الاثنين، 7 فبراير 2022

مراجعات في الفكر والسياسة(12)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مراجعات في الفكر والسياسة(12)

 

(ربّ اشرحْ لي صدري، ويسّرْ لي أمري، واحلُلْ عقدة من لساني يفقهوا قولي).

اللهم إني أعوذ بك أن أغلُوَ في قول أو عمل، أو أتطرف في فكر أو مقالةٍ، أو أتشدد في رأي أو عبارة.

اللهم إني أعوذ بك من كل جدل عقيم، وكلِّ مِحالٍ وبيل. اللهم آمين.

"أدبيّاتٌ" منسوخة

رأيتُ في المقالة السابقة أن جماعة العدل والإحسان باتت، اليوم، تسير، مُكرَهَة وعلى استحياء، في طريق "مراجعة" الأدبيّات المكتوبة والمنشورة، التي يقوم عليها منهاجها السياسي، وعندنا في بعض تصريحات قيادييها ومسؤوليها ما يقوّي هذا الرأي.

ومع ذلك، فإن الجماعة، ممثَّلَة في قيادتها، لا تجرؤ على التصدي، بشجاعة وصراحة، لموضوع علاقة الإيماني التربوي بالسياسي الاجتهادي في تراث مرشدها الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله؛ هذا التراث الذي يشكل روحَ "أدبيّات" الجماعة وعمودها الفقري.

وللتذكير، فإن مما تمتاز به هذه الأدبيات أنها، أولا وأساسا، لم تكن وليدة تشاور جماعي، أو نقاش في مجلس تأسيسي، أو توافق بعد تحاور وتبادل للرأي، وإنما كانت وليدة اجتهاد رجل واحد هو الأستاذ المرشد، رحمه الله، مع حفظ ما كان للرجل من سابقة وفضل، تربية وعلما وفهما.

وتمتاز هذه الأدبيّات، ثانيا، بـأنها تقوم، في جوهرها، على اجتهاد الأستاذ المرشد في فقه حديث الخلافة الثانية؛ وفي هذا الاجتهاد الفقهي أن "الخلافة الثانية على منهاج النبوة" هي حتميةٌ لا ريب فيها، ووعدٌ من الله غير مُخْلَف. ويسبق هذه الخلافةَ الحتمية الموعودة إقامةُ "الدولة الإسلامية القطرية"، التي تأتي بها "قومة إسلامية"، يشعل شرارتَها زحفٌ يكون في طليعته "جماعة المسلمين"، تربيةً وتنظيما. أما "الميثاق الإسلامي"، في أدبيات الجماعة-نتذكر أن هذه الأدبيات هي من بنات أفكار الأستاذ المرشد، رحمه الله-فزمانُه بعد القومة وليس قبلها.

وههنا وضْعٌ يظهر أنه غريب وشاذ؛ من جهة، هذه الأدبيات/الثوابت/الأسس في منهاج الجماعة السياسي ما تزال هي هي في برامج التربية والتكوين والتأطير داخل الجماعة، ومن جهة أخرى، هذه الأدبيات غائبة في حوارات الجماعة مع الآخر خارج الجماعة، بل يظهر، في هذه الحوارات، وكأنها باتت أدبياتٍ منسوخةً بأدبيات جديدة. وكأن الجماعة، كما يزعم بعض خصومها، لها وجهان، وجهٌ داخلي خفيّ، ووجهٌ خارجي معلَن.

والذي أراه-والله أعلم-أن الأمر لا يتعلق بوجهين، وإنما هو وجهٌ واحد، إلا أن الالتباس حاصل من كون الجماعة، كما ذكرت، لا تجرؤ، "رسميا" وعلى الملأ، على الاقتراب من اجتهادات المرشد بمراجعة أو تعديل أو تبديل، وإن كانت، في الواقع، تسير في طريق هذه المراجعة، لأن النفس ما تزال مترددة في أمر علاقة العطاء التربوي بالاجتهادي السياسي في هذه الاجتهادات، وهو ما يعطي الانطباع بأن الجماعة ما تزال تقدم رجلا وتؤخر أخرى في شأن الحسم في هذه العلاقة، هل هي علاقة انصهار وتطابق، أم علاقة تمايز وانفصال، أم علاقة تلازم وتكامل، أم شيء آخر، وإن كنت متيقنا بأن في الجماعة قياديين ومسؤولين موقفُهم محسوم من هذه العلاقة منذ زمان لصالح التماهي والتطابق، وأن الاجتهاد السياسي للمرشد، عندهم، هو جزء لا يتجزأ من إشعاعه الإيماني التربوي.

المهم من كل هذا الكلام أن "المقولات الأساسية" في منهاج الجماعة السياسي(الخلافة الثانية، الدولة الإسلامية، القومة الإسلامية، جماعة المسلمين، الميثاق الإسلامي)، في حوارات الجماعة مع "الفضلاء الديمقراطيين"، أصبحت مُغَيَّبَة، بل باتت منسوخة بأدبيات جديدة.

ورأيي أن هذا النسخ والتجديد شيء إيجابي ومطلوب لو كان مسبوقا بإعلان صريح ورسمي، يطمئن الناس ويرفع الالتباس ويقطع ألسنة المرجفين المتربصين الصائدين في الماء العكر.

المراجعة والتجديد والتطوير مطلب ضروري وحيوي عند الأستاذ المرشد، رحمه الله

لماذا التردد والاستحياء؟

أين العيبُ في أن تراجعَ الجماعة بالتعديل والتطوير والتجديد المنهاجَ الذي وضعه الأستاذ المرشد؟

أين العيب في أن تعيد الجماعةُ النظرَ في اجتهادات مرشدها الفقهية والسياسية، وتجتهدَ في النظر إليها بمنظار الحاضر ومتغيراته ومستجداته، بمنظار التطور والتجدد والتغير، لا بمنظار الجمود والتقليد والسكون؟

أليس الأستاذُ المرشدُ نفسه، رحمه الله، هو القائل، مُعلِّما ومرشدا: "ما مِنْ إمام من أئمتنا الصالحين إلا ويقول لسانُ حاله ومقاله: افعلوا كما فعلت، واجتهدوا لزمانكم كما اجتهدت، وارجعوا إلى منبثَق العلم ومنطلَق الوحي كما رجعت"؟.(ص150 من الطبعة الأولى لكتاب "العدل")

أليس الأستاذ المرشد نفسه، رحمه الله، هو القائل، في لقاء كان معه ببيته بسلا سنة 1989، منبها ومحذرا من الانغلاق والجمود عند ما وصل إليه فكرُه واجتهادُه: "ما كان لي، وما يكون لي، وما ينبغي أن أزعم للناس وأن أدعوهم: هلمّوا، اتخذوا هذا الفكر وثنا، وقفوا عنده وتحجروا.

أليس هو، رحمه الله، القائل، في نفس اللقاء، حاثّا على التجديد والتطوير والإبداع: "على الناس، في زماني وبعد زماني، في هذه الجماعة وفي غيرها، أن ينتقدوا، وأن يحللوا، وأن يردّوا، وأن يأخذوا، وأن يطوروا، وأن يحوروا، فذلك ما أريده، وأرجو الله ألا يقف أحد معي أُحاجّه عند الله عز وجل إن اتخذ فكري وثنا وصنما."

يُتبع في مقالة جديدة، إن شاء الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.