السبت، 21 سبتمبر 2019

في تبذير المال العام


بسم الله الرحمن الرحيم

في تبذير المال العام


التقارير التي يصدرها المجلس الأعلى للحسابات-وهو مؤسسة دستورية مخزنية-باتت مرجعا رسميا لرصد الاختلالات والمعوقات والمفاسد التي تطبع التدبير المالي للمؤسسات العمومية.
وعلى الرغم من الإنذارات والتنبيهات والتوجيهات والأرقام الناطقة الفاضحة، التي تزخر بها هذه التقارير الرسمية، فإن تحريك المساطر القانونية والزجرية لمحاسبة المسؤولين تظل ضعيفة، بل لا وزن لها مقارنة بحجم الفساد والإهمال والفوضى والاضطرابات الذي يشمل كثيرا من حسابات مؤسساتنا العمومية، التي تتصرف في المال العام، جباية وإنفاقا.
أين هي مصداقيةُ هذه التقارير الرسميّةِ إن كانت ستبقى، في غالبيتها، حبرا على ورق؟ وأيّة قيمة لتقارير وكشوفات وتدقيقات إن بقيت حبيسة في الأوراق، لا تكاد تظهر وتُنشر حتى تختفيَ في الأرشيف ويطويَها النسيان؟ أم هو الخداعُ والتمويه وذرُّ الرماد في العيون، والإيهامُ، في الظواهر والأشكال والأوراق، بأن هناك جديةً في التفتيش والمراقبة والمحاسبة، ثم ينتهي الأمر إلى الإهمال والنسيان؟

المالُ المُسَيَّب
الغالب على التصرّف في المال العامّ، في دولة الجبر والتعليمات، أنه تصرف لا تحكمه سياسةٌ رشيدةٌ ولا قانونٌ معقول يمكن تتبّعُ مسالك تنفيذِه، ومراقبةُ ما يتعلق به من جبايات ونفقات مراقبةً فعّالة، تمنع أيدي الفاسدين من أصحاب الأهواء والضمائر الخربة أن تمتدّ إليه بسرقة أو تلاعب أو غش أو غيرها من أشكال الفساد وصور التصرفات اللاقانونية، التي تُصنَّفُ ضمن الجرائم التي يجبُ في حقّ مرتكبيها، أياّ كانوا، المتابعةُ والحسابُ والعقاب.
المال العام، في دولة الاستبداد، مالٌ سائبٌ يُبَذّر سفاهةً، بلا حسيب ولا رقيب؛ جزءٌ منه، يُعدّ بالمليارات، يذهب هدْرا، في شكلِ رَيْعٍ ورِشاً (جمع رشوة)، لأحزاب سياسية، ليس لها من معنى السياسة إلا الاسم، معظمُها مهمّتُه الحقيقيةُ أن يظهرَ ويتكلم ويُمثّلَ ليسوِّغَ الاستبدادَ ويزكيَ الفساد. وجزءٌ من هذا المال السائبِ يُبذَّر فيما يسمّونه، تلبيسا ومغالطة وتمويها، دعمَ الثقافة والفن، وما ثمَّةَ ثقافةٌ ولا فنٌّ، وإنما هو-مع استثناءاتٍ ذريّة لا تكاد تُذكر-العبثُ والسخف واللاشيئية، في كل شيء، في الشعر، في المسرح، في السينما، في الأعمال التلفزية؛ وأيُّ شعر؟ وأيُّ مسرح؟ وأيّ سينما؟ وأي مسلسلات؟ اسألوا النقادَ والمهتمين من أهل الاختصاص والميدان.
المال يُبَذّرُ، وحسابُ السيئات يتضخَّم على إخوان الشياطين، ومؤشراتُ التخلف تتفاقم، والمبذرون السفهاءُ لاهون غافلون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

السينما المغربيّة والمالُ العام
هل عندنا صناعةٌ سينمائية تستحق أن تشجَّعَ ويُنفقَ عليها من المال العام؟
هل عندنا فنٌّ سينمائي (يحمّرُ) الوجهَ، ويعبّر، بحق، عن هويتنا الدينية والثقافية، وعن تقاليدنا وأعرافنا، حتى يكون ما ننفقُه عليه من المال العام بمثابة استثمارٍ فني وثقافي حقيقي، يَجني المجتمعُ ثمرتَه في مجالات التربية والتعليم والذوق الفني الجمالي؟
الجواب على مثلِ هذه الأسئلة أتركه للنقاد المختصين، الذين لا يفتأون ينتقدون واقعنا السينمائي، ولا يكفّون عن الشكوى من هذا التردي الذي يطبع هذا الواقع، والذي يشمل جلّ متعلّقَات الفن السابع، بدءا من كتابة السيناريو وانتهاء بالإخراج والتوزيع والاستهلاك؛ واقعٌ يشهد المختصون أنه يعاني أمراضا مُزمِنة، ومع ذلك ما تزال حكوماتُنا تُغدق عليه الملايير من المال العام، ولا من رقيب ولا حسيب، ولا من يقول: كفى، اللهم إن هذا منكر.
هذا أيضا بابٌ من أبواب الرّيْع والتبذير، يحرص الاستبداد أن يبقيَه مفتوحا-مثلُه مثلُ باب الرَّيْع والتبذير في مجال الصحافة-وأن يرعاه بالدعم المادي اللازم، من أجلِ الدعاية والتخدير وصناعة الواجهات "الحداثيّة"، التي تزكي القبحَ، وتروّج للمنكرات، وتطبّع مع الفواحش، وتفتل في حبل التخلف والانحطاط.
وهذه بعضُ الأرقام التي استقيتها من تقرير صادر عن (المركز السينمائي المغربي) عن الحصيلة السينمائية لسنة 2017:
تم دعم 17 فيلما طويلا بـ(6ملايير و237 مليون سنتيم).
تمّ تقديمُ تسبيق على المداخيل لـ42عملا بـ(7ملايير350مليون سنتيم).
تمّ دعم 48 مهرجانا له علاقة بالسينما بـ(مليار و881مليون سنتيم). تأملوا: 48 مهرجانا!! كيف؟ ولأي إنتاج؟ ولأي صناعة وفن؟ 48 مهرجانا!!
تمّ تقديم دعم لإصلاح 7 قاعات، (10شاشات) بـ(مليار و127مليون440ألف سنتيم).
تم عرضُ-نحن دائما في سنة2017-تسعةِ أفلام في القاعات، بيعت فيها (25.843) تذكرة، بلغت مداخيلها (51 مليون و707 آلاف سنتيم)؛ تصوّروا، في سنة واحدة (2017) بُذّرت الملايير من المال العام، من أجل ماذا؟ من أجل أعمال لم تتجاوز مداخيلها (جوج فرنك)!! هي إذنْ أفلامٌ نكرةٌ، لا تكاد تظهرُ وتُعرضُ حتى تموت ويطويَها النسيان في أرشيف المهملات، في أرشيف القبح السينمائي المغربي، ثُمّ مِنْ ظلام هذا الأرشيف إلى الدفن النهائي وبغير رجعة.
سُحْقاً وبُعداً لقبحٍ لا ثمارَ له//إلا المرارُ، وإلا الحنظلُ العفنُ
الناسُ تبدعُ في المعقولِ ينفعها//وعندنا الرَّيْعُ والتبذيرُ والأَفَنُ
الأفَنُ في اللغة نقص العقل وضعف الرأي. والمأفونُ الضعيف الرأي والعقل.

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)
الأحزاب السياسية اللاعبةُ في ملعب الاستبداد، وَفْق قواعده التي يفرضها، وبشروطه التي يضعها، وحدوده التي يرسمها، وأهدافه التي يريدها-هذه الأحزاب، مهما بُذِّرَتْ عليها من ملياراتٍ من المال العام، يستحيل-إلا في الأحلام والأوهام والشعارات الكاذبة-أن تنتج مبدعين، وتصنعَ كفاءات، وتُخرّج أطرا سياسية لخدمة الصالح العام.
الاستبدادُ، بطبيعته، بأساليبه في الحكم والإدارة والتدبير، وبقبضته البوليسية الحديدية في القمع والمنع والحصار، يتناقضُ مع وجود طاقات وكفاءات سياسية حقيقية في الأحزاب، لأن التجديد والابتكار، في المجال السياسي، ممتنعٌ مع طقوس الاستبداد، في الحكم والإدارة والتسيير، وممتنعٌ مع جذور السلطة الفردية الضاربة في الجبرية والاستعلاء والانغلاق.
يحلُم، بلْ يكذِب ويُزوِّرُ، مَنْ يتصوّرُ من "السياسيِّين" و"المثقفين" و"المفكرين" ومَنْ يسمّونهم بـ"الفقهاء الدستوريّين"، خروجَ إبداعٍ وتطويرٍ وتجديدٍ حقيقي من رحِم استبدادٍ قروني وأعرافٍ وتقاليد سياسية مخزنية راسخة رسوخ الجبال.
أنا هنا أتكلم عن الإبداع والتطوير والتجديد الحقيقي، وليس عن الأصباغ الشكلية، والمظاهر الزائفة، واللافتات الماكرة الخادعة.
ومما يلفِت النظرَ ويستدعي التأملَ أنَّ كرَاكِرَ من الأحزاب السياسية وجودُها قائمٌ بالمال العمومي، أي أنها ليس لها منْ مداخيل إلا ما تأخذه من الدولة. وقد ذكر تقريرُ المجلس الأعلى للحسابات، في شأن تدقيق حسابات الأحزاب السياسية لسنة2016، أن أربعة عشر حزبا من الأربعة والثلاثين الذين شملهم التقرير، "اعتمدت كليا على الدعم العمومي خلال سنة 2016، مقابل خمسة عشر(15) حزبا سنة 2015، وثلاثة عشر حزبا(13) سنة2014".
أحزابٌ مجهولة إلا عند وزارة الداخلية ومجلس السيد إدريس جطو!
أحزابٌ بلا جمهور، أي بلا وجود شعبي، ومع ذلك فحصتها من المال العمومي مضمونة!
أحزابٌ لا يدخل صندوقَ ماليتِها سنتيمٌ واحد من اشتراكات أعضائها! أيْ أنها أحزاب بلا مُشتركين! أي أنها أحزابٌ وهمية "شبحيّة"!
أحزابٌ أخرى، ذكر تقريرُ مجلس السيد جطو أن عددها ثمانية، استحوذت على حصة الأسد من المال العمومي بما مجموعه حوالي ثمانية وعشرين(28) مليار سنتيم! وماذا تنتج هذه الأحزاب في حياتنا السياسية حتى تأكل كلَّ هذا المبلغ؟
رَيْعٌ في رَيْع، ورشاوى، وتبذيرٌ للمال العام ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال، من أجل ماذا؟ من أجل صناعة واجهةٍ ديمقراطية خادعةٍ كاذبة، يسكنُ وراءها داؤنا العضالُ، داء الاستبداد.
(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)(الإسراء)
صدق الله العظيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين