الأحد، 20 نوفمبر 2016

قراءةٌ سياسيّة بمنظار آخر

بسم الله الرحمن الرحيم

قراءةٌ سياسية بمنظار آخر

(1)

إن الشعوذة السياسية الحاصلةَ عندنا بعد انتخابات 7 أكتوبر إنما هي، في رأيي، أعراضٌ لداء الاستبداد العضال الذي ينخر فينا منذ قرون.
الأطراف المشاركة في هذه الشعبذة/المهزلة(الشعوذة والشعبذة، في اللغة، بمعنى واحد) يمكن أن تقولَ كل شيء، إلا أن تعترفَ بأن ما نحن فيه مِن المهازل إنما أصلُه وفصلُه هو الاستبداد المتمثل في النظام المخزني السائد الحاكم بيد من حديد، وبشرعية مصنوعة بدستور ممنوح، وبيعة ليس للناس فيها رأيٌ ولا اختيار، وإنما هي قائمة، في روحها، على الطاعة والخضوع والتوقيع على العقد بلا نقاش.
المشاركون في هذا التهريج الحاصل اليوم في ساحتنا السياسية باسم الممارسة الديمقراطية-والديمقراطيةُ براءٌ من هذا التهريج وأصحابه والمؤطرين له من وراء الستار-يمكن أن يناقشوا أي شيء، إلا أن يقتربوا من حمى القصر ومقدساته، مع أنهم يعرفون، بنص الدستور الممنوح، وبممارسات الدستور العرفي، أن الملك هو الذي يسود ويحكم بسلطات شبه مطلقة، وأنه لا سلطة فوق سلطانه، وأنه يجمع في يديه مفاتيح كل القرارات والسياسات الاستراتيجية، لكنه لا يحاسب ولا يراجع ولا ينتقَد.
ومن المشاركين في هذا المسرحية الهزلية الرديئة منابرُ صحفية، منها ما ينتسب للإعلام المستقل، تنشر مقالات وتحليلات وآراء يحاول فيها أصحابُها مناقشةَ السيناريوهات الممكنة لحل هذا الإشكال المتعلق بتكوين الحكومة. ومنها آراء يوصف أصحابها بأنهم خبراء وأستاذة في "القانون الدستوري"، تتناول القضية وكأننا نعيش في بُحبوحة من الديمقراطية لا مزيد عليها؛ وكأن الأحزاب المشاركة كلها مستقلة في قرارها السياسي؛ وكأن عندنا فصلا حقيقيا بين السلطات؛ وكأن القصر، بالفعل، لا يتدخل في الحياة الحزبية، ولا يؤثر في قرارات الأحزاب، من قريب أو بعيد؛ وكأن قواعد التنافس السياسي عندنا قد بلغت من النضج بحيث يمكن اعتبار ما يجري منذ 7 أكتوبر، في السر والعلن، أمرا طبيعيا وعاديا؛ وكأن الحكومة المرتقبة تملك بالفعل أدوات الحكم.
ومثلُ هذه الآراء والتحليلات، في اعتقادي، لا تصلح لشيء، ما دامت تنطلق من مقدمة غير صحيحة، حين تفترض أن الأساس الديمقراطي عندنا راسخ وسليم، وتبني على ذلك أن الحياة السياسية والحزبية عندنا طبيعية، وأن هذا "الهَرْج" و"المَرْج" القائمَ اليوم يمكن أن يعطيَ ثمارا طيبة صالحة.
المشاركون في الشعوذة والتهريج، والكتاب والمحللون الذين ينتحلون صفات الخبراء والمختصين-وما أكثرَهم في هذه الأيام، وخاصة في شاشات التلفزة-الذين يتكلمون، وكأننا نعيش في نظام ديمقراطي حقيقي-مع أن نصوص الدستور الممنوح نفسه، الذي يزعم محللونا أنهم خبراء فيه، تؤكد أننا لسنا في نظام ديمقراطي-
قلت هؤلاء المشعبذون و"الخبراء" "المتخصصون" إنما يكرسون خطابا سياسيا فارغا من أي معنى، بل قلْ إنه خطاب القشور والهوامش والتوافه، مع احترامي وتقديري للأشخاص، لأني أنتقد هنا الأفكار والتصورات والآراء.
في تقديري أن الخطابَ السياسي الذي يبرئ النظامَ المخزني أن تكون له يدٌ وراء ما يجري في حياتنا الحزبية والسياسية هو خطاب قشوري، يفتل في حبل الاستراتيجية المخزنية في مضمار التدافع السياسي، ويُقوّي مِن عضد الاستبداد، بوعي أو بغير وعي.

(2)
حزبُ العدالة والتنمية الذي يشتكي اليوم من الذين يريدون أن يسرقوا منه الانتصار الذي حققه في انتخابات 7أكتوبر، ويضعون العراقيل في طريقه حتى يفشل في تكوين الحكومة، ويتهمهم بالتحكم والمساس بالمبادئ الديمقراطية، كما يتهم بعضَهم بأنهم ليسوا مستقلين في قرارهم السياسي، وأنهم تابعون لحزب الأصالة والمعاصرة، رمز التحكم عندهم-
قلت حزبُ العدالة والتنمية الذي يذرف الدموع احتجاجا على ما يعتبره خروجا على المبادئ الديمقراطية، هو أول من يعرف أن النظام المخزني، الذي قبل هذا الحزبُ، طوعا وكرها، أن يعمل تحت مظلته، وأن يشارك في "لعبته الديمقراطية"، وأن يحنيَ الرأس استجابة لمطالبه ونزولا عند جميع رغباته، هو "المايسترو" الحقيقي وراء ما يجري في الساحة السياسية، وهو أول من يعلم أن ما يسميه بـ"التحكم" إنما هو المخزنُ نفسُه؛ لقد عبر بعضُ قيادات الحزب، وعلى رأسهم السيد عبد الإله بنكيران، عن هذه الحقيقة بطرق ملتوية، وبلغة مراوغة مشتبهة ملتبسة، لكنهم لم يجرؤوا، ولن يجرؤوا، على تسمية الأشياء بأسمائها، ولن ننتظر منهم تصريحا شافيا، وخطابا فاضحا، يضع النقط على الحروف، ويكشف الوجوه المقنَّعَة، ويسمي المسؤولين الحقيقيين عن هذا التهريج الذي يلوث الفضاء السياسي، ويكرس الفساد والاستبداد وقواعد دولة التعليمات، ويعمق ويثبت أسباب التشوهات والعاهات والإعاقات التي تعاني منها أحزابنا السياسية، ونخبنا السياسية، وثقافتنا السياسية.
لن يجرؤ حزبُ العدالة والتنمية على موقف مثل هذا، لأنه، ببساطة، واحد من أبناء دار المخزن الأوفياء، الذين لا يملكون إلا السمع والطاعة لولي الأمر، ولا يملكون إلا العمل وفق القواعد المقررة، مع السماح لهم-وذلك من صميم قواعد اللعبة-بهامشٍ، قد يتسع، وقد يضيق، للشعوذة والتهريج وتكريس خطاب القشور.
ينتقد الحزبُ، مثلا، حزبَ التجمع الوطني للأحرار، ممثلا في رئيسه، الذي "نزل من السماء"، السيد عزيز أخنوش، لأنه يعرقل بناء الأغلبية المطلوبة لتكوين الحكومة، ويطالب بأمور تسيء إلى الديمقراطية، وتستهين بإرادة المواطنين الذين صوتوا في الانتخابات الأخيرة.
ألم يكن حزبُ التجمع الوطني للأحرار معروفا عند الجميع بأنه حزب مخزني بامتياز؟ ألم يكن يوصف بأنه من الأحزاب الإدارية؟ ألم يكن حزبُ العدالة والتنمية يعرف أن هذا الحزبَ ليس له أي قرار مستقل عن إرادة المخزن؟
ألم يكن يعرف حزبُ العدالة والتنمية أن حكومة الأغلبية السابقة التي ترأسها السيد بنكيران، والتي كان حزب الأحرار من مكوناتها، قد كانت قائمة في روحها على الإرادة المخزنية، في هندسة حقائبها ووضع برامجها ورسم طريق مسيرها؟ ألم تصل العلاقة بين الحزبين إلى الحضيض، ومع ذلك بلع السيد بنكيران ما لا تستسيغه الحلوق السليمة، وقبل بمشاركة حزب الأحرار في النسخة الثانية من حكومته.
ألم يكن حزبُ العدالة والتنمية هو الآخر، بمواقفه المتناقضة، وقراراته المراعية للنظام المخزني ومزاجه ورغباته، مشاركا في إخراج هذه المهزلة التي تلت انتخابات السابع من أكتوبر؟
فيم التباكي، والتشكّي، والتظلّم، والحزبُ نفسُه مشارك في الشعوذة والتهريج، لأنه قَبِل ما لا يُقبل، وسكَت عما لا يُسكت عنه، وأغضى على ما لا ينبغي عليه الإغضاءُ، وسَهّل، ويسّرَ، وسمع، وأطاع، وخضع.
بعبارة أخرى، ما تشهده الساحةُ السياسية اليوم من مخاض قبل تكوين الحكومة، وما يعتبره حزبُ العدالة والتنمية تشويشا وعرقلة وسعيا لتقويض مبادئ العمل الديمقراطي، وتسفيها لإرادة المصوتين في الانتخابات-قلت هذا الذي يجري اليوم هو ممارسةٌ طبيعية بمنطق اللعبة الديمقراطية، التي يؤطرها النظام المخزني، وبحساب الآليات التي تتحكم في هذا اللعبة، وبحسب الأهداف والغايات التي يسعى إلى تحقيقها المتحكمون في اللعبة، بالاستعانة بالأحزاب التي قبلت، رغبة ورهبة، أن تكون أدواتٍ مطواعةً بيد المخزن.
المخزن هو واضع قواعد اللعبة، وهو المتحكم في خيوطها، والمحدد لأهدافها. وأما البكاء والشكوى، فهو، في اعتقادي، من قبيل ذر المزيد من الرماد في العيون، حتى يستحكم الضبابُ، وتتعذر الرؤية.
يتهم حزبُ العدالة والتنمية بعضَ الأحزاب التي تعرقل مسعاه بأنها أحزاب غير مستقلة في قرارها.
اتهام صحيح، ولا شك. ولكن، متى كان حزبُ العدالة والتنمية نفسُه مستقلا في قراره؟ متى كانت له إرادة مستقلة عن إرادة الدولة المخزنية؟ ألم تكن نشأتُه بضوء أخضر من المخزن؟ ألم يكن تدرُّجه في العمل السياسي محسوبا ومراقبا ومُقوَّما وموزونا بأجهزة مخزنية؟ ألم يكن مؤسسُ الحزب، الدكتور الخطيب، رحمه الله وغفر لنا وله، من خدام المخزن الأقحاح الأوفياء؟ ألم يكن الحزب دائما، عند السمع والطاعة للمخزن، في المنشط والمكره، والشدة والرخاء؟
في المنطق المخزني، ووفق منطق لعبته الديمقراطية السمجة، إما أن تقبلَ وتسمع وتطيع، طبعا مع مراعاة الأشكال والحيثيات والمظاهر والمستويات، وإما أن تصبح شريدا مَعِيفا؛ إما أن تنضبط وتنتظم في الصف، كما يجب، وإما أن تصبح منبوذا كالبعير الأجرب، يُخشى التعاملُ معك والاقتراب منك.
حزبُ العدالة والتنمية، وأقصد جيلَ المؤسسين الذين يهيمنون على قيادته، يحفظُ الدرس جيدا، ويعي بعمق معنى التعامل مع المخزن، لأنه قد خبر العمل في ظله، والتحرك في دواليب دولته.
فلو كان الحزبُ جادا في الدفاع عن مبادئ الديمقراطية، والغيرة على أصوات الناخبين أنْ يلعبَ بها اللاعبون، ويسرقها السارقون، لما لجأ إلى لفّ خطابه بألف غشاء وغشاء من الإيحاء الملتبس، والمعاني المحتملة، والعبارات المراوغة، والأساليب المواربة.
لو كان حزبُ العدالة والتنمية جادا فيما يدعيه، لما أحنى الرأسَ للمخزن حتى الرّغام، ولما انتقل من النقيض إلى النقيض، في الخطاب والممارسة، بين عشية وضحاها.
سيقولون إنها السياسة وأساليبها وضروراتها وضغوطاتها؛ والجواب أن ما نحن فيه من الشعوذة والتهريج والخطاب القشوري لا علاقة له بضرورات السياسة وتقلباتها وأحابيلها وأوجاعها. إن ما نحن فيه إنما هو من مضاعفات مصيبة الاستبداد الجاثم على صدورنا. وأرى أن أولى الخطوات في طريق الخلاص، إن كنا جادين، حقيقة، في طلب الخلاص، هي ترك خطابات التزوير والتخدير والتعمية والتمويه، وتبني خطابات الصراحة والحقيقة والدفاع عن القيم والمبادئ باللغة التي لا تلف ولا تدور، ولا تصانع ولا تداهن، ولا تداور ولا تخاتل. إنها اللغة التي تقول إن داءنا العضال إنما مكمنُه في الاستبداد وصنائعه من الظلم والفساد.
وبعد، فإني أعتقد أن هذا التهريج الحاصل حاليا سينتهي قريبا، إما بتصفير من المخزن يجعل حدا لهذا العراك المفتعل بين أبناء العائلة الواحدة، ويفرض على الجميع الانضباط والرجوع إلى الصف، وإما بغضبة مزاجية، كالغضبات التي نسمع عنها بين حين وآخر، تطوِّح بنا إلى ما يعلمه إلا الله مِن المجاهل والمتاهات، لنستأنف رحلتنا السيزيفية(كناية عن العبث الأبدي)، في سفينتنا المخزنية، بالطاقم نفسِه، وبالخرائط نفسه، وبالعبث نفسه.
اللعبة المخزنية، يا قوم، لا يمكن أن تعطي إلا ما نراه وما نعيشه، وما نشتكي منه، ليل نهار، من غير أن يظهر فرج في الأفق القريب. لماذا؟ لأنها لعبة مخزنية وكفى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.