السبت، 31 أغسطس 2019

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(7)


بسم الله الرحمن الرحيم

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(7)

هل لِنَفَقِنا السياسيّ نهايةٌ؟
عندنا في المغرب، ما تزال عقدةُ العُقد في العمل السياسي، عند المعارِضين الثوريين بالتحديد، هي الموقف من النظام الملكي. أما من جهة النظام المخزني، فإن عقدة العُقد، في تقديري، هي الاستبدادُ والنظرُ إلى كلِّ مكونات الحياة السياسية على أنها توابعُ خادمةٌ وأدواتٌ منفذة، ليس لها من الأمر شيءٌ إلا أن تسمع وتطيع!
سيظل مستقبلُنا السياسيُّ في مهبّ الريح ما دام النظام المخزني، وعمادُه المَلكيةُ الوراثية "التنفيذية"، يرفض ألاَّ يرى فِيمنْ حوله إلا أصداءً لإرادته وتعليماته ورغباته، وما دام معارضوه-وأخصّ هنا المعارِضين الثوريِّين-لا يرون لمغربنا السياسي مستقبلا مع بقاء النظام الملكي.
هل من وصفة "سحرية" تضيّقُ الشُّقة بين الطرفين؟
هل عند الناس، في كلا الجانبين، إرادةٌ للبحث عن أرضية للتواصل والتفاهم والتقارب والإصلاح؟
أليس الأمر، أولا وآخرا، سياسةً؟ فإلى متى العَداءُ والتصادمُ والتنافر والتدابر؟
أليس في الناس، أكانوا ملكيِّين مخزنيِّين أو معارِضين ثوريِّين، مَنْ يقدر أن يبدع شيئا-كيفما كان هذا الشيء-يفتح لنا طريقا نحو الخلاص من هذا الداء العضال الذي لا يني يهدد حياتنا السياسية بكل الآفات والمصائب والفتن، داءِ الكراهية والعداوة والتنابذ والتزايُل؟
أنا أعرف أن الطريق إلى التصالح والتفاهم بين المخزن ومعارضيه ليس مُعبّدا ولا سهلا، بل إن الأمر، عندي، ما يزال من الأماني البعيدة، وسيظل كذلك ما دامت إرادةُ التقريب والإصلاح غائبةً لدى الطرف القوي المهيمن، الذي هو النظام المخزني، وروحُه الملكية الوراثية التي تسود وتحكم بسلطات وصلاحيات شبه مطلقة، إن لم نقل مطلقة.
ومع كلِّ هذا، فلا بد أن يكون هناك بداية؛ لا بد من خطوة أولى على الطريق للوصول إلى النهاية.
النظامُ الذي لا يقبل من الناس إلا أن يكونوا عبيدا، يسمعون ويطيعون-مع ما تعنيه العبودية من ذل ومهانة وسلب للإرادة-نظامٌ ذاهبٌ، عاجلا أم آجلا، مهما طال عمره، ومهما كان منه، من حين لآخر، من أصباغ ومساحيق ومناورات وترميمات لغرض التمويه والتدليس.
وقد يغُرُّ المستبدَ أن الناس باتوا عبيدا طوع البنان؛ لا، إنه غُرور يشبه السراب، لأن الناس مهما أصابهم من ذل وهوان وصَغار وخضوع للسلطة الغاشمة، فإلى حين، لأن جمرة الحرية والانعتاق والثورة على قيود الاستبداد والاستعباد ستظل كامنة تحت الرماد، تنتظر-وقد يكون الانتظار طويلا، لكن له نهاية مُجزية-من يُذكي لهيبَها ويؤجّج نارها، لتخرج من الضعف والكمون والهمود والخمود إلى الحياة والقوة والتوقّد والتلهُّبِ والأجيج.
إن في الناس دائما، ومهما كانت قوةُ القمع وضراوةُ البطش وفظاعةُ الغَشْم، أحرارا شرفاء أمناء يأبون حياة الدُّونِ، وحياة العبودية المقيتة، وحياة القيود المهينة، ويستشرفون حياة الحرية والكرامة والعزة والاستقلال.

الجمعة، 30 أغسطس 2019

الحكوماتُ المخزنية والملفاتُ السياسية المفتوحة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحكوماتُ المخزنية والملفاتُ السياسية المفتوحة

أقصد بالملفات السياسية المفتوحة الملفاتِ التي لها علاقة بالحقوق والحريات، وهي ملفاتٌ تمسّ روحَ الممارسة السياسية. هذه الملفاتُ في الدولة المخزنية ملفاتٌ أمنية تتولاها وزارةُ الداخلية وأدواتُها الإدارية التنفيذية، مِن قُوّاد وباشوات وعمال وولاة، فضلا عن أجهزة البوليس والاستخبارات.
فليس من شأن الحكومة المخزنية، كيفما كانت أغلبيتُها ومشاربُ مكوناتها، أن تتداولَ في شأن الملفات السياسية وتقررَ في شأنها، لأن المسألة، أولا وآخرا، مسألةٌ تتعلق بأمن الدولة، وما الحكومةُ، في حقيقتها، إلا جهازٌ تابع منفذ، لا يملك أحدٌ من أعضائها، وعلى رأسهم رئيسُ الحكومة، أن يقول برأي يخالف رأي الدولة، ولا أن يختار اختيارا يعارض اختيارَ الدولة.
معنى هذا الكلام أن كلَّ من يعارض الدولةَ المخزنية، في أسس نظامها وسياساتها وأهدافها وأعرافها وطقوسها، هو مسلوك في الخارجين على الشرعية، وليس من سبيل للتعامل معه إلا سبيلُ القمع والمنع والسجن والحصار والمحاكمات السياسية المفبركة. والأمثلة في هذا الباب كثيرة ومعروفة ومشهورة.

ملفات سياسية مفتوحة
الأغلبيةُ الحكومية المخزنية الحاليةُ برئاسة السيد سعد الدين العثماني، أو السابقةُ برئاسة السيد عبد الإله بنكيران-وأركّزُ على حكوماتِ ما بعد الربيع العربي، وما بعد دستور 2011، لأنها حكوماتٌ بمذاق "إسلامي"، وفي هذا المذاقِ ما فيه مِن المغزى والدلالة-لا يمكنها، بل لا تستطيع، بل لا تجرؤ، أن تقترب من ملفات سياسية ما تزال مفتوحة، كملف الأحزاب الممنوعة بقرارات مخزنية جائرة وأحكام ظالمة، كحزب الأمة، وحزب البديل الحضاري، والحزب الأمازيغي الديمقراطي، وملف جماعة العدل والإحسان، التي تصنفها الدولة المخزنية في التنظيمات المحظورة بلا أي موجب قانوني أو حكم قضائي، وملفات الجمعيات المدنية الكثيرة التي لا ترضى عنها الدولة، فهي ممنوعة محاصرة مدانة، بلا أي مسوغ معقول ومفهوم ومقبول إلا بطش المخزن ورفضه لكل نشاط يسير على غير هواه، ويلغَى بغير لَغَاه، وملفات سجناء السلفية الجهادية وحراك الريف وجرادة وزاكورة-تمثيلا لا حصرا-وملفات الصحافيين الذين لفقت لهم تهم جنائية لغايات سياسية.
مثّلْت بهذه الملفات، لأنها معروفة ومطروقة في وسائل الإعلام، ولأنها مشهورة بأنها ملفات سياسية تحتاج إلى معالجة سياسية، وليس إلى معالجة "أمنية".
وهل تعرف الحكومةُ أن هذه الملفاتِ سياسية؟
ولنفترضْ أنها تعرف-أو بعض مكوناتها على الأقل-وأنها مقتنعةٌ بأنها ملفات سياسية، فهل تجرؤ على طرحها للتداول والبحث لها عن حل سياسي؟ بل هل تجرؤ أن تتحدث للرأي العام عن وجود ملفات سياسية مفتوحة تحتاج أن تُغلق؟
سنزيغ عن جادة الجِدّ إلى الهزل إن نحن تصورنا أن الحكومة المخزنية-الحكومة الحالية أو أي حكومة في ظل نظامنا السياسي المخزني-يمكنها أن تعترف علَناً بوجود ملفات سياسية وتقررَ في معالجتها وإغلاقها.
هذا وجهٌ من أوجه رَزِيَّتنا السياسية؛ الحكومةُ لا تحكم، وإنما تأتَمِر وتسمع وتطيع. وليس عندنا، في ترسانَتِنا القانونية-وهذه مصيبةٌ أخرى-شيءٌ يمكن أن يفتح لنا طريقا للتغيير والانعتاق، لأن هذه الترسانة مصنوعة، في روحها وشكلها ومساطرها، لتُواتيَ الاستبدادَ وتستجيبَ لمطالبه.
نَعَمْ، تتداول الحكومةُ المخزنية بعض الموضوعات السياسية، التي لها علاقة بالانتخابات، لكن الحسم فيها يكون لوزارة الداخلية، أمِّ الوزارات المخزنية-كانت وما تزال وستبقى ببقاء النظام المخزني؛ فقبيل الانتخابات، تنشط السوق السياسية المخزنية، وخاصة فيما بين المشاركين في اللعبة الديمقراطية، من الأغلبية والمعارضة، وتُفتَح ملفاتٌ تتعلق بالانتخابات، كملف التسجيل في اللوائح الانتخابية وطريقة تجديد هذه اللوائح، وملف نمط الاقتراع، وملف التقطيع الانتخابي، وملف العتبة، وملف الحملات الانتخابية، تنظيمها ومراقبتها وتمويلها، لكن الغلبة في النهاية تكون، دائما، لصالح مشروع وزارة الداخلية، باسم الحكومة، طبعا، وباسم مكوناتها.

المصيبة عامة
إن تركيزي في هذه المقالة على الشأن السياسي لا يعني أن الحكومات المخزنية ناجحة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية وغيرها من المرافق التي تهم المواطنين في حياتهم. فالأرقام الصادرة عن مؤسسات تابعة للدولة تشهد بالتدهور والعوائق والأزمات التي تعانيها معظمُ القطاعات-وليس للخطاب الدعائي الذي يبثه الإعلامُ المخزنيُّ وتوابعُه مصداقيةٌ في هذا الباب-إلى جانب الأرقام الصادرة عن مؤسسات دولية محترفة ذات مصداقية-إلى حدّ ما، لأن الحديث عن المصداقية الكاملة المثالية، في تقديري، إنما هو حديث في الأماني والأحلام-وهي في معظمها تصنف المغرب في البلدان المتأخرة، وترتِّبه في ذيل الأمم في مختلف مجالات التنمية والخدمات الاجتماعية.
ومَن نصدق، الأرقامَ الرسميةَ التي عليها ألفُ علامة استفهام؟ أم أرقامَ المؤسسات الأممية والدولية التي تتمتع بشيء من المصداقية، رغم ما يمكن أن يشوبها مِن تحيزات ومبالغات وهفوات؟ أم نصدقُ الواقع المعيش، الذي نُصبِّحه ونُمسِّيه، والذي نعايشه في بيوتنا ومؤسساتنا وأسواقنا وإداراتنا وفي غيرها من مرافق حياتنا ومجالات مناشطنا، والذي يشهد شهاداتٍ مباشرة وحارقة، في كثير من الأحيان، عن تردي أحوالنا وعن مستوى معاناة المواطنين، وخاصة في أوساط الشباب والطبقات الاجتماعية المستضعفة-يشهد من غير لفٍّ ولا دوران ولا تَيَهَان في لعبة النسب والأرقام، التي يتقنها محترفو التلبيس والتمويه والتغليط، وخاصة من خدام الاستبداد التكنوقراطيين؟

إلى متى هذا الغرور؟
لقد نجح نظامُنا المخزنيُّ في اجتياز امتحان عواصف الربيع العربي، وقد كان هذا الامتحان، في تقديري، فرصةً لمراجعة الأسس التي يقوم عليها نظامُنا السياسي، واستئنافِ حياة سياسية تقوم على الحقوق والحريات واستقلال المؤسسات، لكن، مع الأسف، لم يحدث من هذه المراجعة شيء، وكل ما حصل هو أن المخزنَ أحنى رأسه حتى مرت العاصفة، ثم رفع رأسه من جديد ليستأنف السير على طريقته القديمة في خنق الحريات وانتهاك الحقوق والتحكم في كل خيط من خيوط نسيج حياتنا السياسة، وذلك بإعادة إقرار أسس الملكية "التنفيذية"، في دستور2011 الممنوح، وجعلِ كل السلطات الحقيقية في تدبير شؤون الدولة بيد الملك، من غير وجود أيِّ سلطة أو هيئة أو مؤسسة يمكن أن تراقبَ الملك أو تراجعَه أو تحاسبَه.
لقد ناور المخزنُ، ما وسعته المناورةُ، ليَخرج سالما من عواصف الربيع العربي، فأعاد ترتيب أوراقه على صورة تحفظ للنظام وجودَه وسلطانه وهيمنته على كل ما يتعلق بالحياة السياسية؛ فقد أعاد ترميم الدستور الممنوح بطريقة أدت إلى انخراطِ الطبقة السياسية-أقصد الأحزاب المخزنية وشبه المخزنية-في الدعاية لـ"العهد الدستوري الثوري الجديد"، كما أدت إلى استيعاب بعض الإسلاميين-حزب العدالة والتنمية وتوابعه-في خطته الجديدة، وهو ما خفف، إلى حد ما، على النظام من وطأة الشارع الذي كان يغلي بالاحتجاجات والمسيرات والمظاهرات، وخاصة بعد ظهور حركة 20 فبراير.
المهم أن المخزنَ اجتاز عواصف الربيع العربي بنجاح، لكنه، في رأيي لم يعتبر بالتجربة، فأعاد بناءَ نفسه على نفس الأسس السابقة، وهو ما أدى إلى ما نحن فيه اليوم من اختناق سياسي وضعف اقتصادي وهشاشة اجتماعية.
الاختناقُ السياسي، ومعه المشاكلُ الاقتصادية والتحديات الاجتماعية الآخذة في التكاثر والتفاقم، قد يولّد، لا قدّر الله، انفجارا، إن لم يكن انفجارات، في أي لحظة، ولأسباب قد لا تكون مأخوذةً في حسبان من يعملون من أجل الاستقرار والسلم الاجتماعي.
الاغترارُ بأن أمنَ النظام مستَتِبٌّ راسخ، وأن شؤون الدولة تسير سيرا يبعث على الثقة والطمأنينة، وأن الأوضاع عموما متحَكَّمٌ فيها، وأن جميع خيوط اللعبة السياسية ممسَكٌ بها على وجه لا يُخشى معه تفلّتٌ ولا تمرد ولا اضطراب-الاغترارُ بمثل هذه الظواهر والأشكال والواجهات التي قد تكون خادعاتٍ كاذباتٍ هو، في رأيي، بمثابة الاغترار بهدوءٍ قد يكون الهدوءَ الذي يسبق العواصف الهوجاء، التي لا يعلم مداها ومنتهاها إلا الله. ألم يكن النظامُ الديكتاتوري التونسي على عهد بنعلي مغترا بأن الأمور كلَّها تحت السيطرة، وأن الأوضاع مستقرة والأمن مستتب والحياة السياسية تسير وفق هوى النظام ومخططاته المرسومة؟ ألم تفاجئ ثورةُ الياسمين جميع المحللين والمراقبين في العالم؟ ألم تنبثق شرارتُها من الهدوء الذي كان النظام المستبدُّ واثقا به ومطمئنا إليه؟
إن نظامنا السياسيَّ لم يترك لمعارضيه أي منفذ، مهما كان ضيّقا، للمشاركة في الحياة السياسية العامة، والتعبير عن آرائهم بكل حرية لا يخشون قمعا ولا منعا ولا اعتقالا.
التنظيماتُ المعارضة للنظام المخزنيّ محاصَرَة بيد من حديد، ليس لها عند المخزن إلا العصا الغليظة، إلا القمع والمنع وتلفيق الاتهامات الجنائية الباطلة.
وهذا الوضع لا يمكن أن يدوم إلى الأبد. لا بد من بداية جدّية للبحث عن حل جدّي لهذه المعضلة السياسية التي نعانيها بسبب الاستبداد. لا بد من مبادرة عاقلة هادفة مخلصة لتجنيب البلاد والعباد، لا قدّر الله، فتنا واضطرابات قد لا تنتهي إن هي بدأت. نسأل الله الحفظ والسلامة وحسن العاقبة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.    

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(6)


 بسم الله الرحمن الرحيم
مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(6)

وبعد، فقد لخصت في "زبدة مقالات الكتاب" ثلاثَ نِقاط تمثّل المادة الخام التي استمدتْ منها مقالاتُ كتاب "المراجعات" موضوعاتها، وأدارت عليها نقاشاتِها وانتقاداتِها.
ورغم مرور سنوات على تاريخ كتابة هذه المقالات-بين خمس وتسع سنوات-فإني ما زلت أرى العطبَ قائما في المنهاج السياسي لجماعة العدل والإحسان، وفق منظاري وتشخيصي، وما زلت أعتقد أن الإشكاليات التي تطبع هذا المنهاجَ-طبعا، هناك من الناس مَنْ لا يرى في منهاج الجماعة إلا القوةَ والصوابَ والوضوحَ والغَناء، وهو رأيٌ مسموع ومحترم، ما دام الموضوعُ يحتمل تعددَ الآراء واختلافَ وجهات النظر والتحليل والتعليل-
قلت ما زلت أعتقد أن الإشكاليات التي تطبع منهاجَ الجماعة-وكلَّ عملٍ سياسيٍّ عموما-لن تعرف طريقا إلى الحل المطلوب ما دامت النقط الثلاثُ التي لخصتها في هذه الزبدة تقع فوق المراجعة والنقد، وما دام الناسُ لا يجرؤون على نقد الأفكار الاجتهادية السياسية للأستاذ المرشد، رحمه الله، وما داموا لا يُنزلون تراثَه المكتوبَ منزلتَه الطبيعيةَ، كما أراد له صاحبُه، من حيث هو رأيٌ وفكرٌ ونظرٌ قابلٌ للأخذ والرد، وموضوعٌ للنقد والتقويم، والتحوير والتعديل، وما دام الناسُ لا يجرؤون على إصلاح حقيقيٍّ في هياكل الجماعة، لتحتلَ مجالسُ الشورى والقرار المكانةَ التي تليق بها، وليُصبحَ لرأي الناس معنىً، ولأصواتهم وزنٌ وقيمة، ولقراراتهم أثرٌ وشأن.
لقد أراد الأستاذُ المرشد، رحمه الله، لـ"المنهاج النبوي"، بما أودعَه مِن نظرٍ واجتهاد وفقه ونقد، أن يكون مفتاحا للعقول والفهوم، ومغلاقا للتقليد وللجمود، ورائدا للاجتهاد والإبداع، ودافعا للإمّعيّة والصّنميّة. لكن الرياحَ جرَت بما لا تشتهيه السفن، فأصبح تراثُ الأستاذ المرشد مَتْنا "مقدسا" لا يجرؤ أحدٌ أن يقترب منه بنقد أو بشبه نقد.
قال الأستاذ المرشد في كتاب "العدل" (ص150): "كلّ عملٍ رائدٍ وفكرٍ وطيد إما أن يكونا مفتاحا لمزيدٍ مِن التقدم في الفهم والممارسة، وإما أن يكونا "سلفا" إليه ينتهي إدراكُ العقول المقلِّدَة وفيه تنغلق. وما مِنْ إمامٍ من أئمتنا الصالحين إلا ويقول لسانُ حاله ومقاله: افعلُوا كما فعلت، واجتهدوا لزمانكم كما اجتهدت، وارجعوا إلى مُنبثَق العلم ومنطلَق الوحي كما رجعت."
رحم الله الأستاذَ المرشد رحمة واسعة طيبة مباركة، وكتبه عنده في السعداء المرضيِّين الفائزين، ورفعه، بفضله وكرمه، مكانا رضيّا عليّا مع الذين أنعم عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم آمين.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر/10)
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران/8)
(يتبع)

الخميس، 29 أغسطس 2019

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(5)


مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(5)
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى بعض القراء الأفاضل
إني أدعو القراءَ الأعزّاء الذين فاتهم الاطلاعُ على مقالاتي النقدية في إبان نشرها خلال ما يقارب خمس سنوات(2010-2014) أن يصبروا حتى يطلعوا على بعض هذه المقالات مجتمعةً في كتاب "مراجعات في الفكر والسياسة"، الذي أخبرتُ أنه سيظهر قريبا، إن شاءَ الله تعالى ويسّرَ وأعان.
اصبروا، أيها السادة، ولا تتسرّعوا في إصدار الأحكام في موضوع لا تملكون عنه إلا القشورَ وحكاياتِ القيلِ والقال. اصبروا حتى تقرؤوا مقالاتي مجتمعة، أو ارْجعوا واقرأوها حيث هي منشورةٌ متفرقة، وعندئذ مرحبا بانتقاداتكم، وتصحيحاتكم، وتنبيهاتكم، ونصائحكم؛ وليس يضيرني ألاَّ يتفق الناسُ معي، وأن يرفضوا آرائي، ويستضعِفوا نقدي، وإنما الضيرُ كلُّ الضير أن يرميَني الناس بسهامهم الجارحة المؤذية، وليس هناك من سبب إلا العصبيةُ العمياءُ، والتحيز الإيديولوجي الضيقُ، والحماسةُ "التربوية" الهوجاء.
وأرجع إلى سياق الفقرات التي أقدّم بها كتاب "المراجعات".

زُبْدَةُ مقالاتِ الكتاب
"المنهاج النبوي" عملٌ اجتهاديّ فرديّ، أعمل فيه الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، رحمه الله، ما استطاع من أدوات النظر والتفكير والنقد، وصاغه، وهو مستحضِرٌ وملاحظٌ ومعتبرٌ بما كانت تمور به الساحة الفكرية والسياسة، في زمانه، قطريا وإقليميا ودوليا، وكتبَ فيه ما كتَبَ، ورأى ما رأى، واقترح ما اقترح، ولم نقرأ له، ولو كلمة واحدة يُشتمّ منها أن الرجل يَدعي لاجتهاده التنزّهَ عن النقد والمراجعة والتحوير والتطوير، بل العكس هو الصحيح؛ فقد تكلم الرجل، رحمه الله، في "المنهاج النبوي"، وفي غيره، بعبارات واضحات تقول للناس-وفي مقدمتهم رجالُ العدل والإحسان ونساؤها: انظروا كما نظَرت، واجتهدوا لزمانكم كما اجتهدت، وانتقدوا وطوّروا وأبدعوا، حسب ما يستجد من معطيات، وعلى ضوء ما يجري في الزمان من تقلبات وتغيرات.
اليوم، ما تزال جماعة العدل والإحسان ترى، بل تصر أن ترى في اجتهاد مرشدها في المضمار التدافعي السياسي اجتهادا صالحا لكل الأزمنة، لا تؤثر فيه الأحداث، ولا يُبليه التقادم وكَرُّ الليالي واختلافُ الأزمنة والظروف والملابسات.
وقد بيّنت في بعض مقالات كتاب "المراجعات" أن خلطَ الناس-وأقصد الأتباع والمريدين والمحبّين-في شخص الأستاذ المرشد، رحمه الله، الجانبَ التربوي الإيماني الإحساني، والجانبَ السياسي الاجتهادي الظرفي، جعلهم ينظرون إلى آراء المرشد السياسية وبَدَوَاتِه الفكرية-أي ما يبدو له عند النظر في أمر-ونظراتِه الاجتهادية الظنية، على أنها من جنس سلوكه الرباني وفضله الإحساني وعطائه التربوي، وهو ما يفرض، على من يريد الانتماءَ إلى الجماعة أن يسلّم بأن تراثَ الأستاذ المرشد السياسي لا ينفصل عن تراثه السلوكي الإحساني، بل بات الناس ينظرون إلى آراء المرشد السياسية على أنها من تجليات فتوحاته الربانية! هذه نقطة أولى في هذه الزبدة.
النقطة الثانية، وهي مبنيةٌ على الأولى، شديدةُ الارتباط بها، وهي أن جميع اختيارات الجماعة السياسية ومواقفها المختلفة إنما تنبع من فكر المرشد وآرائه ونظراته التي سطرها في كتاباته. فحسب علمي، لا يوجد قرارٌ من قرارات الجماعة اتُّخِذ بمعزل عن فكر المرشد الذي هو الأصل والمنبع. فما من صغيرة ولا كبيرة في "أدبيات" الجماعة السياسية، منذ ظهور الجماعة إلى اليوم، إلا ولها نَسَبٌ عريق بأفكار المرشد، وكأن المرشد، رحمه الله، قد أجاب عن كل الإشكاليات السياسية، التي كانت، والتي ستكون، ومن ثَمَّ، فليس على الناس إلا أن يحفظوا ويتبعوا ويشرحوا ويُحَشُّوا-أي يضعوا الحواشي-ما دام "متن" "المصنف"، رحمة الله، قد أحاط بكل شيء، فلم يبق إبداع، وإنما هو اتباعٌ في اتباع.
والنقطة الثالثة في هذه الزبدة أن مجالس الجماعة، الشورية التقريرية، لا تصنع أكثر من البناء على أصل المرشد، لا تتعداه، وإن هي فعَلَتْ، فلا تقترب من جوهر هذا الأصل، وتبقى مهتمة بالجزئيات الشكلية والتفصيلات المسطرية وما شابه هذا مما هو أقرب إلى الروتين الإداري منه إلى العمل التشاوري الحقيقي العميق.
لقد قرر المرشدُ، رحمه الله، أن ينشرَ "مذكرة إلى من يهمه الأمر"، مع ما لهذا العمل من خطورة ووزن سياسي، وأيضا لما يمكن أن يترتب عليه من تكاليف وتبعات.
هل تشاور المرشدُ مع أحد قبل أن يقرر كتابةَ "المذكرة" ونشرَها؟ هل تشاور مع مجلس الإرشاد، مثلا؟ مع الأمانة العامة للدائرة السياسية، مثلا؟ لا، لم يفعل.
هل عُرِضَت "المذكرة"، قبل قرار نشرها، على مجلس شورى الجماعة، وهو يومئذ أعلى هيئة تقريرية؟ لا.
هل تداول المجلسُ القطري للدائرة السياسة في شأن "المذكرة"؟ هل طُلب من هذا المجلس، الذي يمثل وجهَ الجماعة السياسي، رأيُه في الأمر؟ لا.
ومرت الأيام، فهبّت علينا عواصف "الربيع العربي"، فقررت الجماعة المشاركةَ في فعاليات هذا الربيع، والانخراطَ النشيط في حركة 20 فبراير. وما هي إلا أشهرٌ معدودات حتى قررت الجماعةُ الخروجَ من الحركة، ومغادرةَ فعاليات الربيع المغربي خالية الوفاض-في ظني وتقديري-بعد أن تحمّل الناس-الأعضاءُ والمسؤولون من مختلف الدرجات-كثيرا من الأعباء، بسبب ما أُنفق من جهد ووقت ومال. وكان يمكن أن تكون التكاليفُ أثقلَ وأصعب وأخطر، لكن الله سلّم، فبقيت محصورةً في الوقت والجهد والمال.
الشاهدُ من كل هذا هو السؤال التالي:
مَنْ قرر مشاركةَ الجماعة في حركة 20 فبراير؟ ومن قرر مغادرةَ الجماعة؟
المعلومُ أن مجلس الشورى في الجماعة، وكذلك المجلس القطري للدائرة السياسة، لم يقررا في أمر المشاركة، ولا في أمر المغادرة. وإنما القراران كانا فوقيّيْن، شارك فيهما أفراد يُعدّون على رؤوس الأصابع، ثُم نزل الأمرُ بالتنفيذ.
ما قيمةُ مجلس الشورى إن لم يُدع للتداول في شأن عظيم خطير ذي بال، كان يمكن أن يخلّف ضحايا في الأرواح، والوقتُ كان وقت حماسة وفوَرَان وثَوَرَان وتصادم؟ لا شك أن قيمة هذا المجلس ستكون منقوصة، إن لم نقل معدومة.
والمجلسُ القطري للدائرة السياسة؟ أليس هو القوة السياسية الضاربة للجماعة؟ أليس هو من يتحمل العبء في مجالات التأطير والتحشيد والتنظيم؟ أليس هو وجه الجماعة السياسي؟ لماذا لم يُستمع إلى رأيه في قراريْ المشاركة والمغادرة؟ والمعلومُ أن هذا المجلس (مقدس) قد عَقد دورتين، عادية واستثنائية، في فترة نشاط الجماعة في حركة 20 فبراير، لكنهما لم تكونا من أجل مشاركة الجماعة أو عدمها، ولكن كانتا لموضوعات أخرى تخص مشروع الدستور والاستفتاء وانتخابات 25 نونبر 2011!

الأربعاء، 28 أغسطس 2019

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(4)


بسم الله الرحمن الرحيم

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(4)

المفكرُ العالمُ الفقيهُ المجتهدُ مأجورٌ في حالَتَيْ الصواب والخطأ.
الأصلُ في الفكر السياسيّ أنه فكرٌ ظنيٌّ اجتهاديٌّ ترجيحيّ، لا علاقة له بالقطعيات والمطلقات والمقدسات. وقد يُرجِّح الفكرُ السياسيُّ اليوم ما يردُّه غدا، وقد يستحسن الفكرةَ والرأيَ ويقبلهما في ظروف معينة، ويستقبحهما وينفيهما في ظروف أخرى مغايرة؛ وهكذا، لا يستقر الفكرُ السياسيُّ على حال واحدة في جميع الظروف والأحوال، بل هو متغير بحسب هذه الأحوال، وإن بقيت الأصولُ والثوابت والمبادئ والكلّيات التي يقوم عليها الاجتهاد والترجيح هي هي، في جميع الأحوال والملابسات.
ومن هنا يجب التنويهُ بالقواعد التي استنبطها الأصوليون، والتي جعلوها بمثابة الموازين الثابتة في عِيَارِ الأفكار وترجيح الأحكام، والتمييزِ، عند النظر والاجتهاد، بين الأصل الكلي الثابت، وبين الفرع الجزئي المتغير.
لقد اجتهد الأستاذُ عبد السلام ياسين، رحمه الله، لزمانه، وكَتب ما كتب، منتقدا ومُنظّرا ومحلِّلا ومرجِّحا، وهو، في كل ذلك، لم يدَّعِ أن ما كتبه لا يجوز عليه النقدُ والمراجعةُ والتطويرُ والتمحيصُ، بل صرّح بالعبارة الواضحة التي لا تقبل التأويل، أن ما كتبه إنما كان أَقْصَى ما وصل إليه نظرُه واجتهادُه، ولِمَن سيأتي بعده أن يجتهدَ لزمانه، ويزيد وينقص، ويحوّر ويطور، بحسب ما يستجد من معطيات، ووفق ما يشهده الواقع من تغيرات وتحولات.
فكيف أصبح "المنهاج النبوي" منهاجا فوق النقد والتطوير والتحوير؟
مَنْ هذا الذي قَضَى أنّ فكرَ الأستاذ المرشد السياسيَّ الظنيَّ الاجتهاديَّ هو المقالةُ الفصلُ التي تنتهي عندها كلُّ المقالاتِ، وهو الاجتهادُ النهائيُّ الذي تقف عنده مختلفُ الاجتهادات، وهو الرأيُ القاطع الذي يَجُبُّ جميعَ الآراء؟
مَنْ حوَّل فكرا بشريا إلى صنمٍ مقدَّس؟
مَنْ حوّل تراثا سياسيّا غنيّا أراد له صاحبُه أن يكون مفتاحا للاجتهاد والإبداع والتحرر إلى فكر محنَّط جامد منغلق؟
إني هنا أتحدث عن فكر سياسيّ، لا عن هذا الشخص أو ذاك؛ فمقالاتُ كتابي تدور حول أفكارٍ سياسيةٍ، تُراجعُها وتناقشُها وتنتقدها على أساس أنها أفكار اجتهادية، تصيب وتخطئ.
وهل يمكن للمفكر العالم الفقيه المجتهد أن يخطئ؟
نعم، وذلك بصريح العبارة في الحديث المتفق عليه المشهور عن الحاكِم إذا اجتهدَ فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد؛ فالمجتهد المصيبُ والمجتهد المخطئُ كلاهما مأجور، لأن خطأ المجتهد لم يكن في أمر ممنوع محرم، ولا كان خطأ مقصودا، وإنما كان في أمر فكري علمي فقهي ترجيحي استنباطي، فاستحق الأجرَ، وإن لم يُصِب، لِمَا يكون منه من جهد وتقصٍّ في النظر وتتبّع الأدلةِ واستعراضِ الأشباه والنظائر وسائرِ ما يتوَسّل به المجتهد لتحرير الدليل واستنباط الحكم.


الثلاثاء، 27 أغسطس 2019

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(3)


مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(3)

إشكاليةُ ارتباطِ التربويّ بالسياسيّ
ما تزال كتاباتُ المرشد عبد السلام ياسين، رحمه الله، عموما-ومنها كتابُ "المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا" بوجه خاص-تمثّلُ المرجعَ الأسمى لاختيارات الجماعة ومواقفِها السياسية.
ومنهاجُ الجماعة، في الحقيقة، منهاجان متداخلان متعانقان متلازمان، أحدُهما تربويٌّ إحسانيّ، والثاني سياسيٌّ نضاليّ. ومعنى كونِهما متداخلَيْن متعانقَيْن متلازمَيْن أنهما صادران عن شخص واحد، تصوُّرا وتفكُّرا وتنظيرا وتأليفا، وهو الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، رحمه الله.
وإذا كان الشأنُ التربويّ، في منهاج الجماعة، هو الأساس الذي عليه البناء، وهو الأصل الذي إليه تَرجع كلُّ الفروع، فإن الشأن السياسيّ، في كتابات الأستاذ المرشد، وخاصة في كتبه التي تُوصف بالأمهات، قد ارتبط، في نشأته وتطوره ونضجه، بالشأن التربوي ارتباطَ التابع بالمتبوع، يلازمُه ولا ينفكّ عنه.
وهذا الارتباطُ الجوهريّ البنيويُّ بين التربويّ والسياسيّ، في كتابات الأستاذ المرشد، يطرح، في تقديري، قضيةً إشكاليّةً في الفكر السياسيّ الإسلاميّ الحديث، عموما، وفي منهاج جماعة العدل والإحسان، بوجه خاص، وخاصة بعد وفاةِ المرشد، رحمه الله، ومصيرِ المسؤولية عن تراثه إلى من خلَفَه على رأس الجماعة، من قيادات الصف الأول، يمثلهم، أولا وأساسا، مجلسُ الإرشاد، وفي درجة ثانية ثانوية، الأمانةُ العامة للدائرة السياسية، التي يرأسها عضوٌ من مجلس الإرشاد.
هذه الإشكاليةُ، في كلمة مختصرة، هي أن الأمر السياسيّ، بطبيعته، أمرٌ اجتهاديٌّ متغيّر، لأنه يقوم على النظر والظن والترجيح. أما الأمر التربويُّ، فهو في لبّه وطبيعته، راسخ في الدينيّ الإيمانيِّ الغيبيِّ، ولا شأن له بالاجتهاد، إلا في طُرُق التنفيذ، ووسائلِ العمل، وضوابطِ التنظيم، وهي أمورٌ لا تمسّ الأصولَ القطعية التي ينبني عليها العمل التربوي، وخاصة ما يرجع منها إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة المطهَّرة.
فأصول التربية الإيمانية الإحسانيةِ ثابتة راسخة محفوظة، مهما تبدّلت الظروفُ والأحوال، ومهما غفل الناسُ وفرّطوا، ومهما غلا الغالون، وتشدد المتشددون، وأفْرط المفْرطون، وألحد الملحدون، ولَهَا اللاهون الفاسقون الظالمون. لكن الشأن السياسيّ، بطبيعته المشار إليها، وخاصة في جانبه النظريِّ الفكري، لا يمكن أن يوصف بالثبوت، إلا إن اعتبرناه تراثا محفوظا انتهى مِن السلف للخلف، وعَمَلاً من الأعمال المنجَزة، التي تشهد على زمانها، كما تشهد على اجتهاد صاحبِها وأسلوبه في النظر والفقه والاستدلال والاستنباط. أما أن يصبح هذا الفكرُ السياسيّ الاجتهاديّ، القائمُ على الظن والترجيح، والمظروفُ بظروف صاحبه وواقعه وزمانه وأحوال هذا الزمان، مرجعا لكل زمان ومكان، ومعيارا "مطلقا" "متعاليا" لمعالجة كلِّ أمور السياسة المتغيرة، اليوم وغدا، فذلك عين المستحيل، لأن طبيعة الفكر السياسيّ الاجتهاديّ تأبى هذا، وترفض أن يتحول المظنونُ إلى أصل قطعيّ، كما ترفض أن يتحول الرأيُ الناقص إلى حقيقة مطلقة كاملة.
فهناك فرقٌ كبير، مثلا، بين معارضةِ النظام الملكيّ بخلفيّة سياسية، وبين أن تعارضَه بخلفية دينيّة؛ ففي المعارضة الأولى، أفكارٌ تقابلُ أفكارا، واجتهادٌ يقابل اجتهادا، وفكرٌ بشريٌّ يعارض فكرا بشريا، وفي المعارضة الثانية، عقائدُ في مقابل عقائد، وإيمانٌ بإزاء إيمان، ونصوصٌ "مقدسة" تعارضُ نصوصا أخرى "مقدسة".
المعارضةُ السياسية فيها مجالٌ واسعٌ للحوار والتفاهم والتقارب والتعايش-هذا حينما تكون الظروفُ طبيعيةً، والأجواءُ سليمةً، والحقوقُ والحريات مرْعِيّة؛ أما في ظلِّ الاستبداد والقمع والمنع والقهر، فالحُكم مختلِف. أمّا المعارضةُ الدينيةُ، فالأمر فيها إما مع الدين أو ضده، وهذا هو المدخلُ الواسع للتكفير والتقتيل والترهيب باسم الدين ومقدساتِ الدين.
ولعل المطابقةَ بين الشأنَيْن التربويِّ والسياسيِّ، وجعلَهما متلازمَيْن، في منهاج جماعة العدل والإحسان، هو-في تقديري-السبب الرئيسيُّ وراء الكثير مما يطبع أنشطة جماعةِ العدل الإحسان اليوم، من جمود وانحسار وعزلة وانغلاق، في مجال التدافع السياسي، وكذلك في مجال التواصلِ مع مكونات الساحة السياسية المغربية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
نعم، الاستبدادُ هو علّةُ العلل التي تسوم حياتَنا السياسية مِنْ كل ألوان الظلم والفساد والتخلف والتأزم والتعثر والاختناق، ومع ذلك، فالنقد الذاتيُّ واجب في جميع الأحوال، وإلقاءُ المسؤولية، كلِّ المسؤولية، على عاتق الاستبداد (النظام الجبْري)، هو، عندي، نوعٌ من التهرب من واجب مواجهةِ الذات ومراجعةِ المواقف، وتقويمِ الاختيارات، لأن من أسهل الأمور، في السياسة وغيرها، أن تبقى متقوقعا في اتهام الآخر، وتستقيلَ وتستريحَ من كل ما يمكن أن يكلّفه النقدُ الذاتيُّ من حرج وأعباء ومسؤوليات.

الاثنين، 26 أغسطس 2019

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(2)

بسم الله الرحمن  الرحيم

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(2)

ماذا أقصدُ بـ"المراجعة"؟
هل هناك من فرق بين "المراجعة" و"النقد الذاتي"، أم هما بمعنى واحد، أم أحدهما عام والثاني خاص بتجربة بعينها؟
أنا في مقالات كتابِ "المراجعات" لا أرى أن المسألةَ المتعلقةَ بمفهومي "المراجعة" و"النقد الذاتي" ذاتُ أهمية، ولذلك اكتفيت باستعمال كلمة "مراجعات" متضمِّنةً معنى النقد الذاتي، لأن من المعاني التي تُحيل عليها كلمةُ "مراجعة" في اللغة، معنى المُعاودةِ والمُساءلة وتجديدِ النظر والتدقيقِ والتمحيص والتصحيحِ والنقد. 
والمراجعةُ، في شأن الأفكار والمواقف، قد تحصل بتغيُّرٍ جذريّ، أو بتغيّر جزئي، أو بتعديل في بعض المواقف دون أخرى، أو بتطويرٍ في بعض الأفكار وأساليبِ العمل، أو بنقدٍ للذات وتصحيحِ بعض الأخطاء، إلى غير أولئك من المبادرات والسلوكات التي يمكن أن تُعدّ في المراجعات. وإذا عُرف المقصود، فلا مُشاحَّة في العبارات.
إني أعتقد-وهذا رأيي على أيّة حال، وقد أكون مخطئا فيه-أن التنظيم الذي لا يُراجِع نفسه من حين لآخر، ويقوِّمُ اختياراتِه، حسب الواقع، بملابساته ومتغيراته ومستجداته، ولا يقبل بالنقد الذاتي، هو تنظيم آيلٌ، عاجلا أو آجلا، إلى التعثر والاضمحلال، وهذه سنة كونية، ولنا في كتاب العالم أمثلةٌ ناصعة للدرس والاعتبار.
والذي أعرفه أن جماعة العدل والإحسان لم تدّع، في يوم من الأيام، أنها فوق المراجعة والنقد، وأن منهاجَها هو منهاجٌ مقدس ومعصوم لا يجوز عليه ما يجوز على الاجتهادات البشرية من إمكانية المراجعة والتعديل والتطوير.
هذا هو الأصل والمبدأ الثابت؛ ما مِن فكرٍ بشري، مهما بلغتْ درجتُه في الفهم والفقه والصحة والرجحان، وكيفما كانت مكانةُ صاحبِ هذا الفكر في الدين والعلم والإبداع والإحسان، إلا وهو، بطبيعته البشرية النسبية، قابل للأخذ والرد، والنقد والنقض، والمراجعة والتغيير والتحوير والتطوير.
لكن الإيمان بالمبدأ والتنويهَ به في الكلام والأوراق والخطب والشعارات شيءٌ، والعمل به والتصرف على ضوئه في واقع الممارسة واتخاذ المواقف وحسم القرارات شيءٌ آخر.

الأحد، 25 أغسطس 2019

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(1)


بسم الله الرحمن الرحيم

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(1)
"مراجعاتٌ في الفكر والسياسة" هو العنوان الذي اخترته لكتابي الأخير، الذي أنا بصدد مراجعته وإعداده للنشر، والذي سيظهر في نشرته الرقمية الأولى في شهر نونبر القادم، إن شاء الله.
يضمّ هذا الكتاب مقالاتٍ كتبتها بين سنتي2010 و2014، ناقشت فيها بعضَ المبادئ التي يقوم عليها المنهاجُ السياسي لجماعة العدل والإحسان، وانتقدت فيها أيضا بعضَ الاختيارات التي ما تزال الجماعةُ تتشبث بها في تدافعها السياسي.
لقد رأيت، بعد طول نظرٍ وتأملٍ وتردّد، أن أجمع هذه المقالاتِ في كتاب، لتكون سهلةَ التناول لكل من يعنيه الأمر، مِنَ المهتمين بالفكر السياسي للحركات الإسلامية عموما، وبالمنهاج السياسي لجماعة العدل والإحسان خصوصا.
لقد ناقشت الاختيارَ السياسي للجماعة، وانتقدت منه ما رأيت أنه يستحق النقد والتقويم، وذلك من أجل المشاركة-فيما أظن وأقدّر-في خلق نوع من الحيوية الإيجابية البناءة على مستوى نقد الفكر السياسي الإسلامي، وأيضا من أجل تسجيل ما أدّتني إليه تجربتي الشخصيةُ الطويلةُ في العمل السياسي الإسلامي من ملاحظات وانتقادات ومراجعات، وخاصة فيما يتعلق باجتهادات الأشخاص وآرائهم ونظراتهم، التي هي من بنات الظن والترجيح، وليست من المعتقدات القطعيات المطلقات التي لا يملك المرء إزاءها إلا التصديق والتسليم.
سجلت في هذه المقالات ملاحظاتي وانتقاداتي وآرائي التي كوّنتُها عبر تجربة ونظر، ومخالطةٍ وممارسة، ومعاينةٍ ومتابعة، لا أدعي فيها أن ما أقوله هو الحق والصواب، وإنما هي مقالاتٌ قائمة على العرض والتحليل والنقاش والنقد والترجيح، قد أكون فيها أصبت بعضَ الحقيقة، وقد لا أكون، لأن الموضوع السياسيَّ من الموضوعات التي تتعدد في شأنها الآراء والأفهام، وتتباين في تناولها زوايا النظر، وتختلف مناهجُ الاجتهاد وموجباتُ الترجيح والاختيار، ومن ثَمَّ، فإن مقياس الحق والباطل، مثلُه مثلُ مقياس الإيمان والكفر، لا يفيد شيئا في تقويم الفكر السياسي ونقده، لأنه سيكون مقياسا في غير طائل، لأن الفكر السياسيَّ الاجتهادي هو من الأعمال المباحة ما دامت الأصولُ العقدية محفوظة، والثوابتُ الإيمانية والمبادئ الأخلاقية مرعية ومعتَبَرة.
في جملة، مقالاتُ هذا الكتاب تُدافع عن التحرر من الإمعيّة والتبعية والتقليد الأعمى، بل إنها تُذكِّر بأمرٍ بديهيٍّ في مجال السياسة، بشقيها التنظيري والتطبيقي، وهو أن الجمودَ قاتلٌ، والتقليد مُخلِق ومُتلف، لأن السياسةَ، فكرا وممارسة، بطبيعتها، تأبى التحجُّرَ والتحنُّطَ والتكريرَ، لأنها مجال يمتاز بالحركة الدائبة، والتدافع المتجدد، والطوارئ والمفاجآت التي لا تكون في الحسبان.


الخميس، 22 أغسطس 2019

المعارضةُ في النظام السياسي المخزني


بسم الله الرحمن الرحيم

المعارضةُ في النظام السياسي المخزني


أُذَكِّرُ بأن المخزن، في المفهوم السياسي الشائع، يُقصد به نظامُ الحكم في المغرب القائم على ملكية وراثية "تنفيذية"، حيث الملك يسود ويحكم بسلطات شبه مطلقة-إن لم نقل مطلقة-تحدّدها وتبيّنها فصولُ الدستور الممنوح، فضلا عن دستور الأعراف والطقوس والعادات الموروثة منذ قرون. والملكُ في هذا النظام المخزني هو رئيس الدولة وهو أميرُ المؤمنين-أي يجمع بين السلطتين الدينية والسياسية-وهو فوق كل المؤسسات، لا يراقبُ ولا يراجعُ ولا يحاسب.
وأُذَكِّرُ، أيضا-لأني كتبت كثيرا في هذا الموضوع-أن نظامنا السياسي، كما هو في واقع ممارسة السلطة وتدبير شؤون الدولة، هو أبعد ما يكون عن النظام الديمقراطي، لأنه نظام بصوت واحد لا وجود فيه لمعارضة حقيقية. وإن وُجِدت هذه المعارضة، فهي مهمَّشَةٌ ومحاصَرة ومتابَعة ومتهَمة ومدَانة، أي أنها معارضة مرفوضة مبعدة، ليس لها مكان في النظام السياسي القائم.
فالمعارضةُ، في الأنظمة الديمقراطية السليمة، تعارضُ من يحكمُ فعليا، وتقابلُ برامِجه وسياساتِه ببرامج وسياسات مخالفة، جزئيا أو كليا، والحَكَمُ في هذا التعارض والتقابل، في نهاية المطاف، هو صوتُ الناخبِ المتحرر من كل أنواع التأثير والضغط والإكراه والترغيب والترهيب.
أما ما يُسمَّى، عندنا، بأحزاب المعارضة، أو بالمعارضة البرلمانية-مثلا حزب الأصالة والمعاصرة-فإنها، عند التحقيق، تسميةٌ للتمويه والتمثيل، وإلا، فإن الجميع، أيْ ما يُسمَّى أغلبيةً وما يُسمَّى معارضةً، إنما هم في خدمة المشروع الملكي، لا يملكون أمام التعليمات والتوجيهات إلا السمع والطاعة، وهم منتخَبُون-وهناك من يصرح بذلك بلا مواربة ولا تردد-من أجل تنفيذ سياسات الملك وما يخطِّطه ويرسمه من مشاريع وما يتخذه من قرارات وتدابير-مثلا، القراراتُ الواردة في خطاب العرش الأخير في شأن تعيين لجنة للنظر في النموذج التنموي الجديد، وفي شأن التعديل الحكومي وتغيير بعض المسؤولين في المناصب المركزية العليا، إنما هي قراراتٌ للتنفيذ، وليست للتداول والنقاش.
ومن بين الأمثلة العديدة التي يمكن ذكرها في هذا السياق مثالُ السيد نبيل بنعبد الله، الذي ذَكَر في سياق برنامج تلفزيوني جمعه سنة 2014-وقد كان يومها وزيرا في حكومة السيد بنكيران-بالسيد إدريس الأشكر-وقد كان محسوبا يومها على المعارضة-ذَكَر السيد بنعبد الله في هذا البرنامج أن جميع الحكومات، اليوم وغدا، هي حكوماتُ صاحب الجلالة. فردّ عليه "المعارض" إدريس الأشكر وأماراتُ الانفعال بادية عليه، أن المعارضةَ هي أيضا معارضةُ صاحبِ الجلالة، بمعنى أنها معارضةٌ تابعةٌ وخادمةٌ ومطيعة، فقال له بنعبد الله مؤكدا: متفقين-أي نحن متفقان-كررها خمس مرات. فإذا كانت المعارضةُ معارضةَ صاحب الجلالة، بمعنى السمع والطاعة والامتثال، فأين هي معارضةُ صاحب الجلالة، بمعنى الاعتراض والنقد والمراجعة؟

وضع شاذ
الملك يسود ويحكم، والأغلبية والمعارضةُ كلاهما في خدمة الملك، يسمع ويطيع. ففيم الانتخاباتُ، وبرامجُ الأحزاب المتنافسة، وتبذيرُ الملايير من المال العام؟
إذا كان البرنامجُ الوحيد للحكومة هو برنامجَ الملك، وإذا كانت أعمالُ الحكومة محصورةً في تنفيذ سياسات الملك وقراراته وتدابيره، فما معنى الاعتراض على الحكومة؟
الوضعُ الطبيعيُّ يفرض أن يُوجَّه الاعتراضُ والنقد لسياسات الملك وقراراته، لأنه هو المسؤول الأول عن سياسات الدولة، بنص الدستور الممنوح، وأيضا بحكم الواقع المعيش والأعراف الراسخة، لا أن يُوَجَّه إلى حكومة ليس لها من أمر الحُكم شيء، وإنما هي أداة من أدوات التنفيذ، ووعاء لتلقي تعليمات الملك والاجتهاد في اتباع توجيهاته.
هذا الوضع الشاذ يُحوّل "اللعبة الديمقراطية" من ألفها إلى يائها، إلى لعبة فارغة من أي معنى، إلا أن يكون الغرض من هذه "الشكليات الديمقراطية" هو التمويه والتغطية على حقيقة الاستبداد بواجهة مصبوغة بألوانٍ وشعاراتٍ تخفي وراءها نظاما سياسيا يطغى فيها صوتٌ واحد على كل الأصوات.
لماذا لا يعترض الناسُ على سياسات الملك وقراراته ومشروعاته؟
لماذا لا نسمع إلا أصواتَ المدح والتعظيم حينما يتعلق الأمر بما يصدر عن الملك، في خطبه ورسائله وسياساته وتوجيهاته، أما الاعتراضُ والنقد والتقويمُ والمحاسبة، فهي موجهةٌ إلى الحكومة، التي يعترف الجميع-في مقدمتهم رئيس الحكومة ووزراؤه-أنها حكومةُ صاحب الجلالة، أي أنها حكومةٌ تنفذ برامج الملك وسياساته وتعليماته؟
فعلى سبيل المثال، سياساتُ الدولة المتعلقة بأفريقيا، والتي دشنها الملكُ بقرار استرجاعِ عضوية المغرب في منظمة الاتحاد الإفريقي، وما تلا هذا القرارَ من جولة طويلة زار فيها الملك عدة دول في القارة السمراء، وأشرف فيها على تدشين عدة مشاريع وتوقيعِ عدة اتفاقيات بعضُها كلف خزينة الدولة أموالا طائلة، حسب ما عُرِفَ ونُشِرَ.
أنا سقت هذا المثال، لا لأناقش أهمية الرجوع للمنظمة الإفريقية من عدمه، ولا لأقوّم الجدوى من المشاريع المدشَّنة والاتفاقيات المبرَمة والأموال الموهوبة، لأن الأمر، ولا شك، يتعلق بسياسات وقرارات واختيارات يكمن وراءها أهداف وغايات استراتيجية، وقد تكون سياسات ناجحةً حسب ما خُطط لها، وقد يعتريها بعضُ الفشل أو تقومُ في سبيل تنفيذها بعضُ المعوِّقات، فلا تكون مردوديتُها بمستوى الآمال والأهداف التي رُسمت لها.
ويحسن التذكير هنا أن جولة الملك الإفريقية وما يتعلق بها من قرارات واتفاقيات وهبات جرت في ظل حكومة تصريف أعمال، وفي أجواء البلوكاج التي طبعت مساعي السيد بنكيران من أجل تشكيل الحكومة الجديدة بعد انتخابات2016.
غايتي من سوق هذه المثال أن أبين أن الملك هو صاحب اليد العليا في وضع السياسات ورسم الاستراتيجيات، وما الحكومة والبرلمان وسائر المؤسسات والمجالس والهيآت إلا أدوات للتنفيذ. فالملك، بنص الدستور الممنوح في الفصل48، يترأس المجلس الوزاري، الذي من مهامه، حسب الفصل49، "التداول في شأن التوجهات الاستراتيجية لسياسات الدولة". والذي نعرفه عن هذا المجلس الوزاري أن أعضاءه لا يناقشون الملك فيما يعرضه عليهم، ولا يعترضون ولا ينتقدون، بل إنهم يحضرون للموافقة والتصديق، حسب ما نعرفه من المُلخّصات التي تُنشرُ عن أعمال هذا المجلس، لأن الإعلام الرسمي، فيما أعلم، لم يسبق له أن نقل لنا بالصوت والصورة كيف تجري الأمور في هذا المجلس، لكن التسريبات التي تخرج من هنا وهناك تتحدث عن مجلس لا يكاد يعرف مناقشات أو مداولات أو مشاورات سياسية حقيقية.
من هذه التسريبات التي عرفناها عن مجلس الوزراء الذي يترأسه الملك ما حكاه القيادي الاشتراكي محمد اليازغي عن الأزمة التي اشتعلت بين المغرب وإسبانيا بسب جزيرة "ليلى" سنة2002؛ فقد قرر الملك، من غير أن يخبر الوزير الأول آنذاك السيد عبد الرحمن اليوسفي، أن يرسل أفردا من القوات المساعدة والدرك الملكي لحراسة الجزيرة، فحاول السيد اليازغي، في اجتماع مجلس الوزراء(يوليوز2002)، أن يبدي رأيه في المسألة، لكن الملك-حسب ما يحكيه السيد اليازغي في أحد حواراته المنشورة-"كان له رد فعل تجاهي، بعد أن واجهني بتدخل عنيف، ففضلت ألا أدخل في جدال معه، وفضلت ألا أناقش الأمر. وأذكُر-يضيف السيد اليازغي-أنه كان بجانبي إدريس جطو، الذي كان وزيرا للداخلية، وبدأ يضرب على ركبتي من تحت طاولة الاجتماع في المجلس الوزاري، ويردد: "باراكا، باركا آ السي محمد". فهذه الحادثة تبين، ولو بصورة غير مباشرة، أن مجلس الوزراء، في النظام السياسي المخزني، ليس للنقاش والتداول وإبداء الرأي، وإنما هو للإخبار والاستماع والمصادقة.
فالذي يقرر في شأن السياسات الاستراتيجية هو الملك ومساعدوه في دائرة المقربين من مستشارين ومكلفين بمهام. أما باقي مؤسسات الدولة فدورها الأساسي محصور في التنفيذ. وعلى هذا يمكن أن نزعم أن "برنامج" الحكومة الذي نالت به من الأصوات في الانتخابات ما نالت هو برنامج شكلي تمويهي لكي يقع في الأوهام أن الأمر يتعلق بحكومة لها حريتها وصلاحياتها وسلطاتها المستقلة لتنفيذ برنامجها-أو البرنامج التوافقي الناتج عن أغلبية مؤلفة من عدة أحزاب. وإن لم يكن هذا البرنامج/البرامج الانتخابية شكلية تمويهية، فما معنى أن أي حكومة، ومهما كانت طبيعة مكوناتها، لا يمكن أن تكون حرة في وضع برنامجها ومستقلة في اتخاذ قراراتها، وإنما هي مجبرة أن تتبع سياسات وتنفذ برامج لا علاقة لها بالبرامج الانتخابية، وإنما هي سياسات وبرامج طُبخت في مطبخ دائرة الملك ومساعديه الأقربين، ونزلت في شكل تعليمات وتوجيهات وقرارات لكي تأخذ طريقها إلى التنفيذ.

المعارضة الحقيقية
المعارضة الحقيقية هي التي تتوجه بالاعتراض والنقد والمراجعة للأصل لا للفرع، للآمر لا للمأمور، للواضع المتبوع لا للمنفذ التابع.
وهذه المعارضة عندنا نوعان، أحدها ضعيف ومهمش، والثاني محظور ومحاصر ومتهم.
النوع الأول الضعيف والمهمش، يمثله، في تقديري، الملكيون الإصلاحيون، أي الذي يطالبون بملكية برلمانية يسود فيه الملك ولا يحكم، وخير من يمثل هؤلاء، في مشهدنا السياسي، الحزب الاشتراكي الموحد وحليفاه في فيدرالية اليسار الديمقراطي، حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي وحزب المؤتمر الوطني الاتحادي. ويمكن، في رأيي، اعتبار الوثائق الصادرة عن الحزب الاشتراكي الموحد بشأن مطلب الملكية البرلمانية وثائق مرجعية في هذا الباب.
والنوع الثاني هم المعارضون الثوريون، الذين يتعدون الاعتراض على سياسات النظام وتدبيراته لشؤون الدولة إلى الاعتراض على النظام الملكي نفسه، في شرعيته وفلسفته والأسس التي يقوم عليها سلطانه، وخير من يمثل هذا النوع من المعارضة، في رأيي، جماعة العدل والإحسان الإسلامية.
وقد تكلمت على هذا الموضوع في كثير من مقالاتي، وملخص رأيي أن البداية المعقولة للإصلاح ينبغي أن تنطلق من الواقع كما هو، أي أن تكون البداية على أساس سياسي لا إيديولوجي، لأن التجارب أثبتت أن الصراعات الإيديولوجية لا تنتهي إلا بالحطام والخراب والفتن.
أن تكون للملكية سلطةُ السيادة والرمزية الجامعة للأمة وما يتعلق بهذين العنصرين-السيادة والرمزية-من وزن معنوي ومكانة اعتبارية وتشريفات وأعراف وتقاليد، وأن يكون للحكومة الناتجة عن انتخابات سليمة من الغش والتزوير وتأثير المال الحرام، سلطةُ الحكم وصلاحيات التنفيذ، وأن تكون مسؤولة أمام البرلمان، وأمام الناخبين عما يكون منها من سياسات وقرارات واختيارات-على ما هو متعارف عليه في الملكيات البرلمانية الحديثة-هو بدايةٌ في سبيل الخروج من هذه المآزق التي ما فتئت تهدد حياتنا السياسية بالاختناق والانفجار.
وفي اعتقادي أن المعارضين الثوريين، طال الزمن أم قصر، لا بد أن يتعاملوا مع الواقع السياسي بمنظار سياسي-وليس عيبا أن يكون هذا المنظار السياسي محكوما بخلفية إيديولوجية من هذا الاتجاه أو ذاك.
ولْنبْقَ في الواقع ونسأل: هل للنظام المخزني عندنا إرادة للخروج بحياتنا السياسية من ضيق الاستبداد إلى سعة الحرية والديمقراطية؟ هل للنظام المخزني استعداد للتطور والانتقال إلى نظام برلماني يسود فيه الملك ولا يحكم؟ وإلى متى ستدوم معاناتنا في هذا الوضع الشاذ؟ أم أن الأمر تدافعٌ وتنازُعٌ وتغالبٌ محكوم بموازين القوى على الأرض، والغلبةُ، في النهاية، للأقوى؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

الخميس، 15 أغسطس 2019

رجالات المخزن يتكلمون في السياسة!!


بسم الله الرحمن الرحيم

رجالات المخزن يتكلمون في السياسة!!

الأصل الراسخ منذ عهود أن رجالاتِ المخزن ونساءَه ليسوا إلا أظرفةً للسمع والطاعة، وأدواتٍ للتنفيذ والدعاية والمدح، وليس من مهام هذه الأظرفة والأدوات أن يتكلموا في جوهر الشأن السياسي، المتعلق بالحكم وشرعيته، واستقلالية المؤسسات ومحاسبةِ المسؤولين إلى آخر الموضوعات التي تمس حقيقة العمل السياسي وعمقه، لا واجهتَه وقشورَه؛ وإن سُمح لخدام الدولة المخزنية أن يتحدثوا في موضوعات لها علاقة بنظام الحكم ومتعلقاته، فإنهم لا يتعدون دائرة المدح والتعظيم والتبجيل للنظام والتبرير والتسويغ، كقولهم، مثلا: إن الدستور الممنوح عندنا يُعَدّ من أرقى الدساتير في العالم، وإن نظامنا الملكي قد اختار الديمقراطية طريقا لتنظيم حياتنا السياسية، وإن رئيس الحكومة بات يُعين من الحزب الذي نال الرتبة الأولى في الانتخابات، وإن القضاء باتت تدبره سلطةٌ عليا مستقلة، إلى غير ذلك من المقتضيات التي تنص عليها بعض فصول الدستور الممنوح، وهي مقتضيات ثانوية إن هي قورنت بالجوهر الذي يسكت عنه المخزنيون المتكلمون، بل لا يجرؤون على إثارة النقاش حوله، بل لا يقتربون منه مطلقا.
من هذا الجوهر السياسي الذي لا يقترب منه المخزنيون المتكلمون في قشور السياسة أن الملك يسود ويحكم بسلطات شبه مطلقة، إن لم نقل مطلقة-لأن كل شؤون الدولة الأساسية مبدؤها ومرجعها إليه-لكنه لا يراقَب ولا يتابَع ولا يحاسَب، وليس عندنا في مؤسسات الدولة وسلطاتها مؤسسة أو سلطة يمكن أن تعترض على الملك أو تنتقده أو تطالبه بحساب أو ما يشبه الحساب.
أحد خدّام الدولة المخزنيّة، وهو من مستشاري الملك، لم يجد ما يمدح به دستور 2011 الممنوح إلا أن يقول إن الدساتير السابقة-وهي كلها دساتير ممنوحة-كانت تسكت عن تحديد سلطات الملك، لكن الدستور الممنوح الأخير جعلها محددة!!
وهل هناك أسخفُ وأضعفُ من هذا التبرير؛ سلطاتُ الملك في السابق لم تكن حدودُها معروفة، واليوم باتت هذه الحدودُ معروفة! ومعنى هذا الكلام التبريري من رجل مخزني يُوصفُ بأنه من أهل التخصص في الفقه الدستوري، أن سلطات الملك وصلاحياتِه في السابق كانت بغير اسمٍ يحددها، واليوم باتت محددة بالاسم والصفة. وهل من فرق بين الحالتين؟ وماذا تغير حينما أصبحت سلطاتُ الملك اليوم محددة ومسماة؟ هل تغير شيء في حقيقة الاستبداد ومعناه وروحه؟
ليست العبرةُ، في نظام الحكم، بتسمية ما لم يكن مُسمّى، وتحديدِ ما لم يكن محددا، ووصف ما لك يكن موصوفا-فهذه أمور لغوية شكلية لا أثر لها في صميم الجوهر-وإنما العبرة بربط المسؤولة بالمحاسبة، كما ورد في الفصل الأول من الدستور؛ فكونُ الملك يتمتع في نظامنا السياسي بصلاحيات واسعة، باتت اليوم معروفةً بأسمائها بعد أن لم تكن محددة في السابق، وهو في الوقت نفسه مُعْفى أن يقدِّم أي حساب أو أن يراجَعَ أو يتابَعَ أمام أي هيئة مسؤولة، هو أصل الداء العضال الذي ما يزال ينخُر حياتنا السياسية، والذي لا يجرؤ سياسيونا المخزنيون، من مختلف الدوائر المقربة والبعيدة، أن يتحدثوا فيها.

عن الملكية البرلمانية
مما يؤكد أن حديث خدّام المخزن في الشؤون السياسية هو حديثٌ للدعاية والتهريج والتخدير وذر الرماد في العيون أن أحدهم، بمناسبة الاحتفال بمرور عشرين سنة من عهد الملك محمد السادس، تحدث عن مطلب الملكية البرلمانية وقال إننا في المغرب ولسنا في بريطانيا أو إسبانيا-النظام في هاتين المملكتين نظام برلماني حيث الملك يسود ولا يحكم، والحكومة هي المسؤولة عن السلطة التنفيذية، وهي مسؤولة أمام البرلمان الذي يمثل إرادة الشعب الناخب-أي أن الملكية عندنا ملكية تنفيذية، حيث الملك يحكم بسلطات وصلاحيات واسعة، لكنه غير مسؤول أمام أي كان.
وتحدث، بنفس المناسبة، السيد محمد أوجار، وزير العدل في الحكومة المخزنية الحالية، فزعم أن الملك يريد أن يتقدم بشعبه نحو نظام الملكية البرلمانية، لكنه يُواجَه بشعب محافظ يحتاج لمزيد من الوقت لكي يصبح مؤهلا لنظام ملكي برلماني. إذن، في منطق السيد أوجار المتهافت، الشعبُ المغربي هو المسؤول عما يعانيه من جراء النظام الاستبدادي الذي تمثله الملكية التنفيذية، لأن الملك يريد لشعبه التحررَ والانعتاق، لكن هذا الشعب "المحافظ" يأبى إلا أن يبقى في ربقة الاستبداد. وفي منطق السيد أوجار، الشيءُ نفسه يقال عن "الحريات الفردية" التي ما يزال المجتمع غيرَ مهيأ لها، كالزنا والدعارة-للخلط والتضليل يسمون هذا العلاقاتِ الجنسيةَ خارج إطار الزواج، أو العلاقات الجنسية الرضائية-واللواط-يسمونه للتضليل والتلبيس العلاقات المثلية-وغيرها من المحرمات-عند المسلمين، كانت، وما تزال، وستظل-التي يرى فيها اللادينيون، وهم في حماية النظام المخزني، عوائق في سبيل الحداثة والتحرر والتقدم!!
الاستهتار بالخمور وإباحة الزنا وممارسة الشذوذ والانحطاط الأخلاقي وغيرها من العاهات والانحرافات والمفاسد باتت عند حداثيينا اللادينيين طريقا إلى الحداثة والتقدم والتحرر. وهل بعد هذا الظلام من ظلام؟ وهل بعد هذا السفه من سفه؟ وهل بعد هذا الانحطاط من انحطاط؟ وهل بعد هذا المسخ من مسخ؟ لم يعد لهم من هم إلا الدفاع عن الأمراض والانحرافات والشذوذ وغيرها من الموبقات، ويزعمون أنهم حداثيون يسعون من أجل الحرية والتقدم والازهار! ومتى كانت الأمم تتقدم بالأمراض والممارسات الشاذة والعاهات والانحرافات والتشوهات النفسانية والسلوكية والاجتماعية؟
الحداثية اللادينية، في بلاد المسلمين، في اعتقادي، لا تنفك عن الاستبداد السياسي، بل هي مظهر من مظاهر هذا الاستبداد وخادمٌ من خدّامه. وهذه الحداثيَّة الفاجرة المزوَّرَة، في ظل الحريات الديمقراطية الحقيقية، وفي ظل حكم القانون واستقلالية المؤسسات، لا يمكن أن تدوم أياما معدودات، إلا في الإعلام الدعائي الإيديولوجي والمنظمات المشبوهة والجمعيات الهامشية المنبوذة. هذه هي حقيقة الحركات اللادينية في المجتمعات المسلمة اليوم؛ فهم دعامة من دعائم الاستبداد، وبوق من أبواقه، وتابع من توابعه، وإن اختاروا في خطاباتهم وشعاراتهم طريق التلبيس والتمويه والتزوير. فحيثما وجدت قمعا ومنعا واستبدادا سياسيا، فهناك نشاط مشبوه وحيوية غير عادية للتيارات اللادينية، التي تستعير أزياء متعددة، وترفع لافتات خادعات، كلافتة "الحريات الفردية"، ولافتة "التسامح ومناهضة التطرف والكراهية"، ولافتة "الديمقراطية وحقوق الإنسان".

الدستور الممنوح يشرّع للاستبداد السياسي
أنا عندما أربط الدستور الممنوح بالاستبداد، فإنني أقصد ما هو مسطور في فصول الدستور ومبين في السلطات والصلاحيات التي يتمتع بها الملك رئيسُ الدولة وأميرُ المؤمنين. فهذا الاستبداد المكتوب يوضح لنا بجلاء ما كان يقوله الملك الحسن الثاني الراحل، وهو أنه ليس هناك فصل للسلطات فيما يخص صلاحيات الملك؛ فمن صلاحياته أن يصدر القوانين من غير مرور بالبرلمان، ومن صلاحياته أن يصدر أوامر وتعليمات للحكومة من أجل التنفيذ، لا من أجل المناقشة والتداول والتشاور، ومن صلاحياته إعفاءُ الوزراء وحلُّ مجلسي البرلمان، ومن صلاحياته أنه يترأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، إلى آخر السلطات والصلاحيات المنصوص عليها في الدستور الممنوح. ورغم أن هذا الدستور قد نص في الفصل الأول على قيام النظام الدستوري للمملكة على فصل السلط، وعلى ربط المسؤولية بالمحاسبة، فإننا نجد أن الملك، بما يتمتع به من سلطات، غيرُ معني بمبدأ فصل السلطات، ولا بمبدأ ربط السلطة بالمساءلة والمحاسبة. وهذا هو السبب الرئيسي الذي من أجله جاز أن نصف الدستور الممنوح بأنه دستور يكرس دولة الاستبداد، ويحيل سائر المؤسسات والهيآت والمجالس إلى أشباح بلا معنى، وإلى فضاءات تتردد فيها أصداء الأوامر والتعليمات.
وفي رأيي أن كل من يدافع عن هذا الدستور، ويتوقّح فيرفعه إلى صف أرقى الدساتير في العالم، إنما هو مدافع عن الاستبداد، علم بذلك أم لم يعلم، لأن الديمقراطية، في أبسط معانيها وأجلى صفاتها، أن تكون ممارسةُ السلطة-كيفما كانت هذه السلطة-متبوعة بالمراقبة والمحاسبة، وأن يكون هناك حاكمٌ من جهة تقابله معارضةٌ من جهة ثانية، وإلا فهو الاستبداد والحكم المطلق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين