الثلاثاء، 23 يوليو 2019

في نكتة "الحزب الإسلامي الحاكم"


بسم الله الرحمن الرحيم


في نكتة "الحزب الإسلامي الحاكم"


يشيع في كثير من وسائل الإعلام، اليوم، إما عن عمد وقصد، وإما عن جهل وتبعية، وإما عن رغبة ورهبة-يشيع أن الحزبَ الحاكم في المغرب هو حزب العدالة والتنمية "الإسلامي".
المراد من هذا الخطاب الشائع-وهو، في حقيقته، خطابٌ دعائيٌّ مموِّهٌ مُلَبِّس مُغالِط-تبليغُ وترسيخُ أمور، منها:
أولا: أن المغرب بات دولة ديمقراطية، وخاصة بعد عواصف الربيع العربي، التي جاءت بدستور 2011، والتي حملت حزب "الإسلاميين" إلى رئاسة الحكومة. وعند هؤلاء المغالطين المموِّهِين الملبِّسين أن وصول حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة هو الدليل القاطع أن المغرب بات في عداد الدول "الديمقراطية" أو، على الأقل، السائرة نحو الديمقراطية فيما يسمونه بالانتقال الديمقراطي.
ثانيا: أن الحكومة في المغرب أفرزتها انتخاباتٌ ديمقراطية نزيهة صافية من غبش التزوير والإكراه والبلطجة والمال الحرام.
ثالثا: أن الحكومة تطبق برنامجها الذي على أساسه فازت في الانتخابات، وأن المؤسسة الملكية، في كل هذا، محايدة، والحكومة وحدها هي المسؤولة عن تدبير الشأن العام، نجاحا وفشلا.
رابعا: الإيهام بأن ما يكون من هذه الحكومة من سياسات وقرارات، وخاصة في الجوانب السلبية والسياسات الاجتماعية اللاشعبية والاختيارات الاقتصادية الفاشلة، إنما هو نتاج سياسات الحزب الإسلامي الحاكم وشركائه في الأغلبية.
المهم أن هذه الشائعات الإعلامية-وفي قلبها الإعلام المخزني، الأصيل والتابع-تريد أن ترسخ مقالة كاذبة على أنها حقيقة واقعة، وهي أن المؤسسة الملكية لا علاقة لها بتشكيل الحكومة، ولا ببرنامجها، ولا بما تقرره من سياسات وترمي إليه من مقاصد وغايات.
وبيانُ وجه هذه المغالطات والتلبيسات والإشاعات في الكلمات التالية:
أولا، الدستور "الممنوح"-هو ممنوح بطريقة وضعه، من ميلاد الفكرة إلى الاستفتاء، لأنه دستور جاء بإرادة الملك، في روحه ومضامينه ومقتضياته. باختصار، الدستور الممنوح لم يكن بإرادةٍ شعبية، ولكن بإرادة ملكية، من أجل ترسيخ وتثبيت "الملكية التنفيذية" أساسِ النظام المخزني-قلت الدستور الممنوحُ يشهد بالنصوص الواضحة أن الانتخابات، عندنا-مهما كانت نزيهة ونظيفة وسليمة من الغش والتزوير وتأثير المال الحرام-لا تقدم ولا تؤخر شيئا في مسألة الحكم، لأن السلطات الفعلية، على جميع المستويات، إنما هي بيد الملك. والملك، بالدستور والقانون والعرف والواقع، لا يمكن متابعتُه ولا مراجعتُه ولا محاسبتُه؛ إذن، الملك يسود ويحكم بسلطات شبه مطلقة، ومع ذلك، فهو فوق المتابعة والمحاسبة! فهل هناك تسميةٌ تليق بهذا النوع من الأنظمة سوى اسم الاستبداد؟ في اللغة: استبد فلانٌ بالأمر استحوذ عليه وانفردَ به من غير أن يشاركه فيه غيرُه.
ثانيا، الادعاءُ بأن الحكومة في النظام المغربي تحكمُ هو ادعاءٌ يفنده وينقضه تصريحاتُ رئيس الحكومة نفسه؛ فالسيد عبد الإله بنكيران، في أكثر من مناسبة، حينما كان رئيسا للحكومة، وبعدما أُبْعد، صرح بأن الذي يحكم في المغرب هو الملك، وكان كثيرا ما يشدد على هذا الأمر حتى لا يتوهم متوهم أن للحكومة شيئا في أمر الحكم. ونفس المقالة أكدها خلفه الدكتور سعد الدين العثماني، وهي أن الحكومة إنما هي في خدمة الملك وسياساته، وليس لها في الأمر شيء، إلا تنفيذ سياسات الملك والسير وفق توجيهاته وتعليماته، والانضباط بما يرسمه من حدود وما يضعه من آفاق.
وهناك فصولُ الدستور الممنوح التي تؤكد بالعبارات الواضحات التي لا تحتمل التأويل أن الملك هو رئيس الدولة، وأن مجلسَ الحكومة وغيرَه من المجالس والهيآت المنتخبة والمعيَّنَة، إنما هي في خدمة الملك؛ هذا واضحٌ من الصلاحيات العديدة التي يملكها الملك، بنص الدستور، فضلا عن كونه مُعفىً من تقديم أي حساب، كيفما كان هذا الحساب، أمام أي أحد. سلطة الملك، بنص الدستور الممنوح، فوق كل السلطات؛ ووفق هرمية بناء نظامنا السياسي المخزني، فإن جميع السلطات إنما هي تابعة ومأمورة وخادمة للملك، رئيسِ الدولة وأمير المؤمنين.
فالزعم بأن الحكومة، عندنا في المغرب، تحكم، وأنها مستقلة فيما ترسمه من سياسات وتتخذه من قرارات، هو ادعاءٌ كاذب فاضح، وقولٌ بما يعارض ما هو مكتوب في دستور2011 الممنوح، وما هو معيش في الواقع، وما هو مُعايَن في الأعراف والطقوس المخزنية.
ثالثا، من المغالطات الشائعة في الإعلام أن الحكومة مستقلة في وضع برامجها ورسم سياساتها والحسم في قراراتها من غير أن يكون للقصر أدنى تدخل في عملها! طبعا هذه المغالطة تُعَدّ من المضحكات، وخاصة حينما ترد على لسان من يظن الناسُ أنهم من أهل العلم والفهم والذكاء والدهاء في السياسة.
لقد بينتُ، قبل قليل، أن الدستور والواقع والعرف، تؤكد أن الحكومة عندنا لا تحكم، بل هي من الأدوات التي تنفذ سياسات الملك وتعليماته وتوجيهاته. فنظامنا السياسي هو نظام ملكي تنفيذي، حيث الملك يسود ويحكم بسلطات شبه مطلقة، لكن متابعته ومحاسبته غير ممكنة. إنما تكون الحكومة مستقلة في وضع برامجها واختيار مواقفها واتخاذ قراراتها وتطبيق سياساتها، حينما يكون نظام الحكم ديمقراطيا، وحينما يكون الملك لا يحكم، وليست له سلطات تنفيذية تجعل عمل الحكومة واقعا تحت مراقبته ووصايته وتوجيهاته وتعليماته، وحينما تكون المؤسسات العامة مستقلة لا تتبع إلا القانون، ولا تعمل إلا وفق ما هو من صلاحياتها، ولا تتحرك، في كل ما تأتيه وما تدعه، إلا احتراما وانسجاما وتطبيقا لما هو من واجباتها في درجة هرم السلطة والسلم الإداري التي تنتمي إليه.
هذا هو الداء العضال في نظامنا السياسي، والذي يتحاشى معظم سياسيينا الكلام فيه؛ فالدستور المعمول به، على علاته، ينص على ربط المسؤولية بالمحاسبة. نِعْمَ المبدأُ لو كان يعم الجميع. لا يعقل أن تشمل المحاسبة والمتابعة التابعَ وتسكت عن المتبوع؟ لا يعقل أن تتم محاسبة المأمور ومعاقبته، ولا يشار إلى الآمر ولو برائحة من كلمة؟ هذا هو الداء المزمن في نظامنا السياسي، وهذا هو الداء المستحكم في كل نظام استبدادي.
رابعا، يترتب على البيان الذي قدمتُه في الفقرات الثلاث السابقة أن فشل الحكومة، إن كان هناك فشلٌ، إنما هو من فشل سياسات الملك. لكن نظامنا السياسي المخزني، بتجربته الطويلة، طور آليات لتجنيب الملك أيَّ مسؤولية مباشرة، ولتحميل الحكومة كلَّ المسؤولية في الفشل. وهذا وضع عجيب غريب في السياسة وتدبير أمور الدول؛ الملك يحكم، أي له سلطات تنفيذية واسعة، لكنه غير مسؤول عن أي فشل في ممارسة هذه السلطات. الحكومة هي المسؤولة، أو أي مسؤول آخر في الدرجات الدنيا، لكن الملك يظل دائما بعيدا عن الصورة، بل لا يقدر أحد أن يشير إليه ولو بالتلميح، لأن في ذلك، حسب أعراف نظامنا المخزني، إخلالا بجزء من المسؤولية الملقاة عل عاتق رجالات المخزن ونسائه، في كل المسؤوليات وبمختلف الدرجات.

وللمخزن مآرب أخرى
هذه الإشاعات والمغالطات التي عرضت لبعضها في شأن "نكتة" "حكم الإسلاميين" في المغرب، تكمن وراءها أهداف أخرى، يمكن وصفها بالاستراتيجية مقارنة بالأهداف الآنية الممثلة في تحميل الحكومة كامل المسؤولية في سياسة الدولة، وإبقاء الملك بمنأى عن أي مسؤولية مباشرة، كالمسؤولية، مثلا، عن فشل النموذج التنموي الذي تتبعه الدولة؛ فقد صرح الملك في أحد خطاباته-خطاب بمناسبة افتتاح البرلمان في أكتوبر2017-أن المغرب يحتاج إلى نموذج جديد معترفا، ضمنا، بفشل النموذج المتبع منذ سنين، وأنه نموذج أصبح غير قادر على تلبية حاجات المواطنين. والسؤال الذي لا يجرؤ المخزنيون ولا منْ هم على منوالهم من السياسيين والمحللين، على طرحه هو: من المسؤول عن هذا الفشل التنموي؟ من وضع أسس هذا النموذج وفرضه؟ من وضع السياسات واتخذ القرارات وعبأ الإمكانيات من أجل هذا النموذج؟ لا يجرؤون أن يسموا الملك، وتبقى الحكومة، في الظاهر، وحسب آليات الدولة المخزنية، هي المسؤولة!
قلت من الأهداف الاستراتيجية وراء إشاعة الكلام على "حكم الإسلاميين" هو القضاء على ما تبقى لهؤلاء الإسلاميين من مصداقية. وفي اعتقادي أن مصداقية حزب العدالة والتنمية وحلفائه في حركة التوحيد والإصلاح قد أصابها من الهوان والضعف ما أصابها من جراء إصرار الحزب والحركة على السير في ركاب النظام المخزني، والتسليم له في لعبته الديمقراطية، في كل شيء؛ وإن كان هناك من بقية من هذه المصداقية، في تقديري، فقد قضى عليها الحزب نهائيا حينما أُبعد أمينه العام السيد بنكيران عن تشكيل الحكومة بعد انتخابات أكتوبر 2016، بعد ما عُرف بالبلوكاج الذي دام ما يقرب من ستة أشهر، ثم جيء بالسيد العثماني، ليشكل الحكومة، في أسرع من البرق-مقارنة بالمدة التي استغرقها السيد بنكيران في مفاوضاته ومشاوراته قبل إبعاده-من ستة أحزاب سياسية، بعضها، كما يعرف الجميع، فُرض على الحزب فرضا، ولم يكن أمام السيد العثماني إلا أن يطيع ويحنيَ الرأس. في رأيي، أن الحزب لم تبق له أي مصداقية حقيقية بعد واقعة البلوكاج، وإبعادِ السيد بنكيران، والمجيء بالسيد العثماني، لإخراج حكومة مخزنية هجينة ضعيفة. أذكّر أنني هنا لا أتحدث عن المصداقيات الممنوحة أو المصنوعة أو المزيفة، وإنما حديثي عن المصداقية الحقيقية القائمة على القيم والمبادئ والحنكة السياسية.
الناسُ تنظر إلى انتخابات 2021، على أنها ستكون اختبارا حاسما لمصداقية حزب العدالة والتنمية أمام الناخبين. لكني أقول اليوم، قبل 2021، أن الحزب فقد مصداقيته، بالمعايير السياسية الحقة، حينما قبل أن يسمع ويطيع ويسكت عن العبث السياسي الذي عشناه منذ ولاية السيد بنكيران الأولى(يناير2012)، وما زلنا نعيشه إلى اليوم.
في اعتقادي أن نظامنا المخزني، بعد عواصف الربيع العربي في 2011، قد نجح، على الأقل، نجاحين، الأول اجتياز مرحلة الاضطرابات بأقل الخسائر، والوصول إلى فرض دستور ممنوح على قَدِّ النظام المخزني، بمباركة جميع القوى السياسية التابعة، في استفتاء فاتح يوليوز2011، وتنظيم انتخابات 25 نونبر2011، واستئناف الحياة السياسية في ظروف امتازت، عموما، بالهدوء والاستقرار مقارنة بما جرى في دول عربية أخرى.
أما النجاح الثاني، الذي حققه نظامنا المخزني، بعد عواصف الربيع العربي، هو توريط "بعض الإسلاميين"، الذين كانوا مستعدين أن يسيروا وراء النظام المخزني، في لعبته، إلى النهاية، وذلك من أجل نزع المصداقية عن سائر الإسلاميين، وخاصة الذين يعارضون النظام معارضة ثورية، وأقصد جماعة العدل والإحسان. فالناس اليوم، بفعل الإعلام المخزني المغالط المراوغ النشيط باتوا ينظرون إلى التجربة الحكومية، بعد الربيع العربي، على أنها تجربة الإسلاميين، ومن ثَمَّ فإن الحكم عليها جاهز ونهائي؛ فهي تجربة فاشلة لم يجن منها المجتمع/الشعب إلا الفشل تلو الفشل، وأن البديل المرتقب النافع الناجح يفرض التخلصَ من الإسلاميين. هذا هو الحكم الجاهز الرائج الذي ينشط في نشره وتأكيده جميعُ المتربصين بالإسلاميين من كل المشارب والاتجاهات.
إن النيل من مصداقية الحركات الإسلامية بات هدفا استراتيجيا لكثير من الأنظمة الاستبدادية بعد عواصف الربيع العربي.
فقد انقضوا على التجربة الديمقراطية الفتية في مصر بعد ثورة 25 يناير الباهرة، وأبعدوا الإسلاميين (الإخوان المسلمين) في انقلاب عسكري دموي فاجر، حتى انتهى الأمر إلى ما انتهى إليه اليوم، حيث أصبحت مصر بنظامها العسكري الفاشي مثالا للتندر والسخرية، فضلا عن الحضيض الذي نزلت إليه الحياة السياسية فيما يخص الحريات والحقوق.
في تونس، ما تزال التجربة الديمقراطية الوحيدة التي أفلتت من مؤامرات المتآمرين، في الداخل والخارج، تعاني الأمرين من جراء ما تواجهه من عراقيل ودعاية كاذبة هدفها، أولا وأساسا، الإسلاميون ممثلين في حزب النهضة، الذي ما فتئ يصانع ويهادن ويتنازل من أجل نجاح التجربة وربح الاستقرار. وإلى اليوم، لم تخرج تونس من منطقة الزوابع والزعازع، وما تزال سهام الاستبداديين تنوشها من كل جانب، وما تزال آفاق التجربة ملبدة بكثير من الغيوم والغموض.
على هذا النمط من التشويه والتضليل ونشر الدعايات والأخبار الباطلة تسير معظم الأنظمة الاستبدادية لمواجهة الإسلاميين، وخاصة بعد أن خلفت تجربة "داعش"-الحقيقية أو المصنوعة في أساطير العالم الافتراضي-ما خلّفت في النفوس من كراهية وإدانة وتخوف وتوجس. اليوم، "داعشي" باتت التهمة الأكثر جريانا على ألسنة خصوم الإسلاميين، يتعمدون عدم التفرقة بين "إرهابي" حقيقي، وبين رجل دعوة وسياسة وفكر وحوار؛ الإسلاميون كلهم "دواعش"، إذن، الحلُّ لمواجهتهم هو القتل والسجن والمنع والقمع. وبهذا الأسلوب، ابتعدنا عن السياسة وأصبحنا غارقين في مستنقع دعوات الاستئصال والاستبداد، تتردد في أجوائنا شعاراتُ المستبدين على ألسنة من يزعمون أنهم سياسيون ديمقراطيون.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين