الخميس، 3 فبراير 2022

مراجعات في الفكر والسياسة(11)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مراجعات في الفكر والسياسة(11)

 

إخواني أخواتي، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته؛

لقد بدا لي اليوم أن أستأنف الكلام بعد سكوت دام وقتا طويلا. وسبب هذا السكوت الطويل، باختصار وبساطة ووضوح، أني ظننت أن الكلام مني قد بلغ درجة خشيت معها أن أقع في التكرار، وألا يكون مني جديد أفيد به من يهتمون بآرائي ويتابعون مقالاتي.

الجو السياسي السائد يمتاز بالجمود والاختناق واستمرار اشتداد القبضة الحديدية في مواجهة المعارضين، الثوريين والإصلاحيين، وخنق الأنفاس في مجالات حرية الرأي والتعبير والتنظيم، وخاصة بعد عواصف الربيع العربي، وما تلاها من ترميمات مخزنية في المشهد السياسي، ومن خلط للأوراق وإعادة ترتيبها بما يفتل في حبل الاستبداد، ويُبقي على سيطرته على كافة مناحي المناشط السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لقد قضى النظامُ وطرَه من حزب "العدالة والتنمية"، المحسوب على "الإسلاميين"، بعد أن أكل الثومَ بفمِه، وهوى بمصداقيته في قاع الحضيض، ثم رمى به في الهامش ذليلا حقيرا. ويظهر بجلاء أن الحزب لم يعتبر بما وقع، وما يزال يعبر عن استعداده لخدمة الدولة المخزنية، مصرا على أن اختياره السياسي، وخاصة في عشر السنوات الأخيرة، كان ناجعا!! ويمكن ههنا الاستئناسُ بما كتبته، سنة 2017، في مقالة بعنوان "ومنْ لا يكرّمْ نفسَه لا يكرّمِ"[الرابط: https://majdoubabdelali.blogspot.com/2017/03/blog-post_29.html]، وفي أخرى، في نفس السنة، بعنوان: "هل بقي للعدالة والتنمية من مصداقية سياسية؟"[الرابط:

https://majdoubabdelali.blogspot.com/2017/03/blog-post.html]

أما المنابر السياسية والإعلامية المحسوبة على النظام، بصورة مباشرة ناصعة أو بصورة مقنَّعة مموَّهَة، فما تزال على طريقتها في النيل من المعارضين، من كل المشارب والاتجاهات، راكبة كل السبل إلى حد الإسفاف والبذاءة والتزوير والتضليل، مستغلةً هذا التطور الهائل الهائج المائج الحاصل في مجال المعلوميات وتكنولوجيا التواصل، وخاصة فيما بات يعرف بشبكات التواصل الاجتماعي، موظفةً جيوشا من هذا الذباب الإلكتروني، الذي يتغذى من القاذورات والسفالات وغيرها من إفرازات النفوس المريضة ونُفاثات الضمائر الخربة.

وفي مقابل السلطوية المخزنية، ما يزال المعارضون، على اختلاف فصائلهم وتباين إديولوجياتهم، يصارعون، أولا من أجل البقاء، ويناضلون، ثانيا، من أجل توسيع النَّقْب في الجدار السميك الذي بناه المخزن، منذ عهود، للحيلولة دون وصول صوت الحق والحرية والعدالة إلى جمهور المواطنين، ويسعون، ثالثا، من أجل مدّ جسور التعارف والتفاهم فيما بينهم، لإيجاد صيغ مقبولة لمواجهة الاستبداد والفساد.

والحقيقة أني لم أعد أسمع من أصوات هؤلاء المعارضين الآن إلا صوت "جماعة العدل والإحسان"، وصوت "حزب النهج الديمقراطي"، وصوت بعض الأفراد الفضلاء. أما الآخرون، في غالبيتهم، فإما أنهم غارقون في مشاكلهم الحزبية الضيقة، وأنانياتهم المستعلية، وخطاباتهم العدمية، وإما أنهم طامعون في الاستفادة مما يفتحه المخزن من ثقوب في جداره السميك للتهوية والتلهية وتدجين النخب.

هذا هو ملخص رؤيتي للمشهد السياسي؛ استبداد وفساد خانقان من جهة، ومحاولات من أجل الانعتاق وحق العيش في مجتمع الحرية والعدالة والكرامة في الجهة المقابلة، لم تزل السلطوية تحاصرها من كل الجهات.

أرجع، بعد هذا التقديم، إلى سياق "المراجعات".

دعاني إلى الرجوع إلى الكتابة اليوم، واستئناف كلامي على "المراجعات" في الفكر والسياسة، التي بدأته منذ سنوات، بعضُ الانطباعات والملاحظات التي طافت بنفسي وأنا أتابع تدخلات السيدة والسادة الأساتذة، الذين شاركوا في الجلسة الأولى من الندوة الحوارية، التي نظمتها جماعة العدل والإحسان، يومي السبت والأحد 11 و12 من شهر دجنبر الماضي، بمناسبة الذكرى التاسعة لوفاة الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، رحمه الله، والتي اختير لها عنوان "المغرب وسؤال المشروع المجتمعي".

شارك في هذه الجلسة الحوارية الأولى، التي دار موضوعها حول قضية "الدولة والحكم"، من خارج الجماعة الأستاذ "أبو بكر الجامعي"، من فرنسا بواسطة الفيديو عن بعد، والأستاذ عبد الله الحريف، من حزب النهج الديمقراطي، حضوريا، فضلا عن مسير الجلسة الأستاذ "عبد الرحمن خيزران"، والأستاذة "أمان جرعود"، من داخل الجماعة.

وقد لاحظت أن المتكلمين كانوا، على العموم-إذا استثنينا بعض الاختلافات البسيطة- متفقين على أسباب الأمراض والمعوقات التي تعانيها حياتنا السياسية، وفي مقدمتها الاستبداد والفساد. كما لاحظت أن الجميع، تقريبا، بغض النظر عن الزاوية التي ينظر منها كل واحد منهم، كانوا متفقين على مبادئ الدولة المنشودة وخصائص نظام الحكم المطلوب.

لقد رجع بي ما دار في هذه الجلسة من آراء واقتراحات، إلى موضوع "المراجعات"، في المنهاج السياسي لجماعة العدل والإحسان، الذي كتبت فيه مجموعة من المقالات، جمعتُ معظمَها، فيما بعد، وبالتحديد سنة 2019، في كتاب بعنوان "مراجعات في الفكر والسياسة".

والسياق هنا يفرض عليّ التذكيرَ ببعض الأمور.

لقد ذكرت، في إحدى مقالاتي عن هذه "المراجعات"، أن من الأسباب الرئيسية التي كانت وراء اختلافي مع إخواني في جماعة العدل والإحسان، أني كنت أرى رأيا، ثم تجرأت، في يوم من الأيام، على التعبير عنه بكل وضوح، شفويا وكتابيا-وسأنشر هذه المكتوبات في الوقت المناسب، إن شاء الله؛ لقد كنت أرى وجوبَ الفصل في شخص السيد المرشد، رحمه الله، بين ما هو إيماني تربوي إرشادي ثابت، وبين ما هو اجتهادي سياسي ظنيّ متغير. لكن إخواني لم يكونوا-وأعتقد أنهم ما يزالون-يرون تمييزا بين التربوي والسياسي في شخص المرشد، بل كانوا يعتقدون أن الأمرين، التربوي والسياسي، إنما هما وجهان لعملة واحدة، ومن ثَمَّ، فلا مكان عندهم لمراجعة أو انتقاد اجتهادات المرشد وآرائه السياسية.

ومضت أيام وشهور وسِنون، وها هي ذي الجماعة اليومَ تَقْبَلُ، مُكرَهَة وعلى استحياء-وسأشرح لماذا على استحياء-بإعادة النظر في هذه المسألة-مسألة العلاقة بين التربوي والسياسي-وتتحدثُ بالعبارة الصريحة، على لسان بعض قيادييها ومسؤوليها، لا سيّما في الدائرة السياسية، بوجوب فصل القضايا الإيمانية عن القضايا السياسية، وأن السياسة، تنظيرا وممارسة ونضالا، ميدان له خصوصياته وقواعده وفنونه وأساليبه ولغته، وخاصة حينما يتعلق الأمر بالتواصل مع الآخر ومحاورته ومحاولة التفاهم معه.

 قلت قَبِلت الجماعة إعادة النظر في هذا الأمر "مكرهة" و"على استحياء"، لأن الواقع السياسي المعقد-بطبيعته-فرض عليها ذلك، حتى يتسنّى لها التنفسُ والتخلصُ من ربقة "الإيديولوجيا الحزبية" الخانقة. فههنا وجهُ الإكراه. أما القبول "على استحياء"، فلأن أدبيات الجماعة، في منهاجها السياسي، المكتوبة والمنشورة، ما تزال على ما كانت عليه، من غير أن يمسها تعديل أو تغيير. وكأن هناك ترددا لدى الجماعة في إعلان هذه المراجعة، صُراحا بَرَاحا، وهذا الإعلان من الجماعة سيعني، من بين ما يعنيه، أن اجتهاداتِ الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، رحمه الله، السياسيةَ إنما كانت مظروفة بظروفها، وأنه، رحمه الله، كان مجتهدا لزمانه، وحسب ما كان يلابس هذا الزمان من فلسفات ونظريات وصراعات وإيديولوجيات، وأيضا حسب ما كان متاحا في هذا الزمان من اختيارات ووسائل وإمكانات. ويعني، أيضا من بين ما يعنيه، أن بعض ما كان صالحا من رؤى واجتهادات وتنظيرات، قبل خمسين عاما، لم يعد صالحا اليوم، وحقُّه أن يراجع ويُطوّر ويعاد فيه النظر.

قلت إن الجماعة قبلت "على استحياء"، لأن من شأن المستحيي الترددَ والإبطاءَ وعدمَ الإقبال دفعة واحدة.

يا عباد الله، أنا أتكلم في صميم الفكر السياسي، فافهموا مقالتي، يرحمكم الله.

تتمة الحديث في تدوينة جديدة، إن شاء الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.