الأحد، 13 نوفمبر 2016

الحداثيّة الغربية والمثقف العربي المُغَرَّب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحداثيّةُ الغربيّةُ والمثقف العربيُّ المغَرَّب


كيف عالج المثقفُ العربي-وأدونيس ومَنْ لفّ لفَّه وسار على دربه مثالٌ لهذا المثقف المُغرّب-المأخوذُ بالحضارة الغربية، المترجمُ عنها، في الصغيرة والكبيرة، هذا الإشكالَ الحضاري؟
كيف حلَّ المثقفُ العربيُّ المغرَّبُ هذا الاختلافَ الجذريَّ الحاصلَ بين حضارة الغرب وحضارة الإسلام؟
لقد عالَجه بالترجمة الحرفيّة، في غالبيّة الأحوال-على الرغم مِن الاختلاف الحضاري، واللغوي، والنفسي، والتاريخي، والعقدي-وبالتعديل الطفيف والتكييف المناسب في نادر الحالات. وليس، ههنا، مكانُ معالجةِ مثلِ هذا الموضوع.
لقد ترجم المثقفُ المُغَرَّبُ عن الحداثة الغربية، بخلفياتها وسياقاتها التاريخية والفكرية، ليس له مِن عُدّة ولا مستند مِن تاريخ، ولا تطور حضاري، ولا واقع اجتماعي معيش، إلا أفكارُه هو، وثقافتُه، وتربيتُه وتعليمُه، ومنظارُه الشخصي، فجاءت ترجمتُه سابحةً في وادِي تبعيتِه وانبهارِه، بل وثقته وتعلقِه بمصدره الغربي، بينما الواقع العربي الإسلامي، بجماهير شعوبه المسلمة، على كل حال، يسبح في واد آخر، تطبعه المعاناة، والمخاضُ، والاصطراع؛ واقعٌ يتم القفز عليه، وفي بعض الأحيان تشويهُه وتطويعه، لبناء أطروحات ونظريات، وتحليلات واستنتاجات، ومذاهب، وآراء، لا تتعدى أسوار الأفكار، أسوارَ الثقافة النظرية الكلامية، أسوارَ التجريد الذهني، أسوارَ الخيال والأوهام والأحلام.
وهذا ما عاينه ونبّه عليه الأديبُ الباحث الحداثيُّ الدكتور كمال خير بك، حينما قال: "سوف يكون مِن الخطأ الزعمُ بأن الخلفية الثقافية للمجتمعات العربية قد تعرّضت لتحوّل مماثل [يقصد التحولَ الحاصل في الخلفية الثقافية الغربية، التي أنجبت التجربة الحداثية] قادر على ملء الفراغ الذي خلفته الوثبةُ الشعرية والفنية الحديثة وراءها."[1]
ويزداد كلامُه هذا وضوحا حينما نقرأ قولَه، في بحثه، عن شعرائنا الحداثيين: "إذا كانت مفهوماتٌ كالضياع والعبث واليأس والفراغ وما إليها تعتبر أفكارا وجودية شاملة ومسوغة أحيانا، فإنها قد ولّدت لدينا الانطباعَ بأن شعراءنا لم يصلوا إليها بالطريق الطبيعي، ومن خلال إطار حياتهم المحلية، وإنما بلغوها مِن خلال جسم مصطنع يمتد بين مَنفى عوالمهم الداخلية وعالَم نماذجهم الخارجية."[2]
ويقول ناقدٌ آخر في نفس المعنى، لكن بلفظ لا يخلو مِن تقريع وتجريح، وغلظة واتهام: "إن المتأمل في "الحداثة العربية"…لَيرى أن لاهوت التكوين فيها يقوم على لاهوت التعبد والتبعية للحداثة الغربية، مع قدر غير يسير مِن السرقة، لا الإبداع، وعدم الفهم، والتضليل…"[3]

ولْنقرأْ، فيما يلي، بعضَ العبارات، التي حاول بها أصحابُها مقاربةَ مفهوم الحداثة الشعريةـوهي محاولاتٌ لا تُخفي مرجعيتَها الغربيةَ الصارخة، بل إنها تشير باللفظ الصريح إلى الأصول التي انتهت إليها التجربةُ الحداثية الغربية. والفرق، طبعا، شاسعٌ بين مَن عانى، وعاش، وتشرّب، وبين مَن حفظ، ثُم تذكّر فاسترجَعَ ـ وسيكون لي تعليقٌ بسيط بعد سرد هذه العبارات/ النماذج:
ü    حركة الحداثة "هي في المقام الأول موقفٌ مِن الحضارة الإنسانية، مِن الله والوجود"[4]
ü    "الحداثة رؤيا جديدة. وهي، جوهريا، رؤيا تساؤل واحتجاج: تساؤل حول الممكن، واحتجاج على السائد."[5]
ü    "الحداثة، فنيا، تعني تساؤلا جذريا يستكشف اللغةَ الشعرية ويستقصيها، وافتتاحَ آفاق تجريبية جديدة في الممارسة الكتابية، وابتكارَ طرق للتعبير تكون في مستوى هذا التساؤل. وشرطُ هذا كلّه الصدورُ عن نظرة شخصية فريدة للإنسان والكون."[6]
ü    "الحداثة هي التغاير: الخروج مِن النمطية، والرغبة الدائمة في خلق المغاير."[7]
ü    "الحداثة، في هذا المنظور، هي الاختلاف في الائتلاف: الاختلاف ِمن أجل القدرة على التكيف، وفقا للتغيرات الحضارية، ووفقا للتقدم. والائتلاف مِن أجل التأصل والمقاومة، والخصوصية…"[8]
ü    "الحداثة انقطاعٌ معرفي، ذلك أن مصادرها المعرفيةَ لا تكمن في المصادر المعرفية للتراث، في كتب ابن خلدون الأربعة، أو في اللغة المؤسساتية، والفكرِ الديني، وكونِ الله مركزَ الوجود، وكونِ السلطة السياسية مدارَ النشاط الفني، وكونِ الفن محاكاةً للعالم الخارجي ـ الحداثة انقطاعٌ، لأن مصادرها المعرفيةَ هي اللغة البكر، والفكرُ العلماني، وكونُ الإنسان مركزَ الوجود، وكونُ الشعب الخاضع للسلطة مدارَ النشاط الفني، وكونُ الداخل مصدرَ المعرفة اليقينية ـ إذا كان ثَمّةَ معرفةٌ يقينية ـ وكونُ الفن خلقا لواقع جديد."[9]
ü    " الحداثة، في أبسط صورة لها، هي وعي الذات في الزمن."[10]
ü    "الحداثة هي جُرثومة الاكتناه الدائب القلق المتوتر؛ إنها حمّى الانفتاح."[11]
ü    "[الحداثة]هي مناخ الحرية المطلق، ضمن بنية حضارية تعيش في مناخ السلطة المطلقة. هي لغة الشفافية المطلقة، في سياق ثقافي تتراكم فيه اللغة حتى الاختناق…هي الحنين إلى اكتشاف وحدة ونظام في العالم ضمن بنية ثقافية أكثر ما يسمها الانهيار والتفتت، انعدام النظام، وتهاوي المركز."[12]
ü    "الحداثة هي ظاهرة الالتباس، ظاهرة التضاد الداخلي…"[13]
ü    "الحداثة، تحديدا، هي قلق الصراع مع السلطة…السلطة في شكلها المطلق، أي سلطة النموذج المتشكل تاريخيا، أي الماضي، والنموذج المنتصب إلى الأمام، أي المستقبل، وعلى كل الأصعدة التي يمكن للنموذج أن يتشكل عليها."[14]
ü    "الحداثة، جوهريا، ليست رفضا للشكل فقط، بل هي رفض للتشكيل…لأن المتشكل نهائي. المحدد الواضح هو وحده القابل لأن يكون طقسا، والطقس تجسيد أسمى للسلطة…"[15]
ü    "الحداثة، إذن، هي فعلٌ يسعى إلى اللاتشكل…واللاتشكل، في وجه من وجوهه، هو التشابك والتعقيد، وهو، أيضا، التعددية…"[16]
ü    "الحداثة هي تكسير الصورة القديمة، أو تفكك الذاكرة الثقافية."[17]
ü    "الحداثة تحولٌ معرفي سمتُه الأولى الانتقالُ من المشابهة السكونية إلى الاختلاف والتحول أو الجدل، أيْ مِن التكرار إلى التوليد والتجاوز."[18]
ü    "الحداثة، عندنا، تتميز بانتزاع الإنسان الأهليةَ لتفسير نظام الأشياء، وترجمةِ السلوك الإنساني، والكشفِ عن الخفي…"[19]
ü    "الحداثة، في الآداب والفنون، ابتداع لرؤيا جديدة، ولأدوات إنتاج هذه الرؤيا في آن."[20]
ü    "الحداثة الشعرية العربية…هي، على الصعيد الشعري الخاص، الكتابةُ التي تضع العالمَ موضع تساؤل مستمر، وتضع الكتابةَ نفسَها موضع تساؤل مستمر."[21]

هذه عيّنة مختارة مِن كمّ هائل مِن العبارات، لأنه يصعب حصرُ المقالات والمقاربات والأطروحات التي تناولت مفهومَ الحداثيّة، عموما، وفي صناعة الأدب بالتخصيص.
والملاحظ على هذه العينة مِن المقاربات وما أشبهها، أنها ترتدّ، في روحها، إلى فكرٍ وفلسفةٍ ومفاهيمَ أقلُّ ما توصف به أنها غريبة عن روح الفكر العربي الإسلامي.
وبعبارة أوضح، فالأمر يتعلق بأفكار ومفاهيم مستوردة، وإن حاول أصحابُها، جاهدين، صبغَها بالطابع العربي الخاص. بل مِن هؤلاء الأدباء والنقاد الحداثيّين، وعلى رأسهم أدونيس، مَن ردّ بقوة، لا تخلو مِن انفعال وغضب، على مَن يدّعي على الحداثيين العرب، مِن المفكرين والأدباء والفنانين وغيرِهم، تقليدَ الغرب في حداثيته، وإسقاطَ خصوصياتِ هذا الغربِ التاريخية والمعرفية والفكرية، وشروطَ واقعه الحضاري على الفكر العربي الإسلامي، الأمر الذي نتج عنه ميلاد "حداثية مقلدة"، مراجعُها العقديةُ والفكرية والتاريخية والحضارية لا تنفك تذكرُ الغربَ وحضارتَه في الصغيرة والكبيرة مِن الأفكار، ولا تفتأ تحيل على أعلامه في مختلف المجالات، وتقدّمهم وكأنهم، وحدهم، منبعُ القيم الحداثية الإنسانية[22]. وسأرجع، في فصل لاحق، إلى هذا الردّ، في مناقشة دعوى أدونيس، التي يرى فيها أن الشعر العربي قد سبق الحداثية الغربيةَ بحوالي عشرة قرون.
مقارباتٌ وعبارات لا تعدو تكرارَ الأصول التي أصّلتها التجربة الغربيةُ بعد تاريخ طويل مِن التطور والصراع الحقيقي. أما حداثيونا، فيغلب على تجربتهم الحداثية، كما شهد بذلك كثيرون، التقليدُ والترجمة والنقل والاسترجاع وما إلى ذلك من ردود الأفعال، التي تطبع، في الغالب، شخصية المغلوب المطحون.
عباراتٌ ومقاربات لا همّ لها، مِن الناحية الأدبية الإنشائية، إلا الهدم والقطع والكسر وغيرها من الأفعال الدالة على مدى الكراهية التي تجيش بها صدورُ هؤلاء المُعبّرِين المقارِبين تجاه عقائدهم وتراثهم وتاريخهم.
مقارباتٌ وعبارات تلتقي كلُّها في الجرأة على المقدسات الدينية، لكن بأسلوب مراوغ لا يجرؤ على التصريح. بل إن أدونيس يجعل هذا المستوى مِن التصريح الجاحد المُلحد في حق العقائد الدينية دليلا على الإبداع الحداثي الحقيقي؛ يقول أدونيس عن الإلحاد: "إنه يحل العقلَ محل الوحي، والإنسانَ محل الله…إنه، بتعبير آخر، أوّلُ شكل للحداثة…"[23]
هل للانقطاع ومرادفاته، في هذه العبارات المقتبسة، معنى غيرُ نبذ التراث بأصوله العقدية، أساسا، وبما يتعلق بهذه الأصول مِن معارف وعلوم ونظريات؟
وهل للموقف مِن الله معنى غير الجرأة على الله، والتطاول على مقدسات الدين؟
عباراتٌ ومقاربات تدور حول معاني اللاشكل، واللاتشكل، واللانموذج، واللاقواعد، واللامثال، واللاهدف، واللاوصول، واللامحدد، واللامصدر، واللامعنى، واللاغرض، واللادين، واللامعتقد.
وماذا بعد هذه اللاءات السالبة غير العبث واللامعقول؟[24]
عباراتٌ ومقاربات تسعى بكل الحيل الكلامية التعبيرية لئلا تتورط في المفهوم الواضح، والفكرة البينة، والمقصود المحدد، وكأن اللاوضوح، واللابيان، واللاتحديد، هو المطلوب، لا غير.
فهل يُفهم غيرُ هذا من قولهم: "الحداثة، في النهاية، هي فن السؤال الذي لا يقنع بجواب."[25] وقولهم: "الحداثة، ضمنيا، هي رفض للإنجاز أو للقرار أو للوصول، تماما كما الحلم الرومانسي القديم."[26]؟
فهل للضياع، والتيه، والإرجاءِ المستمر، وتأجيلِ الكمال، والفرار الأبدي، غيرُ معنى اللاوضوح واللامعنى، في قولهم:
"الحداثة، إذن، هي أرض الضياع، تيهٌ دون علامات، تيهٌ جسّده أدونيس في خلق مهيار[27]، الذي "لا أسلاف له، وفي خطواته جذوره"…"[28]
وقولهم: "الحداثة إرجاء مستمر، إنها أبدا تؤجل كمالَها فيما هي تسعى إليه"[29]
وقولهم: "الحداثة، بهذا المنظور، فرار أبدي إلى وجوه احتمالات الحداثة. إنها كائن لا يستطيع اللحاق بنفسه أبدا."[30]
وقولهم: "لا يمكن للحداثة أن توجد كاملةً إلا في نهاية العالم، أي في نهاية الشعر، حيث تلتقي بكمالها وموتها معا."[31]
وفي هذه المسالك التعبيرية الضيّقة الزّخّارة باللاءات السالبات، والصيغ الكلامية السبّاحة في فضاء نفيِ المعقولات والمفهومات والمحدودات والمعاني الواضحات، ما يزال نقادُ الحداثيّة العربية وأدباؤها، فضلا عن فلاسفتها، يدورون حول إشكالية مفهوم "الحداثة" في الثقافة العربية المعاصرة.
والدورانُ حول هذه الإشكالية، في نظري، إنما هو دائمٌ بدوام فلسفة العبث واللامعقول، فلسفةِ اللاوضوح، واللامعنى، واللاتعبير. باختصار، فلسفة اللاشيء.
وللبحث تتمة في المقالة القادمة، إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
مراكش: 13 نونبر2016




هوامش:
[1] حركية الحداثة في الشعر العربي المعاصر، ص184.
[2] نفسه، ص119.
[3] الحداثة ولاهوت التكوين، بقلم منذر عياشي، في مجلة "الآداب" اللبنانية، عدد11/12، سنة46، نونبر/دجنبر 1998، ص25.
[4] من مشاركة يوسف الخال في أعمال مؤتمر روما، في "من أعمال مؤتمر روما"، باريس، 1961، ص42. نقلا عن حركية الحداثة في الشعر العربي المعاصر، (م.س)، ص81.
[5] بيان الحداثة، لأدونيس (على أحمد سعيد)، مجلة "مواقف"، عدد36، شتاء 1980، ص142.
[6] نفسه.
[7] نفسه، ص146.
[8] نفسه، ص147.
[9] الحداثة، النص، السلطة، كمال أبو ديب، مجلة "فصول"، (م.س)، ص37.
[10] نفسه، ص35.
[11] نفسه.
[12] نفسه، ص38،39.
[13] نفسه، ص41.
[14] نفسه، ص41،42.
[15] نفسه، ص45.
[16] نفسه، ص46.
[17] الملامح الفكرية للحداثة، خالدة سعيد، في المرجع السابق، ص29.
[18] نفسه.
[19] نفسه، ص31.
[20] هوامش على دفتر التنوير، للدكتور جابر عصفور، ص66.
[21] بيان الحداثة، لأدونيس (علي أحمد سعيد)، في (م.س)، ص156.
[22] راجع مثالا لهذا الرد فيما كتبه أدونيس في "بيان الحداثة"، مجلة "مواقف"، عدد36، شتاء 1980، ص138-141.
[23] الثابت والمتحول، الجزء الأول(الأصول)، ص90. راجع أيضا، للمؤلف نفسه “فاتحة لنهايات القرن”، ص148وص156. تُراجع، في هذا الموضوع، آراءُ أدونيس وتقويمُه لمذاهب الزندقة والإلحاد فيما عُرف بالتصوف الفلسفي في التاريخ الإسلامي.
[24] تُراجع دراسة لأنطون مقدسي بعنوان "مقاربات مِن الحداثة"، في مجلة "مواقف"، عدد35، ربيع 1979، ص30. اِقرأ في هذا العدد أيضا، دراسةً أخرى بعنوان "معنى الحداثة في الفلسفة"، لناصيف، ص61 وما بعدها.
[25] هوامش على دفتر التنوير، للدكتور جابر عصفور، ص81.
[26] الحداثة، السلطة، النص، كمال أبو ديب، في (م.س)، ص37.
[27]  الإشارة هنا إلى تجارب لأدونيس بعنوان "أغاني مهيار الدمشقي"، نشرها سنة 1961.
[28] نفسه، ص38.
[29] أسئلة الشعر في حركة الخلق وكمال الحداثة وموتها، لمنير العكش، ص108.
[30] نفسه، ص109.
[31] نفسه.