورى" و"الديمقراطية الداخلية"؟
باختصار، ما علاقة معالي الأمور بسَفْسَافها؟ وما علاقة المعروفات بالمنكرات؟ وما علاقةُ الشريف العريق ذي الباع بِهَيِّ بْنِ بَيّ؟ يُقال لمَنْ لا يُعرف أصلُه هو (هَيُّ بْنُ بَيٍّ).
وبعد، فهل أصدقُ، في سياق هذه المقالةِ، مِنْ قول الشاعر الجاهليِّ الحكيمِ: (ومَنْ لا يتّقِ الشّتمَ يُشْتم)؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.



السبت، 25 مارس 2017

سياسيّون أمْ ممثّلون؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

سياسيّون أمْ ممثّلون؟!

(1)
نحتاج، دائما مع الأسف، أن نذكّر ببعض البديهيات المتعلقة بالعمل السياسي السليم، لأن ممارسات النظام المخزني قد شوّهت هذه البديهيات وحرّفتها حتى أحالتها إلى أدواتٍ تسوّغ الكذبَ والتزوير والتدليس.
السياسيّ الحقيقيُّ، لا المزوَّرُ، في الأنظمة الديمقراطية الحقيقية، لا المزَوَّرةِ، يتقدمُ للناس، في الانتخابات، ببرنامج موضوعي، له حدٌّ أدنى من المصداقية من حيث تصوراتُه ومقترحاتُه وأهدافه وأرقامُه، ويطلبُ أصواتَهم للفوز والتمكّن من السلطات الفعلية، التي يضعها الدستور والقانون بيد الفائز، ليباشرَ تطبيق برنامجه والوفاءَ بما وعد به الناخبين، إما من طريق أغلبيةٍ يغلب عليها لون واحد، أو من طريق تحالف من عدة أحزاب، لكن على أساس تقاربٍ في المرجعية والرؤى والبرامج والأهداف.
القوانين في الأنظمة الديمقراطية، وعلى رأسها الدستور، تضمن للفائز من الأحزاب السياسية المتنافسة على السلطة، الحقَّ في امتلاك سلطات الحكم الحقيقية، ومنها سلطةُ الإشراف على دواليب الإدارة العمومية، وسلطةُ وضع السياسات، في مختلف المجالات، وتنفيذِها من غير اعتراض أو عرقلة أو تعويق من أي جهة، إلا جهة مخوَّلَةً بالدستور والقانون طبعا، وسلطةُ التحكم في المالية العامة والميزانية سياسةً وتحصيلا وإنفاقا، وغيرها من السلط الحيوية لإدارة دفة الحكم.
فلا يكون للمحاسبة في السياسة معنى إلا حينما يكون المحاسَبُ مسؤولا يملك بالفعل سلطةً الاختيار والتقرير والتنفيذ؛ أما المسؤول الذي ليس بيده سلطة حقيقية، فإن المحاسبة في حقه ثانويةٌ مقارنةً بالمحاسبة الرئيسية التي يجب أن تتوجه إلى من بيده سلطةُ الأمر والقرار، لا إلى المأمورين المنفذين التابعين.
أما السياسيُّ "الممثّلُ"، فهو نقيض الأول، وعمله أقربُ إلى الشعوذة والتهريج والإلهاء منه إلى العمل الجاد والممارسة المسؤولة.
لقد قلت وسأظل أكرّر حقيقةً كالشمس الحارقة لا تحتاج إلى دليل، وهي أن الاستبدادَ، بأيّ زيٍّ تزَيّى، هو قتلٌ للسياسة، وتفريخٌ للممثّلين من كل الأصناف والدرجات. ومع الاستبداد، وفي حواشيه، تنتعش ثقافة التزوير والتدليس، وتنمو صناعة الوهم والأساطير، وتنتشر أخلاق النفاق والغش والمداهنة، ويسود التعتيم والغموض، وتنْفُق سوقُ الإشاعات والأباطيل.
الممثّلُ يكون وراءه كاتبُ النصّ والمخرجُ والديكورُ والماكياج والمؤثرات الصوتية والبصرية. وقد ينجح بعض النجاح في أداء دوره، إن كان ممثلا موهوبا، مع وجود نص رديء وإخراج ضعيف؛ لكن المصيبة تتضاعف حينما نكون أمام ضعفٍ وهزال وقبح ورداءة تشمل الجميع، نصا وإخراجا وتمثيلا وإكْسِسْوَارات.

(2)
مظاهرُ التمثيل في حياتنا السياسية نراها اليوم جليّة في الأجواء والخطابات والتصريحات التي تواكب "المشاورات" التي دشنها السيد سعد الدين العثماني، رئيسُ الحكومة المكلف بعد إعفاء السيد بنكيران، مع الأحزاب السياسية.
فإذا كان الدستورُ الممنوح يضع الملكَ على رأس الدولة بسلطات وصلاحيات شبه مطلقة، ويجعلُه متحكما في كل المؤسسات الحيوية في الدولة، إما مباشرة وإما بواسطة، ويُعفيه من أي شكل من أشكال المتابعة والمحاسبة-فلا يوجد في الدستور، ولا في غيره من قوانين الدولة جملةٌ واحدة أو شبهُ جملة يُفهم منها أن الملك، مثله مثل سائر المسؤولين، الذين يمارسون سلطةً من السلطات، يمكنه أن يخضع للمحاسبة والمراجعة-
قلت إذا كان الدستورُ الممنوح يجعل الملكَ على رأس الدولة بسلطات شبه مطلقة، ويجعل الحكومةَ تابعةً له، وسياساتها من سياسته، وقراراتها من قراراته، ويجعلُ رئيسَها في خدمته وتحت مراقبته وسلطانه، فأنّى لرئيس الحكومة المعين لتشكيل الحكومة الجديدة أنْ يكون حرا في تصرفاته، وإن كان النصّ الدستوري يسمّيه رئيسا للحكومة، ويجعلُه مسؤولا عن تشكيلها وسياساتها ومواقفها وقراراتها.
فالنص الدستوري الذي يجعلُ رئيسَ الحكومة يتمتع بحرية الحركة والتصرف، ينقضُه النصُّ الذي يجعل يدَ الملك فوق الحكومة، في صغيرِ أمرها وكبيره؛ فيكفي أن يكون الملكُ هو رئيس مجلس الوزراء، لتصبح جميعُ تصرفات الحكومة تحت إمرته، يوجهها حيثما شاء، ويقبلُ من أعمالها ما يشاء، ويرفض ما يشاء.
هذا على المستوى النص الدستوري.
أما على مستوى الواقع، فإن من الحقائق التي باتت معروفةً ومشهورة أن الأحزابَ التي أفشلت السيد بنكيران، سلفَ السيد العثماني، في مهمة تشكيل الحكومة، هي أحزابٌ مخزنية بامتياز، سواء التي نشأت في أحضان المخزن وبإذن منه، كالحركة الشعبية، والتجمع الوطني للأحرار، والاتحاد الدستوري، أو التي التحقت مؤخرا بدار المخزن، كالاتحاد الاشتراكي.
فكيف نستسيغُ أن السيد بنكيران كان يتعامل مع هذه الأحزاب، وهو يجهل أنها أحزابٌ تأتمر بأوامر المخزن، لا تملك من أمر استقلالها إلا القشور؛ فهي أحزاب، عند السمع والطاعة، إذا طلبها المخزنُ، وليُّ أمرها، للخدمة والمشاركة في تنفيذ مخططاته؟!
كيف يُرادُ لنا أن نستسيغَ أن السيد عزيز أخنوش، الذي باتَ فأصبح رئيسا للتجمع الوطني للأحرار، والذي ليس له أي تاريخ سياسي، ولا أي تجربة حزبية واضحة ومعتبرة، كان يفاوض السيد بنكيران، واليوم السيد العثماني، بإرادة حزبية مستقلة عن النظام المخزني، التي يراقب الشاذة والفاذة في الساحة الحزبية، ويحسب الصغيرة والكبيرة مما يدور داخل الأحزاب، لا يفوته منها مثقال ذرة؟!
وقُلِ الشيءَ نفسَه عن الأحزاب الأخرى التي شاركت في إفشال مهمة السيد بنكيران، وهي اليوم تُظهر "الضحكة الصفراء" للسيد العثماني، الذي يردّ عليها بضحكة مثلها تسكن محيّاه لا تكاد تفارقه.
لقد أثبتتْ لنا تجربةُ السيد بنكيران مع هذه الأحزاب التي تجاوزت خمسة أشهر أن الأمرَ لم يكن في حقيقته "مفاوضاتٍ سياسيةً" بين أحزاب طبيعية، وإنما كان "تمثيلا"، اجتمعت فيها كلُّ الشروط، مِن نص وإخراج وديكور وغيرها من لوازم التمثيل.
كانوا يمثّلون، ليوهموا أنفسَهم أولا، ونحن ثانيا، بأنهم سياسيّون يتفاوضون، كما يتفاوض السياسيون المحترفون الأصحّاء، وبأنهم مستقلون، فيما يختارون وفيما يقرّرون، وأنهم لا يخضعون لأيّ جهةٍ من الجهات، ولا لأي سلطةٍ من السلطات، وأنهم لا يتبعون إلا ما ترجّحُه عندهم قناعاتُهم ومبادئهم واختياراتُهم ومواقفُهم الحزبية!!
ومنْ سيصدّقهم، وكلُّ الدلائل والمعطيات والمؤشرات تدل، بل تُثبت وتؤكد أن "تمثيلهم" تجاوزَ حدّ الرداءة إلى الحضيض، وأنهم باتوا مفضوحين في العراء لا يسترهم شيء؟
وقد تتبعنا القصة أكثر من خمسة أشهر، فلا داعي للإثقال على القارئ بإعادة حكاية فصولها هنا مرة أخرى. بل ها نحن اليوم، السبت 25 مارس، وقد مرت ثمانية أيام منذ تكليف السيد العثماني بتشكيل الحكومة، نسمع أن الحكومة الجديدة توشك أن ترى النور، وأن ما عُرف بالبلوكاج سيزول قريبا. وهذه السرعة الفائقة في نجاح السيد العثماني فيما فشل فيه سلفُه السيد بنكيران دليلٌ قويٌّ وفاضحٌ وحارقٌ على هذه التمثيل الرديء الذي يشوه حياتنا السياسية، والذي يترجم عن سيناريو وإخراج في غاية الضحالة السياسية.

(3)
التمثيلُ الذي أنا بصدد تصويره ونقدِه لا ينفك عن التزوير، وليس أيَّ تزوير، بل هو تزويرٌ كبيرٌ وخطير، لأنه يهمّ مصيرَ أمّة، لأن آثاره تمتد لتشمل حياتنا السياسية من كل النواحي، فتجعلها حياةً تعاني الاختناقَ والميوعة والهشاشة والاضطراب بوتيرة لا تعرف الانقطاع، وتهدد بالانفجار-لا قدّر الله-في أي لحظة.
المفتَرَضُ أن رئيسَ الحكومة المعينَ يعرف قبلَ غيره، بالاستناد إلى الدستور والقانون والعرف، أن سلطاته ضعيفة جدا جدا، بل إنها سلطاتٌ مقيدة ومراقبة وتابعة لا تمكّنه من الحكم قِطْميرا، بل لا تمكّنه حتى مِن التحكم في الإدارة العمومية، التي هو رئيسُها المفترض على الأوراق.
وهذا الرئيس المعين، يعرف أيضا، وقبلَ غيره دائما، أن البرنامجَ الوحيد الذي يُطبق في الدولة هو برنامج الملك، وأن البرامجَ التي يتنافس بها المتنافسون في الانتخابات هي لذرّ الرماد في العيون، كما يُقال، لأنها من متطلبات الدور المَنوط بالأحزاب تمثيلُه على مسرح حياتنا السياسية، وَفْقَ ما رسمه المخرجُ وكاتبُ السيناريو.
فمن التمثيل الفِجّ أن يأتيَ رئيسُ الحكومة، بعد تشكيل حكومته، أمام البرلمان ليعرضَ ما يسميه "برنامج" حكومته!
أولا، أين ذهبت البرامجُ التي سمعنا عنها في الانتخابات، والتي، على أساسها، نالت الأحزابُ من الأصوات ما نالت؟
ثانيا، أين هي الوعودُ التي تميزت بها الأحزابُ في حملاتها الانتخابية، والتي وعدت بأن تجدَ لها طريقا إلى التنفيذ إنْ هي فازت ووصلت إلى الحكومة؟
ثالثا، ماذا يعني هذا البرنامجُ الذي تتقدم بها الحكومةُ أمام البرلمان لينال الثقة مقارنةً ببرنامج الملك، الذي هو الأصل، والذي سيجده الوزراءُ على مكتبهم في أول يوم يلتحقون فيه بعملهم؟
رابعا، مَنْ سيتحملُ المسؤوليةَ السياسيةَ والتّبعات المالية المتعلقة بالعشراتِ من الاتفاقيّات التي وقّعها وزراءُ "حكومة تصريف الأعمال" في أثناء جولات الملك الأخيرة في أفريقيا؟
خامسا، وفي جملة: أين ذهبت إرادةُ الناس الذين صوتوا لهذه الأحزاب؟ وأين هي مصداقيةُ شعاراتهم ووعودهم؟ وأين هي مصداقية كلمتهم؟
لو كنا نعيش حياة ديمقراطية حقيقية صافية من الشعوذة والتزوير والتمثيل، لكان لمَا أطرحُه من ملاحظات وتعليقات وأسئلة معنى. لكننا، مع الأسف، وهذا ما تريدُ أن توضحه هذه المقالة، نعيش حياة سياسية حوّلتها المشاهدُ التمثيلية إلى حياة يخنقها التزوير والتمويه والتوهيم.
فالحزبُ الذي يشارك في "لعبة" الانتخابات، ويزعم أنه يسعى للفوز، ليحكمَ، وليطبقَ برنامجَه، هو حزبٌ ممثِّل ومزوِّر؛ ووجهُ التزوير هنا هو أنه يعرف أن الأحزابَ، عندنا، لا تحكم، مهما كانت قوتُها، ومهما كانت المرتبةُ التي تفوز بها في الانتخابات، لأن الحاكم الحقيقيَّ والوحيد، بنص الدستورين الممنوح والعرفي، هو الملك. والذي يزعم غيرَ هذا هو مزوِّر، وقائلٌ بغير الحقيقة المنصوص عليها في فصول الدستور، وكذلك الحقيقة المعيشة في الممارسات الفعلية في الواقع.
فمن مشاهدِ التمثيل الثقيلِ والمرذول، في حياتنا السياسية، أن نرى رئيسَ الحكومة، الذي يعرف، قبل غيره، أنه لا يملك أيَّ سلطةٍ فعلية على أدوات الحكم الأساسية، كالإدارات والمؤسسات العمومية، والداخلية، والخارجية، والأمن، والدفاع، والمالية والاقتصاد، يأتي إلى البرلمان، كما كان يفعل السيد بنكيران، ويدعي أنه المسؤولُ الأول عن الإدارة العمومية، وأن الوزراء يعملون تحت إمرته، وأنهم لا يتصرفون إلا بموافقته، وأنه، وأنه، وأنه، مما يوهم السامع بأن الرجل، بالفعل، يملك سلطةَ الفعل والقرار؛ وهذا من التزوير، الذي يشوه الحياة السياسية، ويزيدها اختناقا وفسادا وعبثا.
كيف يدعي رئيسُ الحكومة شيئا، وهو يعلم، بالممارسة اليومية في دواليب الدولة المخزنية، أنَّ ما يدّعيه لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة، وأنه لا يعدو كونَه ممثِّلا حين يعرض على الأسماع خطاباتِ الوهم، التي يُفترضُ في أيِّ مخزنيٍّ سامٍ أن يكونَ متقنا لها، بارعا في تسويقها إلى أبعد مدى؟
لقد أمدّتنا الممارسةُ الواقعية، خلال خمس السنوات الماضيات، بشواهد لا تُعدُّ ولا تُحصى، على أن السيد بنكيران كان، بالفعل يتكلم كثيرا، ويَظهر كثيرا، ويُضحِك كثيرا، ويُغضِب كثيرا، لكنه لم يكن يتعدى الدائرةَ التي رسمها له مَن يضعون السياسات الاستراتيجيةَ، ويتخذون القرارات الحاسمةَ، ويمسكون بكل الخيوط الحساسة المتحكمة في شرايين الدولة.

(4)
في مفاوضات تشكيل الحكومة، بعد انتخابات السابع من أكتوبر، التي دامت أكثر من خمسة أشهر مع السيد بنكيران، وتستمر اليوم مع السيد العثماني، لم نسمع، فيما صدر عن المتفاوضين مِن تصريحات، شيئا عن اختلاف بينهم في التصورات، ولا في المرجعيات، ولا في البرامج، ولا في الأولويات، ولا في الاقتصاد، ولا في أي شيء له علاقة، مباشرة أو غير مباشرة، بمصالح الناس، وإنما الذي سمعناه لم يكن يتعدى موضوع المشاركة في الحكومة؛ فبنكيران من جهة، يشترط كذا وكذا، والآخرون، من جهة أخرى، بقيادة أخنوش، يربطون مشاركتهم بكذا وكذا، من غير أي اعتبار للمرجعيات، ولا للأفكار، ولا للبرامج، ولا للتباين في الأدبيات الحزبية، ولا لأي شيء ممّا هو الأهمُّ والمعتبَرُ والمُقدَّم عند السياسيّين المحترفين الحقيقيين، لا الممثِّلين المزوِّرين المشعوِذين المهرِّجين.
واليوم، نسمع عن قرب زوالِ ما عُرف بالبلوكاج، وميلادِ الحكومة الجديدة.
كيف؟ وماذا تغير بين الأمس واليوم، حتى يتمَّ ميلاد الحكومة بهذه السرعة؟
هل يملك السيد العثماني قوةً خارقة، وإمكانياتٍ عجيبةً ساحرة؟
هل يتميز السيد العثماني عن سلفه السيد بنكيران بفرادة باهرة قاطعة حاسمة؟
لا شيء من كلِّ هذا؛ فالسيد العثماني، مثلُ أخيه وحبيبه ورفيق دربه السيد بنكيران، مخزنيٌّ مُروَّض مِن الدرجة العالية، ومعدنه المخزنيُّ مِن النوع النادر النفيس، ومِن ثمَّ فهو، إنْ رضيَ عنه النظامُ لقيادة الحكومة في السنوات الخمس المقبلات، سيكون الاختيارَ الأول، لأن خدمته ستكون، بلا أدنى شك، ممّا "يحمّر" الوجهَ، ويغيظ الأعداء الحاسدين.
هذه الحكومةُ الجديدة، إن كُتب لها أن تتشكل قريبا، لن تكون إلا حكومةً هجينة ضعيفة خاضعة متحكَّما فيها، عن قربٍ وعن بعدٍ، أكثر من سابقاتها.
إن تشكيل الحكومة، اليوم أو غدا، لن يكون بفضل كياسة رئيس الحكومة المُعيّنِ ومهاراته الخارقة ورِفْقِه الديبلوماسي العجيب، ولا بفضل مرونة جبهةِ السيد أخنوش ومن معه، وتيسيرهم وتعاونهم، ولا بفضل أيِّ شيء له علاقة بالسياسة الحقيقية والبرامج والمصلحة والتعاون. لا؛ تشكيلُ الحكومة، اليوم أو غدا، سيكون، كما كان دائما، بضوء أخضر قويّ ناصعٍ من النظام المخزنيّ، لأنه هو المُخرِج وكاتبُ السيناريو الأصلي، والآخرون، في رأيي، إنما همْ ممثّلون لهم أدوار محددة، تتطلب بعضَ المهارات الذاتية، وشيئا من اللطافة والرشاقة في الحركة والقفز واللف والدوران فوق خشبة التمثيل.
خلاصةُ هذه المقالة أن داءنا العضالَ إنما هو في الفلسفة والأسس التي تتحكم في حياتنا السياسية؛ فلا دواء لهذا الداء، في اعتقادي، إلا بمراجعة هذه الفلسفة، وتغيير تلك الأسس، ووضع دستور ديمقراطي حقيقي قمينٍ بنقلنا مِن دولة الجبر والتعليمات والتحكم في كل شيء، إلى دولة الحقوق والحريات والمؤسسات الحرة والمسؤولة.
فالاستبدادُ، كيفما كان اسمُه ونوعُه وفصلُه، لن يُوَلّد لنا، في حواشيه وعلى أعتابه، إلا ممثّلين في صورة سياسيّين، يؤدون أدوارا محفوظة في مقابل رَيْعٍ وامتيازاتٍ وكراسيَّ ومناصبَ ساميةٍ كاذبةٍ خادعةٍ، وللشعب الخطاباتُ الرنانةُ والشعاراتُ المبهْرَجة والوعود المُخْلَفة.
دورُ الممثِّلِ في المشاهِدِ كلِّها//أنْ يجْعلَ الوهمَ الصريحَ مصَدَّقا
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.