الخميس، 15 أغسطس 2019

رجالات المخزن يتكلمون في السياسة!!


بسم الله الرحمن الرحيم

رجالات المخزن يتكلمون في السياسة!!

الأصل الراسخ منذ عهود أن رجالاتِ المخزن ونساءَه ليسوا إلا أظرفةً للسمع والطاعة، وأدواتٍ للتنفيذ والدعاية والمدح، وليس من مهام هذه الأظرفة والأدوات أن يتكلموا في جوهر الشأن السياسي، المتعلق بالحكم وشرعيته، واستقلالية المؤسسات ومحاسبةِ المسؤولين إلى آخر الموضوعات التي تمس حقيقة العمل السياسي وعمقه، لا واجهتَه وقشورَه؛ وإن سُمح لخدام الدولة المخزنية أن يتحدثوا في موضوعات لها علاقة بنظام الحكم ومتعلقاته، فإنهم لا يتعدون دائرة المدح والتعظيم والتبجيل للنظام والتبرير والتسويغ، كقولهم، مثلا: إن الدستور الممنوح عندنا يُعَدّ من أرقى الدساتير في العالم، وإن نظامنا الملكي قد اختار الديمقراطية طريقا لتنظيم حياتنا السياسية، وإن رئيس الحكومة بات يُعين من الحزب الذي نال الرتبة الأولى في الانتخابات، وإن القضاء باتت تدبره سلطةٌ عليا مستقلة، إلى غير ذلك من المقتضيات التي تنص عليها بعض فصول الدستور الممنوح، وهي مقتضيات ثانوية إن هي قورنت بالجوهر الذي يسكت عنه المخزنيون المتكلمون، بل لا يجرؤون على إثارة النقاش حوله، بل لا يقتربون منه مطلقا.
من هذا الجوهر السياسي الذي لا يقترب منه المخزنيون المتكلمون في قشور السياسة أن الملك يسود ويحكم بسلطات شبه مطلقة، إن لم نقل مطلقة-لأن كل شؤون الدولة الأساسية مبدؤها ومرجعها إليه-لكنه لا يراقَب ولا يتابَع ولا يحاسَب، وليس عندنا في مؤسسات الدولة وسلطاتها مؤسسة أو سلطة يمكن أن تعترض على الملك أو تنتقده أو تطالبه بحساب أو ما يشبه الحساب.
أحد خدّام الدولة المخزنيّة، وهو من مستشاري الملك، لم يجد ما يمدح به دستور 2011 الممنوح إلا أن يقول إن الدساتير السابقة-وهي كلها دساتير ممنوحة-كانت تسكت عن تحديد سلطات الملك، لكن الدستور الممنوح الأخير جعلها محددة!!
وهل هناك أسخفُ وأضعفُ من هذا التبرير؛ سلطاتُ الملك في السابق لم تكن حدودُها معروفة، واليوم باتت هذه الحدودُ معروفة! ومعنى هذا الكلام التبريري من رجل مخزني يُوصفُ بأنه من أهل التخصص في الفقه الدستوري، أن سلطات الملك وصلاحياتِه في السابق كانت بغير اسمٍ يحددها، واليوم باتت محددة بالاسم والصفة. وهل من فرق بين الحالتين؟ وماذا تغير حينما أصبحت سلطاتُ الملك اليوم محددة ومسماة؟ هل تغير شيء في حقيقة الاستبداد ومعناه وروحه؟
ليست العبرةُ، في نظام الحكم، بتسمية ما لم يكن مُسمّى، وتحديدِ ما لم يكن محددا، ووصف ما لك يكن موصوفا-فهذه أمور لغوية شكلية لا أثر لها في صميم الجوهر-وإنما العبرة بربط المسؤولة بالمحاسبة، كما ورد في الفصل الأول من الدستور؛ فكونُ الملك يتمتع في نظامنا السياسي بصلاحيات واسعة، باتت اليوم معروفةً بأسمائها بعد أن لم تكن محددة في السابق، وهو في الوقت نفسه مُعْفى أن يقدِّم أي حساب أو أن يراجَعَ أو يتابَعَ أمام أي هيئة مسؤولة، هو أصل الداء العضال الذي ما يزال ينخُر حياتنا السياسية، والذي لا يجرؤ سياسيونا المخزنيون، من مختلف الدوائر المقربة والبعيدة، أن يتحدثوا فيها.

عن الملكية البرلمانية
مما يؤكد أن حديث خدّام المخزن في الشؤون السياسية هو حديثٌ للدعاية والتهريج والتخدير وذر الرماد في العيون أن أحدهم، بمناسبة الاحتفال بمرور عشرين سنة من عهد الملك محمد السادس، تحدث عن مطلب الملكية البرلمانية وقال إننا في المغرب ولسنا في بريطانيا أو إسبانيا-النظام في هاتين المملكتين نظام برلماني حيث الملك يسود ولا يحكم، والحكومة هي المسؤولة عن السلطة التنفيذية، وهي مسؤولة أمام البرلمان الذي يمثل إرادة الشعب الناخب-أي أن الملكية عندنا ملكية تنفيذية، حيث الملك يحكم بسلطات وصلاحيات واسعة، لكنه غير مسؤول أمام أي كان.
وتحدث، بنفس المناسبة، السيد محمد أوجار، وزير العدل في الحكومة المخزنية الحالية، فزعم أن الملك يريد أن يتقدم بشعبه نحو نظام الملكية البرلمانية، لكنه يُواجَه بشعب محافظ يحتاج لمزيد من الوقت لكي يصبح مؤهلا لنظام ملكي برلماني. إذن، في منطق السيد أوجار المتهافت، الشعبُ المغربي هو المسؤول عما يعانيه من جراء النظام الاستبدادي الذي تمثله الملكية التنفيذية، لأن الملك يريد لشعبه التحررَ والانعتاق، لكن هذا الشعب "المحافظ" يأبى إلا أن يبقى في ربقة الاستبداد. وفي منطق السيد أوجار، الشيءُ نفسه يقال عن "الحريات الفردية" التي ما يزال المجتمع غيرَ مهيأ لها، كالزنا والدعارة-للخلط والتضليل يسمون هذا العلاقاتِ الجنسيةَ خارج إطار الزواج، أو العلاقات الجنسية الرضائية-واللواط-يسمونه للتضليل والتلبيس العلاقات المثلية-وغيرها من المحرمات-عند المسلمين، كانت، وما تزال، وستظل-التي يرى فيها اللادينيون، وهم في حماية النظام المخزني، عوائق في سبيل الحداثة والتحرر والتقدم!!
الاستهتار بالخمور وإباحة الزنا وممارسة الشذوذ والانحطاط الأخلاقي وغيرها من العاهات والانحرافات والمفاسد باتت عند حداثيينا اللادينيين طريقا إلى الحداثة والتقدم والتحرر. وهل بعد هذا الظلام من ظلام؟ وهل بعد هذا السفه من سفه؟ وهل بعد هذا الانحطاط من انحطاط؟ وهل بعد هذا المسخ من مسخ؟ لم يعد لهم من هم إلا الدفاع عن الأمراض والانحرافات والشذوذ وغيرها من الموبقات، ويزعمون أنهم حداثيون يسعون من أجل الحرية والتقدم والازهار! ومتى كانت الأمم تتقدم بالأمراض والممارسات الشاذة والعاهات والانحرافات والتشوهات النفسانية والسلوكية والاجتماعية؟
الحداثية اللادينية، في بلاد المسلمين، في اعتقادي، لا تنفك عن الاستبداد السياسي، بل هي مظهر من مظاهر هذا الاستبداد وخادمٌ من خدّامه. وهذه الحداثيَّة الفاجرة المزوَّرَة، في ظل الحريات الديمقراطية الحقيقية، وفي ظل حكم القانون واستقلالية المؤسسات، لا يمكن أن تدوم أياما معدودات، إلا في الإعلام الدعائي الإيديولوجي والمنظمات المشبوهة والجمعيات الهامشية المنبوذة. هذه هي حقيقة الحركات اللادينية في المجتمعات المسلمة اليوم؛ فهم دعامة من دعائم الاستبداد، وبوق من أبواقه، وتابع من توابعه، وإن اختاروا في خطاباتهم وشعاراتهم طريق التلبيس والتمويه والتزوير. فحيثما وجدت قمعا ومنعا واستبدادا سياسيا، فهناك نشاط مشبوه وحيوية غير عادية للتيارات اللادينية، التي تستعير أزياء متعددة، وترفع لافتات خادعات، كلافتة "الحريات الفردية"، ولافتة "التسامح ومناهضة التطرف والكراهية"، ولافتة "الديمقراطية وحقوق الإنسان".

الدستور الممنوح يشرّع للاستبداد السياسي
أنا عندما أربط الدستور الممنوح بالاستبداد، فإنني أقصد ما هو مسطور في فصول الدستور ومبين في السلطات والصلاحيات التي يتمتع بها الملك رئيسُ الدولة وأميرُ المؤمنين. فهذا الاستبداد المكتوب يوضح لنا بجلاء ما كان يقوله الملك الحسن الثاني الراحل، وهو أنه ليس هناك فصل للسلطات فيما يخص صلاحيات الملك؛ فمن صلاحياته أن يصدر القوانين من غير مرور بالبرلمان، ومن صلاحياته أن يصدر أوامر وتعليمات للحكومة من أجل التنفيذ، لا من أجل المناقشة والتداول والتشاور، ومن صلاحياته إعفاءُ الوزراء وحلُّ مجلسي البرلمان، ومن صلاحياته أنه يترأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، إلى آخر السلطات والصلاحيات المنصوص عليها في الدستور الممنوح. ورغم أن هذا الدستور قد نص في الفصل الأول على قيام النظام الدستوري للمملكة على فصل السلط، وعلى ربط المسؤولية بالمحاسبة، فإننا نجد أن الملك، بما يتمتع به من سلطات، غيرُ معني بمبدأ فصل السلطات، ولا بمبدأ ربط السلطة بالمساءلة والمحاسبة. وهذا هو السبب الرئيسي الذي من أجله جاز أن نصف الدستور الممنوح بأنه دستور يكرس دولة الاستبداد، ويحيل سائر المؤسسات والهيآت والمجالس إلى أشباح بلا معنى، وإلى فضاءات تتردد فيها أصداء الأوامر والتعليمات.
وفي رأيي أن كل من يدافع عن هذا الدستور، ويتوقّح فيرفعه إلى صف أرقى الدساتير في العالم، إنما هو مدافع عن الاستبداد، علم بذلك أم لم يعلم، لأن الديمقراطية، في أبسط معانيها وأجلى صفاتها، أن تكون ممارسةُ السلطة-كيفما كانت هذه السلطة-متبوعة بالمراقبة والمحاسبة، وأن يكون هناك حاكمٌ من جهة تقابله معارضةٌ من جهة ثانية، وإلا فهو الاستبداد والحكم المطلق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين