الخميس، 17 فبراير 2022

مراجعات في الفكر والسياسة(14)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مراجعات في الفكر والسياسة(14)

 

دعوةُ جماعة العدل والإحسان "الفضلاءَ الديمقراطيين"، لطاولة الحوار دعوةٌ قديمة جديدة، وما زلنا نرى الجماعة تجدّدُ هذه الدعوة في كثير من المناسبات، ومنها المناسبةُ الأخيرة في الندوة الحوارية، في الذكرى التاسعة لوفاة الأستاذ المرشد، رحمه الله.

لكن الذي يلاحظه كلُّ متتبع مهتمٍ بهذا الموضوع أن عدد المستجيبين لدعوات الجماعة في تراجع واضح، منذ سنوات، فضلا عن كون المستجيبين، على قلتهم، هم أفرادٌ لا يمثلون، في الغالب، إلا أنفسهم، حتى وإن كانوا ينتمون لبعض التنظيمات، كالسيد عبد الله الحريف، مثلا، الذي ينتمي إلى حزب النهج الديمقراطي؛ فداخل هذا الحزب اليساري الراديكالي، هناك اختلاف كبير بين "الرفاق" في موضوع الاتصال والتحاور مع جماعة العدل والإحسان، إلى درجة أن من "رفاق" السيد الحريف من له مواقف متطرفة في رفض أي تواصل مع جماعة "إسلامية" "أصولية" "رجعية" "ظلامية"، حسب أوصافهم العدمية المتطرفة.

وعلى ضوء النتائج التي تنتهي إليها مثلُ هذه اللقاءات "الحوارية"، كنت خلصت في واحدة من مقالاتي السابقة إلى نتيجة مفادها أن دعوة الجماعة المتكررة إلى "ميثاق جامع" إنما هي دعوة إلى "ميثاق مستحيل"، وبيّنتُ، من عدة أوجه، لماذا هذه الاستحالة ، طبعا حسب رأيي وتقديري. ويمكن للقارئ المهتم بالتفصيلات أن يرجع إلى مقالاتي في موضوع "الميثاق"، الذي ما فتئت الجماعة تدعو إليه.

والحديث عن "التحاور" وعن "الميثاق" هو حديث في موضوعين أولهما بمثابة الأساس الذي لا قيام للثاني إلا به، فهما إذن، من هذه الزاوية، موضوعان متلازمان متداخلان لا ينفك أحدهما عن الآخر.

لقد كتبت عدة مقالات في موضوع تحاور الإسلاميين واليساريين، وخاصة بعد هبوب عواصف الربيع العربي، التي كان من تجلياتها المغربية حركةُ 20 فبراير سنة 2011. ويمكن أن أسميَ هنا سبع مقالات، وهي، على التوالي، حسب تواريخ كتابتها:

"الإسلاميون واليساريون اختبار في الميدان"(ماي2011)

"هل يردّ اليساريّون تحيّةَ العدل والإحسان؟"(ماي2011)

"عن تحاور الإسلاميين واليساريين"(شتنبر2011)

"المعارضون للمخزن-معوّقات التقارب والتحاور والتحالف"(مارس2013)

"في قضايا الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين(1/2)"(مارس2013)

"في قضايا الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين(2/2)"(مارس2013)

"الإسلاميون واليساريون بين السياسة والإيديولوجيا"(يونيو2014)

وسيلاحظ الناظر في هذه المقالات أن رأيي في موضوع العلاقة بين الإسلاميين واليساريين قد عرف شيئا من التطور خلال السنوات الثلاث التي كتبت فيها هذا المقالات، لأني كنت أكتب بوحي مما يجري في الواقع.

ومنذ سنة2011، وخاصة بعد الاحتكاك والاختلاط والتواصل المباشر التي حصل بين الإسلاميين، ممثَّلين في جماعة العدل والإحسان، وبين اليساريين، في خضم أنشطة حركة 20 فبراير، وأنا أتابع، ككل مهتم، ما يجري في الواقع من تغيرات وتطورات بخصوص العلاقة بين الإسلاميين واليساريين.

فقد انتهت حركة 20فبراير إلى ما انتهت إليه من برود واضمحلال، بعد انسحاب جماعة العدل والإحسان، وكان الاختلاف الإيديولوجي، في تقديري، هو السبب الرئيسي وراء ما حصل. وقد حسمت "فيدرالية اليسار الديمقراطي" في موقفها من التعامل مع الجماعة، وقررت قطع أي نوع من العلاقة معها، وإن كان بعض الأفراد-أقول بعض الأفراد-من هذه الفيدرالية ما يزالون غير مقتنعين بهذا الموقف المقاطع. للتذكير، فقد بقي في هذه الفيدرالية حزبان من ثلاثة، وهما حزب "الطليعة الديمقراطي الاشتراكي"، وحزب "المؤتمر الوطني الاتحادي"، بعد انسحاب "الحزب الاشتراكي الموحد" قبيل انتخابات 8 شتنبر الأخيرة، بسبب خلافات داخلية.

إذن، لم يبق من اليساريين الذين أراهم معنيين بالحوار مع جماعة العدل والإحسان إلا حزب "النهج الديمقراطي"، الذي ما يزال مترددا في الحسم في العلاقة مع العدل والإحسان بصورة رسمية قاطعة، وإن كان بعض قيادييه، كالسيدين مصطفى البراهمة وعبد الله الحريف، لا يفتأون يؤكدون إيجابيات التواصل مع الجماعة، ولا يتخلفون عن المشاركة في المناسبات "الحوارية" التي تجمعهم معها على طاولة واحدة.

ما هي الخلاصة من كل هذا الكلام، بعد التأمل والتمحيص والغربلة؟  

الخلاصة، في رأيي، هي أن خُطى السائرين في طريق التحاور-وهم قلة كما لاحظنا-ما تزال بطيئة جدا، لأننا لا يمكن أن نحكم بأن هناك، بالفعل، مبادرات جادة لبدء حوار مسؤول بين فاعلين سياسيين معروفين بإيديولوجياتهم وتنظيماتهم ورموزهم؛ فكل ما هناك هو هذه اللقاءات التي تنعقد، من حين لآخر، في شكل ندوات أو مناظرات أو احتفالات، بهذه المناسبة أو تلك، ثم ما هو إلا أن ينتهي اللقاء حتى يرجع المشاركون إلى شواغلهم العادية، في انتظار مناسبة أخرى، يَدْعُون إليها، أو يُدْعَوْن.

نعم، هناك فضلاء ديمقراطيون من ذوي الخلفية اليسارية، كالسادة "أبو بكر الجامعي"، و"فؤاد عبد المومني"، و"المعطي منجب"، تمثيلا لا حصرا، لا يزالون يجتهدون لتقريب الشقة بين الطرفين، في كثير من الندوات والاستجوابات والتصريحات، وكذلك في بعض البرامج السياسية والحقوقية، التي تُبث على الإنترنيت، وخاصة في بعض قنوات (اليوتوب)، لكنها محاولات محاصرة، هي الأخرى، بأجواء القمع والتشويش والتشكيك والاتهام، التي يفرضها الاستبداد وأبواقه وأذرعه المبثوثة في كل مكان. 

وهذا لا يعني تبخيسَ ما قد يُجنى من هذه اللقاءات والمبادرات من قطاف مثمرة، أو ما يمكن أن توفره من مادة أولية أساسية يمكن التعويل عليها في البناء غدا أو بعد غد.

وفي نظري، هناك عدة عوامل تعوق السير الطبيعي في طريق التواصل والتحاور بين معارضي الاستبداد.

هناك، أولا وأساسا، عامل القمع والمنع والحصار، الذي يُطيل عمر هذا الاختناق الذي تعانيه حياتنا السياسية. فاليوم، المعارضون للدولة المخزنية، وأخُصّ الثوريين منهم، ليس عندهم لممارسة حقهم وحريتهم في الرأي والتعبير والتنظيم، إلا هذه الثقوب الضيقة في هذا الجدار الاستبدادي السميك المحصن، تحاصرهم، من كل المنافذ والجهات، عيون المخزن، لا تنام عنهم، ليل نهار، وتتصدى لهم مقامعُه، من كل الألوان والأحجام، البوليسية والقضائية والإعلامية والاستخباراتية، لا تتركهم يتنفسون حتى تعاود الكرة والكرات عليهم، في مشهد سيزيفي لا يطاق.

وهناك، ثانيا، عامل الاختلاف الإيديولوجي، الذي ما يزال يكدر الأجواء، ويبطئ السير، ويذكي نار الحزازات والنعرات، لا يتركها تخمد وتزول.

فما يزال بعض اليساريين، في بعض اللقاءات، يحتجون على جماعة العدل والإحسان ببعض النصوص من كتابات مرشد الجماعة، رحمه الله، على أنها الأصل في أدبيات الجماعة السياسية. ويرد بعض ممثلي الجماعة في هذه اللقاءات بأنه من الظلم محاكمة الجماعة على ضوء كتابات "متجاوَزة" بدل أن يحكموا عليها على ضوء ما يرون منها ويسمعون الآن.

والواقع أن الناس يسمعون من الجماعة، اليوم، خطابا مختلفا عما هو مدون في منهاجها السياسي الأصلي، لكنهم لا يجدون بين أيديهم من الوثائق المكتوبة والأدبيات المنشورة ما يثبت أن الجماعة، بالفعل، قد راجعت منهاجها وطورته، وتجاوزت ما فيه من أطروحات سياسية كانت وليدة اجتهادات أملتها، قبل سنوات، ظروف وأحوال وملابسات وصراعات هي غير ظروف الحاضر وأحواله وملابساته وصراعاته. وهذا التباين الذي يظهر لبعض الناس ما بين الكلام المسموع والنص المكتوب يجعل بعض الفضلاء من ذوي المقاصد الحسنة غير مطمئنين لما يسمعون، وهم يرون أدبيات الجماعة المكتوبة والمنشورة ما تزال على صورتها الأصلية، لم يطرأ عليها أي تغيير.

ومن جهة أخرى، هناك هذا التعالي والأستاذية من جانب اليساريين-ولا أعمم، لأن من بين اليساريين فضلاء متواضعين، يعرفون قدرهم ويقفون عند حدودهم، ويحترمون خصومهم، ويسعون للتحاور مع منافسيهم، بلا تعالم ولا اشتراطات مسبقة-قلت هناك هذا التعالي والأستاذية من جانب اليساريين، وكأنهم هم وحدهم من يفهم في الحريات والحقوق والديمقراطية والتقدمية، وغيرهم محتاج دائما إلى أن يتعلم منهم، ويخضع لشروطهم، ويقدم بين أيديهم، دائما، ما يشهد لهم بصفاء النية وحسن السلوك، وقد يرضون، وقد لا يرضون!

وبعد، فعندما نرى معارضي الدولة المخزنية على هذه الحال من التشتت والفرقة والتيه في الصراعات الإيديولوجية الصماء، فإننا يمكن أن نفهم كثيرا لماذا لا يزداد الاستبداد في حياتنا السياسية إلا تسلطا وتحكما وتشددا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.