بسم الله الرحمن الرحيم
مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(10)
الدعوةُ الإسلاميّةَ في
مواجهة العواصف
يجب الاعتراف بأن جماعة العدل
والإحسان-رغم ما اشتهرت به من اختيارات سياسية ثورية-ما تزال تمسك بالجمر، وتَحضُن
الدعوةَ وسط عواصف هوجاء تحيط بها من كل جانب؛ ما تزال تسعى وتجتهد في السعي، لكي
تبقى الروحُ الدعوية مشتعلة رغم الرعود القاصفاتِ والرياح العاصفاتِ من كل
الاتجاهات، لا تمرّ بشيء في طريقها إلا اقتلعته وجرفته.
أقصد بهذه العواصف الهوجاء والرياح
العاتيات هذه السهامَ المسمومةَ التي تُرمى بها المرجعيةُ الإسلامية في العمل
السياسي بغرض القتل والإبادة، أو التجريح والتشويه والتشكيك في أضعف الأحوال.
ما كان لأنظمة الجور والطغيان، قبل
الاستكبار العالمي، أن تهتم بشأن الحركات الإسلامية لولا ما بات لهذه الحركات من حضور
مشهود وصوت مسموع في المضمار السياسي، فضلا عن حضورها في سائر المضامير الفكرية
والاجتماعية والأدبية والفنية.
وفي تقديري أن هذا الاهتمام بالشأن
الإسلامي إنما عظم واتسع نطاقه بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979،
وتأسيس الجمهورية الإسلامية على أنقاض حكم الشاه محمد رضا بهلوي الاستبدادي، الذي
كان يدور في فلك الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد هذا التاريخ، تغيرت المعايير، واختلفت
السياسات، وتبدلت الرؤى في شأن التعامل مع هذا "المارد" الذي خرج من
القمقم، وبات له دولةٌ يَخشى الخصومُ والأعداء أن تتحول إلى نموذج يُغري بالاتباع،
ويدعو بالنموذج الحي والفعل الواقع الآخرين المستضعَفين، وخاصة الواقعين تحت نير
الأنظمة الاستبدادية، إلى الثورة على نهجه والنسج على منواله.
كانوا يظنون أن هذا
"المارد" قد أصبح من التاريخ-تاريخ الفتوحات الإسلامية، وتاريخ الحروب
الصليبية، وتاريخ حركات التحرر الوطنية-فإذا به يبعثُ حيا ثائرا نشيطا مؤثرا
طموحا، شاهدا ومؤكدا أن الإسلام-مهما اختلفت المذاهبُ الإسلامية والاجتهادات
الفقهية-كان، وسيظل دائما، حاضرا في قلب اهتمامات الإنسان، ومنها الاهتمامات
السياسية وما يتعلق بها من شؤون الدولة وخطط الحكم والنظام.
ظنوا-وهم مخطئون-أن الإسلام/الدولةَ
والحضارة والعمران قد انتهى، ولم يبق منه إلا هذه المظاهر والرسوم والذكريات التي
تحتفل بها هذه الدويلات الفاشلة الناشئة في كنف الاستعمار، والتي هي أشبه بالتراث
الفلكلوري، الراسخ في العادات والتقاليد، ليس لها علاقة بروح الدين وصحيح الاعتقاد
وقويم السلوك، إلا في الأسماء والأشكال.
ظنوا، وما يزالون يظنون ويحلمون
ويتمنون.
التطرف والغلو والعنف
آفة على الدعوة الإسلامية
في الحديث الصحيح: (أن الله يُعطي
على الرفق ما لا يُعطي على العنف) و(أن الرفقَ ما كان في شيء قطُّ إلا زانَه،
ولا نُزِع من شيء قطُّ إلا شَانَه).
لقد ابتُليتِ الدعوةُ الإسلامية، منذ القديم، بهذه
الآفة التي يمثلها أهل التشدد والغلو؛ وهي آفة عرفتها جميع الديانات، وستظل موجودة
إلى ما شاء الله؛ والدليل على أنها كانت موجودة، وستستمر، التحذيرات التي وردت في
السنن الصحيحة، والتي تحض على الرفق وترغب فيه، وتحذر من العنف وتدعو إلى اجتنابه.
وقد كتب العلماءُ كثيرا في هذا الموضوع، مما يؤكد أن المسألة ليست مسألة فكر ونظر
ونصوص، وإنما هي مسألة إيمان وتربية وسلوك.
"التطرف" و"العنف"
و"الجهاد" و"الإرهاب" مفرداتٌ أصبحت تتصدر المبررات التي
تُقدَّمُ لمواجهة أي نشاط سياسي يستند إلى المرجعية الإسلامية، وإن كان هذا النشاط
صافيا من شوائب العنف والتشدد والغلو، وكان أصحابه ملتزمين بنصوص القوانين التي
تنظم الحياة السياسية.
وهذه المبرراتُ قد يكون لها ما يُعضِّدها من
الحقائق والأفعال والمعطيات التي يشهد عليها الواقع المعيش، كالعمليات الدموية
التي أعلن تنظيم "القاعدة" عن مسؤوليته عنها، وكذلك أعمال التقتيل والتحريق
والتدمير والتخريب التي تنسب لتنظيم "داعش"(مختصر "الدولة
الإسلامية في العراق والشام"؛ وقد تغير اسم هذا التنظيم ليصبح "الدولة
الإسلامية" فقط).
هذا النوع من التطرف والتشدد والعنف الذي يطبع هذه
التنظيماتِ والحركات والجماعات التي تحمل شعار السلفية والجهاد، واضحٌ وصريحٌ، ولا
نحتاج إلى كبير جهد لإثبات مُوجِبات تجريمه ورفضه
وإدانته، قانونيا وإسلاميا وإنسانيا، وإن كان لأصحابه-المتطرفين المتشددين
العُنُف-نصوصٌ وتفسيراتٌ واجتهاداتٌ لتجويزه وتسويغه.
المُهمُّ هنا أن هذا النوعَ من العنف والتطرف بيّنٌ
في اختياراتٍ واجتهادات وعباراتٍ وأعمال وسلوكاتٍ ومظاهر تعبر عن نفسها بلا التفاف
ولا روغان، ويمكن معرفتُه وتمييزُه بلا كبير عناء. أما النوع الآخرُ من التطرف
والعنف، في اعتقادي، هو الخفيُّ، الذي يصعب معاينته بسهولة، لما يمتاز به من تخفٍّ
والتفاف والتباس.
هذا النوعُ الخفيُّ من العنف قد يتزيّى بزِيِّ نقيضه،
فيأتي في معرض الرفق والحكمة واليسر واللين، وهو ما يوَلِّدُ في شأنه الالتباسَ
والغموضَ والاضطراب.
مثلا، قد يكون عالمٌ من العلماء معروفا باعتداله واجتهاداته
ومواقفه التي تدين العنف وترفض الغلو والتطرف، ثُمَّ يأتي عالمٌ آخر، فيحيل عليه
ويسوق اجتهاده على أنه الكلمة الفصل والرأي النهائي الصحيح؛ ففرضُ رأيٍ اجتهاديٍّ
على أنه الرأي الصحيح الوحيد الذي لا يقبل النقاش، ولا يمكن تناوله إلا بالتصديق والتسليم،
هو، في تقديري، نوعٌ من العنف، لا يقل في خطره وأثره البعيد عن العنف المادي
الدموي، وإن كان مسوقا في معرضٍ يندِّد بالعنف ويدينه.
فالإحالة على الماضين-مهما كانت درجتهم في الفهم
والعلم والاجتهاد-الذين اجتهدوا لزمانهم، وأفتوا على ضوء أحوالهم وأوضاعهم، وأبدعوا
وطوّروا وجدّدوا بحسب مستجدات وقتهم وملابسات ظروفهم-الإحالةُ على هؤلاء على أن
كلمتهم هي الكلمة الفصل في الموضوع، وأن اجتهادهم هو النهاية التي ما بعدها
اجتهاد، هي، في رأيي دائما، نوعٌ من العنفُ الذي أصفه بأنه خفيٌّ، لأنه يأتي
متلبسا بسياقات توهم بنقيض العنف، ومدسوسا في خطابات وأدبيات وكتابات تدّعي الرفق
والرحمة والتيسير، وترفع شعار الدفاع عن حرية الانسان في الفكر والاختيار، ومناهضة
التشدد والغلو وكل أشكال العنف والإكراه.
كم من عنف مورس-وما يزال-باسم الأئمة-تمثيلا لا
حصرا-مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، رحمهم الله، في الفقه والفتوى؟
كم من إرهاب مورس-وما يزال-باسم الأئمة-تمثيلا لا
حصرا-ابن القيم والشوكاني والجويني، رحمهم الله، في الأصول؟
كم من إكراه مورس-وما يزال-باسم الأئمة-تمثيلا لا
حصرا-ابن جرير وابن كثير والقرطبي، رحمهم الله، في التفسير؟
كم من عنف عنيف مورس-وما يزال-باسم العلماء
المجتهدين، من القدماء والمحدثين، في غير الفقه والأصول والتفسير من العلوم
والمباحث والنوازل؟
ولا بأس أن أؤكد هنا-حتى لا يفهم رأيي على غير
وجهه-أن هذا العنف الخفيَّ الذي أقصده إنما هو قائم، أساسا، في اعتبار اجتهاد
المجتهد في زمن معين اجتهادا ملزما وصالحا لسائر الأزمنة من غير اعتبار لما يكون
بين الأزمنة من اختلافات في الظروف والأحوال والملابسات والأعراف والتقاليد
والعادات.
وبهذا المعنى، يمكن أن أزعم أن من الإسلاميين منْ
يمارس هذا العنف الخفيَّ، وإن كانوا يعلنون أنهم ضد العنف، ويصنفهم المصنفون في
المسالمين المعتدلين.
وقد تكون لهذا العنف الخفيِّ تبعاتٌ ومضاعفات قد
تصل في مخاطرها وآثارها ومفاسدها درجة قد تفوق، في بعض الظروف والحالات، ما يترتب
على العنف المادي الصريح من نتائج مذمومة وحصاد مر
قاتل.