الخميس، 10 فبراير 2022

مراجعات في الفكر والسياسة(13)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مراجعات في الفكر والسياسة(13)

 

توضيحات مركزة

أريد أن أتقدم بهذه التوضيحات، لوضع النقط على بعض الحروف، حتى يعرف بعض القراء، الذين يتساءلون عن الغاية من وراء رجوعي إلى الكلام على موضوع "المراجعات"، أني أتكلم، أولا، لأني صاحب رأي حر، ومن حقي أن أعبر عن هذا الرأي، يقبله من يقبله، ويرفضه من يرفضه، ويُعْرض عنه من يُعْرض؛ فلماذا يتضايق بعضُ الناس من آراء بعض الناس؟

وإني أتكلم، ثانيا، في موضوع "المراجعات" وفي غيرها من الموضوعات، وغرضي من كل ذلك، في تقديري، أن أشارك، من جهتي وبطريقتي، في النقد والتقويم والتصحيح والبناء، وقد أصادف بعضَ الصواب وقد أخطئ. وإني لا أهتمّ بمن يشكّك في نيتي وهدفي من وراء ما أرى وأكتب، لأني تعودت على مثل هذه الاتهامات، التي لا تستند إلى شيء سوى الرجم بالغيب، والثرثرة الخالية من أي معنى. وإني أعرف أن من هؤلاء الذي يروجون مثل هذه الثرثرات الفارغة مَنْ لا يحلو لهم صيدٌ إلا في الماء العكر، وأن منهم مَنْ له مآربُ أخرى من وراء هذه التُّرّهات، والله أعلم بنيات العباد.

والغرضُ من تركيزي، في هذه المراجعات، على "المنهاج السياسي" لجماعة العدل والإحسان، يمكنُ تحديدُه في نقطتين رئيستين: الأولى هي أن منهاج الجماعة عموما، ومنهاجَها السياسيَّ خصوصا، هو منهاج معروض على الناس، كلِّ الناس، ومن ثَمَّ، فهو مُعرَّض للنقد، مثله مثل أي فكر أو اجتهاد أو نظرية، لا يدعي له أصحابُه العصمة والتنزه وقولَ الحقيقة النهائية المطلقة. وقد قيل قديما: "مَنْ صَنَّفَ فقد اسْتَهْدَف"، و"استَهْدَفَ"، بالبناء للمعلوم، أي أصبح منتصِبا لرماية النقاد.

والنقطة الثانية هي أن جماعة العدل والإحسان، اليوم، في تقديري، هي التنظيم الإسلامي الوحيد الذي ما يزال له صوتٌ مسموع، ومنهاجٌ مقروء، ومصداقيةٌ معتَبَرة، وزئير محذور في الساحة، بعد أن اختفى، أو كاد، صوتُ الآخرين؛ فماذا بقي من "البديل الحضاري"؟ وماذا بقي من "حزب الأمة"؟ بل ماذا بقي من "حركة التوحيد والإصلاح"؟ بعد صولات القمع والمنع والإخضاع والتدجين المخزنية. أما "حزب العدالة والتنمية"، فلم يُبْقِ منه الطاحونُ المخزنيّ إلا الأشلاء، التي لا يمكن التعويل عليها، على الأقل في المستقبل القريب، في بناء اللحمة الإسلامية، والتصدي لسطوة الاستبداد والفساد.

ففي تقديري، ما تزال جماعة العدل والإحسان، رغم محن القمع والمنع والحصار والملاحقات الظالمة-ما تزال مَرجُوَّة ليكون لها فعلٌ قويّ ومؤثر في مشروع التحرر والانعتاق من قبضة السلطوية الخانقة، مع سائر الفضلاء المخلصين من التيارات الأخرى، التي تسعى من أجل دولة الحق والقانون والحريات والمؤسسات المسؤولة.

وما أحوج الطلائع، في كل زمان، إلى التقويم والنقد والتمحيص.

وأرجع، بعد هذه التوضيحات، إلى سياق الحديث عن المراجعات.

هل "المرجعية الإسلامية" خط أحمر في الحوار مع الآخر؟

لا أقول إن على الجماعة اليوم أن تتكلم مع الآخر بلغة القوة والثقة والحسم، كما تكلم الأستاذ المرشد، رحمه الله، في حواره مع الفضلاء الديمقراطيين، حينما قال، بلا تردد ولا تلعثم: "المستقبل إسلام يا قوم!(...) وإنه دائما الإسلام أو الطوفان. خاطبنا من يعلم أن للكلم معنى، وأن بعد اليوم غدا. والله المستعان."(من مقدمة الطبعة الأولى من كتاب "حوار مع الفضلاء الديمقراطيين"، ص7-8)

ولا أقول إن عليها أن تتكلم إلى "الفضلاء الديمقراطيين" بما تكلم به الأستاذ المرشد حين قال: ""نحن نريد أن نسمع من المثقفين من ذراري المسلمين كلمةً صريحة واضحة معلنَة أنهم مسلمون. وإذاً فلا أرضية تجمعنا، ولا بساط يسعنا إلا الإسلام.

"قد يحاول أحدُهم أن يتفلّت مما يُلزمه به اعترافُه أنه مسلم، فيجرنا إلى أرضية الوطنية، وبساط المصلحة العامة. وما هي إلا اللائكية تدافع عن مواقعها."(ص32 من الكتاب السابق)

في اعتقادي، لقد قال الأستاذ المرشد، رحمه الله، ما قاله، في حواره مع الفضلاء الديمقراطيين، بلغة رجل الدعوة، أولا وأساسا، قبل رجل السياسة، لأنه، رحمه الله، كان يعلم أن للسياسة رجالها ونساءها وقواعدها ولغتها وضروراتها وإكراهاتها وأساليبها، في الكر والفر، وفي الحوار والنقاش والتفاهم والتفاوض.

همّ رجل الدعوة الأول والأخير أن يهتديَ الناس ويتوبوا إلى خالقهم. وهذا الهم نقرأه جليا في دعوة الأستاذ المرشد، رحمه الله، للفضلاء الديمقراطيين قائلا: "هلموا يا إخواننا المسلمين الفضلاء الديمقراطيين إلى الكلمة السواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.(ًص88)

الدعوة، في جماعة العدل والإحسان، هي الأصل؛ هي النهر العظيم الجاري إلى مصبه، لا يرجع إلى الوراء، ولا تحبسه عن الاندفاق زمجرةُ الرعود، ولا يوقفه عن الجريان قصفُ الرياح وهبوبُ العواصف. هذا هو الأصلُ الذي تكاد تطمسُ معالمَه وتُذهب رونَقه مَخَاوِضُ السياسة وأحابيلُها وتشعباتُ دروبها.

ولا ينبغي أن يُفهم من هذا الكلام أن لا اتصال، مطلقا، بين الدعوة والسياسة، وإنما المقصود من كلامي أن قواعد السياسة وميدانَها ولغتها وأساليبها هي غير قواعد الدعوة وميدانِها ولغتها وأساليبها، وإن كان بين الاثنين جسور واتصال.

فعلى طاولة الحوار السياسي، مخاطبةُ الآخر "اللاديني"[أقصد بـ"اللاديني" هنا مَنْ يقول: "لادين في السياسة"، وإن لم يكن ملحدا] بلغة الدعوة الصريحة القاطعة، ابتداءً، هو حُكمٌ مُبْرَمٌ على الحوار بالفشل، لأن "الإيديولوجيا" و"السياسة" لا يلتقيان على طاولة الحوار الجاد، وإن هما التقيا، فلا يكون من لقائهما إلا التنافر والتدابر والتصارع.

وأنا هنا أستعمل مصطلح "الإيديولوجيا" بمعنى الأصول والثوابت والقيم، التي يكون بها قوامُ المعتقدات والفلسفات والمذاهب والنظريات. وبهذا المعنى، يمكن اعتبار عقائد الإسلام ومبادئه وشرائعه وأحكامه وآدابه وأخلاقه قوامَ "إيديولوجيا" المسلم الملتزم. وقِسْ على هذا "إيديولوجيا" الملحد، واللائكي، واليساري الاشتراكي، والليبرالي الديمقراطي، وغيرهم من أصحاب النِّحَل والمشارب والانتماءات.

ففي رأيي أن لغة الحوار السياسي، الذي يُراد له أن يصل إلى نتيجة بناءة، تتنافى مع لغة الاشتراطات المسبقة، ومِن ثَمّ، فإن وضعَ المرجعية الإسلامية شرطا سابقا لبدء الحوار مع الآخر اليساري، مثلا، هو من قبيل إغلاق باب الحوار قبل بدئه، ولنا من تجارب الواقع أمثلة كثيرة تؤكد هذا الرأي.

فالمراد من أي حوار جاد ومسؤول أن يصل المتحاورون، أولا، إلى مد جسور التفاهم والتعارف، ونسج الثقة المتبادلة، ثُم البحث، ثانيا عن نقط التلاقي والاتفاق، وتأجيل نقط الافتراق والاختلاف، ثُمَّ، النظر، ثالثا، في الصيغ الممكنة والأساليب المتاحة لبدء نوع من العمل المشترك لتفعيل المشترك المتفق عليه، ووضع الآلية المناسبة لحصر نقاط الخلاف وتدبيرها، بعيدا عن "الإيديولوجيا" الصماء العمياء، وتغليبا للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، واستشراف آفاق المستقبل بدل البقاء في قوقعة الماضي واجترار "حزازات" أيام زمان.

والذي أعرفه بالمعايشة والتجربة أن جماعة العدل والإحسان، منذ قررت فتح باب التواصل والتحاور مع الآخر، لم تشترط قطّ المرجعية الإسلامية لبدء هذا التواصل والتحاور، وإن كان همُّ الدعوة عندها حاضرا لا يغيب. وقد شاركت أنا شخصيا في عدة لقاءات من هذا النوع، وأشهد أنه لم يكن هناك من جانب الجماعة اشتراط سابق، ولكن، مع الأسف، الاشتراطات كانت تأتي من الآخر، وما تزال.

وإغناء لهذا الحديث، سأعيد نشر بعض ما كنت كتبته فيما له علاقة بموضوع الحوار بين "الإسلاميين" و"اليساريين".

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.