الخميس، 24 نوفمبر 2016

الإلحادُ أول شكلٍ للحداثة!!

بسم الله الرحمن الرحيم

الإلحاد "أول شكل للحداثة"!!


المُسلَّمةُ الأدونيسية

يتشابك الفكري الفلسفي والعقدي بالأدبي الشعري في كتابات أدونيس، وخاصة تلك الكتابات التي عُني فيها بالتنظير للحداثة الشعرية العربية. ويصل هذا التشابك أوْجَهُ حينما يستنتج أدونيس، في أثناء بحثه في الأصول التاريخية للحداثة العربية، أن الإلحاد، في التاريخ العربي الإسلامي، كان "أول شكل للحداثة"[1]، لأنه-أي الإلحاد -دائما حسب زعم أدونيس في استنتاجاته، "يحل العقل محل الوحي، والإنسان محل الله…"[2]. "ويعني ذلك أن الإنسان قادر أن يفهم الكون وأن يسيطر على الطبيعة وعلى مصيره اعتمادا على العقل، ودون حاجة إلى الوحي. وبما أن هذه القدرة مقيدة، تاريخيا وسياسيا واجتماعيا، بسلطة الوحي الزمنية والدينية، فإن الخطوة الأولى، في تحرير الإنسان، كما يرى الإلحاد، هي في تحريره من الدين."[3]
"فتجاوزُ الوحي هو إذن تجاوزٌ لإنسان الوحي، أي تجاوز اللاإنسان إلى الإنسان الحقيقي، إنسانِ العقل…المقدسُ، بالنسبة إلى الإلحاد، هو الإنسان نفسه، ولا شيء أعظم من هذا الإنسان."[4]
والملاحظ أن أدونيس، في استنتاجاته هاته، لا يستند إلى أي مصدر مكتوب. فهو ينسب بعض الكلام الإلحادي، من غير إحالة على مصدر معين، إلى ابن الراوندي والرازي. أما سائر التفسيرات، والتأويلات، والتركيبات، والاستنتاجات والأحكام، التي يأتي بها في سياقات وعبارات توحي بالقطع والعلم الحتمي والواقع الذي لا يرقى إليه شك، إنما هي من عندياته، أي هي له. وبشيء من التأمل يمكننا القول بأن الأفكار والتصورات والأحكام، التي يسوقها أدونيس، في حديثه عن الإلحاد، إنما هي أفكاره هو، وتصوراته هو، وأحكامه هو، واقتناعاته هو.
وحتى عندما رجع أدونيس، في الجزء الثاني (تأصيل الأصول) من كتابه، إلى تفصيل ما أجمله في مقدمة الجزء الأول(الأصول)، فإن الأقوال التي سردها لابن الراوندي والرازي، هي، في معظمها، مستقاة من كتب خصومهما من المتكلمين، الذين ردّوا عليهما بنقض دعاويهما وأباطيلهما وزندقاتهما، وتفنيد مزاعمهما الكفرية. ثم إن هذه الأقوال والنصوص المنسوبة إليهما في المصادر المذكورة لا يؤدي ظاهرُها إلى هذه الأحكام والنظريات والاستنتاجات التي يقررها أدونيس.
فمعظم ما نقله أدونيس من نصوص منسوبة إلى ابن الرواندي والرازي، إنما هي، في أصلها، نصوص وشذرات، من هنا وهناك، وقعت في يد بعض المستشرقين، فسارعوا إلى نشرها في مجلاتهم، فقام الدكتور عبد الرحمن بدوي بترجمة بعضها، ونشرها في كتاب بعنوان "من تاريخ الإلحاد في الإسلام"؛ وهذا الكتاب اتخذه أدونيس مرجعا أساسا فيما ينسبه إلى ابن الراوندي والرازي من مقالات الإلحاد، فضلا عن منشورات المستشرقين التي اهتمت بكل ما له علاقة بالإلحاد في تاريخ الإسلام، ومنها، بصفة خاصة، منشورات المستشرق الألماني اليهودي (باول كراوس)(1904-1944)، الذي اشتهر بأبحاثه في كل ما يشكك في عقائد الإسلام، وفي نشر النصوص التي تتناول، من قريب أو بعيد، الإسلام بالطعن والجحد والتشكيك.
لكن هذه المقالات الواردة في كتاب بدوي عليها أكثر من علامة استفهام، في أصلها، وفي حقيقة ثبوت نسبتها إلى هذا أو ذاك من المتكلمين، وفي حقيقة روايتها، هل هي رواية باللفظ والحرف، كما نطق بها أصحابها، أم هي مروية بالمعنى والتصرف من الرواة والناقلين.
ومما يؤكد هذا الشك عندنا أن الدكتور عبد الرحمن بدوي نفسَه قال كلاما يُفهم منه، بكل وضوح، أنه لا يمكن الاطمئنان، كليا، إلى ما يورده في كتابه من مقالات منسوبة إلى الملحدين، في تاريخ الإسلام؛ ومن الأسباب التي ذكرها لعدم اطمئنانه، مثلا، إلى ما يذكره منسوبا إلى أبي بكر محمد بن زكريا الرازي، "أن النصوص الأصلية تعوزنا، وكل ما لدينا عنه[أي الرازي]، في هذا الباب، إنما يرجع إلى ما يورده الخصوم من عرض لمذاهبه، إما بنصها مبتورة من سياقها، وإما اختصارا وبالمعنى فحسب، فضلا عن ندرة هذه الآثار، مما لا يسمح بتكوين رأي صحيح وشامل"[5].
فصاحب المرجع الأساس الذي يعتمد أدونيس في الحديث عن الملحدين في تاريخ الإسلام يشهد بأن النصوص والروايات التي يوردها في كتابه لا تسمح بتكوين رأي صحيح وشامل، لكن أدونيس يسوق تلك الشذرات والنتف، التي عليها أكثر من علامة استفهام، على أنها حقائق ثابتة يجب التسليم بها، غير آبه بالتحذير والتحفظ الذي أبداه الدكتور بدوي، الذي كان يعرف أن الموضوع الذي يبحث فيه هو موضوع عظيم، لأنه يتعلق بعقائد الناس، وهو ما يفرض الحيطة والتحقق والتثبت، لا الاستخفاف والطيش والتسرع.
قال الدكتور بدوي، وهو يقدم لحديثه عن مذهب ابن زكريا الرازي: "سنحاول جهدنا أن نتبين ذلك المذهب من تلك الشذرات والروايات النادرة قدر المستطاع، على ما نبديه من تحفظ شديد فيما يتصل بصدقها تماما"[6].
فالأمر يتعلق بشذرات وروايات نادرة؛ وبصفته باحثا أمينا، فإنه يحاول معالجتها قدر المستطاع، مع تحفظه الشديد فيما يتصل بصدقها تماما، أي أنه ينطلق من كونها نصوصا ومقالات تحتمل الصدق وتحتمل الكذب؛ تحتمل أن تكون صادرة عمن نُسبت إليهم حقيقة، وتحتمل أن تكون منسوبة إليهم كذبا واختلاقا، أو سهوا وخطأ، وتحتمل غير ذلك.
هذا ما يقوله الباحث الموضوعي الأمين؛ أما أدونيس، فإنه يضرب بالأمانة والموضوعية والتحري والتثبت عُرْضَ الحائط، ويبتدر مناسبة وجودِ تلك الشذرات، والروايات النادرة، والنصوص المختلف في نسبتها، ليضخمها من عندياته وزياداته، مما يحفظه من مقالات الملحدين، ومنشورات المستشرقين المعادين للإسلام، ليقوِّلَ تلك الشذرات الناقصة، والروايات النادرة، ما لم تقُلْه، وليُحمِّلَها ما لا تحتمل، وليجعلها أساسا لبناء نظريات وتصورات هي، في حقيقتها، من صناعة أدونيس.
فإذا كانت المصادر التي ينقل عنها أدونيس قد نسبت إلى ابن الراوندي ذَرَّةً، مثلا، فإن أدونيس يصيّرها، بزياداته، وتحليلاته، وتأويلاته، وخلفياته، ومُبيّتاته، جَبَلاً شاهقا. وكذلك يفعل مع سائر مأثورات الملاحدة، ونتافات مقالات الكفار والزنادقة المحفوظة في بعض المصادر.
فأيُّ أسلوبٍ هو هذا الأسلوب؟ دارٌ خربة موحشة تعوي فيها الوحوش الضواري تتحول، بتشقيق الكلام، إلى قصر مشيد عامر بالأنس والحياة! !
ملاحدة معدودون على رؤوس الأصابع في تاريخ الأمة العربية الإسلامية، يصبحون، بقلم باحث حداثي لاديني، وبفعل المسلَّمة الأدونيسية: "الإلحاد أول شكل للحداثة"-يصبحون منارةً للحرية والقيم الإنسانية والعقلانية التحررية !![7]
فهو، مثلا، يقول، على سبيل التفسير والاستنتاج: "إن الخطوة الأولى في تحرير الإنسان، كما يرى الإلحاد، هي في تحريره من الدين."[8]
والملاحظ عليه في هذا القول أنه ينسب الرؤية إلى الإلحاد، "كما يرى الإلحاد" ! وابحث أنت عن هذا الإلحاد الرائي، من هو؟ فهو لم يُحل على مصدر، كيفما كانت قيمته التاريخية والعلمية، وكذلك لم يشر أي إشارة توضيحية، من أي نوع، توثق هذا الكلام. والراجح الذي يبقى بين أيدينا هو أن هذا الكلام عن الإلحاد، إنما هو، في أصله، كلام أدونيس نفسه.
ومثال آخر، من كلام أدونيس الذي يُحيل فيه على مجهول، قولُه-دائما في موضوع الإلحاد الذي يعده "أول شكل للحداثة"-: "إن منطق الإلحاد هنا يعني العودة إلى الإنسان في طبيعته الأصلية، وإلى الإيمان به من حيث هو إنسان. فما دام الإنسان تابعا للغيب، لا يمكنه، حسب هذا المنطق، أن يكون إنسانا."[9] فتأمل عبارة "منطق الإلحاد" !!
ومثال ثالث على هذه الأحكام والاستنتاجات قولُه: "إن نقد الوحي في مجتمع يقوم على الوحي، ليس، بحسب المنطق الإلحادي الشرط الأول لكل نقد وحسب، وإنما هو أيضا الشرط لكل تقدم."[10]
لاحظ، في هذا الكلام، النسبة إلى مجهول دائما: "حسب المنطق الإلحادي" !
ومثال رابع قولُه: "وإذا كان الإلحاد نهاية الوحي، فإنه بداية موت الله، أي بداية العدمية التي هي نفسها بداية لتجاوز العدمية. "افعل"، "لا تفعل"، حلت محلها: "أَعْقل"، و"أُريد". فلا أمر ولا نهي مسبقان: العقل وحده يأمر وينهى."[11]
ومثال خامس قولُه: "الدولة التي تقوم على أساس ديني، هي، بالضرورة، كما يرى الإلحاد، دولة غير عادلة، لأنها لا تقدر أن تنظر إلى مواطنيها المختلفي الأديان، أو المتفاوتين في إيمانهم، نظرة واحدة، ولا بد من أن تفضل بعضهم على بعض. ومثل هذه الدولة من وجهة النظر الإلحادية فاسدة، أصلا."[12]
دائما، الإلحاد هو الذي يرى. وتأمل، أيضا، قوله: "من وجهة النظر الإلحادية" !!
ولكي أتجنب وصف تحليلي هذا بالتحامل أو المبالغة، فإنني أرى من المناسب أن أذكّر بأن الكلام الذي ساقه أدونيس عن الإلحاد ومنطقِه ووجهةِ نظره-أيْ منطق الإلحاد ووجهة نظر الإلحاد-وما رتب عليه من أحكام تطعن في صميم الدين، بل تلغي الوحي، وتحل العقل محل الله-هذا الكلامُ الذي ساقه أدونيس إنما بناه على أفكار نسبها إلى ابن الراوندي والرازي في مناقشتهما للوحي[وهي أفكار، كما أشرت قبل قليل، منثورة في بعض المصادر، لا تشكل، في تفرقها وندرتها واختلاف المصادر في نسبتها، نظرية متكاملة، ولا رؤية صافية؛ هذا علاوة على كونها، في غالبيتها، نصوصا وروايات وشذرات، قام على تجميعها ونشرها وترويجها، في الأساس، مستشرقون عرفوا بحقدهم وكراهيتهم للإسلام] من غير ذكر المصدر الذي يستقي منه، ولا ذكر أية إشارة تصدّق أن الأفكار التي يبني عليها أدونيس هي، بالفعل، لابن الراوندي والرازي. وهذا نص كلام أدونيس:
"وقد انطلق ابن الراوندي والرازي في مناقشتهما للوحي من القول: إما أن الوحي موافق للعقل، وإما أنه مخالف. فإن كان موافقا، فإن العقل يغني عنه ولا يحتاج إليه الإنسان، أما إن كان مخالفا فذلك يعني أنه لا تنقذ الإنسان إلا قوة تناقض الإنسان. فكأن الإنسان موجود خارج نفسه، وهذا مما يكذبه العقل. فالوحي في الحالتين، إما أنه نافل وإما أنه باطل."[13]
هذا هو أصل الكلام الذي يظهر أن أدونيس ينسب قوله إلى ابن الراوندي والرازي. وأقول "يظهر"، لأن أدونيس لم يبين إن كان ينقل بالحرف أو بالمعنى، وإن كان قد تصرف في المقول أم لا، لأنه لم يشر أية إشارة إلى المصدر الذي ينقل عنه. وهذا الفعل أقلُّ ما يقال فيه أنه عمل لا علاقة له بالبحث العلمي الرصين، وقواعد الوضوح والتوثيق والإنصاف، التي هي العماد الذي يفترض أن يقوم عليه عمل يقدم نفسه أنه أطروحة أكاديمية في البحث الأدبي.
فأدونيس يجري في كلامه، طولا وعرضا، يُنظِّر للإلحاد، مبادئِه وأصوله ومطالبه ورؤاه، من غير إحالة على نصوص واضحة ومصادر معلومة. ولعله يفعل ذلك انطلاقا من تصورات ذاتية أو منقولة عن فلسفات إلحادية معاصرة كانت بدأت تروج في البلاد العربية الإسلامية، مع انتشار التيار الماركسي الإلحادي وغيرِه من التيارات الوجودية والعقلانية الملحدة.
وهو إذ ينقل ذلك، ولا يستند إلى نصوص أو وقائع أو شهادات ثابتة أو، على الأقل، ترجع إلى مصادر معلومة، إنما ينقض أساسا من الأسس التي زعم أنه يبني منهجه في البحث عليها، وهو أساس بناء الأحكام والاستنتاجات على الوثائق والنصوص والوقائع. فما معنى الإكثارِ من ذكر الرازي وابن الراوندي، ونسبةِ الأفكار إليهما، والحالُ أنه لا يورد لهما شيئا من المكتوب أو المروي رواية موثقة ومعدّلة؟
فنحن أمام مقول منسوب إلى ابن الراوندي والرازي، يمتاز بأنه غير محدد، فضلا عن رجوع المؤلف، فيما ينسبه إليهما من مقالات إلحادية، إلى منشورات لا يُعتدّ بها في بحث علمي موضوعي، لأنها منشورات مطعون في أصالتها وصحة نسبتها، قام على ترويجها جهاتٌ مطعون في أمانتها ومصداقيتها. بل إننا نجد أدونيس، في هذا السياق نفسه، وبناء على الكلام المجهول المصدر الذي بنى عليه أحكامه واستنتاجاته، يشير أكثر من مرة إلى ابن الراوندي والرازي، موهما بأن الأفكار التي يثبتها إنما هي لهما، كقوله مثلا: "إذا كان الإلحاد جوهر ما يؤدي إليه تفكير الرازي وابن الراوندي، بإلحاحهما على تحرير الإنسان من الوحي وسلطته، فإن التاريخ يبطل، تبعا لذلك، أن يكون تجليا لإرادة الله، كذلك تبطل الدولة المتمثلة في سلطة الخلافة أن تكون، هي أيضا، تجليا أو تجسيدا لهذه الإرادة…"[14]
فأدونيس يتحدث في هذا الكلام عن إلحاح الرازي وابن الراوندي على تحرير الإنسان من الوحي، لكنه لم يذكر لنا عبارة واحدة نقرأ فيها هذا الإلحاح من الرجلين.
ودائما بالاعتماد على الرازي وابن الراوندي، على الاسم فقط من غير توثيق ولا إشارة إلى مرجع، يقول أدونيس: "كان الله-الغيب محورا للتأمل، قبل الرازي وابن الراوندي، وبفضلهما أصبح الإنسان-العقل هو المحور الجديد للتأمل. وكان ذلك خطوة أساسية في توكيد فاعلية الإنسان وحريته، أي في توكيد قدرته على أن يكون سيد مصيره، قادرا أن يفعل، بحريته وعقله، كل شيء…
"وفيما كان الإنسان يبدو أنه تحقق زمني عارض لجوهر قبلي ثابت أصبح من الممكن، بدءاً من الرازي وابن الراوندي، أن ينظر إليه على أنه تحول مستمر من الأقل كمالا إلى الأكثر كمالا، ومن الجبرية إلى الحرية. ولم يعد الكمال نقطة ثابتة تحققت مرة واحدة وإلى الأبد، وإنما أصبح الكمال نقطة لا يمكن بلوغها نهائيا، لأن الإنسان هو هذه الحركة اللانهائية في اتجاه التقدم، أي في اتجاه ما ينتهي…"[15]
إلى أن يقول، دائما بالإحالة على الرازي وابن الراوندي من غير إشارة إلى أي مصدر من المصادر: "هكذا يقدم الرازي وابن الراوندي أساسا عقليا جديدا للحركات الثورية التحررية، ولكل حركة تحررية، على صعيدي النظر والعمل. كان فكرهما تأسيسا نظريا للحرية، ولهذا كان تمهيدا لتأسيسها عمليا في الثورة."[16]
ويستطرد أدونيس إلى أن يقول في آخر الفقرة: "ومن هنا يذكر موقف الرازي وابن الراوندي بما يقوله (برودون)[17]، من أن الإنسان وجد ليحيا بلا دين، أي بلا فكرة جاهزة مسبقة، مطلقة أو غير مطلقة." [18]
وكلام أدونيس هذا يوهم القارئ بأن الأمر يتعلق باستنتاج مبني على ما سبقه، وبأن هذا الذي سبقه إنما هو، فعلا وحقيقة، موقف الرازي وابن الراوندي، وليس تحليل أدونيس وموقفه ورأيه.
ثم يقول، وكأنه يلخص لنا ما يزعم أنه موقف ابن الراوندي والرازي؛ فهو موقف "لا يصدر عن مجرد نظرية في الإلحاد، وإنما يصدر عن نظرية في الإنسان...الإنسانُ، لا الله، هو مركز الكون."[19]
إن مثل هذا القول العظيم-طبعا في ميزان عقائد الإسلام-لا يخلو إما أنه قولٌ لابن الراوندي أو قولٌ للرازي أو قولٌ لهما حقيقة ولفظا، كما يزعم أدونيس، لأنه، في إشاراته إليهما لا يفتأ يذكرهما مجتمعين، وإما أنه قول أدونيس، لأنه لا تصرف، ولا اجتهاد، ولا تأويل، في عبارات الكفر والإلحاد والزندقة، لأن الأمر، باختصار، هو أمر عقيدة أمة، وليس أمر خيالات فلسفية يباح لأي كان أن يعبث فيها بأوهامه وأحلامه وأهوائه.
وإن نحن أخذنا بأبعد الافتراضات وأضعفِها، في رأيي، وزعمنا أن هذه الأفكار هي، بالفعل، للرازي وابن الراوندي، تُثبِت نسبتَها إليهما مظان معروفة، ومصادر معلومة، وكتابات موثوقة، فإن موقف الباحث منها لا يخرج عن حالة من حالات ثلاث: إما الانتصار لها بالرضا والموافقة، أو ردّها بالنقد والمعارضة، أو حكايتها بصيغة الحياد الذي لا هو مع ولا هو ضد.
أما نص كلام أدونيس، الذي نحن بصدده، فإن السياق فيه والعبارة معا ليؤكدان أن الرجل مع تلك الأفكار مائة في المائة. ويكفي أنه جعل الإلحادَ أولَ شكل للحداثة، ونسب إليه فعلَ الثورة والتهديم "ثورة تهدف إلى أن تهدم سلطة يمارسها الإنسان، باسم الوحي، على الإنسان، أو يمارسها، باسم الغيب، على الواقع. إنه[أي الإلحاد] تهديم للشريعة وتجسداتها الاجتماعية – السياسية…"[20]

ما علاقة الحداثة والإبداع بالزندقة والإلحاد؟

وبعد هذا نسأل: ما علاقة الإبداع والحداثة، في الفكر عامة والأدب خاصة، بالتجديف والكفر والزندقة؟
فإذا كانت الحداثة قيمة إيجابية، فأين هو الإيجابي في الإلحاد، والتطاول على ذات الله، سبحانه، وتقدست أسماؤه، والوقوع في حرمات الدين ومقدسات المسلمين؟
أين هي هذه القيمة الإيجابية في عمل إنسان يكفر بالله ورسله وباليوم الآخر، يكدح في الحياة، شعاره شعار الدهريين، في كل زمان ومكان، حسب ما يحكيه القرآن الكريم من قولهم: ]ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر.[[21]
أين هي القيمة الجمالية، أو القيمة الشعرية، أو القيمة الإبداعية، أو القيمة الحداثية، في قولنا: "فلان كافر"؟ لا شيء، وإنما هو الكفر، أو قل هو الإلحاد، أو قل هو الزندقة، أو قل غير ذلك من العبارات، فإنه لا يغير من الحقيقة شيئا.
فلماذا إذن جعل الإلحاد أول أشكال الحداثة؟ لماذا العناية بالكفار والزنادقة والملحدين، في تاريخ الإسلام، إلى هذه الدرجة؟
أما القول بأن الإلحاد حرر الإنسان من الغيب، وجعل الإنسان-العقل هو القطب الذي عليه المدار…إلى آخر دعاوي الملحدين وتعليلاتهم، فإنه ينم عن جهل مطلق بالإسلام وعقائده وخصائصه وغاياته. وبعبارة أخرى، إن مقالات الملحدين المجادلة في دين الله تنم عن بعد عميق عن رحمة الله التي وسعت كل شيء، عن رحمة الله المهداة للعالمين.
العقل! ومتى قصر الإسلام في حق العقل والعاقلين؟ لكن الملحدين كانوا، دائما، عن آيات الله معرضين، لا يقرأون القرآن إلا للمراء والطعن والتجريح، وتلفيق شبهات الزندقة والتأويلات الفاسدة.
ثم من يكون، مثلا، ابن الراوندي[22]والرازي[23]، هذين اللذين رفعهما أدونيس وأمثاله إلى قمة الحداثة والعقلانية والثورة والتحرير؟
هما رجلان مذكوران في زمرة فلاسفة الزندقة والإلحاد، مرتبان في أسفل الدرجات، لم تُذكر لهما ولو مزية واحدة، ولو صفة إيجابية واحدة[24]، حتى جاء أدونيس ومن هم على شاكلته، فكذبوا أمة كاملة، وتنكروا لتاريخ طويل، بأصوله ومعتقداته وتراثه، ورفعوا الإلحاد إلى درجة العمل الإبداعي الحداثي الإيجابي الثوري المحرِّرِ مِنْ عبادة الله، والإخبات لله، والإيمان بالله وكتبه ورسله وملائكته وباليوم الآخر.
أما الرازي(محمد بن زكريا)، فهو رجل "أخذ من كل دين شر ما فيه…فركب مذهبا مجموعا من زنادقة العالم."[25]
ومما يروى من سخافاته الفلسفية أنه سئل عن العلة في إحداث العالم، فقال: "إن النفس اشتهت أن تحبل في هذا العالم، وحركتها الشهوة لذلك، ولم تعلم ما يلحقها من الوبال إذا حبلت فيه، فاضطربت، وحركت الهيولى حركات مشوشة مضطربة على غير نظام، وعجزت عما أرادت، فأعانها الباري على إحداث هذا العالم، وحملها على النظام والاعتدال. وعلم أنها إذا ذاقت وبال ما اكتسبته عادت إلى عالمها، وسكن اضطرابها، وزالت شهوتها، واستراحت. فأحدثت هذا العالم بمعاونة الباري لها.
"قال: ولولا ذلك لما قدرت على إحداث هذا العالم. ولولا هذه العلة لما حدث هذا العالم."[26]
ثم يعلق ابن القيم على هذا الكلام السفساف بقوله: "ولولا أن الله، سبحانه، يحكي عن المشركين والكفار أقوالا أسخف من هذا وأبطل، لاستحيى العاقل من حكاية مثل هذا…فأي ضلال، وأي خذلان أعجب ممن يفني عمره في النظر والبحث، وهذا غاية علمه بالله، عز وجل، وبالمبدأ والمعاد!!"[27]
الأمة أجمعت[28]، بإيمانها بالوحي، على أن الكفر قبح صراح. وجاء في آخر الزمان مفكرٌ ناقضا وهادما وثائرا ومحررا ومبتدعا، فقال: لا، إنما الكفرُ جمالٌ في قمة الإبداع.
هذه هي باختصار قصة أدونيس مع كل أشكال الإلحاد والزندقة والضلال والإجرام، في التاريخ العربي الإسلامي.
هذه المسلمة الإلحادية ملكت على أدونيس نفسه، فراح يقرأ في التراث العربي الإسلامي على ضوئها، مفتشا عن أمثلة مناسبة لتصديق مسلَّمته، فوجد نفسه مدفوعا إلى تبني الروايات الشاذة، والأخبار المشكوك في صحتها، والذهاب في التعسف في الفهم والتأويل كل مذهب، إلى درجة أجاز فيها لنفسه أن يحكم على سرائر الناس المطوية في قلوبهم، وأن يحكم على شعراء مسلمين-مهما كانت ملاحظاتنا على تجليات هذا الإسلام في سلوكهم وأشعارهم- بأنهم كانوا ملاحدة، وبأن إبداعهم الشعري لم يأتهم إلا من كونهم كانوا لادينيين؛ وهذا الحكم الظالم، الذي لا يستند إلى أي دليل، يشمل، عند أدونيس، كبار شعر العربية المبدعين، كأبي نواس وأبي تمام وأبي الطيب المتنبي وأبي العلاء المعري.
وكذلك فعل مع الحركة الصوفية في تاريخنا الإسلامي، حيث اعتبرها-في حكم جازم قاطع ظالم-حركة معادية للإسلام، وسلك أعلامها، من غير استثناء، في الملحدين، في خروج فاضح على قواعد البحث الموضوعي المنصف، وانتهاك سافر لأمانة البحث في نقل الوقائع ورواية الأخبار.
وللحديث تتمة في المقالة القادمة إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش

[1] الثابت والمتحول،(الأصول)، ص90.
[2] نفسه، ص89.
[3] نفسه.
[4] نفسه.
[5] من تاريخ الإلحاد في الإسلام، عبد الرحمن بدوي، ص165.
[6] نفسه.
[7] اقرأ أمثلة على هذا الأسلوب السحري العجيب فيما أجمله في المقدمة من الجزء الأول(الأصول)، بدءاً من ص88، وفيما فصله في الجزء الثاني (تأصيل الأصول)، ص73 وما بعدها.
[8] نفسه، ص89.
[9] نفسه.
[10] نفسه، ص90.
[11] نفسه.
[12] نفسه.
[13] نفسه، ص88 ـ 89.
[14] نفسه، ص92.
[15] نفسه، ص91.
[16] نفسه، ص91 ـ 92.
[17] بيير جوزيف برودون، فيلسوف فرنسي(1809-1865).
[18] نفسه، ص92.
[19] نفسه.
[20] نفسه، ص89.
[21] من الآية24 من سورة الجاثية.
[22] هو أبو الحسين أحمد بن يحيى بن محمد بن إسحق الريوندي، أو الروندي، أو الراوندي، حسب الروايات المختلفة. رُوي أنه مات سنة ثمان وتسعين ومائتين(298هـ). راجع سيرته وأخباره وأفكاره وأخبار المصادر التي ترجمت له في "تاريخ ابن الريوندي الملحد"، للدكتور عبد الأمير الأعسم، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط1، 1395هـ، 1975م.
[23] هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي(251-313)، على اختلاف المصادر في سنة وفاته؛ اشتهر بأنه كان عالما ماهرا في الطب والكيمياء، أما اشتغاله بالفلسفة، فقد جر عليه انتقادات كثيرة، حتى أن بعضهم وصف تعاطيه للفلسفة بأنه كان اشتغالا بما لا يعنيه.
[24] لا بد من التذكير هنا بأن أبا بكر الرازي اشتهر بالطب والكيمياء، وكان مبدعا ومتقنا وبارعا في ميدانه، تشهد له بذلك مؤلفاته المتميزة في الباب، فضلا عن شهادة القدماء له بالسبق والتميز في صناعته واختصاصه؛ أما الفلسفة وتبني مقالات الملحدين والزنادقة، فلا نجد فضلا منسوبا له في هذا الشأن. وشهرة نسبته إلى الإلحاد، إنما ظهرت وراجت مع دراسات المستشرقين، ومنشوراتهم التي أولت اهتماما كبيرا وحماسا منقطع النظير للأخبار والروايات والأعلام والمخطوطات، التي لها علاقة، مباشرة أو غير مباشرة، بالطعن على الإسلام والتشكيك في معتقداته والتطاول على مقدساته.
[25] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، للإمام ابن قيم الجوزية، الجزء2، ص264.
[26] نفسه.
[27] نفسه. اقرأ في هذا الجزء من الكتاب فصولا في حكاية بعض مقالات طوائف الفلاسفة الزنادقة الملحدين وترّهاتهم وسخافاتهم، وتبيان كيد الشيطان وتلاعبه بهم، ص261 وما بعدها.
[28] قالوا في ابن الراوندي، مثلا: أحد مشاهير الزنادقة ومعتمد الملاحدة، كان أولا من متكلمي المعتزلة، ثم تزندق واشتهر بالإلحاد.(راجع عن بعض هذه الأقوال وأصحابها ومصادرها، "الأعلام"، للزّركلي: 1/267.)
ومما قاله فيه الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء": "…صاحب التصانيف في الحطّ على الملة. وكان يلازم الرافضة والملاحدة، فإذا عوتب قال: إنما أريد أن أعرف أقوالهم."(ج14/ص59)
وقال عنه ابن الجوزي في المنتظم(ج6/ص99): "كنت أسمع عنه بالعظائم، حتى رأيت له ما لم يخطر على قلب…"
ويقول ابن الجوزي، في نفس المصدر السابق، عن كتاب "الزمرذة" المنسوب إلى ابن الراوندي: "فيه هذيان بارد لا يتعلق بشبهة. يقول فيه: إن كلام أكثم بن صيفي[أكثم بن صَيفي ابن رياح بن الحارث التميمي، أحد حكماء العرب في الجاهلية] فيه ما هو أحسن من سورة الكوثر…"
ومن الأقوال الإلحادية المنسوبة إليه وصفُ القرآن بأن فيه لحنا، وقال: إن كانوا يقولون: لا أحد يستطيع أن يأتي بمثل القرآن، فهذا إقليدس[من مؤسسي علم الهندسة، وهو من الفلاسفة الرياضيين] لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، وكذلك بطْلَيْموس[فلكي ورياضي مشهور].(عن "سير أعلام النبلاء"، للحافظ الذهبي: 14/61.)
قال الحافظ الذهبي في آخر ترجمته لابن الراوندي: "لعن الله الذكاء بلا إيمان، ورضي الله عن البلادة مع التقوى."(نفسه)