الخميس، 29 أغسطس 2019

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(5)


مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(5)
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى بعض القراء الأفاضل
إني أدعو القراءَ الأعزّاء الذين فاتهم الاطلاعُ على مقالاتي النقدية في إبان نشرها خلال ما يقارب خمس سنوات(2010-2014) أن يصبروا حتى يطلعوا على بعض هذه المقالات مجتمعةً في كتاب "مراجعات في الفكر والسياسة"، الذي أخبرتُ أنه سيظهر قريبا، إن شاءَ الله تعالى ويسّرَ وأعان.
اصبروا، أيها السادة، ولا تتسرّعوا في إصدار الأحكام في موضوع لا تملكون عنه إلا القشورَ وحكاياتِ القيلِ والقال. اصبروا حتى تقرؤوا مقالاتي مجتمعة، أو ارْجعوا واقرأوها حيث هي منشورةٌ متفرقة، وعندئذ مرحبا بانتقاداتكم، وتصحيحاتكم، وتنبيهاتكم، ونصائحكم؛ وليس يضيرني ألاَّ يتفق الناسُ معي، وأن يرفضوا آرائي، ويستضعِفوا نقدي، وإنما الضيرُ كلُّ الضير أن يرميَني الناس بسهامهم الجارحة المؤذية، وليس هناك من سبب إلا العصبيةُ العمياءُ، والتحيز الإيديولوجي الضيقُ، والحماسةُ "التربوية" الهوجاء.
وأرجع إلى سياق الفقرات التي أقدّم بها كتاب "المراجعات".

زُبْدَةُ مقالاتِ الكتاب
"المنهاج النبوي" عملٌ اجتهاديّ فرديّ، أعمل فيه الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، رحمه الله، ما استطاع من أدوات النظر والتفكير والنقد، وصاغه، وهو مستحضِرٌ وملاحظٌ ومعتبرٌ بما كانت تمور به الساحة الفكرية والسياسة، في زمانه، قطريا وإقليميا ودوليا، وكتبَ فيه ما كتَبَ، ورأى ما رأى، واقترح ما اقترح، ولم نقرأ له، ولو كلمة واحدة يُشتمّ منها أن الرجل يَدعي لاجتهاده التنزّهَ عن النقد والمراجعة والتحوير والتطوير، بل العكس هو الصحيح؛ فقد تكلم الرجل، رحمه الله، في "المنهاج النبوي"، وفي غيره، بعبارات واضحات تقول للناس-وفي مقدمتهم رجالُ العدل والإحسان ونساؤها: انظروا كما نظَرت، واجتهدوا لزمانكم كما اجتهدت، وانتقدوا وطوّروا وأبدعوا، حسب ما يستجد من معطيات، وعلى ضوء ما يجري في الزمان من تقلبات وتغيرات.
اليوم، ما تزال جماعة العدل والإحسان ترى، بل تصر أن ترى في اجتهاد مرشدها في المضمار التدافعي السياسي اجتهادا صالحا لكل الأزمنة، لا تؤثر فيه الأحداث، ولا يُبليه التقادم وكَرُّ الليالي واختلافُ الأزمنة والظروف والملابسات.
وقد بيّنت في بعض مقالات كتاب "المراجعات" أن خلطَ الناس-وأقصد الأتباع والمريدين والمحبّين-في شخص الأستاذ المرشد، رحمه الله، الجانبَ التربوي الإيماني الإحساني، والجانبَ السياسي الاجتهادي الظرفي، جعلهم ينظرون إلى آراء المرشد السياسية وبَدَوَاتِه الفكرية-أي ما يبدو له عند النظر في أمر-ونظراتِه الاجتهادية الظنية، على أنها من جنس سلوكه الرباني وفضله الإحساني وعطائه التربوي، وهو ما يفرض، على من يريد الانتماءَ إلى الجماعة أن يسلّم بأن تراثَ الأستاذ المرشد السياسي لا ينفصل عن تراثه السلوكي الإحساني، بل بات الناس ينظرون إلى آراء المرشد السياسية على أنها من تجليات فتوحاته الربانية! هذه نقطة أولى في هذه الزبدة.
النقطة الثانية، وهي مبنيةٌ على الأولى، شديدةُ الارتباط بها، وهي أن جميع اختيارات الجماعة السياسية ومواقفها المختلفة إنما تنبع من فكر المرشد وآرائه ونظراته التي سطرها في كتاباته. فحسب علمي، لا يوجد قرارٌ من قرارات الجماعة اتُّخِذ بمعزل عن فكر المرشد الذي هو الأصل والمنبع. فما من صغيرة ولا كبيرة في "أدبيات" الجماعة السياسية، منذ ظهور الجماعة إلى اليوم، إلا ولها نَسَبٌ عريق بأفكار المرشد، وكأن المرشد، رحمه الله، قد أجاب عن كل الإشكاليات السياسية، التي كانت، والتي ستكون، ومن ثَمَّ، فليس على الناس إلا أن يحفظوا ويتبعوا ويشرحوا ويُحَشُّوا-أي يضعوا الحواشي-ما دام "متن" "المصنف"، رحمة الله، قد أحاط بكل شيء، فلم يبق إبداع، وإنما هو اتباعٌ في اتباع.
والنقطة الثالثة في هذه الزبدة أن مجالس الجماعة، الشورية التقريرية، لا تصنع أكثر من البناء على أصل المرشد، لا تتعداه، وإن هي فعَلَتْ، فلا تقترب من جوهر هذا الأصل، وتبقى مهتمة بالجزئيات الشكلية والتفصيلات المسطرية وما شابه هذا مما هو أقرب إلى الروتين الإداري منه إلى العمل التشاوري الحقيقي العميق.
لقد قرر المرشدُ، رحمه الله، أن ينشرَ "مذكرة إلى من يهمه الأمر"، مع ما لهذا العمل من خطورة ووزن سياسي، وأيضا لما يمكن أن يترتب عليه من تكاليف وتبعات.
هل تشاور المرشدُ مع أحد قبل أن يقرر كتابةَ "المذكرة" ونشرَها؟ هل تشاور مع مجلس الإرشاد، مثلا؟ مع الأمانة العامة للدائرة السياسية، مثلا؟ لا، لم يفعل.
هل عُرِضَت "المذكرة"، قبل قرار نشرها، على مجلس شورى الجماعة، وهو يومئذ أعلى هيئة تقريرية؟ لا.
هل تداول المجلسُ القطري للدائرة السياسة في شأن "المذكرة"؟ هل طُلب من هذا المجلس، الذي يمثل وجهَ الجماعة السياسي، رأيُه في الأمر؟ لا.
ومرت الأيام، فهبّت علينا عواصف "الربيع العربي"، فقررت الجماعة المشاركةَ في فعاليات هذا الربيع، والانخراطَ النشيط في حركة 20 فبراير. وما هي إلا أشهرٌ معدودات حتى قررت الجماعةُ الخروجَ من الحركة، ومغادرةَ فعاليات الربيع المغربي خالية الوفاض-في ظني وتقديري-بعد أن تحمّل الناس-الأعضاءُ والمسؤولون من مختلف الدرجات-كثيرا من الأعباء، بسبب ما أُنفق من جهد ووقت ومال. وكان يمكن أن تكون التكاليفُ أثقلَ وأصعب وأخطر، لكن الله سلّم، فبقيت محصورةً في الوقت والجهد والمال.
الشاهدُ من كل هذا هو السؤال التالي:
مَنْ قرر مشاركةَ الجماعة في حركة 20 فبراير؟ ومن قرر مغادرةَ الجماعة؟
المعلومُ أن مجلس الشورى في الجماعة، وكذلك المجلس القطري للدائرة السياسة، لم يقررا في أمر المشاركة، ولا في أمر المغادرة. وإنما القراران كانا فوقيّيْن، شارك فيهما أفراد يُعدّون على رؤوس الأصابع، ثُم نزل الأمرُ بالتنفيذ.
ما قيمةُ مجلس الشورى إن لم يُدع للتداول في شأن عظيم خطير ذي بال، كان يمكن أن يخلّف ضحايا في الأرواح، والوقتُ كان وقت حماسة وفوَرَان وثَوَرَان وتصادم؟ لا شك أن قيمة هذا المجلس ستكون منقوصة، إن لم نقل معدومة.
والمجلسُ القطري للدائرة السياسة؟ أليس هو القوة السياسية الضاربة للجماعة؟ أليس هو من يتحمل العبء في مجالات التأطير والتحشيد والتنظيم؟ أليس هو وجه الجماعة السياسي؟ لماذا لم يُستمع إلى رأيه في قراريْ المشاركة والمغادرة؟ والمعلومُ أن هذا المجلس (مقدس) قد عَقد دورتين، عادية واستثنائية، في فترة نشاط الجماعة في حركة 20 فبراير، لكنهما لم تكونا من أجل مشاركة الجماعة أو عدمها، ولكن كانتا لموضوعات أخرى تخص مشروع الدستور والاستفتاء وانتخابات 25 نونبر 2011!