الأحد، 30 ديسمبر 2012

حينما يصبح الاجتهادُ السياسيُّ مُقَدّسًا!!(2)


بسم الله الرحمن الرحيم

حينما يصبح الاجتهادُ السياسيُّ مُقَدّسًا!!(2)


"المنهاج النبوي" كتابٌ كسائرِ الكتب
تحدّثت في فقرة من فقرات مقالتي السابقة عن "المنهاج النبوي" من جهة كونِه كتابا ليس كسائر الكتب، وبيّنت سببَ هذه الميزة لهذا الكتاب. وفي هذه الفقرة أُذَكِّرُ بأن "المنهاج"  النبوي" هو كتابٌ لا يختلف عن سائر الكتب، التي تعرِض على الناس فكرا ورأيا واجتهادا ورؤية وموقفا، للناس أن يؤيدوه أو يعارضوه، ولهم أن ينتقدوه ويقوّموه أو يقرّظوه ويصوّبوه.
"المنهاج النبوي" هو من وضع الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله، فكرة وتأليفا. هو من اجتهاده منذ أن وُلد  فكرةً جنينية في مرحلة الزاوية البودشيشية، في صحبة الحاج العباس، رحمه الله، ثم اشتدّ عودُه، في التصور والنظرِ، في أثناء الثلاث السنوات والنصف التي قضاها الراحلُ مرشدُ الجماعة محجوزا، ظلما وعدوانا، في مستشفى للأمراض العقلية بمراكش بسبب رسالة "الإسلام أو الطوفان"، إلى أن ظهر مستويا ناضجا مكتوبا مفصلا منشورا في أربعة "أعداد خاصة" من مجلة "الجماعة"، وهي الأعداد(8و9و10و11)، ما بين يونيو1981 وماي 1983.
وقد كان الأستاذُ عبد السلام ياسين، رحمه الله، يتعهّد المنهاجَ "الوليد" بالنظر وإعادةِ النظر، يُغذّيه بتجميع مادته وتهذيبها وتصنيفها، ويرعاه بتنسيق أجزائه وترتيب مواد فصوله وفقراتِه، بلْ ويعرض بعضَ عناوينه، ويُحاضر في بعض مواده وأطروحاته، كلّما سنحت الفرصةُ، كمَا فعل في رسالة "الإسلام أو الطوفان"، حينما اقترحَ على الملك طريقا للرقيّ إلى نموذج عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، وكما فعَل في الدروس التي كان يشارك بها في الحلقات التي كانت تعقدها (دار الدعوة) بالرباط، قبل بداية نشر "المنهاج".
"المنهاج النبوي" كتابٌ ككلّ الكتب، لأن كاتِبَه لم يكن فيما عالجه فيه من قضايا، وفيما عرَضه من رُؤًى وأطروحات، وفيما سطّره من معالم، وما رسمه من آفاق ــ لم يكن بمعزل، بصورة أو بأخرى، عن بيئته العامة بكل ما يروج فيها، وما يموج، وما يغلي، ولم يكن لِينفكَّ عن وعيِه بمحيطه، ورؤيته للعالم من حوله؛ وهكذا، لا يمكن لقارئ "المنهاج النبوي" أن يفوتَه، مثلا، ملاحظةُ الحضورِ القويّ لأثرِ المشهد العالمي الذي كانت تهيمن عليه، وقتئذ، قوتان متنافستان، تتحكمان في السياسة العالمية من خلال حرب باردة نتَجَت عنها حروب ساخنة طاحنةٌ في كثير من مناطق العالم.
ولا يفوت القارئَ أيضا أن يقرأ، في ثنايا كتاب "المنهاج النبوي"، وباللفظ الصريح أحيانا، ذلك الأملَ الكبيرَ الذي أحيته الثورةُ الإسلامية الوليدة، يومئذ، في إيران، في قلوب المسلمين على طول العالم الإسلامي وعرضِه، وكذلك الأمل الكبير الذي كان يمثله الجهاد والمجاهدون في أفغانستان. وأيضا، لا يفوت قارئ "المنهاج النبوي" أن يُحس، بين السطور، بل وفي كثير من العبارات الصريحة، انعكاسَ أثرِ ذلك الثّقلِ السياسيِّ والثقافيّ والاجتماعيّ، الذي كانت تمثله الحركةُ الشيوعيّة النابتةُ في مجتمعاتنا الإسلامية الواقعة تحت نِيرِ أنظمة القمع والاستبداد.
"المنهاج النبوي" كتابٌ كسائر الكتب، لأن كاتبَه يعرض فيه على الناس اجتهادَه في فقه التربية والتنظيم والقيامِ على أنظمة الجور، ويبسط فيه ما أدّاه إليه تفكيرُه ونظرُه على طريق الدعوة إلى الله وإعلاء كلمة الله ونصرة دين الله. وعملٌ اجتهادي كهذا لا يمكن لأيٍّ كان، فضلا عنْ صاحبه، أن يدّعي له الكمالَ، وأن يجعلَه فوق المراجعة والنقد، بل هو عملٌ يفرض نفسه، بطبيعة المادة التي يعالجها، موضوعا للمناقشة والأخذ والردّ. وقد قالوا قديما: "من ألَّفَ فقد اسْتـَهْدَف". استَهْدَف(بالبناء للمعلوم، بفتح التاء والدال، وهو هنا فعلٌ لازم) أيْ انتَصَب للرماة ليكون لهم هدفا. ومعنى هذا القول في سياقنا أن الكاتبَ بمجرد أن ينويَ الكتابةَ، يكون قد وضعَ نفسه هدفا للنقاد والمقوّمين.
والأستاذ عبد السلام ياسين نفسُه، رحمه الله، هو الذي كتبَ، وهو يعرض "المنهاج النبوي" على الناس لأول مرة، في العدد الثامن من مجلة "الجماعة" سنة1981: "ما كتبناه مطروح للمناقشة والأخذ والردّ. فإن وضوح المنهاج لدينا وتعديلَه وإغناءه ضرورة عملية".
وهو نفسُه، رحمه الله، القائلُ، بعد نهاية نشرِ "المنهاج النبوي"، في العدد الحادي عشر من مجلة "الجماعة" سنة1983: "أرجو أن يعتبر القارئ الكريم محتوى "المنهاج النبوي" آخر ما وصل إليه فكري".

تصديقٌ وتسليم
لقد كانت "أسرةُ الجماعة"، وهي النواةُ الأولى لجماعة العدل والإحسان، كما ذكرت في المقالة السابقة، قائمةً على التصديق والتسليم؛ وثقَ الأصحابُ بالمصحوب، فصدّقوه وسلّموا له في كلّ ما كان يقوله ويكتبه ويدّعيه، لم يكن منهم ذرةٌ من اعتراض أو تشكيك أو تردد، حسب شهادات كثير ممن عايشوا عن قرب ميلاد هذه النواة. نعم، لقد كان هناك استثناء واحدٌ، وهو الأستاذُ محمد بشيري، رحمه الله، سأتحدث عنه في الفقرة الأخيرة من هذه المقالة.
لقد كان الأصحابُ الأولون مخطوفين بما كان لصاحبِهم من جاذبية في الحال والمقال، وبما كان له من قوة في المنطق والبرهان، وبما كان يميزه من زهد وبساطة وسمت في السلوك والمظهر والمعاش. ولهذا لم يكن منهم إلا أن استقبلوا نشرَ "المنهاج النبوي" بالاحتفاء والتّزكية والتأييد، وإن لم يشاورهم الأستاذُ ياسين، ولا استمع إلى رأيهم فيه قبلَ نشره.
لقد كان الأستاذ محمد بشيري، رحمه الله، استثناءً متميزا من بين الأصحاب المؤسسين، لأنه، بعد اطمئنانه إلى ما عرضه عليه الأستاذُ ياسين، رحمه الله، كان في نيته، كما صرح هو بذلك في رسالة منشورة في الصفحة 102 من العدد الخامس من مجلة "الجماعة"، أن يتعاون مع الأستاذ ياسين فيما عرضه عليه من خدمة الدعوة الإسلامية.
وفيما يخص الشقَّ السياسي من المنهاج النبوي، الذي يُحددّ النظام الجبريَّ هدفا للقومة/الثورة الإسلامية المنشودة، فلم يكن الأصحاب المؤسسون ليعارضوه أو ليستعظموه ويتهيّبوه، وذلك، أولا، لما كان يحدوهم من غيرة على الإسلام وحرماته، وهم يرون ما آل إليه حالُ أمتهم من هوان وتخلف وتبعية وانحدار إلى الحضيض، بعد معاناة طويلة في ظل المستعمر الكافر البغيض، وما باتت تعانيه على أيدي تلامذة الاستعمار من أبناء المسلمين الحاكمين المُقيمين.
وثانيا، لأن هذه الفترة من نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي كانت تشهد ميلاد صحوة إسلامية في كثير من ربوع البلاد الإسلامية، وكان من تجليات هذه الصحوة الباهرة وقتئذ الانتصاراتُ العظيمة المتتالية التي كان يحققها المجاهدون الأفغان على الجيش السوفييتي الذي كان يحتل بلادهم، وكذلك نجاحُ الثورة الإسلامية في إيران بزعامة آية الله الخميني، رحمه الله.
لقد كان الوقت يومَها وقتَ انتفاضات متعددة المشارب والألوان، فيها اللونُ الإسلامي، واللونُ الشيوعي، واللون القومي، واللون العسكري الانقلابي، وكان من مقاصد هذه الانتفاضات، في الدرجة الأولى، الإطاحةُ بالأنظمة التي كانت توصف بالرجعية، في القاموس اليساري، وفي مقدمتها الأنظمة الملكية.

اعتراضاتٌ على سلطة المُربّي
وقد تمثّلت هذه الاعتراضات في حالة الأستاذ محمد بشيري، رحمه الله(توفي في شهر نونبر1999)
لقد كان جميع الأصحاب الأولين السابقين مُجمعين على صدق دعوة مصحوبهم، كما كانوا مجمعين على أفضليّته وربانيّته وعالِميّته(من العالِم بكسر اللام). الفرقُ بينهم إنما كان بين سامعٍ للمرشد مطيع بلا قيد ولا شرط، مُسَلِّمٍ بكل ما يأتي من الرجل، وهمْ الغالبية العظمى، وبين سامع ومطيع، مع شيء من التحفظ والسؤال والمراجعة، بل والاعتراضِ في بعض الأحيان، وهذه كانت حالة الأستاذ بشيري، رحمه الله.
 لقد كان في كتاب "المنهاج النبوي"، وفي الكتابين اللذين سبقاه، "الإسلام بين الدعوة والدولة"(1972)، و"الإسلام غدا"(سنة1973)، أمورٌ لم يكن الأستاذ بشيري، رحمه الله، ليقبَلَها ويستسيغَها، وخاصة في الأمور المتعلقة بالتربية وسلطة المربي وغيرها من الموضوعات والطقوس والموروثات والمرويات المتعلقة بالتصوف.
لقد كان، رحمه الله، يعتقد، بعد أن توثّقت صحبتُه بالأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله، أن زمنَ "الإسلام بين الدعوة والدولة"، و"الإسلام غدا"، ومعهما زمنُ الزاوية البوتشيشية، قد ولّى إلى غير رجعة. هذا ما كان يعتقده، رحمه الله، ومِنْ ثَمَّ كان غالبا ما يتجنب إثارةَ هذا الموضوع لِمَا فيه من حساسيّة وإحراج، ويتجنب النقدَ العلني، وخاصة في اللقاءات العامة، لِمَا كان يرفضه من بعض آراء المرشدِ ومبادراته وتوجهاته، وخاصة فيما كان له علاقة بسلطات المربّي، التي لم يكن الأستاذ ياسين، رحمه الله، يقبل في شأنها مراجعة أو اعتراضا.
وقد ظل، رحمه الله، يسبح ضد التيار الغالب، يُظهِرُ ذلك تارةً، ويُخفيه تاراتٍ، إلى أن أُقيل في شهر شتنبر من سنة1996 بطريقة عدّها، رحمه الله، وهو يومئذ عضو بمجلس الإرشاد، مؤامرةً وطردا مهينا. 
لقد كان الأستاذ بشيري من المؤسسين للجماعة بنِيّة التعاون مع الأستاذ ياسين لخدمة دعوة الإسلام، وليس ليكون مريدا تابعا ومأمورا سامعا مطيعا.
لقد كان للرجل، في اللقاءات الأولى بينه وبين الأستاذ عبد السلام ياسين، أيْ قبل تكوّن النواة الأولى للجماعة، اعتراضاتٌ من جانِب ما كان يُشاع عن دعوة الأستاذ ياسين "الصوفية"، وما كان يُثار حول هذه الدعوة من شبهات وانتقادات، وخاصة من الناحية العَقـَديّة. ولكن هذه الاعتراضاتِ سرعان ما اختفت، أو قلْ خفَتَت وتراجعت، بعد نقاشات وحوارات دامت أياما طويلة، اقتنع بعدها الأستاذُ بشيري بأن ما كان يروّجه الناسُ عن الرجل إنما هو محض ادعاء وافتراء، وانضم إلى صف الرجل للتعاون معه من أجل صالح الدعوة؛ ومما قاله الأستاذ بشيري، رحمه الله، في هذا الصدد(والكلام المنقول من رسالة له منشورة في العدد الخامس من مجلة "الجماعة"، ص102): "إني أعتقد جازما أن تعاوني مع الأخ عبد السلام ياسين هو في صالح دعوتنا المباركة جميعا. فليس في عنقي بيعة لأحد إلا العهد الذي قطعته على نفسي لأحملَها على إخلاص النية لله. ولست سُنّيا تصَوَّفَ، كما يخطر بأذهان البعض، كما أني لست صوفيا نبَذ الصوفية ليتمسك بالسنة...".
وفي هذا الصدد، ومن باب معرفة أقدار الرجال ومعادنهم، يمكن المقارنةُ بين رسالة الأستاذ محمد عبادي، الأمين العام الجديد للجماعة، المنشورة في العدد الرابع من مجلة الجماعة، ص70، وبين رسالة الأستاذ بشيري المنشورة في العدد الخامس، ص98، لمعرفة الفرق بين نوعين من الرجال، ونوعين من الإرادات، ونوعين من الخطابات والمطالب والطموحات، وقد كان الرجلان معا صادقين فيما عبرا عنه، وفيما أعلناه وهما يضعان يدَهما في يد الأستاذ ياسين. رحم الله الموتى، وغفر لهم، وتقبل منهم، ورفع مقامهم، وبارك في عمر الأحياء، ووفقهم إلى الخير وأعانهم عليه.
ولكن مع الأيام، وبحكم المخالطة عن قرب، وبحكم النقاشات التي كانت تدور في اجتماعاتِ مجلس الإرشاد، ظهرت الاعتراضاتُ مرة أخرى إلى السطح، ثم تطورت، ثم ازدادت حدّتها، حتى وصل الأمر إلى القطيعة وافتضاح المكنونات.
تفصيلاتُ هذه الاعتراضات "البشيرية"، وما كان يبدر منه، رحمه الله، من "انتفاضات" ضد سلطة المرشد المربي، كانت محصورةً في مربّع مجلس الإرشاد، لا يكاد يعرف عنها مَنْ هم خارج هذا المربع شيئا. ولكن، وبعد قرار الإقالة الذي اعتبره الأستاذ بشيري قرارا ظالما في حقه، وفسّرَه بأنه مؤامرة ضده حبكتها يدُ المرشد بمساعدة بقية أعضاء مجلس الإرشاد، بدأ الرجلُ في فضح المكنونات، وشرَع يكشف ما كان مخبوءا في صدره تجاه سلطة المربي في أحاديثَ مكتوبةٍ ومسموعة ومرئية، منها-وهو ما يهمّنا في هذه الفقرة- أحاديثُ عن "الطاعة والاستبداد"، وعن "المربي المستبد".
ولعلّ اعتراضاتِ الأستاذ بشيري المستمرةَ والمقلقة والمُحرجة والمشاغبة داخل مجلس الإرشاد، هي التي كانت وراء خُفوت حضورِ السلطة التربوية للمرشد داخل الجماعة، بل لِنقُلْ- وهو التعبير السليم والدقيق- كانت وراء وقوف هذه السلطة عند حدود القصد والاعتدال، وعند حدود الاجتهادات التي لا تتعارض مع الأصول الشرعية.
ولعل هذه الاعتراضات "البشيرية" أيضا هي مما يمكن أن يُفَسِّرَ لنا خفوتَ صوْلة سلطةِ المُربّي بعد خروج الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله، من السجن في دجنبر1985، وخفوتَ حضور هذه السلطة أيضا في الدليل الذي أعدّه مجلس الإرشاد بتوجيه من المرشد، وهو عبارة عن كُرّاسة تضمّنت "توضيحات" فيما يخصّ معالمَ خطّ الجماعة الدعوي والفكري والتربوي والسياسي، و"برنامجا مرحليا" بشقيه التربوي والتعليمي. وقد كانت هذه الكُرَّاسة من أساسيات ما يتدارسه الوافدون على الجماعة في أسر التنظيم. والذي يطلع على محتويات هذه الكرّاسة يمكنه أن يقرأ بين السطور حضورَ شخصية الأستاذ بشري المتحفظةِ الحريصةِ على تجنّب كلِّ شبهة من شأنها إعطاءُ الخصوم الحجةَ المكتوبةَ، كما يُعطيهم إياها "المنهاج النبوي"، في زعم هؤلاء الخصوم، لتأكيد ما يدّعونه على الجماعة من كونها دعوةً "صوفية" "بدعية" "خرافية"، تقوم على "تقديس الشيخ المربي"، والخضوع المطلق له.
ومن جهة أخرى، فإن غيابَ اعتراضاتِ الأستاذ بشيري بإبعادِه من الجماعة، هو مما يُمكن أن يُفسّر لنا هذه الانتعاشةَ الكبيرة التي سيعرفها الجانبُ التربوي في أوساط الجماعة، والتي تجلّت، أول ما تجلت، في استحداث "مجالس النصيحة"، محليا وإقليميا وقطريا، ثم بلغت أوْجَها في قرار السماح بنشر رؤى الرائين ومشاهدات المشاهدين، على نطاق واسع، مما جرّ على الجماعة حملة شعواء، وخاصة بعد ما عُرف بـ"رؤيا 2006"، ما تزال آثارها وذيولها مستمرة إلى اليوم.
ولا ينبغي أن يُحمل كلامي هنا على أنه تحقيرٌ للرؤيا واستخفاف بشأنها، وذلك لسبب بسيط، وهو أنني من المؤمنين بأن "الرؤيا" سُنّة لها أصل مكين في الشرع. نعم، لقد عارضْت، وما زلْت أُعارض، أن تصبح الرؤيا مركوبا لتقديس فلان أو فلان من الناس، أو لتزكية الاجتهادات البشرية، وتسويغ المواقف السياسية.
رحم الله الأستاذ محمد بشيري، وجزاه أكبر الجزاء وأوفاه، على ما قدّم من عمل لخدمة دعوة الإسلام.
وإلى مقالة جديدة، إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مراكش: 30 دجنبر2012

الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

حينما يصبح الاجتهادُ السياسيُّ مُقَدّسًا!!


بسم الله الرحمن الرحيم


حينما يصبح الاجتهادُ السياسيُّ مُقَدّسًا!!



بعد تردّد طويل، أرجعُ اليومَ إلى الكتابةِ والتعبير عن آرائي مباشرة، لأني رأيت أن التعبيرَ والتصريحَ والحوارَ من خلال بعض وسائل الإعلام لا يقرؤه الناسُ دائما من جميع جوانبه على الوجه المطلوب، بل هناك من الناس، وبدافع نفسي خاص، من يُصرّ على ألاّ ينظرَ إلى الأمر إلا بعين السوء، التي من طبيعتها الأزلية أنها لا ترى إلا المساوئ.
أرجع اليومَ، في هذه المقالة، وفي مقالات أخرى، إن شاء الله، لأعبّر عن رأيي بلا واسطة ولا حجابٍ قد يتسبب في تضبيب الرؤية عند بعض الناس، وقد يحمل آخرين إلى الذهاب بعيدا في سوءِ الظن وفساد التأويل.
فهذا رأيي مكتوبا يقرؤه الناسُ في عباراته الأصليّة واضحا جليا، يقبلونه أو يرفضونه، يؤيدونه أو يعارضونه، يتعاطفون معه أو ينفرون منه، يُزكّونه أو ينتقدونه؛ لا يهم. المهم هو أن أحس بأني حرّ في إبداء رأيي وإن تضايق منه بعض الناس، وتمنوا أن يظل رأيا مدفونا إلى الأبد.

جوهر القضية
إن جوهرَ قضيّتي مع إخواني في جماعة العدل والإحسان أني تجرأت ذاتَ يوم، فانتقدت اختيارا كنت أراه اجتهادا سياسيا، مثلُه مثلُ سائر الآراء البشرية الظنية، فاكتشفت أن غيري كان يعدّ هذا الاختيارَ وكأنه أصل من الأصول الدينية المقدسة، التي يجب في حقها الخضوعُ والتسليم وحَنْيُ الرأس.
اكتشفتُ أن ما كنت أنظر إليه على أنه اجتهادٌ مؤقت إلى حين، واختيارٌ مظروف بظروف، وتوجّهٌ ألجأت إليه الضرورةُ وواقعُ الحال، هو في اعتقاد بعض إخواني من الأصول الثابتة التي لا يجوز المساس بها، بل هو، عند بعضهم، من الدين وفق قراءة معيّنة لبعض النصوص القرآنية والحديثية.
وبطبيعتي، لم أكن لأستسلم ولا لأسلّم للرأي الآخر ما دمت غير مقتنع به، وما دمت أراه رأيا متهافتا يخالف أبسط قواعد المنطق والسياسة، فضلا عن قواعد الأصول الفقهية ومسالك الرأي والاجتهاد.

تناقضُ الخطاباتِ
من أجل التبسيط والتقريب، تصوّروا معي، أيها العقلاء الفضلاء، ما يلي:
هذا رجلٌ يريد أن ينضمّ إلى جماعة العدل والإحسان، فيسأل عن منهاجها السياسي، بعد أن اطمأن إلى منهاجها التربوي، فيكون الجوابُ الذي يسمعه أن منهاجَ الجماعة السياسي يتمثل في السعي إلى إقامة الخلافة الثانية على منهاج النبوة، التي ورد الوعدُ بها في حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ويضيف الجوابُ أن الطريقَ إلى هذه الخلافة لا يمر إلا من طريق زوال أنظمةِ العض والجبر، ومنها النظامُ الملكي الحاكمُ في المغرب.
والسؤالُ الذي يُمكن أن يطرحه هذا الراغبُ في الانضمام إلى الجماعة، وهو سؤال مشروع ومعقول، هو: هل النصُّ في منهاج الجماعة السياسي على أن من أهداف الجماعةِ القومةَ(الثورة) على النظام الملكي، لإقامة الدولة الإسلامية القطرية، تمهيدا للخلافة الثانية الموعودة- هل هذا النصّ اجتهادٌ سياسي ظنّي، أم هو من الأصول الدينية القطعية؟
في الجواب على مثل هذا السؤال المفتَرض تظهرُ العقدةُ والإشكال في المنهاج السياسي للجماعة، لأنه جواب يمتاز بكثير من الخلط والاضطراب والغموض.
في الخطاب الذي تواجه به الجماعةُ الرأيَ العام نقرأ أن الأمر يتعلق باجتهاد سياسي من بين اجتهادات أخرى، لها هي الأخرى نصيبُها من الصحة والمصداقية، ومن بين هذه الاجتهادات الأخرى، على سبيل المثال، الاجتهادُ الذي يأخذ بها الإخوةُ في حركة التوحيد والإصلاح، ومعهم إخوانُهم وجمهورُهم والمتعاطفون معهم في حزب العدالة والتنمية.
هذا الخطابُ الرسمي الذي نقرؤه في واجهةِ الجماعةِ سرعان ما يسقط أو يصبح مشكوكا فيه، أو يصبح غيرَ ذي مصداقية، حينما نعلم يقينا أن الجماعة كان قيامُها، أوّلَ ما قامت، على أن القومةَ/الثورة على الحكم الجبري هي من "المنهاج النبوي"، وأن أيّ وافدٍ جديد على الجماعة لا بد أن يعتقد اعتقادا جازما لا لَبْسَ فيه ولا تردّدَ أن مطلبَ زوال النظام الجبري مطلبٌ لا يقبلُ النقاش أو المراجعة، لأنه مطلب يشكل جزءا أساسا من النواة الصلبة التي بها قِوَامُ الجماعة.
مَنْ قال هذا؟ ومن قرّره على هذا الوجه من اليقين والقوة والجزم؟ ومن ذا الذي جعل مطلبَ زوال النظام، الذي هو في خطاب الواجهةِ مطلبٌ سياسي اجتهادي بشري نسبي، مطلبا مَسْلُوكا في المعتقدات المقدسة، والحقائق المطلقة التي تقع فوق النقد والمراجعة والتعديل؟
مَنْ فرضَ، داخل الجماعة، ألاّ يُناقش الناسُ هذا الموضوعَ على اعتبار أن القرارَ فيه من المُسلّماتِ التي لا تحتاج إلى نقاش؟

في الحقيقة
الذي أعرفُه، ويعرفه جميعُ المهتمين المتتبعين العارفين بشؤون الجماعة -والأمر هنا لا يتعلق بأسرار، وإنما يتعلق بشيء مكتوب ومنشور- أن مطلبَ زوال النظام الملكي لم يكنْ، في أصله، اختيارا صادرا عن تحاور وتشاور في مؤتمر تأسيسي، أو في مجلس جماعي شوري، بل هو مطلبٌ تبلورَ في فكرِ مرشد الجماعة ومؤسّسها، رحمه الله، قبلَ تأسيس الجماعة، ثم ظل يختمر في أثناء قراءاته وتفكّرِه وتدبّره وتجاربه مدّة تقارب، في تقديري، خمسة عشر عاما(1964-1979)، حتى خرج ناضحا، أولا، في كتاب "المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا"، الذي بسط فيه الأستاذ ياسين، رحمه الله، تصورَه واجتهاده في مجالات الدعوة والتربية والسياسة والتنظيم، ثم في  غيره من الكتابات، من بعد ذلك، ثانيا.

"المنهاج النبوي" كتابٌ ليس كسائر الكُتب
"المنهاج النبوي" كتابٌ ليس كسائر الكتب، لأنه ما يزال إلى اليوم يُعدّ بمثابة "القانون الأساسي" لجماعة العدل والإحسان، ومِنْ شأن القوانين الأساسية في كل التنظيمات أن تكون مُلزِمة لجميع أعضاء التنظيم إلزاما يوجب عليهم احترامَها، ومراعاةَ مقتضياتها، والانضباطَ بضوابطها، والسيرَ على هدْيها.
وها هنا التباسٌ، قد يصل إلى حدّ التناقض في نظر بعض الناس، يحتاجُ إلى نقاش وتوضيح: فمِنْ جهة، "المنهاج النبوي" كتابٌ يَعرض اجتهادا بشريا للمناقشة والأخذ والردّ، ومِنْ جهة أخرى، يصبح هذا المنهاجُ نفسُه "قانونا" مُلزما!!!
لدفع هذا الالتباس، قد يقول قائلٌ إن "المنهاج النبوي"، بما هو فكرٌ واجتهادٌ ونظرٌ، كان دائما، وما يزال، مطروحا على الناس لينقدوه ويقوّموه، ويُغنوه ويطوّروه، ويأخذوا منه ويردّوا. أمّا مَن اختارَ من الناس الانتماءَ إلى جماعة العدل والإحسان، فإنه يصبح، بالضرورة، ملزَما بمبادئها وأهدافها وقوانينها، أي ملزما بـ"منهاجها"، الذي هو كتاب "المنهاج النبوي" نفسُه.
قد يعترض معترضٌ على هذا التفسير بأن المعروفَ في "القانون الأساسي"، عند الشروع في التأسيس، أن يكون في شأنه نقاشٌ وتداولٌ بين المُؤسسين قبل أن يحصل حوله توافقٌ أو اتفاقٌ أو تراضٍ أو ما شابَه هذا مما يفيد أن "القانون" قد تم إقرارُه بإرادة جماعية يطبعها الرضا وحريةُ الاختيار. أمّا في حالة "العدل والإحسان"، فإن المعروفَ أنه لم يكن هناك تشاورٌ وتداول، ثم اتفاقٌ أو تراض على "قانون أساسي" للجماعة قبل إعلان تأسيسها.

سلطان التربية
 مما تنبغي معرفتُه في هذا الصدد، حتى نَصفَ الأشياءَ كما هي في حقيقتها، أن الجماعةَ، عند تأسيسها، لم تكن على شاكلةِ الأحزاب السياسية، والمنتديات الفكرية، والجمعيات الثقافية، وإنما كانت تتميّز، وما تزال إلى اليوم، بأنها جماعة دعويّة أساسُها وجوهرُها وبوّابتُها التربيةُ ثم التربيةُ ثم التربية.
ومن حقّ سائلٍ أن يسأل هنا: وبِمَ تتميز "الجماعة الدعوية" عن غيرها من التنظيمات حتى يجوز تأسيسُها بلا "قانون أساسي" ارتضاه المؤسسون بعد نقاش وتحاور وتشاور، وحتى يجوز خضوعُها لـ"منهاج" لم يتشاور فيه واضعُه مع أحدٍ من أصحابِه المُؤسّسين، ولا استمع إلى آرائهم فيهم؟
كان الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله، هو النواة الصلبة، التي لولاها لما كان هناك اليوم كيانٌ اسمُه "العدل والإحسان". لقد كان اليَعْسوب الذي حوله كان الاجتماعُ، وبه ارتفع البناء. واليعسُوب في اللغة أميرُ النحل وذكَرُها، ويُطلق على السيد والرئيس والمُقَدَّم.
فدعوةُ العدل والإحسان، قبل أن تُصبح واقعا حيّا برجالها ونسائها، وتنظيمها ومواقفها، كانت حيّة في قلب صاحبِها، رحمه الله، وهو في بداياتِ نظرِه في فقهِ التجديد والتربية والتنظيم، وتفكيرِه في مسالك تكوين "جند الله"، والسيرِ بهم  لاقتحام العقباتِ صعودا إلى القيامِ لله، والقيامِ على طواغيت العضّ والجبر. كان هذا الخطُّ المنهاجيُّ، في تصور الرجلِ وتفكيرِه، واضحا، على الأقل في معالمِه الكبرى، قبلَ ميلاد الجماعة بسنوات.
وقد كان برهانُ صدقِ الرجل الداعيةِ، رحمه الله، يسبقه، ويسير بين يديه. برهانُ صدقٍ على ربّانيته العالية وتقواه، في أقواله وأفعاله، وعلى علمه، فهما وفقها ونظرا وتأليفا، وعلى صلابتِه في قول الحق والإنكارِ على الظالمين، وعلى ذلّتِه على المؤمنين وسلوكِه سبيلَ المُحسنين.
هذا هو مؤسسُ دعوة العدل الإحسان، رحمه الله، بشهادةِ مَنْ عرفوه وخالطوه وعاشروه وصحبوه وتتلمذوا له.
فأصحابُ الرجل المجتمعون حوله، في بدايات التأسيس، كان يكفيهم ما يرون من سلوك الرجل، وما يسمعون من كلامه، وما يشعّ عليهم من سمْته الإيماني وفضله العلمي، ليصدّقوه ويصحبوه ويطمئنوا إلى أن يكون لهم مربيا ومرشدا. صدقُ الرجل عند أصحابه كان يكفي، ومن ثَمّ لم تكن بالناسِ يومئذ حاجةٌ ليعرفوا أكثر، أو ليسألوا عن التفاصيل فيسيئوا الأدبَ مع رجل لا يشكّون في سلامة طَوِيّته وصدقِ دعوته وشرفِ مقصده ومبتغاه.
هكذا مضى الأمرُ في تلقائية وبساطة، وهكذا عُقِد العَقْدُ، وتَوَثّق العهدُ، فكان من هذه الصحبة جماعةٌ تُعتبر الأسرةَ الأولى التي بها كان التأسيس. وهكذا كانت البدايةُ، حتى إذا بدأت الأواصرُ بين المصحوب وأصحابِه تتمكن وتترسخ، جاء "المنهاج النبوي"، ليُنظم التربيةَ، ويَرسم معالمَ الطريق، ويحدد آفاق السير.
جاء "المنهاج النبوي"، فاستقبله الأصحابُ بلا نقاش ولا سؤال، لأنه منهاجٌ من وضع المُربّي الذي وثقوا به، وامتدادٌ طبيعيّ لسلطته التربوية التي سلّموا له بها. فلم يلتفِت أحدٌ، في البداية، إلى مناقشة المبادئِ التي ينبني عليها هذا المنهاجُ، والخطط التي يرسمها، والغاياتِ التي يحدّدها. كان يكفي الناسَ أن واضع هذا المنهاجَ هو المصحوب المربّي المرشد.
لقد كان مرشدُ الجماعة، رحمه الله، حسب ما هو مسطّر في "المنهاج النبوي"، وحسب الأمر الواقع أيضا، هو "المربي الأول"، و"هو الذي يتخذ القرارات التربوية والتنظيمية"، و"هو الذي يُمضي أو يرفض خطط التربية، وبرامج الدعوة، أو يعدلها". في جملة، وبنص "المنهاج النبوي" دائما، المرشدُ هو "صاحب الأمر والنهي في كل صغيرة وكبيرة".
وهذه السلطةُ المطلقةُ بوّأت المرشدَ بين أصحابه مكانةً لم يكونوا يملكون معها، وإن كانوا من دائرة المُقرَّبين، إلا السمع والطاعة في غلاف من المحبة والاحترام يناسبُهما، وجعَلَتْه المقررَ الأولَ في جميع شؤون الجماعة. هذا هو الواقع، أصفُه كما هو، لا أتلجلجُ ولا أتلعثمَ.
تتمة الكلام في مقالة جديدة إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

مراكش: 26 دجنبر 2012

الخميس، 21 يونيو 2012

الأدب بين حرية الإبداع وشريعة المجتمع(3)



بسم الله الرحمن الرحيم



الأدب بين حرية الإبداع وشريعة المجتمع(3)





قصة الحطيئة والنجاشي مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه



كان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، مع الشعراء، عدة حكايات، وقد كان دائما يتصرف تصرف القاضي النزيه، الذي كلُّ همه هو إقامة العدل، وحماية الحقوق.

ونقف، بإيجاز، عند اثنتين من هذه الحكايات، تجسدان النازلة القضائية بكل عناصرها، في أوضح صورة: المدّعي، والمدّعَى عليه، والقاضي، والشهود من أهل الخبرة والاختصاص، وطريقة أو مسطرة التحري والتحقق، قبل إصدار الحكم النهائي.

والحكاية الأولى كانت مع الحطيئة(جرول بن أوس)، والثانية مع النجاشيّ الحارثي(قيس بن عمرو).

وفيما يخص الحكاية الأولى، فقد شكا الزّبرقان بن بدر الحطيئةَ[1] إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وادّعى عليه أنه قد هجاه، وذكر من ذلك قولَ الحطيئة:



دع المكارم لا ترحل لبغيتــها   واقعدْ فإنك أنت الطاعم الكاسي[2]



فحاول سيدنا عمر، رضي الله عنه، أن يهوّن عليه وقْعَ كلام الحطيئة، وأن يُفهمه أنه إنما أراد معاتبته لا هجاءه[3]، لكن الزبرقان لم يقتنع، وبقي مصرا على دعواه وشكواه. فأرسل عمر، رضي الله عنه، إلى حسان بن ثابت يطلب رأيه في قول الحطيئة، فقال حسان: "لم يهجه، ولكن سلح[تغوّط] عليه[4]. فحبسه عمر، وقال: يا خبيث، لأشغلنك عن أعراض المسلمين."[5]

وقد ذكر ابن سلام الجمحي أن عمر، رضي الله عنه، كان "يعلم من ذلك ما يعلم حسان، ولكنه أراد الحجة على الحطيئة."[6] فهو لم يحتج إلى حسّان لأنه لم يكن له علمٌ بالشعر، بل لأنه قاض واجبُه الأول إقامة العدل، وأن لا يصدر حكما إلا بعد التثبت والتحقق. ولم يزل كلُّ قاضٍ يتحرى العدل والإنصاف محتاجا، دائما، لخبرة أهل الميدان، ومعرفة أهل الاختصاص.

فنحن هنا إذاً أمام نازلة قضائية بحتة، يراد فيها تبينُ وجه الحق، والاقتصاصُ من الجاني، وإنصافُ المجني عليه.



وفي الحكاية الثانية أن النجاشي الحارثيّ(قيس بن عمرو)[7] هجا بني العَجْلان، فاستعدوا عليه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، "فقال عمر: ما قال فيكم؟ فأنشدوه:



إذا الله عادى أهل لؤم ورقّـــة

                        فعادى بني العجلان رهطَ ابنِ مقبل.



فقال عمر: إنما دعا، فإن كان مظلوما استُجيب له، وإن كان ظالما لم يستجب له. فقالوا: وقد قال أيضا:

قُبَيِّلةٌ لا يغدرون بذمــــــة      ولا يظلمون الناس حبّة خــردل.



فقال عمر: ليت آل الخطاب هكذا. قالوا: وقد قال أيضا:



ولا يردون الماء إلا عشيــــة

                           إذا صدر الوُرّاد عن كل منهــل.



فقال عمر: أقل للّكاك[الزحام]. قالوا: وقد قال أيضا:



تعاف الكلاب الضاريات لحومهم

                           وتأكل من كعبٍ وعوف ونهشلِ.



فقال عمر: أَجَنَّ القومُ موتاهم فلم يضيّعوهم. قالوا: وقد قال:



وما سُمّي العَجلانَ إلا لقيلهم     خذِ القَعْبَ[8]واحْلب، أيها العبد، واعْجلِ



فقال عمر: خير القوم خادمهم(وكلنا عبيد الله)؟."[9]

ولمّا رأى عمر، رضي الله، الناسَ مصرين على دعواهم لا يتزحزحون عنها، أرسل إلى حسان-وفي رواية "الشعر والشعراء" أرسل إلى حسان والحطيئة- فسأله، فقال "مثل قوله في شعر الحطيئة"(نفسه)، أي أن النجاشيَ لم يهجهم فقط، ولكن سَلَح عليهم.

"وكان عمر، رضي الله، عنه، أبصرَ الناس بما قال النجاشي، ولكن أراد أن يدرأ الحدّ بالشبهات، فلمّا قال حسان ما قال، سجن النجاشي، وقيل: إنه حدّه."[10]

وهناك روايات كثيرة تؤكد أن عمر، رضي الله عنه، في مثل هذه الشكاوي، التي يكون فيها الشعراء مدّعى عليهم، كان أحرص ما يكون على أن ينأى برأيه وذوقه وعلمه وحسه الشعري عن الحكومة، وكان يستشهد للفريقين(المدّعي والمدّعَى عليه) رجالا، كحسان بن ثابت، يسلم النظر إليهم، "فرارا من التعرض لأحدهما"[11]، "فإذا سمع كلامهم[أي الرجال المُحكّمين] حكم بما يعلم، وكان الذي ظهر من حكم ذلك الشاعر مقنعا للفريقين."[12]

ونخلص من كل هذا إلى أن الإسلام، ممثلا في أولياء الأمر، أي المسؤولين الحكوميين بعبارة العصر، لم يتعرض للشعر بما هو فن، ولا للشعراء بما هم شعراء يلتزمون حدود قانون المجتمع وآدابه وأخلاقه. وكل الروايات التي وردت عن عقاب الشعراء، على عهد الخلفاء الراشدين تحديدا، إنما كانت من صميم العمل الواجب على أولياء الأمر تجاه سلوكات إجرامية، من أجل إقامة العدل، وحفظ الحقوق، ورعاية مصالح الناس[13].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.






[1] قد أجمعت المصادر على أن الحطيئة كان من أقبح الناس خِلْقة وخُلُقا. قال الأصمعي، فيما أورده صاحب الأغاني: "كان الحطيئة جشعا، سؤولا، ملحفا، دنيء النفس، كثير الشر، قليل الخير، بخيلا، قبيح المنظر، رث الهيئة، مغموز النسب، فاسد الدين."(الأغاني:2/163)
وقال عنه صاحب الأغاني: "وكان ذا شر وسفه، ونسبُه متدافع بين القبائل."(نفسه:2/157).
ووصفه ابن قتيبة بأنه "كان رقيق الإسلام، لئيم الطبع."(الشعر والشعراء، ص199).
ومع هذا الإجماع على وصفه بأقبح النعوت، فإنهم قد اعترفوا له بمكانته الشعرية العالية، حيث وصفوه بأنه كان  "متين الشعر، شرود القافية"(طبقات الشعراء، لابن سلام، ص47)، وأنه "من فحول الشعراء ومتقدميهم وفصحائهم، متصرّف في جميع فنون الشعر من المديح والهجاء والفخر والنسيب، مجيد في ذلك أجمع."(الأغاني:2/157).

[2] طبقات الشعراء، لابن سلام، ص51. والشعر والشعراء، ص203.

[3] الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، دار الثقافة، بيروت،ط8، 1979:ج2/ص186.

[4] لقد كان الحطيئة "بذيئا هجّاء"، لم يكد أحد يسلم من سلاطة لسانه؛ فقد هجا أمه وأباه، بل وهجا نفسه. ومما قاله في هجاء أمه:
جزاك الله شرّا من عجـــــــوز           ولقّاك العقوق من البنينـــــا…
حياتك، ما علمت، حياة ســوء            وموتك قد يسرّ الصالحينــا.
(الشعر والشعراء، ص200. وديوانه، ص186،187)
ومما قاله في هجاء أبيه:
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي             وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم، لا حيّاك ربـــّي،            وأبواب السفاهة والضــــــلال.
(نفسه. وديوانه، ص168)

[5] الشعر والشعراء، ص203. وفي رواية "طبقات الشعراء"، لابن سلام: "درق عليه" مكان "سلح عليه". تراجع تفصيلات أخرى في هذه القصة في ("الأغاني":2/179 وما بعدها).

[6] طبقات الشعراء، ص51.

[7] "كان فاسقا رقيق الإسلام"(الشعر والشعراء، ص204). ومن فسقه أنه كان يجاهر بالإفطار في رمضان والناس صيام. وقد أُخذ في ذلك، "فأُتي به علي بن أبي طالب، فقال له: ويحك، ولداننا صيام وأنت مفطر، فضربه ثمانين سوطا وزاده عشرين(سوطا)، فقال(النجاشي الحارثي): ما هذه العلاوة يا أبا الحسن؟ فقال: (هذه) لجرأتك على الله في شهر رمضان، ثم وقفه للناس ليروه…"(المصدر نفسه)

[8] القعب: القدح الضخم.

[9] الشعر والشعراء، ص205.

[10] العمدة، لابن رشيق:1/52. وفي رواية ابن قتيبة أنه لم يسجنه، بل هدّده "وقال له: إن عدت قطعت لسانك."(الشعر والشعراء، ص205)

[11] العمدة:1/76. البيان والتبيين:1/240.

[12] البيان والتبيين:1/240.


[13] راجع أمثلة أخرى، في هذا الموضوع، في "باب من استعدي عليه من الشعراء"، في "العقد الفريد"، لابن عبد ربّه الأندلسي(أحمد بن محمد)، الجزء السادس، ص166-173.

الخميس، 14 يونيو 2012

الأدب بين حرية الإبداع وشريعة المجتمع(2)



بسم الله الرحمن الرحيم



الأدب بين حرية الإبداع وشريعة المجتمع



(2)



حرية الشاعر الفنان لا تُسقط مسؤولية الشاعر الإنسان



(1)

بأي مقياس-كيفما كان هذا المقياسُ- يُعطي هؤلاء الحداثيون الأديب، شاعرا كان أم كاتبا، الحرية المطلقة، لقول ما يريد، وكيف يريد، وفي أي وقت يريد، وبأي أسلوب يريد؟

أليس للناس حقوق وحرمات؟ أليس للمجتمع مقدسات وقوانين؟ أم أن الأمر قانون، وحريات مشروطة، وحقوق واجبة، ومقدسات مرعية، إلا على الأديب، فإنه غير معني بكل ذلك، لأن الشريعة، والحكمَ بالظاهر، والقوانينَ الجزائية والتأديبية، وغيرَها من متعلَّقات حفظ الحقوق والحريات، ورعايةِ القوانين، وزجرِ المخالفات والجنايات، إنما هي لغيره من الناس؟

مَنْ، في الدنيا، يقول هذا ؟ وبأيّ فهم، أو نظرية، أو حق، أو دين، نُعطي الأديب امتيازَ عدم الخضوع لشريعة مجتمعه، وقواعدِ نظام هذا المجتمع وآدابه وأعرافه؟

مَن أعطاه الحقَّ المطلقَ مِن أيةِ مسؤولية، ليمزّقَ، ويتجاوزَ، ويهدم، ويُفجّر، ويَسخَر، ويدنّس؟

لماذا هذا الامتيازُ بالتحديد للشعر والشعراء، مثلا؟ ومتى كان هذا الامتياز؟ ومن قال به؟

مَن حكمَ هذا الحكمَ الذي لا يقبل الطعن والمراجعة؟ ومن صوّر الشاعر هذا التصوير المُغرق في الوهم والعبث واللاجدوى؟

الذي أعرفه، في حدود اطلاعي وحسب معلوماتي، هو أن الذي قال، وحكَم، وصوّر، وقرّر، وفرَض، هو دينُ الحداثيّة الإديولوجية العنفية المتطرفة، وقراراتُ هذا الدين مطلقةٌ نهائية لا تقبل المناقشة والاستئناف.

كيف يقبل الحداثيون أن تنص المدوناتُ القانونية على أن سبّ رئيس دولةٍ أجنبية، مثلا، يُعدّ جريمة يعاقِب عليها القانون، ولا يجدون في ذلك أدنى حرج، بل يرونَه هو عين الحق والعدل والنظام، ويرفضون، في مجتمع إسلامي، تجريمَ إهانةِ مقدّسات المسلمين، مثلا، أو انتهاكِ حرمات الله، أو الدعوةِ إلى الإلحاد والطعنِ على أصول الإيمان، أو المجاهرةِ بالمعاصي والآثام، والتحريضِ على البغي والفساد؟

كيف تُقبل محاكمة من يتطاول على المبادئ اللائكية(العلمانية) الأتاتوركية للدولة في تركيا ، مثلا، وتُرفض محاكمةُ شاعر أو كاتب أهان اسمَ الله في عمله، أو طعنَ على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟

ما هذا الخلطُ الفظيع في الحقوق والواجبات؟

ما هذا الفهم العبثي للقوانين والحريات؟

ما هذا العبث في تقدير مصالح المجتمعات، وحماية حقوق الأفراد والمعتقدات؟



(2)

لقد تكلم الحداثيون، وعلى رأسهم أدونيس، على مجموعة من الشعراء، معدودين ومعروفين بأسمائهم، وزعموا أن الإسلام قد أدانهم، وأن تلك الإدانة لم تكن إلا بسبب فنهم/شعرهم، وأطلقوا هذا التعليلَ، حتى بات عندهم كأنه من الحقائق المطلقة.

أما عند البحث المتأني، والمراجعة الموضوعية الدقيقة، فلا نجد فنّا مرفوضا، ولا أدبا مردودا، ولا حرية مغتصَبة، ولا حقا ضائعا، ولا قمعا مسلَّطا على الشعراء، وإنما الأمرُ، في حقيقته، جرائمُ ومخالفاتٌ يعاقب عليها قانون المجتمع، كما هو الشأن في أي مجتمع منظم ومتحضر.

المجاهرةُ بشرب الخمر، مثلا، في المجتمع الإسلامي جريمة يعاقب عليها القانون. والوقوع في أعراض الناس جريمة، وكذلك التحرّشُ بالنساء والمسُّ بكرامتهن وعفافهن، وإتيانُ الفواحش والمحرمات، وإثارةُ الفتن، وإشعالُ فتيل النعرات العرقية والقبلية والطائفية،… إلى آخر الجرائم والمعاصي والمخالفات التي ينص قانون المجتمع على معاقبة مرتكبيها.

لقد كان هناك في النقد الأدبي القديم ما يشبه الاتفاقَ الضمني على التمييز بين الشعرِ بما هو فن وإبداع في مجال الأدب، وبين الشعر بما هو سلوك اجتماعي مسؤول في مجال القانون والمعاملات، فلذلك وجدنا نقاد الشعر يعترفون ببراعة الشاعر، وجودة شعره، وعُلو شاعريته بين الشعراء، وإن كان فاسقا، رقيقَ الدين، أو خبيثا في هجائه، أو فاحشا في غزله، أو مُغاليا في مجونه وتهتكه وخلاعته.

فالمطلوب، عند من ينقد الشعر من جانب فنيته وبراعة صنعته، هو أن "على الشاعر إذا شرع في أي معنى كان، من الرفعة والضعة، والرفث والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة، أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة."[1]

ويذهب قدامةُ بن جعفر، في تأكيده أن الدائرة في نقد الشعر إنما هي على براعة الشاعر واقتداره- يذهب إلى "أن مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين، بأن يصف شيئا وصفا حسنا، ثم يذمه بعد ذلك ذما حسنا"(نفسه،ص66) ، لا تستوجب عيبَه والإنكار عليه "إذا أحسن المدح والذم، بل ذلك عندي-يقول قدامة- يدل على قوة الشاعر في صناعته، واقتداره عليها."(نفسه)

فالمهم، عندهم، هو قدرة الشاعر على البلوغ غايةَ الجودة في تناول موضوعه، وإن كان هذا الموضوع فاحشا في ذاته، إذ "ليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه، كما لا يعيب جودة النجارة في الخشب مثلا، رداءته في ذاته."(نفسه)

لكن، حينما تتجاوز هذه الفحاشة حدودَ الشاعر في ذاته، وتصبح وقوعا في حدّ من حدود الله، أو تطاولا على حقوق الناس، أو مجاهرة بارتكاب المعاصي والمحرمات، فإن الأمر عندئذ يقتضي تدخّل القضاء، لأنه هو الموكّل بحماية الحقوق والحريات، لإرجاع الأمور إلى نصابها، وضمان أمن الناس، والانتصار لأصحاب الحق، والضرب على يد المجرمين المعتدين.

لكن الفوضويّين من أنصار الحداثية الإديولوجية المتطرفة يعترضون على أن تكون نهايةُ حرية الشاعر الفنان عند حدود شريعة المجتمع. فالشاعر، عندهم، أكبرُ من أن يخضع لقوانين المجتمع.



(3)

لقد ذكر أدونيس، في سياق بحثه عن أصول الثقافة الاتباعية في التراث العربي الإسلامي[2]، أسماءَ مجموعة من الشعراء على أنهم قد نزلَ ما نزل بهم من العقاب، لا لشيء إلا لأنهم شعراء. ولم يُشر، ولو إشارة خفيفة، إلى التّهم التي ثبتت عليهم، والتي استحقوا من أجلها أن يُعاقبوا، كسائر أفراد المجتمع، وفق شريعة الإسلام التي هي قانون المجتمع آنئذ. وهذا نص كلامه الذي ختم به الفصل الثالث من الجزء الأول من كتاب "الثابث والمتحول"، قال:

"وبمقتضى هذا المنظور الأخلاقي-الإديولوجي[3] سُجن ضابئ ابن الحارث البرجمي، وضرب أبو شجرة السلمي، وسجن أبو محجن الثقفي لإعلانه في شعره أنه يعارض تحريم الخمرة[4]، ثم نفاه عمر، ومات في منفاه، وقُتل سحيم عبد بني الحسحاس[من قتله؟][5]، ونفي عمر بن أبي ربيعة والأحوص، ونُذر قطع لسان جميل، وأُهدر دمه[من أهدره؟ ولماذا؟]، وحُبس العرجي حتى مات في سجنه، وعُذب أبو دهبل الجمحي، ونُفي ومات في منفاه، وقتل وضاح اليمن. هذا دون أن نذكر الشعراء الذين قتلوا لأسباب سياسية."[6]

وهذا، في رأيي-بعد اطلاعي على أخبار الشعراء الذين ذكرهم، وما عُرفوا به بين الناس، في مجتمعهم، وما تناقله الرواة من روايات، لهم أو عليهم- حكمٌ، من أدونيس، خالٍ من النزاهة العلمية، وأمانة البحث الموضوعي، الذي، من مميزاته التحري والتحقق، وبالتالي، فهو حُكمٌ يندرج في خانة الأفعال الإديولوجية المتعصبة، التي تقوم، أساسا، على الهوى وفرض الرأي الشخصي، ولو على حساب قواعد الاستنتاج النزيه، ومقومات المنهج السليم.

وفيما يلي أمثلةٌ توضح حالاتِ بعض هؤلاء الشعراء الذين قدّمهم أدونيس على أنهم من ضحايا المنظور "الأخلاقي-الإديولوجي"[7] الإسلامي،وثقافته الاتباعية، التي تعارض حرية الإبداع، وتحارب الشعراء المبدعين. ونكتفي بأمثلة فقط، لأننا إذا أردنا أن نوضح كل حالة من حالات الشعراء الذين ذكرهم، فإن ذلك سيقودنا إلى تطويل لا مكان له في هذه المقالة.

1) فهذا أبو محجن الثقفي، "كان مولعا بالشراب مشتهرا به"[8]، وهو القائل، يصف شدة ولعه بالخمرة ومدى تمكن حبّها من نفسه:

إذا متّ فادفِنّي إلى جنب كرمــة

                           تُروّي عظامي، بعد موتي، عروقُها

ولا تدفننّي بالفلاة فإننــــــــــــــــــي

                           أخاف إذا ما متّ ألاّ أذوقهـــــــــــا[9]

وقد كان شاعرا شريفا[10]، لكن شاعريته وشرفَه لم يمنعاه من أن يُقام عليه الحدّ في شرب الخمر مرارا(نفسه) ، لأن الأمر أمرُ شريعة وحدود، لا علاقة له بالفن والإبداع.

ويُروى أن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، حبسه، في معركة القادسية، في القصر معه، فلمّا حمي الوطيس تمنى أبو محجن لو كان في قلب المعركة، وقال في ذلك:

كفَى حَزَناً أن تطرد الخيلُ بالقنا

                       وأُترك مشدودا عليَّ وِثاقيــــــــا

إذا قمت عنّاني الحديدُ وأُغلقت

                       مصاريع من دوني تُصمّ المناديـا

وقد كنت ذا مال كثير وإخــوة      فقد تركوني واحدا لا أخا ليـا

أريني سلاحي، لا أبا لك، إنني

                       أرى الحرب لا تزداد إلا تماديـا.[11]

وقد عاهد أبو محجن المرأة التي كان مقيدا عندها، وهي زبْراء أمّ ولد سعد بن أبي وقاص، لئن أطلقته ليعودنّ إلى قيده بعد انتهاء القتال. وبالفعل، فقد وفّى أبو محجن بعهده، وعاد إلى ما كان فيه من الأسر، بعد أن أبلى البلاء الحسن في المعركة(نفسه).

وقد دخل عليه سعد بعد أن علم بخبره، وقال له: "لا ضربتك أبدا. قال أبو محجن: وأنا، والله لا أشربها أبدا."[12]

فأين هذا الكلام الذي لخصنا به قصة أبي محجن الثقفي المسلم من ظاهر قول أدونيس: "وسُجن أبو محجن الثقفي، لإعلانه في شعره أنه يعارض تحريم الخمرة، ثم نفاه عمر، ومات في منفاه."؟



2) وهذا ضابئ بن الحارث البُرجُميّ، كان "رجلا بذيّاً كثير الشر"[13].

ويُروى في سبب حبسه أنه استعار كلبا من بني نهشل، فلمّا ألحّوا عليه لإرجاعه منه، غضب عليهم وهجاهم ورمى أمّهم بالكلب، ومن ذلك قوله:

فأمكم لا تتركوها وكلبكـم        فإن عقوق الوالدات كبيــــــرُ[14]

"فاستعدوا عليه عثمان، فقال: ويلك ما سمعت أحدا رمى امرأة من المسلمين بكلب غيرك، وإني لأراك، لو كنت على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأنزل الله فيك قرآنا. ولو أحدٌ قبلي قطع لسان شاعر في هجاء لقطعت لسانك. فحبسه في السجن."[15]

فالحبس في هذه الواقعة ليس فيه أي مساس بحرية الشاعر، لأن الأمر وقوعٌ في أعراض الناس، وقذفُ امرأة محصنة بالمنكر والباطل، فضلا عن محاولة القتل[16]. وكل ذلك سلوك إجرامي يستوجب العقاب في قانون المجتمع الإسلامي.



 3) وهذا الأحوص بن محمد بن عبد الله، كان "يُرمى بالأبْنَة[العيب في الكلام] والزنا، وشُكي إلى عمر بن عبد العزيز فنفاه من المدينة إلى قرية من قرى اليمن على ساحل البحر."[17]

وحينما حاول جماعة من الأنصار أن يتشفعوا له ليسمحَ له بالرجوع إلى المدينة، سرد عليهم عمرُ بن العزيز، رضي الله عنه، أبياتا من شعر الأحوص تشهد باستهتاره وتطاوله على المحارم[18]، ثم قال: لا جرَمَ، لا رددْته إلى المدينة ما كان لي سلطان."(نفسه)

فسبب النفي هنا أيضا واضح، ولا شأن له بالشاعر من حيث هو مبدع فنان، وإنما له شأن بالأحوص الإنسان، الذي أتى، في أفعاله، ما لا يسمح به القانون.



4) وهذا سحيم عبد بني الحسحاس، "كان شاعرا محسنا"[19]، "حلوَ الشعر رقيقَ حواشي الكلام"[20]. لم يُقتل حدّا، وفق مقتضيات الشريعة الإسلامية، وإنما قتله مجهولون. وقد رُوي في سبب قتله أنه كان يُتّهم بامرأة، "فأخذوه[فاعلون مجهولون][21] شاربا ثملا، فعرضوا عليه نسوة، حتى إذا مرّت عليه التي يظنونها به أَهْوَى بها، فقتلوه لما تحقق عندهم."[22]

ومن شعره في وصف لقائه بعشيقته:

وهبّت شمالا آخر الليل قـــــرّةٌ

                         ولا ثوب إلا درعها[23] وردائيـــــــا

فما زال بردي طيّبا من ثيابهــا

                         إلى الحول حتى أنهج البُرد باليا.[24]

والذي نستنتجه من هذه الأمثلة الأربعة أن ما نال هؤلاء الشعراء إنما كان بسبب سلوكات ومخالفات يحرمها القانون في المجتمع الإسلامي: شرب الخمر، الزنا، قذف المحصنات، الوقوع في أعراض الناس وانتهاك محارمهم…

فالمسألة إذاً مسألة نظام وشريعة. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، أصولٌ ثابتة في شريعة المجتمع الإسلامي، لحماية هذا المجتمع أن تشيع فيه الفاحشة، فتهتز أركانه ويسري الوهن في أوصاله.

التتمة في الأسبوع القادم، إن شاء الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين







[1] نقد الشعر، لقدامة بن جعفر، ص65،66.

[2] "الثقافة الاتباعية"، عند أدونيس، هي النابعة من عقائد الإسلام وأحكامه وآدابه وتشريعاته، تقابلها "الثقافة الإبداعية"، وهي الخارجة على أصول الإسلام، الجاحدة بشرائعه، الغارقة في العصيان والزندقة والإلحاد.

[3] يقصد المنظور الإسلامي الشرعي. وعبارته تشي بنوع من الإصرار على عدم الاعتراف بشريعة المجتمع الإسلامي وقوانينه، لا لشيء إلا لأنه يرفضها ويعارضها ويعتبرها مناقضة لحقوق الإنسان وحريته في التفكير والإبداع والسلوك على هواه، كما يشاء.

[4]هذا ادعاء غير صحيح، لأن أبا محجن اشتهر بتعاطي الخمرة والولوع بها، فكان عقابه بالسجن جزاء له على فعل تجرّمه الشريعة الإسلامية. أما شعره، فلم يكن إلا مرآة لسلوكه وعاطفته ورغبات نفسه.

[5] هذه الزيادات بين المعقوفتين(القوسين المركّنين) هي من عندي.

[6] الثابت والمتحول،(الأصول)، ص172.

[7] اقرأ أمثلة كثيرة من هؤلاء الذين يعتبرهم أدونيس ضحايا قمع الإديولوجية الإسلامية، والذين لا يُخفي تعاطفه الكبير مع قضيتهم، لأنه يقدمهم، دائما، على أنهم كانوا ضحايا قضية الحداثة والإبداع والحريات في التاريخ العربي الإسلامي- اقرأ أمثلة كثيرة من هؤلاء في "الكتاب(أمس المكان الآن)"، لأدونيس، طبعة دار الساقي، الجزء الأول(1995)، والثاني(1998)، والثالث(2002).

[8] الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص272.

[9] نفسه.

[10] طبقات الشعراء، لابن سلام الجمحي، ص103.

[11] نفسه. والشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص272.

[12] نفسه. والشعر والشعراء، ص272.

[13] طبقات الشعراء، لابن سلام، ص71.

[14] الشعر والشعراء، ص218.

[15] طبقات الشعراء، لابن سلام، ص71.

[16] فقد "عُرض أهلُ السجن يوما، فإذا هو[أي ضابئ بن الحارث] قد أَعدّ حديدة يريد أن يغتال بها عثمان…"(طبقات الشعراء، لابن سلام، ص71، و"الشعر والشعراء"، ص219.) ومن شعره في هذه الحادثة:
هممت ولم أفعلْ، وكدت وليتني
                       تركتُ على عثمان تبكي حلائله.
(نفسه، ص72. والشعر والشعراء، ص219.

[17] الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص345.

[18] كقوله في محارم الغير:
أدور ولولا أن أرى أمّ جعفر
                       بأبياتكم ما دُرت حيث أدورُ
وقوله:
الله بيني وبين قيّمهــــا     يفرُّ منّي بها وأتبـــــعُ
(الشعر والشعراء، ص345). والشبهة في مثل هذا الكلام غير خافية.

[19] الشعر والشعراء، ص258.

[20] طبقات الشعراء، لابن سلام، ص75.

[21] وفي لفظ رواية ابن قتيبة: "سقوه الخمر" بالإسناد إلى مجهولين.(الشعر والشعراء، ص259)

[22] طبقات الشعراء، لابن سلام، ص76. والشعر والشعراء، ص259.

[23] في رواية بلفظ: "بردها".


[24] نفسه، ص75.