الجمعة، 13 سبتمبر 2019

مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(9)


بسم الله الرحمن الرحيم
مراجعاتٌ في الفكر والسياسة(9)

الفرعُ "السياسيّ" يطغى على الأصل "الدعويّ"
إن كانت "مراجعاتي"، في ظاهرها ومواضيعها وأمثلتها، تتناول بالنقاش والنقد والتقويم بعض الجوانب في منهاج جماعة العدل والإحسان، فإنها، في حقيقتها وعمقها، مراجعاتٌ تتناول أفكاري أنا وقناعاتي واختياراتي. وهذه المراجعاتُ قد بدأت حينما كنت في الجماعة، وفي حياة الأستاذ المرشد، رحمه الله. واسألُوا الأحبةَ أهلَ السابقة والمعرفة، تجِدُوا عندهم الخبرَ اليقين في هذا الشأن، ولا أقول هنا أكثرَ من هذا.
إنها مراجعاتٌ تقع في سياق أوسع وأكبر من جماعة العدل والإحسان، وهو سياق الفكر السياسي الإسلامي الحديث وإشكاليات قضايا الدولة وأنظمة الحكم وتدبير الشأن السياسي.
الدعوةُ الإسلامية-كانت هي الأصل وستظل هي الأصل-هي اليوم متهَمةٌ ومتابَعة ومحاصَرة بسبب اختيارات سياسية واجتهادات فكرية وآراء فقهية. فقد أصبح الشأنُ الدعويُّ تابعا للشأن السياسي بالرغم عنه، وإن كنا ما نزال نقرأ في أدبيات معظم الحركات الإسلامية أن الدعوةَ هي الأصل وهي أكبر وأرفع وأشرف أن تخوض في أوحال السياسة وتنشغل بمشكلاتها وتتيه في دروبها وتعْلَق بحبائلها وتتْلَفَ في ألاعيبها.
ماذا بقي من الدعوة عند الإخوة "الإسلاميين" في حزب العدالة والتنمية، بعد أن سَرَطتْهم بلاّعةُ الدولة المخزنية وروَّضتهم دواليبُها الطاحنة؟
ماذا بقي من الدعوة عند الإخوة "الإسلاميين" في حركة التوحيد والإصلاح؟
ماذا بقي من الدعوة عند الإخوة "الإسلاميين" في حزب البديل الحضاري؟
ماذا بقي من الدعوة عند الإخوة "الإسلاميينّ في حزب الأمة؟
مثَّلْتُ بهذه الحركات، لأنها جميعا خرجت من رَحِمٍ واحدة، وهو الدعوة الإسلامية، لكن انظروا ماذا فعلت السياسةُ بها، وأين أوصلتها.
(العدل والإحسان)، وفي قلبها الأستاذُ المرشد عبد السلام ياسين، رحمه الله وأجزل له الأجر والثواب، في أصلها وفصلها، تنظيمٌ تربويّ روحُه الدعوةُ ثُمَّ الدعوةُ ثُمَّ الدعوةُ، فكيف أصبحت الجماعةُ اليوم مشهورةً بعنوانها السياسيّ الفرعيّ المتغيّر أكثر من شهرتها بعنوانها الأصلي الثابت؟
كيف بات السياسيُّ يُغطِّي على الدعويّ إلى درجة الغَمْر والطَّمْر والذوبان؟
كيف بات الناس اليوم يعرفون الجماعةَ باختياراتها ومواقفها السياسية المعارِضة "الثورية" أكثر من معرفتها بمنهجها الدعوي الأصيل وعطائها التربوي الكريم؟
ولا بد أن أنبه هنا أنني أتحدث عن معرفة الجماعة وشهرتها في أوساط الدائرة الواسعة من الناس، داخل البلاد وخارجها، وليس في أوساط الدائرة الضيقة من الأعضاء والأنصار والمتعاطفين.
الدعوةُ الإسلامية اليوم محاصرةٌ بسبب السياسة، في معظم بلدان العالم، بل هي متهمة بالإرهاب ابتداءً وأصلا عند كثير من اللادينيِّين المتطرفين والملحدين المناضلين، وفي كثير من الدول الأوربية، وخاصة عند تيارات اليمين العنصري ومناهضي الهجرة.
وقد أصبحت هذه التهمُ المختلَقةُ مطية وطيئة لتبرير سياسات القمع والمنع والحصار التي تنتهجها الأنظمة الاستبدادية تجاه الحركات الإسلامية.
لقد استغل المتربصون بالدعوة الإسلامية، بكل تياراتها وتوجهاتها، في العصر الحديث، الاجتهاداتِ المتطرفةَ والعمليات العنيفة الدموية لبعض الفصائل المحسوبة على الإسلام، والتي تدّعي الاجتهادَ والجهاد والانتسابَ لـ"الدعوة السلفية"-مثل "القاعدة" و"داعش"(الدولة الإسلامية في العراق والشام)ـ فأعلنوا حربا شعواء، ما تزال مستعرة إلى اليوم، على جميع الحركات الإسلامية، باسم محاربة "الإرهاب" و"التطرف".
سبيلُ الدعوة الإسلامية، في جوهرها وأساسها، سبيلُ الحرية والرضا والاختيار، وسبيلُ التيسير واللين والرفق، وسبيلُ الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وهو سبيلٌ يناقض سبيلَ التكفير والتقتيل والإكراه والعنف والغلو والتشدد والتطرف.
طبعا، الاستبدادُ وتوابعُه هو المسؤول الأول عما آلت الدعوة الإسلامية في الوقت الراهن، وخاصة بعد أن أعلن تحالفُ الاستكبار العالمي، بقيادة أمريكا، حربَه على ما يسمّيه "الإرهاب"، وساق في ركابه أنظمةَ الجور والفساد، وسائرَ الكارهين للإسلام من ملاحدة مناضلين وحداثيين لادينيّين متطرفين وحاقدين متربصين.
الدعوةُ الإسلاميّةُ لا يمكن أن تزدهرَ وتنموَ نموا طبيعيا إلا في أجواء الحريّة؛ وهذه الأجواء التي هي بمثابة الأوكسجين الضروري للتنفس والحياة مفقودةٌ، كليا أو جزئيا، في ظل الأنظمة الديكتاتورية، وعلى السياسيين الإسلاميين أن يجتهدوا، ما وسعهم الاجتهاد، وأن يعملوا بكل الوسائل المتاحة، وأن يبدعوا ويخترعوا ويطوّروا أساليبَ جديدةً تناسب الزمن وملابساتِه وأحوالَه وظروفه ومستجداتِه، من أجل "تسليك القافلةِ"، وسط جغرافية ومناخ وتضاريس ليست سهلة ولا مواتية، بل قد تشكل، في كثير من الأحيان، عوائق مقاوِمةً وحواجز خطيرة وموانع عنيدة في الطريق.
في اعتقادي أن السياسةَ ينبغي أن تكون في خدمة الدعوة، تمهد لها الطريق، وتيسّر لها الوسائل والإمكانيات، وتهيئ لها الأجواء المناسبة للسير في الناس وإبلاغ الخطاب إلى حيث يجب أن يبلغ من غير معوقات خانقة، ولا موانع قامعة، ولا قيود رادعة.