السبت، 5 نوفمبر 2016

تغرُّبٌ وتبعيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

تغَرُّبٌ وتبعيّة

تذكيرٌ قبل المتابعة

أذكّر القارئ الكريم بأني كنت، سنة2013، قد كتبت رسالة، "إلى المُعجَبين بأدونيس من أبناءِ المسلمين وبناتهم"، وجعلتها، كما قلت، "تذكرة لكل مسلم يستشعر بين جوانحه حرمةً وقداسة لدينه، وينطوي في قلبه على محبة وتعظيم لنبيّه، صلى الله عليه وسلم،  لكنه منخدع باسم الأدب والشعر، وما ثَمَّةَ، في الحقيقة، شعرٌ ولا أدب، وإنما هي لافتاتٌ وأقنعةٌ ومظاهرُ خادعةٌ كاذبة، تنشَط من ورائها الإيديولوجيةُ الإلحادية المناضلة، من أجل أن يكون للإلحاد والزندقة سلطانٌ في المجتمع الإسلامي، وكذلك من أجل فرض التطبيع مع الكفر والجحود على ناشئة المسلمين، وخاصة على الشباب المُتعلِّمِ، المسحور بالإعلام العصري الجبار، المُخدَّر بخطابات الحرية والحقوق والتسامح، المجرورِ بالتيار الحداثي الهادر العارم الجارف إلى حضيض اللادينية، ووهدة الاستلاب والضياع والإمّعية".
وقد وصفتُ كلمتي في هذه الرسالة بأنها "رأيٌ من الآراء، وموقف من المواقف، كما أن لأدونيس وتلامذته وحوارييه من الملاحدة والجاحدين أراء ومواقفَ واجتهاداتٍ. كلمةٌ يقبلها الناس أو يرفضونها، بلا إكراه ولا إرهاب ولا تهديد. كلمةٌ قابلةٌ للنقد والنقض، لكن بالشروط والقواعد والأخلاق المحمودة المتعارف عليها، التي تحوّلُ النقدَ والنقاش إلى مائدة غنية يستفيد منها الناس، كلٌّ بحسب حاجته واستعداده واشتهائه، وقدرتِه على المضغ والسّوْغ والهضم."
وقلت فيها أيضا: "الملحدون الذين سيطلعون على مقالتي هاته، ستأخذهم العزة بالإثم، ومنهم من سيعمِد إلى رمْي المقالة وصاحبها-كما فعلوا مع مقالات لي سابقة-بكل ما تقع عليه نفوسُهم المريضة، وقلوبُهم القاسية، وأخلاقُهم السافلة، وضمائرهم الخربة، من أباطيل وافتراءات وتلفيقات وشتائم. لا يهم، فالمقصود هو أن تنكشفَ طوايا الملحدين الظالمين المندسّين وسط المسلمين، السائرين في الناس بالخطابات المسمومة والعقائد الفاسدة والإيديولوجيات القاتلة الحالقة، مُتستِّرين بلافتات الحداثة والحقوق والحريات. المهم أن ينفضحَ أمرُهم، ويظهروا لعامة المسلمين بوجوههم الحقيقية بلا أقنعة ولا ماكِيَاج."
يمكن للقارئ الكريم أن يقرأ نص هذه الرسالة كاملا، في جزأين، في جريدة "هسبريس"، على الرابطين التاليين:

أذكّر بهذا، ليعْلمَ القارئ الكريم أني، حينما أكتب عن أدونيس أو غيره من الملاحدة المناضلين، إنما أخاطبُ عامة المسلمين، الذين ما تزال عندهم غيرةٌ على دينهم، وعلى مقدسات دينهم، وأخص منهم، أساسا، أولئك الذين ما يزالون منخدعين بوعود الحداثيّة الخالبة، منبهرين بأضوائها البرّاقة، مسحورين بألاعيبها الباطلة، وخطاباتها المُغالِطَة.
فأنا، في هذه المقالات عن الحداثيّة اللادينية، أتصوّر دائما قُرّائي مِنَ المسلمين، لأن الإسلام الجامعَ بيننا يضمن لنا، على أقل تقدير، تواصلا وتفاهما، وإن تخلّلت هذا التواصلَ والتفاهمَ اختلافاتٌ، بل إن مِن حقّ القارئ، في هذه الحال، أن يكون عنده ملاحظاتٌ وانتقادات واعتراضات على ما يقرأ، لأني لا أدّعي لكلامي العصمة من الخطأ، ولا أراه، في أي لحظة، فوق النقد والمراجعة.
إني، يا قارئي الكريم، لا أنتظرُ تفاعلا، ولا تجاوبا، ولا تواصلا، ولا تفاهما، مِن قارئٍ مُلحد مناضل، لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، وليس في قلبه للإسلام وأهلِه إلا الحقد والكراهية ومشاعر السوء والبغضاء.
إني لا أطمع أنْ يفهم مقالتي، ويستوعبَ كلامي، مسلمٌ غافل جاهلٌ غارق في غوغائيَّته، لا تتحرك في قلبه شعرةٌ مِن غَيْرة أو غضب، وهو يقرأ ويسمع ويرى دينَه يستهزئ به المستهزئون، ويتآمر عليه المتآمرون، وينال مِن أركانه وشرائعه وآدابه الملحدون المناضلون الجاحدون الظالمون.
كما أني لا أتصور أن يكون هناك تجاوبٌ مع مقالاتي مِن ذراري الحداثيّين وأدواتهم، مِن "البلطجية" والمرتزقة مِن أهل البطالة والتفاهة، الذين ليس لهم من شغل إلا التسكع في قوارع الطرقات، في العالم الواقعي والعالم الافتراضي، والذين ليس لهم من عمل إلا السبّ والتجريح، والفجور في اللغة والتعبير، والوقيعة في أعراض الناس.

أيها القارئ الكريم، إني أكتب عن الحداثية الأدونيسية، لأبناء المسلمين وبناتهم، الواعين المنتبهين، والغافين المخدوعين، ليعرفوا مَنْ هو أدونيس؟ وما هي هذه الحداثيّة التي يدعو إليها المسلمين، في الفكر والأدب والنقد؟
أريد أن أبيّن للقارئ المسلم، بالنصوص الصريحة القاطعة، أن أدونيس الذي يقدّمه الإعلامُ الحداثي المهيمِن على أنه شاعرٌ عربي كبير، إنما هو ملحدٌ مناضل، همُّه، منذ ظهر أمرُه قبل نحو ستين سنة، أن يهدم، ويرفض، ويعبث، ويشكك، ويطعن، ويجرّح، ويفتري، ويكذب، ويزوّر، مِن أجل فرضِ مسلّمته الحداثيّة، التي يدّعي فيها أن الإلحاد كان أولَ شكلٍ للحداثة في تاريخنا العربي الإسلامي، وأن الخارجين على الإسلام، بكل طوائفهم ومشاربهم ومعتقداتهم واتجاهاتهم، كانوا هم المؤسّسين الحقيقيّين للحداثة، في الفكر والأدب، في تاريخنا الإسلامي.
عند أدونيس-وهذا ما سأبيّنُه بالنصوص الناطقة القاطعة في مكانه مِن بحثي-الإسلامُ لا يمكن أن يأتيَ منه خير، ولا يمكنُ أن يُنتج لنا فكرا ولا إبداعا ولا فنا جميلا؛ الإسلامُ، عند أدونيس، هو الشر، والعنف، والقتل، والتفنن في التعذيب، والإرهاب؛ وقد ظهر أدونيس بلا قناع في الحوار الذي دار بينه وبين (حورية عبد الواحد) -وهي، فيما أرى، من تلامذته وتابعيه المسحورين به-، والذي نُشر، بالفرنسية، عن دار "سويSeuilفي نونبر2015، في كتاب بعنوان "الإسلام والعنف".
في هذا الكتاب/الحوار نرى وجهَ أدونيس الحقيقي بلا قناع ولا طلاء ولا مساحيق، وجهَ الملحد المناضل، الذي يتطاول على كل مقدسات الإسلام، وفي مقدمتها الذاتُ الإلهية، تعالى الله وتنزّه وتعظّم وجلّ عمّا يصف الملحدون الظالمون، والضالون المكذبون.
في هذا الكتاب يتطاول الملحد أدونيس على الذات الإلهية بأصرح العبارات التجريحية، وبأعظم الأباطيل في حق الله، تعالى وتعظّم وتنزّهَ، فضلا عن الكذب والتلفيق والتخرّص، والقولِ في فهم آي القرآن وتأويلِها بالهوى وبما تمور به نفسُ الملحد مِن ظلام وكراهية للحق؛
فاللهُ، عند أدونيس-تعالى الله وتنزَّه وعلا على تجديفات المارقين-هو رأس الظلم، في عقائد المسلمين، وهو الجلاّد الذي لا يشبع مِن تعذيب الخلق وتقتيلهم، بل إنه يتفنن في هذا التعذيب والتقتيل، في سادية تجاوزت كلَّ الحدود.
لقد عمد الملحد أدونيس، في حواراته مع محاورته المأخوذة بباطله، حورية عبد الواحد، إلى آيات القرآن التي تُصور ما أعدّه الله للكافرين والمنافقين والظالمين من عذاب أليم، ليؤكد، من خلال ما تعرِضه هذه الآياتُ مِن صُور ومشاهد، على أن الله، سبحانه وتعالى، هو زعيمُ الإرهابيّين بما يعرضه القرآنُ مِن تفنن في قتل المُخالفين وتعريضهم لأشد أنواع العذاب. وعلى هذا، فإن القرآن الكريم، كما نفهم من سياق كلام أدونيس ومن إيحاءاته، هو مدوّنة إرهابية بامتياز، ومنها يستوحي الإرهابيون نموذجَهم وأساليبَهم وأهدافهم، وبها يهتدُون فيما يأتون مِن أعمال العنف والتكفير والقتل في حق المخالفين. وهذا كلُّه، في زعم أدونيس، يبيّن حقيقةَ أنّ العنفَ والإرهابَ صفةٌ راسخة في هوية الإسلام، وسمةٌ لا تنفك عن طبيعته وحقيقة عقائده وشرائعه؛ ولي عودة إلى هذا الكتاب في مناسبة مقبلة، إن شاء الله ويسّر.

بعد هذا التذكير الذي طال بعض الشيء-ومعذرة للقارئ الكريم-أرجع إلى متابعة حديثي، في فصل جديد، عن المدرسة الحداثية الأدونيسية.

تغَرُّبٌ وتبعيّة

التغرّبُ مِن الغرب، بما هو فلسفةٌ وحضارة ورؤيا وفكرٌ وتربية وتعليم، وليس بما هو أرضٌ وجغرافيا وجهةٌ وأممٌ ولغاتٌ. ومن معاني صيغة "فعّلَ" في العربية التوجّهُ والجَعْلُ والنسبةُ والإلحاقُ؛ نقول: غَرّبته إذا ألحقته بالغرب. وقد تُستعمل الصيغة لازمة بمعنى التوجه: فغرّبَ فلانٌ يُغرِّب، تعني اتجه نحو الغرب، وتُستعمل متعديةً، فتقول مثلا: غرّبَ الاستعمار كثيرا من الشعوب الإسلامية، أي ألحقها بالغرب وربطها بحضارته وجعلها دائرة في فلكه. ومن معاني صيغة "تفَعّل" المطاوعة؛ تقول: غرّبْتُه فتغَرّب، أي كان فيه استعداد ذاتي ليصبح مُغَرّبا.
ومفهوم التبعية، في مجالات الفكر والحضارة، لا ينفك عن مفهوم التغرّب؛ فالتبعية بالمفهوم الخلدوني(نسبة إلى ابن خلدون) إنما مرجعها الأساس إلى فقدان الاستقلالية والفاعلية، والتحول إلى مفعولٍ مُستقْبِل لا يملك إلا أن يسمع ويطيع، وإلى مغلوبٍ مأمور لا يملك، في حقيقة نفسه، إلا أن يتبع الغالب؛ و"النفس أبدا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه..."[1]

إن المفاهيم الاصطلاحية، وخاصة في ميدان العلوم الإنسانية، هي، في الغالب، مرتبطةٌ، في ميلادها، ارتباطا وثيقا بالبيئة الحضارية والفكرية والاجتماعية التي أنتجتها، وراجعةٌ إليها عند التحليل والتقويم، لا تكاد تنفك عنها في أي حال من الأحوال.
طبعا، هذا الرأي الذي أراه يخالفه ويرفضه كثير من المثقفين الباحثين في مضمار العلوم الإنسانية. لكن هذا الرفض، مهما كانت لغتُه وحدّته، وحججُه ومسوّغاتُه، فإنه لا يمكنه أن ينفيَ الواقع المعيش، بكل مظاهره وقضاياه وإشكالياته وعويصاته، الذي يؤكد، بالفكر والسلوك، حقيقةَ التبعية القاتلة التي يرزح في أغلالها جل مثقفينا بمختلف طبقاتهم وتوجهاتهم وتخصصاتهم ومدارسهم ومشاربهم. أما الاستثناء هنا، فهو مؤكد للقاعدة، ليس إلا.
وإذا كان بعضُ الأدباء والنقاد الحداثيّين لا يفتأون يؤكدون الطابعَ العالمي لـِ"الحداثة"، بما هي معطى أوربي أولا، ذو بعد إنساني يتجاوز الخصوصيات العرقية واللغوية والحضارية عموما، فإن منهم بعضا آخر لا يرضى لنفسه أن يكون تابعا، ويرفض أن يقال: "الحداثةُ العربية نسخةٌ أو تفرُّع عن الحداثة الغربية"[2]. بل منهم من يصر على دراسة الحداثة العربية بعيدا عن التأثير الغربي، بما هي "إشكالية عربية قبل أن تكون غربية…وأنها[أي الحداثة] نشأت في الغرب بتأثير من مسأليتها في الحضارة العربية، وهو الأمر الذي يتيح لنا طرح مسألة الحداثة الشعرية العربية وتقييمها استنادا إلى مقاييس مستمدة من إشكالية القديم والمحْدَث في التراث العربي نفسه."[3]
ومن التناقض أن يكون أدونيس، وهو على رأس أصحاب هذا الإصرار، هو نفسه الذي صرّح أكثر من مرة بأنه قد استفاد كثيرا، في بعض كتاباته وآرائه "الحداثية"، من المراجع الغربية، وهو نفسه الذي لا يكاد يتوقف، في كتاباته وأحاديثه ومحاضراته، عن الإحالة على الغرب وأعلامه من الفلاسفة والأدباء والنقاد. فهو، مثلا، في محاولته في تعريف الشعر الحديث[4]، يعترف بأنه يستقي كثيرا "من الدراسات التي كُتبت عن الحداثة في الشعر الأوربي."[5] كما يعترف بأنه اعتمد في كتابة دراسته "في قصيدة النثر"، بشكل خاص، على كتاب سوزان برنار
« Suzanne Bernard: Le poème en prose de Baudelaire jusqu'à nos jours ».[6]
إذاً، فالرفض والإصرار على التميز، في هذا الباب، إنما هو، في رأيي، من قبيل الشعارات الإنشائية والمواقف التي ليس وراءها كبير معنى، ليس وراءها إلا الأنا القومية والذاتية المستعلية، التي تأنف أن تشعر في لحظة من اللحظات أنها من جنس الآخر ومادته وروحه.
لكن هذه النفسيةَ المطبوعة بالإباء، والأنفة، والرفض، والتميز، والتعالي، لا تتعدى حيز الاستثناء من القاعدة الواسعة، التي يشغلها كثيرٌ من النقاد والأدباء والمفكرين، الذين لم يجدوا غضاضة في الاعتراف بالأصل الأوربي الغربي، والانتساب، في أفكارهم وآرائهم ومواقفهم في شأن "الحداثة"، إلى نظرياته، بما هو منبع الإشعاع والحقائق والفكر العالمي الحداثي.
يقول يوسف الخال، وهو من أعلام تيار الحداثيّة[7] الشعرية العربية إبداعا ونقدا، مؤكدا مرجعيته الغربية: "إن الحضارة الغربية هي حضارتُنا…ونحن لا قيمة لنا ولا مستقبل لنا، في العالم العربي، إن بقينا خارجها ولم نتبنها من جديد…إنها لنا ـ وهي نحن ـ بكل مآثرها وعيوبها، بكل قوتها وضعفها، بكل ما تضن به أو تعطيه للإنسان في جيلنا وفي الأجيال التالية."[8]
ويقول جبرا إبراهيم جبرا، وهو الآخر من أعلام الحداثيّة العربية، عن حركة الحداثة الشعرية، مقرا ومؤكدا أن التجديد قد جاءنا من هناك: "علينا أن نرى حركة الشعر العربي الجديد متصلة بحركة الفن الحديث بأوربا ـ أو قل في العالم كله ـ أكثر من أي شيء آخر بغير مواربة. فالتجديد قد جاءنا من هناك، ولا بد من الإقرار بذلك. لقد جاءنا التجديد كصورة نفسية، لا في الشعر وحده، بل في تفكيرنا السياسي والاجتماعي برمته…"[9]
ويضيف في الصفحة نفسها مبينا المرجعية الأوربية للمثقفين الحداثيين العرب: "…انبثق فتيةُ العرب المحدثون من تاريخ أمتهم، فانطلقوا بين أرجاء أوربا فكريا، ليعودوا بالتمرد ووسائل استعادة الحياة إلى الأرض الموات، على غرار أقرانهم في فرنسا وأنجلترا وألمانيا وروسيا."
وهذا غالي شكري، قيدوم منظري الحداثيّة الشعرية العربية ونقادها، يؤكد، هو أيضا، أن ثورة العالم الحديث، التي ولدت مفهوم الحداثيّة الشعرية إنما هي "ثورة عالمية، وإنْ قادتْها حضارةُ الإنسان الغربي."[10] وعن هذه الثورة انبثق ـ فيما يرى غالي شكري ـ "مفهوم الحداثة عند شعرائنا الجدد."[11]
بل نراه يذهب بعيدا في المبالغة في تقويم الحداثيّة الشعرية الغربية حينما يصف مستوى الشعر الغربي، الذي يقرر غالي شكري أن "حركة الشعر الحديث قد استلهمت حداثتَها منه"، بأنه "يمثل أرفع مستوى بَلغته الحضارة الفنية في العالم الحديث"[12].
كما يقرر، بلا تردد، وفي أكثر من موضع من كتابه، أن الحركة الشعرية الحديثة قد غيرت الاتجاه العام للشعر العربي، و"انعطفت به وجهة أخرى، هي بلا ريب وجهة الشعر الغربي الحديث."[13]
هذه أمثلة من اعترافاتٍ وشهادات ناصعةٍ على تَغرّب حداثيّينا وتبعيتهم للغرب؛ مقالاتٌ صريحة يعبر بها أصحابُها بوجه أحمر وبلسان مبين عن أن روحهم الحداثيَّ إنما هو من هناك، من الغرب.
ولننتقل الآن للحديث عن بناء الاصطلاح ومفهومه.

"الحداثيّة" و"الحداثة" صيغتان لمفهومين مختلفين
لقد اخترتُ كلمة "حداثيّة" ترجمةً عربية للمصطلح الأعجمي "مودِرْنِيزمModernisme"، وذلك لبيان المفهوم المذهبي، العقدي أو الفلسفي أو الأدبي الفني، الذي تؤديه اللاحقة "إيزمisme" في بناء اللغة الأجنبية الصرفي. وهذا الاختيار، في تقديري-وهو ليس من اختراعي، وإنما سبقني إليه آخرون[14]- يرفع الالتباس والخلط الواقع في كثير من الكتابات المعاصرة، التي تستعمل كلمة "حداثة" ترجمةً مطلقة لمصطلحين مختلفين، في اللغة الأجنبية، هما "Modernisme" و"Modernité".
أمّا "المودرنيزم" فلا ينفك مفهومُها عن المذهبية، في الدين أو الفكر أو الفن، أي أن وراء الصيغة اللغوية اعتقادا وتصورا ورؤية وموقفا، كالفرويديزم Freudisme، مثلا، والماركسيزم Marxisme، والبوذيزم Bouddhisme، والجودييزم Judaïsme، والإسلاميزمIslamisme، والسانبوليزمSymbolisme، والسورياليزمSurréalisme.
وأمّا "مودرنيتي" فينحصر مفهومها في الحداثة الزمنية التي تقابل القدم، وهي بهذا تشمل التطورات الإنسانية في العمران، والعلوم، والتكنولوجيا، والاتصالات، وغيرها من المجالات. وهذا المفهوم الزمني، في أصله، ليس مرتبطا بدين أو فلسفة أو فكر أو غيرها من المذاهب والمعتقدات، بل هو مفهوم يشمل الإنسان بما هو إنسان، مؤمنا كان أو كافرا، شرقيا أو غربيا، أفريقيا أو أوروبيا أو أسيويا.
وبناء على هذا الفرق الواضح بين مفهومي "مودرنيزم" و"مودرنيتي"، يسهل التمييز بين الوصفين المصوغين منهما؛ فالوصف من الأول، من مودرنيتي، هو "مُودِرْنmoderne"، ومن الثاني هو "مُودِرْنيستmodeniste".
إذن، فترجمة "مودرنيتي" و"مودرنيزم" إلى العربية بكلمة "حداثة"، بلا تحديد ولا تمييز، فيها خلط وتشويش ومغالطة. ولهذا، وتفاديا من كل غموض والتباس، فإني أميز بين "حداثة" و"حداثيّة"، فأجعل الأولى ترجمةً لمودرنيتي، بمفهومها المحصور في التطور الزمني، والثانية ترجمةً لمودرنيزم، لأن صيغة المصدر الصناعي[15] في العربية هي أنسب الصيغ لبيان مفهوم المذهبية، كالماركسية، والوهابية، والسلفية، والإسلامية، والنصرانية. ونقول في وصف شيء بالحداثة بأنه "حديث"، وبالحداثيّة بأنه "حداثي".
في مفهوم "الحداثيّة"
مهما كانت اجتهاداتُ الحداثيين العرب وإضافاتُهم وتفسيراتهم من أجل تثبيت "المودرنيزم" في ثقافتنا العربية الإسلامية، فإنهم لن يستطيعوا تجريدَ هذا المصطلحِ من مفهومه الذي اكتسبه في تربته الأصلية، التي نبت فيها وتطور ونضج. وهذا يعني، من بين ما يعنيه، أنْ ليست هناك، في مجال الإنسانيات والفلسفيات خاصة، مفاهيمُ كونية، كما يزعم الحداثيون، وإنما هي مفاهيم لا تنفك عن جذورها، وإن عبَرت القاراتِ، وتمّ التصرفُ فيها ببعض التعديلات والتهذيبات والتمويهات.
ومهما تكن النقاشاتُ والجدالات التي دارت، وما تزال تدور، حول هذا الموضوع ـموضوعِ تأثر المفاهيمِ والتصوراتِ أو عدمِ تأثرها حينما تُنقل مِن بيئتها الأم وتُزرع في بيئة أخرى مختلفةـ ومهما اختلفت وجهاتُ النظر وآراءُ الباحثين والمفكرين، فإن الحقيقة التي يشهد لها تاريخ تواصلِ الحضارات وتنافسِها وتدافعها وتغالبها، وكذلك الواقع الاجتماعي الفكري والسلوكي، هي أن المفاهيم والنظريات والتصورات، التي لها علاقة بالعقائد والأخلاق والفلسفات والتاريخ، لا يمكن أن تتجرد عن جرثومتها حينما يتم استنباتُها في أرض جديدة. والجُرْثومةُ، من معانيها في اللغة: الأصلُ والمصدر.
إنه لا "أممية" إذاً، في العقائد والفلسفات والأخلاق، وإنما هو التمايز والتباين والتّزايُل.
وأفتح هنا قوسا صغيراً لأوضح أن الشعوب غيرَ الإسلامية، مثلا، لا تؤمن بالصفة العالمية لرسالة الدين الإسلامي، فضلا عن عدم إيمانها، أصلا، بالإسلام دينا قيّما، ورسالةً خاتمةً بعث بها الله، عز وجل، خاتم النبيئين والمرسلين محمدا، صلى الله عليه وسلم. هذا مع إيماننا، نحن المسلمين، بقوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)[16]، وإيماننا بأن الله، تعالى، أرسل سيدنا محمدا رسولا ورحمة للعالمين: (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا)[17]، (وما أرْسلْناك إلاّ رحمةً للعَالمين)[18]، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُومِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[19].
إن مغزى هذا التوضيح أن عالَميةَ رسالةِ الإسلام، في اعتقادنا نحن المسلمين، لا يمكن أن نُلزم بها غيرَنا من غير المسلمين، ولا أن نفرضَها عليهم قهرا وسطوة وغلبَةً، إلاَّ دعوةً بالحكمة والموعظة، وجدالا بالتي هي أحسن.
فإذا كانت هذه الحقيقة تنطبق على دين الإسلام خاتمِ الرسالات السماوية، فالأحرى أن تنطبقَ على النظريات والفلسفات الوضعية التي منشؤها تفكيرُ الإنسان، وذوقُ الإنسان، وتأمّلُ الإنسان، وقصورُ الإنسان، وضعفُ الإنسان؛ في جملة، منشؤها الإنسانُ في نسبيةِ قدراتِه ومحدوديّة طاقاته.
إننا، بالطبع، لا نناقش هنا حقيقةَ كونِ الأفكار، كلِّ الأفكار، حينما تنتقل مِن تربتها الأصلية، لا بد أن تتأثر، قليلا أو كثيرا، في السطح أو في العمق، في الزمن القصير أو الطويل، بخصائصِ الأرض الجديدة، في العادات والأعراف، والموروثات والأذواق، والسلوكات والأفكار، إلى آخر ما يميز هذه الأرضَ الجديدةَ المُسْتَقْبِلَة تاريخا وحضارة وتقاليد.
إذن، فالحديثُ عن المفاهيمِ والتصورات ذاتِ البعد الإنساني، التي تزول معها حدودُ الحضارات وخصائص الشعوب والمجتمعات، ولا تتميز فيها المعتقداتُ والمشاربُ والأهواء، هو، في اعتقادي، مِن الأحاديث التي لا يكون لها معنى إلا في دائرة الموضوعات التي يستوعبها العقلُ الإنساني "العلومي"، أو العقل "المعاشي" المشترك[20]"[21].
فالحداثيّة، في نسختها العربية المتداولة اليوم بين معظم الكتاب والمثقفين، لا تُخفي أصلَها الغربي، بل إن هذا الأصلَ بات يفرض نفسَه مرجعا كونيا، وبديلا ناسخا للأصول الموروثة، التي يشكل الدين مركزَ مدارها.
وللبحث تتمة في المقالة القادمة، إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مراكش: 04 نونبر2016





[1]  من الفصل الثالث والعشرين من مقدمة ابن خلدون.
[2] "الحداثة، السلطة، النص"، لكمال أبو ديب، مجلة فصول، المجلد الرابع، عدد3، أبريل، ماي، يونيو، 1984، ص34.
[3] بيان الحداثة، لأدونيس(علي أحمد سعيد)، مجلة "مواقف"، العدد36، شتاء 1980، ص148،149. قارن بـِ"فاتحة لنهايات القرن"، للمؤلف نفسه، ص328،329.
[4] وهي دراسة كان نشرها أول مرة في مجلة "شعر"، العدد11، السنة3، صيف 1959، من ص79 إلى ص90.
[5] زمن الشعر، ص8.
[6] اُنظر مجلة "شعر"، العدد14، السنة4، ربيع 1960، ص75، هامش رقم(1).
[7] سأتحدث لا حقا عن الفرق بين صيغتي "حداثة" و"حداثيّة"، صرفيا ودلاليا وإيديولوجيا.
[8] مجلة "شعر"، عدد15، ص138،139.
[9] الرحلة الثامنة، ص8.
[10] شعرنا الحديث…إلى أين؟، ص114.
[11] نفسه.
[12] نفسه، ص113.
[13] نفسه، ص112.
[14]  اقترح كمال أبو ديب ترجمة Modernismeبـِ"الحداثية"-وهو اختياري- مع أنه حاول استعمال صيغ أخرى، كالاستحداثية، والتحديثية، والمُحدثية. واختار ترجمة Modernité بـِ"الحداثة". راجع دراسته "الحداثة، السلطة، النص"، في مجلة فصول، المجلد الرابع، عدد3، أبريل، ماي ،يونيو، 1984، ص36.
ونجد محمد برادة في المرجع نفسه، في دراسته "اعتبارات لتحديد مفهوم الحداثة" يختار ترجمة La modernité بـِالحداثة، وLe modernisme بـِالعصرية(ص12). ومن الباحثين العرب من يقصد إظهار المعنى الاصطلاحي المذهبي للفظة الأجنبية Modernisme(مودرنيزم) باستعمال عبارة "إديولوجيا الحداثة" أو عبارة "المذهب الحداثي". انظر مقال محمد جمال باروت "الحداثة والعقلانية في منظور نقدي"، من ملف "نقد الحداثة"، في مجلة "الآداب" اللبنانية، عدد11/12، سنة 46، ص24.
[15]  المصدر الصناعي هو من أنواع المصادر في العربية، وتكون صياغته بزيادة ياء مشددة بعدها هاء، كالوطنية، والإنسانية، والرأسمالية، والصبيانية.
[16]  من الآية 19 من سورة آل عمران.
[17]  النساء/ من الآية 78.
[18]  الأنبياء/ 106.
[19]  الأعراف/ 158.
[20] يُراجع في موضوع العقل "العلومي" والعقل "المعاشي" كتاب "محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى"، للأستاذ عبد السلام ياسين.
[21]  راجع مدخل الباب الأول "الحداثية الغربية وتوابعُها" من كتابي "المودرنيزم وصناعة الشعر"؛ فقد تناولت في هذا المدخل مسألة "استنبات المفاهيم وترجمة المصطلحات".