الجمعة، 9 ديسمبر 2016

الإسلام والشعر ضدان متعاديان!!

بسم الله الرحمن الرحيم

الإسلام والشعر ضدان متعاديان!!

يقول أدونيس: "الثقافة العربية قائمة على أمرين أساسيين: الدين والشعر، وهما أمران متضادان، بل متعاديان. لكن الشعراء الكبار، في التاريخ العربي، تمردوا على الدين. فقد كانوا ينظمون قصائدهم غير آبهين بالنص القرآني"[1].
قضيةٌ مُفتعَلة
لم يكن للإسلام، في النقد الأدبي القديم، مشكلة مع الشعر أو مع غيره من فنون القول. الإسلام كان دين الأمة، وهذا كان يفرض على الناس، كلِّ الناس، تعظيمَه ورعايةَ حدوده، إمّا عن اعتقاد واقتناع وتربية دينية سليمة، وإمّا احتراما لدين الأغلبية، والتزاما بقوانين المجتمع التي كانت الشريعة الإسلامية تشكل سداها ولحمتَها.
لم يتناول نقادنا القدامى، مِن بين ما تناولوه في مباحثهم وكتاباتهم من قضايا وإشكاليات، ولو على سبيل الإشارة الخفية، إشكاليةً كان الإسلامُ فيها، وهو دين المجتمع، متهما بتقييد الحريات وتعطيل المواهب وحبس طاقات الإبداع أن تنطلق في مختلف مسالك الفن والجمال.
لم يكن يدور بخلد أحد من النقاد أنه يمكن رميُ الإسلام بهذا النوع من التهم، وذلك لسبب بسيط جدّا هو أن الناس كانوا مسلمين، وكانوا يؤمنون بأن دينهم لم يكن دينَ قمع ومنع وحبس، وإنما كان دينَ حرية وتفتح وجمال وإبداع فيما يناسب الفطرة السليمة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، وفيما ينمّي في الإنسان مشاعر التفكّر والتدبر في كون الله الفسيح بكل مخلوقاته العجيبة وآياته الباهرة المعجزة، فضلا عن نظامه البديع وجماله الساحر، (فتبارك اللهُ أحسنُ الخالقين)[2].
(إن الله فالقُ الحبّ والنَّوَى، يخرج الحيَّ من الميت ومخرجُ الميت من الحي.  ذلكم الله فأنى توفكون.  فالق الإصباح وجاعلُ الليل سكنا، والشمسَ والقمر حسبانا، ذلك تقدير العزيز العليم.  وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البرّ والبحر، قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون.  وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقرّ ومستودع، قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون.  وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نباتَ كل شيء، فأخرجنا منه خضِرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قِنوانٌ دانية وجنّاتٍ من أعناب والزيتونَ والرّمان مشتبها وغير متشابه، انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه، إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون)[3].
(ألم ترَ إلى ربّك كيف مدّ الظّلّ ولو شاء لجعله ساكنا، ثم جعلنا الشمس عليه دليلا، ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا. وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا. وهو الذي أرسل الرياح نُشُرا بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماء طهورا، لنُحييَ به بلدة ميْتا ونُسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسِيَّ كثيرا)[4].
(ألمْ تَر كيف ضرب الله كلمةً طيبة كشجرة طيبة أصلُها ثابت وفرعها في السماء، توتي أُكْلها كلّ حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجْتُثَّت من فوق الأرض ما لها من قرار. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويُضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء)[5].
(الله نورُ السماوات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دُرِّيّ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيْتها يُضيء ولو لم تمسَسْه نار. نورٌ على نور. يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس، والله بكل شيء عليم[6](.
آيات من القرآن الكريم-وآيات القرآن كلها كذلك-تبهر القارئ بمضمونها المعجز وأسلوبها المدهش، لم يملك البلغاء العرب الأقحاح أمام روعتها الآسرة إلا التسليم والاعتراف بالعجز عن مجاراتها والإتيان بمثلها.
كيف يمكن لدين هذا هو كتابه قد بلغ الغاية في التعبير الجميل والأسلوب الرفيع أن يكون بضد الفن والجمال، وأن يكون سلطة قمع للإبداع وإيديولوجيةَ سلبِ ونفي لذوات الشعراء؟
نعم، لقد ورد عند بعض نقادنا القدماء أن "الدين بمعزل عن الشعر"[7]، لكن مثل هذا الحكم لا يفيد، من قريب ولا بعيد، كما يزعم بعض النقاد في زماننا، أن أصحابه كانوا يقصدون أن الإبداع يكون مُنتفيا مع الدين، وأن الجمال الفني الحق لا يكون إلا خارج ربقة الدين، وأن كبار شعراء العربية لم يبلغوا ما بلغوه في إبداعهم إلا لأنهم كانوا متمردين لادينيين، كما يدّعي أدونيس.
هذا الحكم وأمثاله، في النقد القديم، إنما كان المقصود منه، عكس ما يزعم الحداثيون اللادينيون اليوم، أن الإبداع الفني، في الشعر وغيره، لا يضيره أن كان صادرا عن ذات ملحدة، أو نابعا من رؤية لادينية، ولذلك وجدنا نقادنا القدامى ينصون صراحة أن الجودة في التصوير الشعري لا ينقص من قيمتها المضمون الفاسد، وكذلك لا يؤثر فيها كونُ الشاعر كافرا أو مشركا أو غير ذينك من العقائد التي تخالف عقائد الإسلام؛ "فلو كانت الديانة عارا على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عدّت الطبقات، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد الأمة عليه الكفر، ولوجب أن يكون كعب ابن زهير، وابن الزبعرى، وأضرابهما ممن تناول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعاب من أصحابه بُكما خرسا، وبِكَاء مفحمين.[8]"
لا أساس، لا من الوقائع التاريخية، ولا من النصوص النقدية، ولا من الروايات المحفوظة في المدونات الأدبية، لهذه الاتهامات التي نجدها تتكرر كثيرا في كتابات أدونيس وتصريحاته، وفي كتابات غيره من الحداثيّين اللادينيّين في هذا الزمان، والتي تسعى، جاهدة مستقويةً بما خلفته حراب الغزو الاستعماري، على مدى أجيال، من آثار عميقة في كيان الأمة وتشوهات في ثقافتها، لوصم عقائد الإسلام وشرائعه وآدابه بأنها لا تنفك تنفي ذات الإنسان وتسلب حريته وتعطل مواهبه وقدراته الخلاقة من أجل جعله عبدا لله وتابعا مقلدا لسنة رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والحقيقة الناصعة القاطعة التي ترد على هذه الاتهامات الملفقة هي أن دواوين الشعراء المسلمين التي وصلتنا تقف اليوم شاهدة على أن الإسلام لم يكن في يوم من الأيام مانعا للإبداع ولا قامعا للشعراء أن يعبروا عن حقيقة عواطفهم وأعماق مشاعرهم في أجمل الأساليب وأحلى الصور. كما تقف دواوين هذه الأشعار داحضة، وبقوة، شبهات الطاعنين وأباطيل الحداثيين اللادينيين المتطرفين، لأنها تبين، بما لا يدع مجالا لرائحة من الشك، أن الإسلام لا يمنع المسلم، بأي صورة من الصور، أن يجمع بين السعي والاجتهاد في طاعة الله واتباع هدي نبيه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبين الجري في دروب الفن والجمال والإبداع. أما مقدسات المجتمع وقوانينه وآدابه وأعرافه فالناس أمامها، في دولة الإسلام، سواسية، لا فرق بين غني وفقير، ولا بين شريف ووضيع، ولا بين شاعر وأمير، ولا بين مشهور ومغمور.
في الفقرات التالية، سأحاول أن أقف على بعض الشبهات والمغالطات والأخطاء التي طبعت كثيرا من آراء أدونيس وأحكامه في موضوع الإسلام والشعر.
لقد جرى أدونيس، في آرائه أحكامه في موضوع علاقة الإسلام بالشعر، في كل الاتجاهات، وسعى بكل الوسائل، يجمع من هنا، ويلفق من هناك، ويختلق ويسف في الفهم والتأويل، ويذهب بعيدا في الوهم والتخليط والتشويش، كل ذلك من أجل رسم صورة مشوهة يَظهرُ فيها الإسلامُ والإبداعُ، عموما، والشعرُ على التخصيص، على طرفي نقيض.
الإسلام والشعر
إن الشعر، بما هو نوع من كلام العرب-على الأقل فيما كان متعارفا عليه إبان ظهور دعوة الإسلام-لا شأن له بعقائد الإسلام، لأن هذه العقائد، ببساطة، عقائدُ نزلت من أجل تحطيم أصنام عقدية، وأوثان فكرية واجتماعية وأخلاقية. عقائدُ نزلت من أجل إخراج الإنسان من ظلمات الجهل والظلم والاستبداد والجاهلية إلى نور العدل والعلم والشورى والعمران الأخوي.
إنها، باختصار، عقائدُ نزلت من أجل خير الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، ولم تنزل لمعالجة قضايا لغوية، أو أدبية، أو فنية، أو نقدية، حتى نسأل: ما موقف الإسلام من الشعر؟
نعم، هناك، في القرآن الكريم، سورة "الشعراء"، لكن آيات الشعراء فيها[9] لا يمكن أن تفهم خارج سياقها الدعوي العقدي العام. فقد نزلت الآيات، والإسلام في قلب المعركة الكبرى، معركة الإيمان في مواجهة معتقدات الباطل بكل صوره ومعانيه، في النفس، والمجتمع، والأسرة، والفكر، والعادات، والعبادات، وغيرها من صور النشاط الإنساني، اعتقادا، وسلوكا، وأخلاقا.
ويُجمع كبار المفسرين على أن آيات الشعراء إنما نزلت في التشنيع على المشركين الذين كانوا يحاربون الدعوة الإسلامية بسلاح الشعر، والتنويه، في المقابل، بالذين آمنوا وعملوا الصالحات، والذين كانوا يقولون الشعر ذودا عن الدين، وانتصارا لعقائده ومبادئه.[10]
فقد رُوي أن كعب بن مالك، رضي الله عنه، حين أنزل الله، تبارك وتعالى، ما أنزل، أتى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: إن الله، تبارك وتعالى، قد أنزل في الشعر ما قد علمت، وكيف ترى فيه؟ فقال النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. وزاد، في رواية: والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل."[11]
وفي سنن الترمذي وأبي داود أن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله، أو قال ينافح عن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويقول رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن الله يؤيد حسان بروح القُدس ما يفاخر أو ينافح عن رسول الله.
وفي رواية عند الإمام مسلم: "إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله."
وفي رواية أخرى عند الإمام مسلم، عن عائشة، رضي الله عنها، أنها سمعت رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقول: هجاهم حسّان فشفى واشتفى."
وفي سياق هذه المعركة الدعوية العقدية، معركة تثبيت أصول الدين وقواعد الإيمان والتوحيد، ومجادلة الكفار والمشركين من أهل الكتاب وعبدة الأوثان، ينبغي، كذلك، فهم الآيات القرآنية المكية التي وردت في الردّ على مقالات المشركين، الذين كانوا يبطلون نبوة محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويجحدون ببعثته ورسالته، ويصفونه مرة بأنه شاعر، ومرة بأنه كاهن، وأخرى بأنه مجنون[12].
فلا شأن للقرآن بالشعر بما هو فن من فنون القول تعارفت العرب على أساليبه وأعاريضه ومقاييس نقده. ولا شأن للإسلام بالشعر بما هو إبداع قد تتفاوت فيه مواهب الشعراء، كل الشعراء، مسلمين ومشركين وكفارا. ولم يثبت بنص أو سنة أو غيرهما من الأدلة القطعية أن الإسلام، في القرآن أو السنة، أو فعل الصحابة أو غيرهم من المسلمين، حارب الشعر من جانب جوهره الفني الإبداعي، أي في ذاته، وإنما الحرب كانت على الكفار والمشركين الذين يركبون متن الشعر للدعوة إلى الباطل، ومحاولة إطفاء نور الله بأشعارهم.
وبعبارة أوضح وأوجز: الحرب كانت على الشعراء من الأعداء، وليس على الشعر. وهذا أمر طبيعي وضروري ومنطقي في كل زمان ومكان، وخاصة إذا تعلق هذا الأمر  بدعوة ناشئة صادقة يراد لها أن تصل إلى قلوب الناس، وتثبت أقدامها في حياتهم، ومجتمعاتهم، وتستأنف، في دنياهم، تاريخا جديدا.
الأباطيل الأدونيسية
لقد أقام أدونيس صرحَ نظريته الحداثيّة ومقولاته النقدية المرتبطة بها على مناقضة الموروث، أيا كان نوعه وتاريخه. وفي قلب هذا الموروث يوجد التراثُ الإسلامي بأصوله وفروعه واجتهادات رجالاته.
بل إن أدونيس قد أصل نظريته الحداثية في الإبداع بناء على معطيات تاريخية، من حوادث سياسية، ومذاهب عقدية وفقهية، وتيارات فكرية، ونزعات فلسفية، وحركات ثورية، تلتقي جميعها، حسب تحليلات أدونيس وتأويلاته وتقريراته، في مناقضة الإسلام، كل الإسلام، بما هو، في زعمه، قوامُ النظرية الاتباعية، في السياسة والفكر والفقه والآداب والفنون وغيرها من الأنشطة المتعلقة بالإنسان والمجتمع.
وقد بلغ أدونيس في عدائه للإسلام وكراهيته لعقائده وشرائعه وآدابه وأخلاقه أن جعله أصل الجمود والتخلف والاتباع، وجعل كل ما يخالفه ويناقضه ويحاربه أصل التحرر والتقدم والإبداع.
فهو يقرّر، خارج أي منطق، وبلا أي دليل معقول ومقبول ومقنع، مستندا إلى هواه وما تمليه عليه إيديولوجيته اللادينية، وما تقتضيه مُسلَّمَتُه الإلحادية، التي تجعل الفكر والفن والإبداع قرين الإلحاد ومعاداة الدين-
يقرر أدونيس، في جرأة غير مسبوقة:
أن الشاعر، في الإسلام، ليس ذاتا[13]،
و"أن السنة تمنع الشعر بما هو شعر وكما هو…"[14]
وأن "الإسلام قد اغتال الشعر، وهذا الاغتيال، في الحقيقة، هو اغتيال للذاتية، وللمشاعر الفردية، والتجربة الحياتية، من أجل الإيمان الجماعي، إيمان الأمة"[15].
وأن "الإسلام لم يكتف بتجميد التفكير والتأمل، والعقل والحرية، بل أدان الجسم والحواس"[16].
وأن "الإسلام يَعُدّ الشعر غواية وخداعا لا علاقة له بالحقيقة"[17].
وأنه "بعد تأسيس الإسلام-النظام، تم إعلان موت الشعر، الذي لم يبدأ في استرجاع عافيته، في الحقيقة، إلا في العصر العباسي.[18]
"وكما أن القرآن(النص) أدان الإبداع وروح البحث، فإنه قيّد آفاق اللغة، وحريتها في التعبير"[19].
وأنه "من وجهة نظر شعرية، الدينُ عدميّةٌ مضاعفة، لأنه تدمير لجمال الوجود فوق الأرض، ليستبدل به خرافاتٍ حول الجنة لا نهاية لها."[20]
وأن "الشعر له ميزة المواجهة المباشرة للألوهيّة من غير أن يصبح هو نفسه دينا آخر. إنه[أي الشعر] ليس إيديولوجيا. إنه، مثل علم الأساطير(الميثولوجيا)، يسأل، ويفتح الآفاق اللامتناهية للبحث"[21].
وأن "الثقافة العربية قائمة على أمرين أساسيين: الدين والشعر، وهما أمران متضادان، بل متعاديان. لكن الشعراء الكبار، في التاريخ العربي، تمردوا على الدين. فقد كانوا ينظمون قصائدهم غير آبهين بالنص القرآني"[22].
وأن "الشعر، على طول تاريخه، كان معاديا للدين"[23].
وأن "مأساة العرب أنهم لا ينشغلون بالقضايا الكبرى. إن عالمهم يتلخص في مجموعة من الأوامر والنواهي؛ والإسلام، من هذه الناحية، قد قتل اللغة العربية أيضا"[24].
وأن الشرع الإسلامي بمثابة قيود قمعية للحريات. "وإذا شبهنا التاريخ العربي ببيت، فإن الشرع فيه كان يشكل جدرانَه وأبوابه ونوافذه، ولا تشكل الحياة الحرة، المتسائلة، الطامحة، إلا ثقوبا صغيرة لا تكاد تتسع لكي يدخل منها الضوء."[25]
ومن تقريراته المتهافتة القائمة على الظن والهوى أن الإسلام فرض أن "الحقيقة تكمن في الدين، وعلى الشعر أن يكون في خدمة هذا الدين؛ على الشعر أن يكتفي بالتعبير عن المشاعر والعواطف. وهذا هو السبب الذي جعل كبار الشعراء يرفضون الإسلام بصورة قاطعة"[26].
 وأن الإسلام "قد رفض أن يكون الشعر معرفة وبحثا عن الحقيقة"[27]، ومن ثَمَّ "أبعده وأدانه"[28].
هذه أمثلة من الأحكام الظالمة، والتصورات الشاردة الماردة، التي نظر بها أدونيس إلى الإسلام وعلاقته بفنون الإبداع عامة، وبفن الشعر على التخصيص. وهي عبارات تنضح بالحقد والكراهية والرفض والجحود، فضلا عن ابتعادها عن منهاج البحث السليم، والدراسة الموضوعية، والأحكام القائمة على الأدلة القوية والمقدمات الصحيحة.
إن آراء أدونيس الملحد المناضل في شأن الإسلام والإبداع لا علاقة لها بأمانة البحث العلمي ورصانته، ولا بقواعده وآدابه، وإنما هي تعبيرات إيديولوجية غارقة في التطرف المنكر؛ إنها أباطيل وافتراءات، سرعان ما تتهاوى وتضمحل أمام المعالجة النقدية الجادة.
في المقالة التالية، سأناقش الأفكار الأساسية التي بنى عليها أدونيس ادعاءاته واستنتاجاته وأحكامه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.




هوامش:
[1] Le regard d’Orphée, p151.
[2]  من الآية14 من سورة "المؤمنون".
[3]  سورة "الأنعام"، الآيات 95-99.
[4]  سوره "الفرقان"، الآيات 45-49.
[5]  سورة "إبراهيم"، الآيات 24-27.
[6]  سورة "النور"، الآية 35.
[7]  الوساطة، للقاضي الجرجاني، ص64.
[8]  نفسه.
[9] وهي قوله تعالى:{والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لايفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا، وانتصروا من بعد ما ظلموا. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.}(الشعراء/224-227)
[10] راجع، في تفسير هذه الآيات: "جامع البيان في تفسير القرآن"، للإمام أبي جعفر بن جرير الطبري، و"تفسير القرآن العظيم"، للإمام الحافظ ابن كثير، و"الجامع لأحكام القرآن"، للإمام القرطبي.
[11] رواه الإمام أحمد وغيره. ونضح النبل: النبل المنهمر. انظر أيضا، في تفسير آيات الشعراء: "الدر المنثور في التفسير بالمأثور"، للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي.
[12] من هذه الآيات التي تحكي مقالاتهم قوله تعالى:{بل قالوا أضغاث أحلام، بل افتراه، بل هو شاعر}(الأنبياء/من الآية5)، وقوله عز من قائل:{ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون، بل جاء بالحق وصدق المرسلين}(الصافات/36-37)، وقوله تعالى:{فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون، أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون.}(الطور/29-30). راجع في تفسير هذه الآيات أمهات التفاسير المشار إليها. ونضيف هنا "أحكام القرآن"، لأبي بكر بن العربي.
[13] الثابت والمتحول،(صدمة الحداثة)، ص235.
[14] نفسه،(الأصول)، ص140.
[15] Violence et Islam, p.138.
[16] Le regard d’Orphée, p.168.
[17] Violence et Islam, p.138.
[18]  نفسه، ص141.
[19]  نفسه.
[20]  نفسه، ص139.
[21]  نفسه.
[22]  نفسه، ص151.
[23]  نفسه.
[24]  نفسه، ص272.
[25] نفسه، ص75.
[26] Le regard d’Orphée, p.150.
[27] Violence et Islam, p.138.
[28]  نفسه.