الثلاثاء، 27 أغسطس 2019

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(3)


مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(3)

إشكاليةُ ارتباطِ التربويّ بالسياسيّ
ما تزال كتاباتُ المرشد عبد السلام ياسين، رحمه الله، عموما-ومنها كتابُ "المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا" بوجه خاص-تمثّلُ المرجعَ الأسمى لاختيارات الجماعة ومواقفِها السياسية.
ومنهاجُ الجماعة، في الحقيقة، منهاجان متداخلان متعانقان متلازمان، أحدُهما تربويٌّ إحسانيّ، والثاني سياسيٌّ نضاليّ. ومعنى كونِهما متداخلَيْن متعانقَيْن متلازمَيْن أنهما صادران عن شخص واحد، تصوُّرا وتفكُّرا وتنظيرا وتأليفا، وهو الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، رحمه الله.
وإذا كان الشأنُ التربويّ، في منهاج الجماعة، هو الأساس الذي عليه البناء، وهو الأصل الذي إليه تَرجع كلُّ الفروع، فإن الشأن السياسيّ، في كتابات الأستاذ المرشد، وخاصة في كتبه التي تُوصف بالأمهات، قد ارتبط، في نشأته وتطوره ونضجه، بالشأن التربوي ارتباطَ التابع بالمتبوع، يلازمُه ولا ينفكّ عنه.
وهذا الارتباطُ الجوهريّ البنيويُّ بين التربويّ والسياسيّ، في كتابات الأستاذ المرشد، يطرح، في تقديري، قضيةً إشكاليّةً في الفكر السياسيّ الإسلاميّ الحديث، عموما، وفي منهاج جماعة العدل والإحسان، بوجه خاص، وخاصة بعد وفاةِ المرشد، رحمه الله، ومصيرِ المسؤولية عن تراثه إلى من خلَفَه على رأس الجماعة، من قيادات الصف الأول، يمثلهم، أولا وأساسا، مجلسُ الإرشاد، وفي درجة ثانية ثانوية، الأمانةُ العامة للدائرة السياسية، التي يرأسها عضوٌ من مجلس الإرشاد.
هذه الإشكاليةُ، في كلمة مختصرة، هي أن الأمر السياسيّ، بطبيعته، أمرٌ اجتهاديٌّ متغيّر، لأنه يقوم على النظر والظن والترجيح. أما الأمر التربويُّ، فهو في لبّه وطبيعته، راسخ في الدينيّ الإيمانيِّ الغيبيِّ، ولا شأن له بالاجتهاد، إلا في طُرُق التنفيذ، ووسائلِ العمل، وضوابطِ التنظيم، وهي أمورٌ لا تمسّ الأصولَ القطعية التي ينبني عليها العمل التربوي، وخاصة ما يرجع منها إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة المطهَّرة.
فأصول التربية الإيمانية الإحسانيةِ ثابتة راسخة محفوظة، مهما تبدّلت الظروفُ والأحوال، ومهما غفل الناسُ وفرّطوا، ومهما غلا الغالون، وتشدد المتشددون، وأفْرط المفْرطون، وألحد الملحدون، ولَهَا اللاهون الفاسقون الظالمون. لكن الشأن السياسيّ، بطبيعته المشار إليها، وخاصة في جانبه النظريِّ الفكري، لا يمكن أن يوصف بالثبوت، إلا إن اعتبرناه تراثا محفوظا انتهى مِن السلف للخلف، وعَمَلاً من الأعمال المنجَزة، التي تشهد على زمانها، كما تشهد على اجتهاد صاحبِها وأسلوبه في النظر والفقه والاستدلال والاستنباط. أما أن يصبح هذا الفكرُ السياسيّ الاجتهاديّ، القائمُ على الظن والترجيح، والمظروفُ بظروف صاحبه وواقعه وزمانه وأحوال هذا الزمان، مرجعا لكل زمان ومكان، ومعيارا "مطلقا" "متعاليا" لمعالجة كلِّ أمور السياسة المتغيرة، اليوم وغدا، فذلك عين المستحيل، لأن طبيعة الفكر السياسيّ الاجتهاديّ تأبى هذا، وترفض أن يتحول المظنونُ إلى أصل قطعيّ، كما ترفض أن يتحول الرأيُ الناقص إلى حقيقة مطلقة كاملة.
فهناك فرقٌ كبير، مثلا، بين معارضةِ النظام الملكيّ بخلفيّة سياسية، وبين أن تعارضَه بخلفية دينيّة؛ ففي المعارضة الأولى، أفكارٌ تقابلُ أفكارا، واجتهادٌ يقابل اجتهادا، وفكرٌ بشريٌّ يعارض فكرا بشريا، وفي المعارضة الثانية، عقائدُ في مقابل عقائد، وإيمانٌ بإزاء إيمان، ونصوصٌ "مقدسة" تعارضُ نصوصا أخرى "مقدسة".
المعارضةُ السياسية فيها مجالٌ واسعٌ للحوار والتفاهم والتقارب والتعايش-هذا حينما تكون الظروفُ طبيعيةً، والأجواءُ سليمةً، والحقوقُ والحريات مرْعِيّة؛ أما في ظلِّ الاستبداد والقمع والمنع والقهر، فالحُكم مختلِف. أمّا المعارضةُ الدينيةُ، فالأمر فيها إما مع الدين أو ضده، وهذا هو المدخلُ الواسع للتكفير والتقتيل والترهيب باسم الدين ومقدساتِ الدين.
ولعل المطابقةَ بين الشأنَيْن التربويِّ والسياسيِّ، وجعلَهما متلازمَيْن، في منهاج جماعة العدل والإحسان، هو-في تقديري-السبب الرئيسيُّ وراء الكثير مما يطبع أنشطة جماعةِ العدل الإحسان اليوم، من جمود وانحسار وعزلة وانغلاق، في مجال التدافع السياسي، وكذلك في مجال التواصلِ مع مكونات الساحة السياسية المغربية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
نعم، الاستبدادُ هو علّةُ العلل التي تسوم حياتَنا السياسية مِنْ كل ألوان الظلم والفساد والتخلف والتأزم والتعثر والاختناق، ومع ذلك، فالنقد الذاتيُّ واجب في جميع الأحوال، وإلقاءُ المسؤولية، كلِّ المسؤولية، على عاتق الاستبداد (النظام الجبْري)، هو، عندي، نوعٌ من التهرب من واجب مواجهةِ الذات ومراجعةِ المواقف، وتقويمِ الاختيارات، لأن من أسهل الأمور، في السياسة وغيرها، أن تبقى متقوقعا في اتهام الآخر، وتستقيلَ وتستريحَ من كل ما يمكن أن يكلّفه النقدُ الذاتيُّ من حرج وأعباء ومسؤوليات.