الأحد، 31 يوليو 2011

الوجهُ الآخرُ لأدونيس(3)


بسم الله الرحمن الرحيم

الوجهُ الآخرُ لأدونيس(3)



(1)
لقد بلغ أدونيس الحدَّ الأقصى في إلحاده وجَرِاءَتِه على مقدّسات الإسلام والمسلمين حينما سوّلت له نفسُه أن يتطاولَ على بيت الرسول، صلى الله عيه وسلم، وعلى أزواجِه الطاهرات أمهاتِ المؤمنين، عليهن أفضلُ الصلاة وأزكى التسليم.
وقد تحدثَ، في كتاب (نظرة أورفي) بالتحديد، بأحاديثَ طويلةٍ عن بيت النبوة، كلُّها همزٌ ولمْزٌ وتجريحٌ واستهزاء، بل تجاوزَ ذلك للحكم على مشاعر الرسول، صلى الله عليه وسلم، وحشْرِ أنفِه في علاقته، صلى الله عليه وسلم، الحميمية بأزواجه، والانتهاءِ إلى أحكام غايةٍ في السفالة والوقاحة والدناءة، ما أظنّ-حسب علمي طبعا- أن أحدا غيرَه في تاريخ الإسلام، وفي سِيَر الملحدين، والفاسقين، والمجرمين الظالمين، والحاقدين الكارهين للرسول وآله، صلواتُ الله وسلامُه عليهم، قد تجرّأ على مثلِها، أو حتى التفكير فيها.
مِنْ ذلك أن (حورية عبد الواحد) قالت له، وهي تحاوره: "يُقال كلام ٌ كثيرٌ عن حبّ محمد[أقول: صلى الله عليه وسلم] للنساء، وخاصة لزوجه عائشة[رضي الله عنها]"(نظرة أورفي،217).
فأجابها أدونيس بـ"أن المؤرخين ينوّهون بحبّ محمد[صلى الله عليه وسلم] لعائشة[رضي الله عنها]، لكن، ماذا يقصدون بالحبّ؟ وما هو مقياسُهم للحديث عن هذا الحبّ؟ وعلى أيِّ أساس يستندون ليثبتوا هذه المستوياتِ (أو المراتب) في الحب؟(نفسه)
ثم تقول (حورية عبد الواحد): "يُروَى أن الرسول[صلى الله عليه وسلم] كان يحب أن يكون مع عائشة[رضي الله عنها]. وكان يقع له، في بعض الأحيان أن يطلب إلى أزواجه الأخريات أن يتنازلن عن حقهن(أو ليلتهن) لعائشة. ويُحكَى، أيضا، أنه[صلى الله عليه وسلم] تُوُفّي في حِضْنِها."(نفسه)
فيجيبها أدونيس بقوله: "لا، إن الأمر يتعلق بشهوة جنسية أكثر من تعلقه بحبّ حقيقي. لقد كان يشتهيها لأنها كانت شابة وجميلة. وإن كان محمد[صلى الله عليه وسلم] قد أحبَّ فعلا، فإن هذا الحبَّ قد انتهى مع خديجة[رضي الله عنها]. أما أنا، فأشك أنه قد أحبّ عائشة حقا."(نفسه)
لاحظْ وقاحةَ هذا الملحد وجرأتَه على الكلام حتى فيما يخص مشاعر الرسول، صلى الله عليه وسلم ومكنوناتِ قلبه.
الرفضُ هو رأسُ مال الملحدِ، الذي لا ينفد، به يبدأ، وإليه ينتهي.
فهو يرفضُ أمرا ما عنده رائحةُ علم به، ويؤكد شيئا ما عنده عليه ولو ذرّة دليل.
بأي حقّ، وبأيّ علْم، وبأيّ ذوق، وبأيّ أدب وأخلاق، أجازَ هذا الإنسانُ لنفسه أن يتكلمَ في خصوصيات رسول الله القلبية والعاطفية؟
أقرَأتمْ مثلَ هذا الكلام، ومثلَ هذه الأحكام على عواطف الرسول، صلى الله عليه وسلم، من قبل؟
أما أنا، فأعترف أني لم أقرأْ، عند أحدٍ من قبل، مثلَ هذه المُنكرات الغارقة في المعاصي والمخازي والآثام.
والراجعُ إلى حوارات أدونيس مع (حورية عبد الواحد) في كتاب (نظرة أورفي)، وخاصة في الفصلين "المرأة أو نهر هيروقليدس"(ص209-238)، و"الشبقيّة(الإيروتيكا)"(ص239-248)، سيجد أحاديثَ أخرى في الموضوع، كلّها ظلامٌ في ظلام، وسفالة في سفالة، الغايةُ منها، أساسا، تدنيسُ مقدسات الإسلام والتشكيكُ فيها، والتعرضُ لمعتقدات المسلمين ورموزِهم التاريخيةِ بمقالات الطعنِ والافتراء والتجريح، ليتسنى للهوى والشيطانِ بسطُ سلطانه من غير مدافعة و لا عناء.

(2)
وهناك، عند أدونيس، ما هو، في رأيي، أنكرُ من هذا وأفظعُ وأشنعُ، وهو حديثُه عن (قصة الإفك) المشهورة، التي ذكرها القرآن الكريم في سورة (النور).
وملخّصُ هذه القصة أن مجموعة من المنافقين الأفّاكين قاموا ببثّ إشاعات تُؤْذي أمَّ المؤمنين عائشةَ، رضي الله عنها، في عرضها وشرفها، وتؤذي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في طهارة أهل بيته. ولم تدُمْ إشاعات الإفك طويلا حتى قطَع الوحْيُ دابرَها بتبرئةِ عائشةَ، رضي الله عنها، مما رماها به الكذّابون الظالمون المجرمون، والشهادةِ لها بالطهارة والإخلاص، وفضحِ عصابة الإفكِ والبهتان وإدانتِهم.
قال الله، تعالى، في سورة النور: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13))
عصابةٌ من المنافقين المُتربصين بالدعوة الإسلامية افترَوْا على زوْج(أو زوجة، والأول أفصح) رسولِ الله، صلى الله عليه وسلم، الكذبَ، ففَتَنُوا النفوسَ، وأثاروا الشكوك، ووتّروا الأجواءَ، فنزلَ القرآنُ بالقول الفصل المُبين، فرُفعت الغِشاوةُ، وحَصْحَصَ الحقُّ، ودُحِر الشيطان وأولياؤه خائبين خاسرين.
هذه هي القصة. فما الذي دعا أدونيس  إلى النبش في حدث مرّ عليه أكثر من أربعة عشر قرنا، ومدِّ يدِه إلى أمر لا يعنيه البتّة؟
إن أدونيسَ الملحدَ المقاتلَ لا يمكن أن يهدأَ له بالٌ ويصفوَ له خاطرٌ وهو يرى قلوبَ المسلمين مطمئنةً بالإيمان، ويرى القرآنَ ذكرا محفوظا، ومرجعا مقدسا، وحكما منزَّها مقبولا.
غايةُ الملحدِ المناضل أن يزعزع هذه الثقةَ والطمأنينة والإيمانَ الراسخ بالوحْي، وأن يحولَّ القلوب إلى فضاء تستبيحه الشكوكُ والهواجس والشبهاتُ، وموطنٍ يسكنه الرَّيْبُ والقلق والتردد والمعاناة.
غاية الملحد المناضل أن يجرّدَ الوحيَ المقدّس من  قداستِه، ويقطعَه عن مصدره السماوي الإلهي، ليصبح موضوعا للتساؤلات والمراجعات والانتقادات، ولتصبح حقائقُه وأحكامُه وأوامره ونواهيه موضوعا للأخذ والرد، وموضوعا للزيادة والنقصان، وخطابا يمكن مراجعتُه بالتعديل والتغيير، أو الاستغناء عنه بالإهمال والنسيان.
القرآنُ عند أدونيس الملحدِ ليس وحيا من الله، بل هو اختراع بشري مائة في المائة، لأن الرجل لا يؤمن بدين، ولا يؤمن بخالق، ولا يؤمن بغيب.
فإذا كان أدونيس يعتبر الوحي الذي بَرّأَ عائشة، رضي الله عنها، من افتراءات المفترين، كلاما بشريا، ومِنْ ثَمَّ فهو، أي الوحي، مصدرٌ لا يمكن الوثوق به، وشهادةٌ لا يمكن الاعتمادُ عليها، فهذا يعني أن ما روّجه عصابةُ الإفك على عائشة، رضي الله عنها، من إشاعات يمكن أن يكون صحيحا.
والنتيجة أن كلّ ما حكاه القرآن، وكلَّ ما رواه الرواة، وكل ما حفظته لنا المصادر التاريخية الموثوقة، لا يمكن الاطمئنان إليه، وأن الباطلَ الذي أشاعه الأفّاكون على عائشة، رضي الله عنها، قد يكون وقع فعلا، أيْ أنه يجوز، عند أدونيس الملحدِ المُقَاتل، أن تكون أمُّ المؤمنين قد قارفَت الإثمَ ووقَعَتْ في الحرام.
المُهم عند أدونيس الملحدِ هو بثّ الشك في نفوس المؤمنين، وهو مُتيقّن أنه إنما يحرث في الماء.
قد يكون وقع... يمكن أن يكون كذا... يجوز أن تكونَ فعلت...أنا لا أستطيع أن أجزم...إلى آخر هذه التعبيرات التي ليس وراءها من غاية إلا إثارة الشكوك، وفتحُ الباب واسعا لاحتضان الإشاعة وجعلِها أصلا في معرفة الحقيقة.
قالت (حورية عبد الواحد)، في سياق حديثها مع أدونيس في هذا الموضوع-
ألفت انتباهَ القارئ الكريم أن هذه الأستاذة التي تحاور أدونيس ليس لها رأي مستقل، بل يظهر من خلال حوارات الكتاب أنها من تلامذة أدونيس الواقعين تحت تأثيره؛ فهي منبهرة ومعجبة بمذهبه وآرائه، والأفكارُ التي تدور في هذه الحوارات هي في حقيقتها أفكار أدونيس، وإن جاءت على لسانها-
قالت (حورية): "لقد تكلموا كثيرا عن عائشة[رضي الله عنها]عند الحديث عن آية(الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ، وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ)[النور/26].[الآيةُ في النص الفرنسي وردت ناقصة على الشكل التالي: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ! وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ)]. القصةُ مشوّقةٌ[تتابع حورية]. القافلة ترحل بدونها[أي بدون عائشة]، ثم يعثرون عليها، فيما بعد، برفقة رجل. وقد شاعت مقالاتُ سوء كثيرة، فذهبت عائشة[رضي الله عنها] لتُقيم عند أبيها، حتى نزلت هذه الآية التي تعلن براءتها.)(نظرة أورفي، ص220)
فأجابها أدونيسُ الملحدُ قائلا: "أنا لا أستطيع أن أجزمَ إن كانت قد وقعت في الفاحشة مع هذا الرجل أم لا. لكني أجد المشهد(أو الصورة) جميلا: الصحراء، وجَمَلٌ، وضوء خافت، وقد كانا هناك نائمَيْن...إنه مشهد جميلٌ جدّا! أنا لا ألومها. محمدٌ نفسُه[صلى الله عليه وسلم] قد أعطى المثالَ من نفسه في التصرف أمام هذا النوع من الإغراء. لقد فتَنته زوجةُ ابنه بالتبنّي بشبابها وجمالها. إذن، لماذا يرفضُ أن تكون عائشةُ هي الأخرى قد افتُتِنَت برجل شاب، والحال أن هذا شيء طبيعي."(نفسه)
تأمّلْ قوله في بداية النص "أنا لا أستطيع أن أجزم.."، تجدْه، في حقيقته، يفيد الجزم. فهو تعبير يفيض من الشك والهمز واللمز والإيحاء الحقير، فضلا عن رفض بيانِ القرآن، وردِّ كلِّ الأخبار التاريخية الصحيحة.
ولاحظْ أنه بقوله "أنا لا ألومها" يثبت عليها التهمةَ بطريقته الإبليسية الخبيثة.
ولاحظْ، أيضا، ما في ادعائه بأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، "قد أعطى المثال من نفسه"، في جواز الاستسلام للإغراء، من بهتانٍ ومن جراءةٍ على نبيّ المسلمين، صلى الله عليه وسلم.

(3)
يقول أدونيس الملحدُ: "في المُتخَيَّل العربي، لا يمكن تصوّرُ زوج الرسول[صلى الله عليه وسلم] تشتهي إنسانا آخر. إنه أمرٌ مستحيل عند المسلمين. وقصة عائشة[رضي الله عنها] أوجبت تدخلَ الله. فالوحيُ هو الذي برأها. وقد كان علي[رضي الله عنه] قد طلب منه أن يطلقها"(نظرة أورفي،220-221)
(حورية) معقبةً: "ويمكن أن يكون هذا هو السبب، الذي دعا عائشة، فيما بعد، إلى محاربة علي."(نفسه)
أدونيس متابعاً: "هذا مجال جذّاب لعلم النفس التحليلي. يجب أن تُعاد كتابةُ الأشياء بصورة مختلفة، لأن الذين تحدثوا عن محمد[أقول: صلى الله عليه وسلم] وعن الموضوع الجنسي، كانوا من المؤمنين. زيادة على هذا، فإن الأحاديث التي ينسبونها إليه تخفي هذا الموضوع. ولاختراق هذا الحجاب(أو تمزيقه)، لا بد من كثير من الشجاعة، وكثير من الجرأة"(نفسه).
قلت، بمنطق أدونيس وفهمه، الذين تحدثوا عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعن حياته الجنسية، كانوا من "المؤمنين"، وهذه علّةٌ كافة، في ميزان الملحدين، لعدم الوثوق بكلامهم، ومن ثَمَّ ينبغي البحثُ عن مصادر "غير مؤمنة"، لمعرفة الحقيقة. هذه واحدة.
والثانيةُ أن المصادر "المؤمنة"، التي لا يمكن الاطمئنان إلى رواياتها، هي بمثابة الحجاب الذي يُغطي وجهَ الحقيقة، ومن ثَمَّ  وجب تمزيقُ هذا الحجاب. ولن يقدر على مثلِ هذا الفعل الحداثي "الهدّام" إلا من كان من معدن أدونيس، الذي يملك من الجرأة والشجاعة ما يكفي للمُهمة العظيمة ويزيد.
نفهم من إيحاءات أدونيس المَدسوسة بين السطور في كلامه عن "قصة الإفك" أن الإسلام ينظر إلى المرأة على أنها مخلوقٌ لا يتمتع بشخصية مستقلة، وفي هذا المنظور، لا يمكن تصورُ المرأة بَشرا له مشاعر وعواطف، يمكن أن تشتهيَ وتضعفَ وتستسلمَ للفتنة والغواية.
إن الله، في دين التوحيد، في زعم أدونيس، قد انتقص من مكانة المرأة، وجعلها دون الرجل وتابعةً له، واعتبرَها معدن الخطيئة وسببَ سقوط الرجل(نظرة أورفي،212-213).
وهذه الوضعيةُ الدونيّة للمرأة، في الإسلام، حسب افتراءت أدونيس، "جعلت المرأة، بصفة عامة،  مجردَ آلة حقيرة"(نفسه،119)، وجعلتها "جزءا من الرجل، لا وجودَ لها خارج وجوده"(نفسه،222)، واختزلت "وجودَها في مجرد  الحَمْل وتلبية رغباتِ الرجل الجنسية"(نفسه،113).
وهذه الوضعيةُ السلبية للمرأة في الإسلام، لا يمكن التخلصُ منها، حسب أدونيس، "إلا بإعادة النظر في النظام الديني التوحيدي برمته، وكذلك في النظرة التوحيدية للإنسان والعالم"(نفسه). ولهذا "يجب على العرب أن يواجهوا النصَّ الديني بطريقة أكثر حرية، وأكثر قوة"(نفسه).
وإذا كان الإسلام، كما يَفتري أدونيس، قد سَلَب المرأةَ وجودَها وأحالَها شيئا حقيرا مبتذلا مُسَخَّرا للرجل وسلطةِ الرجل ونظامِ الرجل، فإن الصّوفية-وهذا هو العجَب العُجاب في ابتداعات أدونيس!- هم الذين أعادوا للمرأة وجودَها. يقول أدونيس، من حوار مُطوّل أجرته معه جريدة "الصباح" العراقية، في مدينة السليمانية، بالعراق، في شهر ماي من سنة 2009-
قال أدونيس في هذا الحوار: "الصوفية أعادوا للمرأة وجودها. المرأة في الإسلام غير موجودة. هي مخلوقة من ضلع الرجل، كأنها لم تُخلق ككائن مستقل، بينما نرى عكس ذلك تماما عند ابن عربي القائل: كلُّ مكان لا يؤنث لا يعوّلُ عليه". وقد كرّر هذا المعنى، في كلام طويل وبعبارات مختلفة، في كتاب (نظرة أورفي)، وبالتحديد في فصل "المرأة أو نهر هيروقليدس"، ص209 وما بعدها.
الصوفية أعادوا للمرأة وجودَها المسلوبَ!!
هذا الادعاء من أدونيس يجرّنا للحديث عن رأيه "المتميز جدّا" في (الصوفية)، وهو رأي كلّه عجائب وغرائب، بل هو، على الأصح، كله افتراءات وتعسفات ما قرأت مثلَها، لا عند القدماء ولا عند المحدثين. ويكفينا عنوانا على هذه الافتراءات والتعسفات أن يجمع أدونيس الصوفيةَ جميعا في سلة واحدة، ويعتبرهم جميعا ملحدين معارضين للدين رافضين لعقائده وشرائعه. وكل هذا البهتان إنما هو من أجل مسلمته الحداثية، التي قوامها أن الإلحاد هو أول شكل للحداثة في تراثنا العربي الإسلامي.
ولما كان أدونيس يعتبر جازما أن التصوف كان من أهم روافد الحداثة العربية، فإن مسلَّمَتَه الحداثية الإلحادية تفرض عليه أن يذهب بعيدا في التعسف والادعاء، وأن يتعدى كل قواعد البحث الموضوعي، وأن يعبث بكل قيم الأمانة والعدالة والإنصاف، وأن يضرب بكل المصادر العلمية الموثوقة والمعتبرة عُرْض الحائط، وأن يخلط خلطا، ويدلس تدليسا، لينتهي إلى فرض أفكار شاذة ومنكرة.
في المقالة القادمة، إن شاء الله، سأتحدث عن ملامح الصوفي الوثني في الوجه الآخر لأدونيس.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مراكش: 31 يوليوز 2011

الثلاثاء، 26 يوليو 2011

الوجهُ الآخرُ لأدونيس(2)


بسم الله الرحمن الرحيم

الوجهُ الآخرُ لأدونيس(2)


في البداية، أريد أن أقول كلمة قصيرة لمحبّي أدونيس ومريديه وسائر المعجبين به، عن معرفةٍ واقتناع أو عن إمعِيّة واتّباع، من المسلمين الذين هان عليهم دينُهم، ولم يَعُدْ يعنِيهم في شيء أن يُهان قرآنهُم، وتُدنَّس مُقدَّساتُهم، ويُعبثَ بمعتقداتهم، وهم في خوض يلعبون، وفي غفلاتهم سادِرون.
أريد أن أقول كلمة إلى محبّي أدونيس عامة، وأنا أعرف أن منهم من يناصر هذا الرجلَ الملحدَ وهو لا يكاد يعرف عنه شيئا إلا ما خدّرَتْه به دعايةُ الأضواء والنجوم والضوضاء والإلهاء. وأعرف أن منهم من لم يقرأ له شيئا، وإنما هو إمّعةٌ يسيرُ بإرادة القطيع، يُصفِّق لأنه يرى الناسَ يصفّقون، ويمدَحُ لأنه يراهم يمدحون، ويغضَب ويَسُبّ لأنه يراهم يغضبون ويسبّون.
أريد أن أقول كلمة لهؤلاء جميعا، الذين، وبلا أيّ منطقٍ ولا مُسوّغ معقول، لا يقبلون من المتحدثين عن أدونيس إلا أن يكون حديثُهم مدحا وتنويها ورفعا إلى السماء، ولو على حساب الحقيقة الماثلة للعيان، كالشمس الحارقة.
إلى هؤلاء الإمّعات المحشورين في القطيع أقول:
يا هؤلاء، أنا أتكلم عن أدونيس بعلمٍ وبَعْد بحث واطلاع، وأسمّي للقراء مراجعي، وأوردُ النصوصَ الشاهدة، وأسوقُ البيّنات القاطعةَ. وليس همّي أن أبيّن أن أدونيس ملحد، فهو يعلن ذلك ويفتخر به، لكنه، كجميع المنافقين، يلفّ ويروغ، عندما يكون في بلد مسلم، أو أمام جمهور مسلم، كما حصل، مثلا، في القاهرة، في يونيو من سنة 2006، حينما أحس بالضغط والحرج واشتداد الخناق عليه، فتحدى منتقديه أن يأتوه بكلمة واحدة كتبها ضد الإسلام!!
التحدي لازمةٌ من لوازم المُلحدين المُناضلين؛ فهم لا يعترفون ولا يُسلّمون ولا يستحيون ولو جئتهم بمِلْء الأرض حُجَجا دامغةً وأدلةً قاطعةً تكذّبهم وتُخطّئهم وتفضحُهم.
يتحداهم أن يأتوه بكلمة واحدة، وهم يواجهونه بكتب بكاملها مليئةٍ بطعونه الباطلة وافتراءاته على الإسلام ومقدساته، وهو يُنكر، ويراوغ، ويدلّس، ويتهرّب، حتى تنتهي المناسبةُ، ويُفْلتَ من المواجهة سالما.
ليس همّي أن أُشهّر بإلحاد الرجل، فذلك لا يعنيني في شيء، بل إن الملحدين مثله في بلاد المسلمين لا يُعدُّون من الكثرة، وإنما همّي أن أكشف للقارئ الكريم ذلك الجانبَ الخفيّ من وجه أدونيس، الذي يُراد لنا دائما ألاّ نراه، وألاّ نهتم به، وألا نلتفتَ إليه عندما نريد أن نزن الرجل "الحداثي الكبير"، ونقوّم فكرَه ونحكم على أعماله.
يُراد لنا، في بلاد المسلمين خاصة، بلْ قُلْ يُفرض علينا فرضا ألاّ نرى في أدونيس إلا ما يُرادُ لنا أن نراه، ولو كان الرجلُ من أشدِّ الناس عداوة للإسلام والمسلمين، ومن أشدّهم حقدا وكراهية للذين آمنوا، ومن أشدّهم حربا لله ورسوله، وأشدّهم جرأة على الطعن والتجريح والافتراء على كتاب الله، وعلى سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وأيضا على تاريخ المسلمين.
أريد أن يعرف القارئ الكريمُ، بل أن يعرفَ الناس جميعا، أن أدونيس، "الشاعر" الحداثيَّ المشهورَ، هو نفسُه الملحدُ الذي قضى حياته مناضلا، بالليل والنهار، لبثّ عقائد الإلحاد في المسلمين، وفرضِ الشك والحيْرة والاضطراب والضّلال بديلا عن الإيمان والطمأنينة والهداية والاستقرار.
والذي لا يعرفه كثيرٌ من الناس أن ما صدرَ عن أدونيس في مجال الفكر والسياسة والتاريخ، من مكتوبات ومسموعات ومرئيات، قد يكون مساويا لما كتبه في مجال الأدب والنقد أو يزيد عليه.
يا أيها المُتيَّمُون بأدونيس، وإنْ عن جَهْلٍ وإمّعيّة وفَهْم قطِيعِيّ(من القطيع)، إن صاحبَكم قد بلغ من العمر عُتِيّا، وإنّ الآجال بيد الله، كما نؤمن نحن المسلمين، وهو، لا بد، من الميّتين، ثم من المقبورين، ثم ماذا بعدُ، أيها الإمعاتُ الغافلون؟
وأعود إلى متابعة حديثي عن الوجه الآخر لأدونيس.

(1)
تسأل(نينار)، ابنةُ أدونيس، وهي مثل أبيها لا تؤمن بدِينٍ- تسأل البنتُ الملحدةُ أباها أدونيس إن كان يمكن للإنسان أن يعيش بلا حدود وبلا دين؟ فيجيبها الأبُ العجوز: "هناك كثير من الناس يعيشون بلا دين، وأنا واحدٌ منهم. إني لا أؤمن بدين"(محادثات مع أدونيس أبي، ص107).
وتسأله، في موضع آخر قائلة: ما هي  علاقتُك بالدين؟ فيجيب بكل ثقة ووضوح: "على الرغم من أنني نشأت في بيئة دينية، ورغم الحب الكبير الذي أكنّه لأبي، فإنه ليس بيني وبين الدين أية علاقة". ويؤكد جوابه بقوله: "ولا علاقة واحدة(aucune)"(نفسه،187).
إلى هنا، ليس في الأمر ما يدعو إلى الاعتراض أو الرفض والإدانة؛ أبٌ ملحدٌ في حديث خاص وصريح مع ابنته الملحدة، وانتهى الأمر. بل يمكن أن نستفيد من هذا الحديث الصريح معرفةَ الوجه الآخر لأدونيس في قسَماته الواضحة، بلا تزوير ولا تجميل ولا تلبيس، وفي ملامحه الساطعة الكاشفة عن مكنونات ضميره ومطْوِيَّاتِ نيّته وأمانيه.
لا شأن لنا بما يعتقدُه أدونيس، وبما يتناجا به الأبُ والبنتُ من كفريات وضلالات، وبما يتسامَران حوله من زندقات وهرطقات وإبليسيّات(نسبة إلى إبليس)، وإنما لنا شأنٌ، بل لنا شؤونٌ بما يدعو إليه، وما يبثّه في كتبه ومقالاته ومحاضراته ولقاءاته الصحفية من آراء وأحكام كلُّها تهجّم على الإسلام، وطعنٌ على أصوله الإيمانية وشرائعه.
إن إسلامَنا يعلمنا أن (لا إكراه في الدين)، وأنه (من شاء فلْيؤمنْ، ومن شاء فلْيكفرْ). وعلى هذا الأساس الإسلامي المتين، لا يهمنا إن كان أدونيس مؤمنا أو كان ملحدا. هو حر ومسؤول عما يختاره ويعتنقه من أفكار. لكن الأمرَ يصبح هامّا لنا حينما يتجاوز الرجلُ حقّه وحرّيته في الاعتقاد، إلى تناول عقائد الآخرين بالتجريح والتشكيك والاستهزاء، ولا مُسندَ له من علمٍ أو فهْم مُؤَسَّس معْتَبَر، أو تأويل اجتهادي محتَمَل، وإنما مستندُه، كلُّ مستندِه، الهوى والشيطان.
الإسلامُ لا يصلح لشيء ولا ينفع الناس قِطْمِيرا!
الإسلام ظلمٌ وعدوان ووحشية وتخلف واستبداد دموي!
الإسلام قمع ومنع وحدود وقيود!
من قال هذا؟ قاله شيطانُ أدونيس، وهواه، ودينُه الصوفي الوثني، الذي يؤله الإنسانَ، ويجعل خيالاتِ هذا الإنسان وأوهامَه وأمراضَه النفسية بمثابة الوحي المقدس الذي يجب الإيمانُ به، وتعظيمُه وتنزيهُه.
الدينُ، بمختلف مِلَلِه وطوائفه ومذاهبه، هو صناعة بشرية محضة، للجواب على ما يشغل الإنسانَ من أسئلة في شأن الكون وخالقه، وفي شأن الغيب والموت وما بعد الموت.
الإنسانُ هو الذي اخترع فكرة الدين وما يتعلق بها من معتقدات ومقدسات وطقوس وممارسات، كلُّ ذلك ليواجه الإشكالات الوجوديةَ التي تواجهه فيما يتعلق بوجوده ومصيره.
هذا هو المركز الرئيسُ الذي عليه مدارُ الفلسفة الإلحادية، التي ينطلق منها أدونيس وأمثالُه في بناء أطروحاتهم وتعليلاتهم وتأويلاتهم وانتقاداتهم.
وإذا كان الدينُ، أيُّ دين، في فلسفة الإلحاد، إنما هو من صنع خيال البشر، فإن الإسلامَ من باب أولى، لأن به خُتمت الرسالاتُ السماوية، ومن ثَمَّ فهو الدّين الكاملُ، بالألف واللام، الذي ارتضَاه الخالقُ، سبحانه، إلى كافة خلقه؛ (إن الدينَ عند الله الإسلامُ)(آل عمران).
ولهذا وجدْنا أدونيس يجتهد اجتهادا غيرَ عادي، لينقُضَ أصول هذا الدين الخاتم للرسالات، وهيهات، لأن هذا الملحدَ الذي يحاول نقضَ أصول الدين السماوي، ليس معه من أدوات، ولا أدلة، ولا حجج إقناع، إلا عقلُه ونفسُه وهواه وشيطانُه. وليس له من هادٍ في خبْطه وظلمائه إلا إلحادُه القائمُ على الجحود والرفض والتمرد.
ظلام في ظلام، فأنّى له النورُ؟
ويمكن مُعاينةُ هذا الاجتهادِ الإلحاديّ الأدونيسي المُتميز، مكشوفا بلا غطاء ولا تقيّة، في أطروحته عن "الثابت والمتحول" في تراثنا العربي الإسلامي، التي نال بها درجة الدكتوراه سنة 1973 من جامعة (القدّيس يوسف) ببيروت، بإشراف (الأب نويا اليسوعي).

(2)
وأسوق، فيما يلي، بعضَ العيّنات، تناسب حجمَ هذا المقال،  مِنْ كلام أدونيس الصوفي الوثني الحداثيّ الجاحد.
ففضلا عن كون الإسلام، بما هو دينٌ، صناعةً بشرية خالصة، فهو قد "رأى النورَ تحت رعاية الديكتاتورية"(نظرة أورفي، ص189)، وأن "العنف خصيصة لازمت النظام الإسلامي من داخل، ومنذ بداياته."(الثابت والمتحول(الأصول)، ص141)، وهو، أي الإسلام دائما، "لم يكتف بتجميد الفكر والتفكير، وتجميدِ العقل والحرية، بل أدان الجسم والحواس أيضا)(نفسه،168)، وأنه "منع الإبداع والتفكير"(نفسه،195)، وأنه "ليس للفرد [في الإسلام] حقوقٌ بالمعنى الحديث..."(الثابت والمتحول(الأصول)، ص43)، وأن حقوق المرأة في المجتمع الإسلامي "كارثة اجتماعية وإنسانية"(نظرة أورفي،215).
والشرع الإسلامي هو بمثابة قيود قمعية للحريات، "وإذا شبهنا التاريخ العربي ببَيْت، فإن الشرع فيه كان يشكل جدرانَه وأبوابَه ونوافذَه، ولا تشكل الحياةُ الحرة، المتسائلةُ، الطامحة، إلا ثقوبا صغيرة لا تكاد تتسع لكي يدخل منها الضوء."(الثابت والمتحول(الأصول)،75).
والإنسان، في الشريعة الإسلامية، "ينفذ إرادة الله المسبقة. وهذا التنفيذ ليس عملا إراديا…"(نفسه،45)، وأن المؤمن "المتدين أو المتَسَنِّن[من السُّنة] لا يفكر، وإنما السنة هي التي تفكر."(نفسه(تأصيل الأصول)،133)
هذه الأمثلة من طعون أدونيس وانتقاداته على الإسلام إنما تنصب على الإسلام/الدين، والإسلام/الرسالة، والإسلام/العقيدة والشريعة، وهذا ما يكذّبُ أدونيس حينما يزعم أنه، في انتقاداته وتحليلاته وٍآرائه، إنما يقصد تفكيرَ المسلمين وممارستِهم واجتهاداتهم، أي يقصد الإسلام كما طبقه المسلمون وعاشوه في الواقع.
هذه الأمثلةُ المسوقة، وغيرُها كثيرٌ، تؤكد أن المقصود هو الإسلامُ، بما هو دينٌ وشرع واعتقاد وإيمان وغيب ودنيا وآخرة.
المقصود هو دين الله، الذي ختم به رسالاتِه إلى الإنسان "الظلوم" "الجهول"، وهو ما يعني أن أدونيس الملحدَ يحارب الدينَ بما هو دينٌ، وبما هو وحي، وبما هو مُقدّسٌ.
وهذه أمثلة أخرى تزيد المسألة وضوحا.
القرآن العظيمُ وحيٌ من الله، تعالى، لرسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لأحد أن يزعم أنه ينتقده ويتجرأ على آياته بالطعن والتشكيك والاستهزاء بدعوى أنه ينتقد سلوكا بشريا، واجتهادا بشريا، وممارسةً بشرية، إلا إن كان يعتقد أن هذا الوحي/القرآن هو أصلا من اختراع الإنسان وليس منزلا من عند الله.
فوأدُ البنات في الجاهلية، الذي تحدث عنه القرآن بكل وضوح في قوله، تعالى، من سورة (التكوير): (وإذا الموءودة سُئلت بأيّ ذنْب قُتِلت)، هو، في رأي أدونيس الملحدِ، "من اختراع المؤرخين المسلمين. فليس هناك أيّ دليل على أن العرب كانوا يئدون بناتهم خشية الفقر أو العار. إنه لا يمكننا أن نثق بهذا النوع من الروايات."(محادثات مع أدونيس أبي، ص171).
لاحظْ أنه ينفي أن يكون هناك دليلٌ على عادةِ وأدِ البنات في الجاهلية، أما القرآن فليس عنده بدليل، لأنه، ببساطة، لا يؤمن بأنه وحي من الله.
بل إن وصفَ القرآن لحياة العرب قبل الإسلام بالجاهلية هو، عند أدونيس، "خطأ يجب أن يُعاد فيه النظرُ، لأن العرب قبل الإسلام كانوا مثقفين، وكانت لهم أفكارٌ وحضارةٌ. (الجاهلية) تسميّةٌ خاطئة لا مبرٍّرَ لها، ومن ثَمَّ يجب رفضُها. وهذا يعني أن كل القضايا والوقائع المتعلقة بهذا العصرِ ينبغي مراجعتُها أو رفضُها.)(نفسه)
أكثرُ من هذا أن أدونيس ينصب نفسه ناقدا للقرآن وحاكما على مضامينه، لأنه يعتبره كلاما من وضع البشر، حيث يعلق، مثلا، على "ورود كلمة "تبرّج" في القرآن بأنها تشير إلى درجة التناقض في النص القرآني"(نظرة أورفي،214)، وذلك "أن التبرج[في زعمه] لازمةٌ من لوازم الحضارة، والغنى، والترف، والثروة والتأنق. وهذا يعني، حسب القرآن، وجودَ حضارة قبل الإسلام، ومن ثَمَّ فإن كلمة "جاهلية"، التي وردت في القرآن لوصف حقبة ما قبل الإسلام، هي كلمة غيرُ مناسبة)(نفسه).
تأملوا هذا الفهمَ العجيب، الذي يتجرأ به أدونيس الملحدُ على كلام الله. فهو يفرض علينا فهمَه على أنه مسلماتٌ لا جدال في صحتها؛ فالتبرّج هو عنده قرينُ الحضارة! ثم الحضارة بأي مفهوم؟ قطعا بمفهومه هو. أما حقائق اللغة، وحقائقُ التاريخ عن الحياة الحقيقية للعرب في فترة ما قبل الإسلام، فذلك كلُّه فضول زائدٌ لا يُعتدّ به عند أدونيس. ما يقوله هو الصحيح، وإن قامت على تخطئته وردّه ونقضه ألفُ حجة وحجة.
أدونيس "ينتقد" القرآن، و"يُخطّئه"، و"يرفضه"، و"يعارضه"، لأنه، أصلا، لا يؤمن به مرجعا مقدَّسا، كما يفعل المسلمون المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها، وثانيا، لأن حياة العرب في الجاهلية، عنده، أي في أوهامه وأحلامه-لأنه ليس في ما وصلنا من المصادر عن فترة ما قبل الإسلام ما يؤكد مزاعمه-كانت حياة متطورة، حضارةً وثقافةً وفكرا!
ونجده في موضع آخر، وبنفس الجرأة والتحدي، يعلنُ مخالفتَه للقرآن ومعارضَته له؛ فقد سألته (حورية عبد الواحد) عن سبب بدء ديوانه (أول الجسد آخر البحر) بآية "في شُغْل فاكهون"، وهي من قوله تعالى: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغلٍ فَاكِهُونَ (55)[يس]. فرد عليها بقوله: "لِأُسجّل اختلافا جذريا بين القول الشعري وبين القول الديني، بين ما أراه وما أكتبه وبين ما يعلمنا الدينُ كلَّ يوم. وأيضا لأسير في اتجاه (نيتشه))(نظرة أورفي،234).
لاحظوا هذا التعارضَ البيّن بين "القول الشعري"، أي كلام أدونيس، وبين "القول الديني"، أي كلام الله في الآية المذكورة، وأيضا بين رؤيته وكتابته هو، أي ما ينتجه عقله وهواه، وما توحي له به صوفيتُه الوثنية، وبين تعاليم الدين، التي هي وحي من عند الله. ثم لاحظوا التعليلَ الثالثَ، وهو السيرُ على خطى أستاذه في الإلحاد، أي أن غايته من معارضة القرآن ومخالَفته هي الوصول إلى "قتل الله"-تعالى الله وتقدس وتنزّه وتعظَّم-، ليحتلّ الإنسانُ عرشَ الألوهيّة في الأرض.
أهكذا يحترمُ أدونيس الإسلامَ وعقائدَه ومقدساتِه، كما يدّعي، تقيّة ونفاقا ومراوغة، حينما يكون أمامَ جمهور مسلم؟
أليس القرآن، بكلّ ما فيه، من مقدسات المسلمين؟
وفي موضع آخر، يعلق أدونيس على قوله تعالى، من سورة (الذاريات): (وما خلقتُ الإنسَ والجنَّ إلا ليعبدوني) بقوله: "هذه الآيةُ ضد الفكر وضدّ الإنسان)(نظرة أورفي، ص274). ويضيف: "إنه يستحيل التجديدُ في مضمار التفكير والعقل بدون قراءة جديدة أو مراجعة جذرية لنظرة العقيدة التوحيدية للعالم والإنسان"(نفسه).
أرأَيْتَ كيف يفرض أدونيس نفسَه نِدّا لله، تعالى الله وتقدّس، يرفض القرآن وينتقده ويكَذّبُه ويطالب بمراجعته وتغييره. وهذا هو الذي أُسمّيه بالملحدِ "المناضلِ" "المقاتل"، لأنه لا يكتفي بإلحاده لنفسه، وإنما هو ساع، بكل جهده، لنقض الإسلام والتشكيك في أصوله وتغيير معتقداته، وزرْع الشك والحيرة والتخبط في النفوس والعقول، ثُم اصطيادِ ضعاف الإيمان، التائهين الحائرين، والقذفِ بهم في طاحون الزندقة والإلحاد.
وتسألُه محاوِرتُه (حورية عبد الواحد) في كتاب (نظرة أورفي، ص276): "هل توافق القرآنَ عندما يقول: (وكلّم اللهُ موسى تكليما)؟". فيجيبها أدونيس على الفور، وبلا تردد: "لا مطلقا، لأن الإنسان دائما هو المتكلم"، أي ليس هناك في الوجود إلا الإنسان.
ولاحظْ صيغةَ سؤال السيدة المحاورة؛ فهي لم تسألْه إن كان يؤمن بقول القرآن، بل سألته إن كان يوافق أو يقبل أو يتفق مع القرآن، أي أنها تسأله على أنه ندّ للقرآن أو متفوق عليه، يخطّئه، أو يصوّبه، أو يصحّحه، أو يرفضه. ولهذا، كان جوابُه بأنه لا يوافق مطلقا، أي أنه يرى رأيا آخر يخالف القرآن، بل يزيد على القرآن في صحته ومنطقه.
أما عن قصة (آدم وحواء) الواردة في القرآن في أكثر من موضع، فهي، في رأي أدونيس الملحد، "أسطورة جميلة على المستوى التخييلي"(نفسه،277)، أي أن ما حكاه القرآن الكريم عن (آدم وحواء) هو قصص من خيال البشر. وقد بيّن أدونيس هذا حينما تابع قائلا: "هذه الأسطورة[يقصد قصة آدم وحواء] موجودة أيضا في القصص القديم، قبل الإنجيل. فكيف نتصور(أو نفهم) أن اللهَ قد استعار كلَّ هذا من العالم الخيالي السومري؟)(نفسه). وواضح أن المقصود من عبارته الأخيرة هو التشكيك في أن يكون القرآن وحيا من الله، سبحانه وتعالى.
وللكلام بقيةٌ في المقالة القادمة إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.


26 يوليوز 2011

الأحد، 17 يوليو 2011

الوجهُ الآخرُ لأدونيس(1)


بسم الله الرحمن الرحيم

الوجهُ الآخرُ لأدونيس(1)



(1)
(أدونيس) هو لقب الأديب السوري المعروف(علي أحمد سعيد)، الذي تجاوز الثمانين من عمره(ولد سنة1930)، والذي يقيم في باريس بفرنسا منذ 1986.
الوجهُ المشهور لأدونيس أنه من شعراء الحداثة العربية الكبار، ومفكرٌ وناقد يمتاز بمواقفه وأطروحاته المتطرفة في رفض الماضي، في كل تجلياته، ورفضِ القواعد والأصول، في الإبداع خاصةً، كما يمتاز بتحيّزه السافر وتعصّبِه الشديد ودفاعِه عن كل ما يعارض الدينَ، وينقضُ أصولَه، ويتجاوز شرائعَه وأحكامَه وآدابَه وأخلاقَه.
هذه، في اختصار شديد، أبرزُ ملامح وجه أدونيس الحداثي المتمرد الرافض الهّدّام؛ وصِفاتُ "الرافض" و"الهدّام" وما شابهَها ليست من عندي، فهذا أدونيس نفسُه يصرح في حديث كان معه منذ سنوات أن أمنيتَه هي أن يكون "الهدّام الرافض"، لا أن يكون رافضا هدّاما من بين هدّامين رافضين. وهذا يعني أن الرجلَ كان يطمح ألا يكون له شريكٌ في الرفض والهدم.
ولا أشك أن هذا الطموحَ ما يزال يصاحب الرجلَ، وهو في خريف العمر. والذي يقرأ السطورَ وما تحتَ السطور لا يفوته أن يحس بروح الرجل الرافض الهدّام تشيع في الرسالة المفتوحة التي كتبَها مؤخرا إلى الرئيس السوري بشار الأسد، وأيضا في رسالته المفتوحة إلى المعارضة  السورية.

(2)
"الإلحادُ كان أولَ شكل للحداثة" في التاريخ العربي الإسلامي. هذا حكمٌ لأدونيس أوردَه في كتابه "الثابت والمتحول"، وله، في معنى هذا الحكم، كلامٌ لا يُعَدُّ ولا يُحصى، في كتاباته ومقالاته وحواراته واستجواباته وغيرها من أنشطته المكتوبة والمسموعة والمرئية.
هذا الحُكْمُ الأدونيسي يُؤسّسُ ما أعتبره (المُسَلَّمَةَ الحداثيّةَ الأدونيسيةَ)، التي انبنَتْ عليها كلُّ آرائه ومواقفه وقراءاته وأطروحاته ونظراته، في التاريخ والأدب والسياسة والنقد وغيرها من مجالات الفكر والمعرفة والتحليل والتقويم.
ومن أمثلة استنتاجات أدونيس العديدةِ الظالمة الشاذّة،  التي بناها على مُسَلّمَته هاته، أن جميعَ شعراء العربية الكبار، كالمتنبي، وأبي تمام، وأبي نواس، وأبي العلاء المعري، كانوا مُلحدين، لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. هذا المثالُ، في رأيي، كافٍ لنتبيّنَ مدى الغرابة والتعسف ، إلى حدّ التجنّي والإسفاف، الذي وصله أدونيس في آرائه، التي التزمَ فيها مُسلَّمَتَه الإلحاديةَ حرفيا، لم يحِدْ عنها قيد أنملة طَوال حياته.
باختصار، عند أدونيس، لا حداثةَ مع إيمان، ولا مع إسلام.

(3)
أن يكون أدونيس ملحدا، وأن يملكَ الجرأةَ لإعلان ذلك على الملأ بلا لفّ ولا دوران، فذلك شأنُه، وليس في هذا ما يُعطيه مزيّةً بين الناس، أو يرفعُه درجةً فوق البشر، لأن الإلحادَ موجود في الدنيا منذ كان في الدنيا إيمان، وسيظل الاثنان موجودين متناقضين متدافعين متنافيين أبدَ الدهر. ومُسْلمٌ مثلي لا يملك، في هذه الحالة، إلا أن يتلوَ قولَ الله تعالى، من سورة الإسراء: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ، فَرَبُّكُم أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا). صدق الله العظيم.
ولكن، حينما يصبح هذا الاختيارُ الإلحاديُّ مشروعَ حياة ونضال، ويتحولُ من اعتقاد شخصي إلى مرجع "متعال"، ومعيارٍ مطلق للحكم على الناس ومعتقداتِهم واختياراتهم وسلوكاتهم، فإن الأمر يفرض علينا أن نقف موقفا غيْرَ الموقفِ الذي نقفه بإزاء شخص شاءَ أن يكفرَ، واختار ألا يُؤمنَ بدين، لكنه لم يتخذ اختيارَه هذا أساسا للطعن على مخالفيه، وتجريحِ معتقداتهم، والعملِ من أجل فرض اختياره "دِينا" جديدا يتوجّب اعتناقُه والتسليمُ به.
بعبارة أوضح، لا شأن لنا بأدونيس الملحدِ ما دام محتفظا بإلحاده لنفسه. أما حينما يصبح هذا الإلحادُ إديولوجيةً مَرجعيةً مُعْلَنةً للنظر إلى الإنسان والحياة، ونقدِ المعتقدات والأفكار، ونقضِ النظريات والاجتهادات، فإننا عندئذ نكون معنيّين بالرّد والنقد والتوضيح، ليعرفَ الناس أن أدونيس، الذي اشتهر، عندهم، بأنه أديب شاعر حداثيٌّ متمرد، هو نفسُه أدونيس الملحدُ المحاربُ للإسلام، دينِ الغالبية من الشعوب العربية، والداعي إلى رفض هذا الدين وتجاوزه، بل والمجتهدُ في نقض أصوله والتشكيك في قطعيّاته والاستهزاء بسننه وأخلاقه.
وفي ما يلي أمثلة توضيحية.
سأقتصر، فيما سأورده من كلام أدونيس في هذه الأمثلة، على ثلاثة كتب صدرت بالفرنسية، وهي على التوالي: "Identité inachevée"(هويّة ناقصة (أو غير مكتملة)، ط1، 2004. وهذا الكتاب في أصله أحاديثُ لأدونيس سجّلها وصاغها وأخرجها (شنتال شواف).
والكتاب الثاني" Conversations avec Adonis mon père" (محادثات مع أدونيس أبي) لـ(نينار إسبر)، وهي ابنةُ أدونيس. ظهر في طبعته الفرنسية الأولى في شهر مارس 2006. والكتاب يضمّ محادثات دارت بين البنت وأبيها في عدة جلسات امتدت من نونبر2003 إلى شتنبر2004.
والكتاب الثالث "Le regard d’Orphée"(نظرة أورفي)، وهو عبارة عن حوارات مطولة، في الدين والفلسفة والسياسة والأدب وغيرها من مجالات الفكر والمعرفة، أجرتها الباحثةُ (حورية عبد الواحد)، الأستاذة المحاضرة في جامعة (باريس7)، مع أدونيس. وقد صدر الكتاب في طبعته الأولى سنة 2009. و"Orphée"(أورفي) هو اسمٌ لأحد الأبطال الخالدين في الأساطير الإغريقية القديمة. وقد اشتهر بالشعر والموسيقي، وكان لعزْفه قوة السحر الخارقة، التي مكّنته من بسط سيادته على كثير من المخلوقات، وإخضاعها لإرادته. وزعموا أنه هو المؤسس الأسطوري لحركة دينية تُدعى "الأورفيّة"، بصيغة المصدر الصناعي في العربية، التي تقابل صيغة "Orphisme" الأجنبية، التي تفيد فيها اللاحِقةُ"isme" معنى المذهبية.

(4)
قد لا نلتفت إلى قول أدونيس عن نفسه إنه "صوفي وثني"(هويّة ناقصة، ص30)، وأن صوفيتَه "مُفْرَغةٌ من المضمون الديني...وأن كلَّ مبدِع هو نبيٌّ...وأنه لا فرقَ، في صوفيَّتِه الخاصّة،  بين الإنسان وبين ما نسميه اللهَ"(نفسه، ص11).
وقد لا نلتفت إلى دفاعه عن الإلحاد بأنه "هو أيضا عقيدة"، وأنه، أي الإلحاد، "يحرر الإنسان من الحواجز الميتافيزيقية التي تمثلها الديانات التوحيدية"(نظرة أورفي،102).
وقد لا يهمّنا كثيرا اعترافُه بأنه تلميذ نجيب ومخلص لفلسفة أستاذه (نيتشه) الإلحادية، وأنه "انجذب إليه بسبب فكره الثوري الرافض للدين"، ومنه تعلمَ "رفضَ ثبات المبادئ الدينية وثبات الفكر العربي"(نفسه،99)، وأنه "سار على خطاه في محاولة انتقاد الإسلام من أجل بناء التاريخ العربي الإسلامي بأفق جديد"(نفسه،103).
وقد لا نُعير أدنى اهتمامٍ لحكمه الجازم بأنه "إن كان هناك من شعور روحي عميق، فلن يكون إلا خارج الدين..."(نفسه، 274).
يمكنُ أن نُعرض عن مثلِ هذه الجهالات والادعاءات والدفاعات، وهي كثيرة في كتابات أدونيس، ونحْمِلُها على أنها شطحاتٌ من شطحات الملحدين، لا ينوء بوزرها إلا صاحبُها، ونمرُّ غيرَ مستَفَزّين، ولا جاهِلِين، ولا ناقِمين.
لكن "المؤمنين" يصبحون مَعنيّين حينما يتجرأ أدونيس، ومَنْ على شاكلته من الملحدين المُناضلين "المُحَارِبِين"، ويتناولُ دينَهم مباشرةً بالطعن والتجريح والتشكيك، وليس له من دليل ولا حجة إلا هواه ونفسُه ودينُه "الوثني".
ومن أمثلة ذلك قولُه، في (هوية ناقصة)، ص38: "لا يُرجَى من الدّين اليومَ نفعٌ...فهو رمزٌ لتخريب المجتمع، لأنه يجعل المجتمعَ يُشبه قبيلةً بدائيةً"، واعتقادُه "أن الدين ارتكاسٌ على عدة مستويات...وأنه كان جوابا على مرحلة أصبحت من الماضي..."(نظرة أورفي، ص279-280).
ومن ذلك ادعاؤه، على طريقة الملحدين الراسخين في الكفر والجحود، أن "فكرة الله[لاحظ؛ اللهُ، تعالى وتقدّس، مجرد فكرة] هي من اختراع الإنسان للتصدي لإشكالية الغيب والموت..."(محادثات مع أدونيس أبي، ص163).
الدينُ، بمنظار أدونيس الملحد المُناضِل، ارتكاسٌ وتقهقر وتخلفٌ، لأنه، في زعمه، أضْعفَ التجربةَ الإنسانية بجعلها تحت وصاية النظرة الدينية، وشكَّك في قدرات العقل وقوته وأهميته، وحوّل الإنسان إلى قطيع يحكمه التقليدُ والقواعد الجامدة(نفسه، ص279).
فعقيدةُ التوحيد، في زعم أدونيس الملحد، تُضادّ روحَ الفكر والحرية والإبداع، وتُناقض التقدّمَ والحداثة والمستقبل. أما عقائدُ الشّرك والوثنية، فقد كانت، في زعمه، "أكثر حريةً وأكثر إنسانيةً، وكانت أخصبَ خيالا وإبداعا"(نفسه،273).
عقيدةُ التوحيد، في زعم أدونيس الصوفي الوثني، كما وَصَفَ نفسه، "لا تحجبُ المعرفةَ فقط، بل تحجب المخلوقَ البشري أيضا. ولا يمكن للإنسان أن يتقدّم في تفكّره في العالم والوجود إلا إذا تحرّر من هذا الحجاب الذي يفرضه النص الديني، قرآنيا كان أم إنجيليا"(نفسه).
المؤمنون معنيّون بهذا الخطاب الإلحادي الأدونيسي، لأنه خطاب "قتالي"، ينتصرُ للشرك والوثنية على التوحيد، وللإلحاد على  التديّن، وللفكر المنطلق بلا قيود ولا حدود على الوحْي المقدّس وتوجيهاته وأحكامه وآدابه.
بل يصبح المسلمون مضطرين للتدخل والاعتراض والردّ والرفض والإدانة، حينما يتم التهجمُ على الإسلام بعبارات غاية في الإسفاف والحقد والكراهية واللاموضوعية، وحينما يتقدم الملحدُ إلينا في صورة مُصلح ناصحٍ أمين، يُعلمنا كيف نخرج من تخلّفنا، وكيف نتحرر من قيودنا، وكيف نعانق المستقبل وأفقَ الحرية والحداثة والإبداع.
يتقدم إلينا الملحدُ داعيا ومُوجّها، وذلك من طريق الطعن في ديننا، والاستهزاء بمقدساتنا، بل وتصوير الإسلام على أنه دينٌ لا يعتنقه إلا الفاشلون اجتماعيا وجنسيا،  والعاجزون عن التواصل مع الآخرين، والذين لا يستطيعون أن يبدعوا، وليس لديهم شيء يقولونه(محادثات مع أدونيس أبي، ص185).
ولم يكتفِ الخطابُ الإلحاديّ الأدونيسيّ بالطعن والتجريح في ظواهر الناس، بل تعدّى ذلك إلى بواطنهم وسرائر قلوبهم. فـ"الإسلام[في زعمه] أصبح اليوم دينا أو مذهبا مفروضا بالقوة، وجزءٌ كبيرٌ من المسلمين أنفسهم لا يؤمنون به، لكنهم مضطرون لادّعاء العكس والخضوعِ لقواعد هذا الدين"(نفسه، ص168-169).
المسلمُ الذي يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ليس مسلما، وإنما هو مدّع ومضطر!!
من قال هذا البهتان؟ قاله أدونيس الملحدُ، لأنه شقَّ على صدور الناس، وعَلِم بعلمه الحداثي الخارق العجيب المُحيط بالظواهر والبواطن، أنَّ نُطقَ المسلم بالشهادتين ما هو إلا ادعاء يناقض حقيقة إيمانه، التي هي إلحادٌ وكفرٌ وتمرد ورفض.
ويَلِجُّ أدونيس في التطاول على سرائر الناس، ويتمادى في هرطقاته العبثية واستنتاجاته الغارقة في اللامعقول، فيرى "أن جميع العباقرة العرب الذين نبغوا في الإسلام، من أبي نواس إلى المعري، وجميعَ كبار الشعراء والفلاسفة، كانوا لادينيين. ولم تَخرُجْ من الدّين مباشرةً ولا فكرةٌ واحدةٌ، مثلما يخرج العطرُ من الوردة. فالمفكرون والشعراءُ خلقُوا ورودا جديدة للحصول على عطر آخر"(نفسه، ص146-147).
"كبارُ الشعراء رفضوا الإسلام بصورة قاطعة"(نظرة أورفي، ص150). و"الشعر، على طول تاريخه، كان معاديا للدين"(نفسه،151).
أليس في هذه الأحكام الأدونيسية العامة الجازمة جنايةٌ فاضحةٌ على حقائق التاريخ الساطعة، التي لا سبيل إلى إنكارها والتدليس على الناس في شأنها؟
أليست هذه الجرأة من أدونيس، التي ما بعدها جرأة، على تزوير الوقائع والأحداث الثابتة من عدّة طرق، وفي أكثرَ من مصدر، وعلى الكذب الصُّرِاح على المسلمين، والطعنِ في عقائدهم، وتجاوزِ هذا الطعن إلى نِسبَتهم إلى الإلحاد وهم مسلمون، تشهد بإسلامهم المصادرُ المتعددة، كما يشهد به تراثُهم النثريّ والشعريّ- أليست هذه الجرأة من أدونيس كافيةً للحكم على ما صدرَ عن أدونيس، في شأن تراثنا العربي الإسلامي، بأنه عملٌ لا يتمتع بأدنى مصداقية، وأنه بعيدٌ كلَّ البعد عن الموضوعية والعلمية والإنصاف واحترام قواعد البحث الرزين؟
كيف يجرؤ هذا الرجلُ، مثلا، على إخراج أبي نواس من زمرة المسلمين وحَشْرِه قسْرا في زمرة الملحدين، وهذا شعرُ أبي نواس بين أيدينا، يشهد بأن الرجلَ ما خرج يوما من دائرة الإسلام رغم ما اشتهر به من مجون وولَع بالخمرة ومجالسها، وتخصيصِ جزء كبير من شعره للاحتفاء بها ووصفِ شدّة تعلقه بها.
في ديوان أبي نواس قصائدُ يُعبر فيها الرجل عن توبته وعن طمعه في عفو الله، وهي قصائدُ تصوّر لنا بصدق ووضوح رجلا مسلما كان منه، في حياته، ما كان من غفلة ولهو وعبث، ثم هو في النهاية تائب يرجو العفو من خالقه لا من سواه. ومن شِعْر أبي نواس المشهورِ في هذا الباب قولُه:

يا ربّ، إن عظُمت ذنوبيَ كثرةً***فلقد علمت بأن عفوَك أعظمُ
إن كان لا يدعوك إلا محســنٌ***فبمَنْ يلوذ ويستجير المجرمُ؟
أدعوك، ربِّ، كما أمرت تضرّعا***فإذا ردَدْت يدي،فمَنْ ذا يرحم؟
ما لي إليك وسيلةٌ إلا الرجــا***وجميلُ عفوك، ثمَّ إنيَ مسلمُ

وقُلِ الشيءَ نفسَه عن أبي تمام، وعن المتنبي، وعن المعري، وغيرهم من شعراء العربية العظام، الذين أخرجهم أدونيس الملحدُ من دائرة الإسلام قسْرا وتعسفا وظلما وتزويرا وبهتانا، وسَلَكهم في عصابة الملحدين الجاحدين الرافضين المتمردين على الله ورسوله وقرآنه وشرائعه، ليصنعَ بذلك مصداقيةً تاريخيةً لمُسَلَّمَته الإلحادية، التي تقول إنه لا إبداعَ، ولا حداثة، ولا فكر، ولا عبقرية، إلا خارج الدين وتعاليمه وآدابه.
تتمة الحديث في المقالة القادمة، إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين.

مراكش: 17 يوليوز 2011