بسم الله الرحمن الرحيم
دعوى ضعف الشعر وسقوطه في الإسلام
من أدلة
الإثبات المشهورة، التي يسوقها أصحاب دعوى سقوط الشعر في الإسلام، قول الأصمعي:
"طريق الشعر هو طريق شعر الفحول، مثل امرئ القيس، وزهير، والنابغة، من صفات
الديار والرحل، والهجاء والمديح، والتشبيب بالنساء، وصفة الحُمُر والخيل، والحروب
والافتخار؛ فإذا أدخلته في باب الخير لان."[1]
أما
أدونيس، وهو، في الحداثيّين، من رؤوس هذه الدعوى، فيحكم، مطلقا، بأن الشعر الذي
استلهم "بشكل أو بآخر، مبادئ الإسلام، أو ألفاظ القرآن ومعانيه، إنما كان كله
شعرا تقريريا، أي أنه كان، من الناحية الفنية، شعرا رديئا جدا."[2]
وقد يفهم
من هذا أن قصد أصحاب هذه الدعوى هو أن يقرروا أن الشعر الجيد إنما بابه الشر، وأن
الشاعر-حسب منطق دعواهم دائما-لا يكون شاعرا فنانا مجيدا، حتى يكون صادرا في
تجربته عن الشر وما في معناه، وإلا فشاعريته محكوم عليه، سلفا، باللين والضعف
والسقوط.
وإذا كان
هذا المنطق صحيحا، فلماذا أثبت أدونيس، في كثير من مختاراته[3]
في "ديوان الشعر العربي"، أبياتا ومقطّعات كثيرة، وحكم لها بالجودة، وإن
كانت صادرة عن تجارب بعيدة كل البعد عن الشر وما يدور في فلكه؟
يقول
محمود الورّاق:
إني
وهبت لظالمي ظلمي
|
وشكرت ذاك له على علمي
|
|
ورأيته أسدى إليّ يــدا
|
لمّا أبان بجهله حلمـي
|
|
ما يزال يظلمني وأرحمــه
|
|
حتى رثيت له من الظلـم.[4]
|
أليست
شاعرية هذه الأبيات كامنة في مضمونها الراسخ في الحكمة والموعظة ومكارم الأخلاق؟
وهل في هذا المضمون شيء آخر غير معاني الخير؟
وهل شيء
غير الحكمة والموعظة، وهما من جنس المعاني الخيرية، في مثل قول أبي العتاهية:
طلبت
المستقرَّ بكـــــــل أرض
|
|
فلم
أرَ لي بأرض مستقـــــرا
|
أطعت مطامعي فاستعبدتي
|
|
ولو
أني قنعت لكنت حرّا؟[5]
|
وقوله:
إني سألت القبر: ما فعلت
|
|
بعدي وجوه فيك منعفـرهْ؟
|
فأجابني: صيّرت ريحهـــــمُ
|
|
تؤذيك بعد روائح عطـــرهْ
|
وأكلت أجسادا منعّمـــــــة
|
|
كان النعيم يهزّها، نضـــــره
|
لم أُبق غير جماجم عريـت
|
|
بيض
تلوح، وأعظم نخره.؟[6]
|
وقوله:
ما لي رأيت بني الدنيا قد اقتتلـوا
|
|
كأنما
هذه الدنيا لهم عُـرُسُ
|
إذا وصفت
لهم دنياهمُ ضحكوا
|
|
|
إن الشعر،
بطبيعته، ذو بعد إنساني، لأنه يشمل الإنسان في مختلف حالاته، ومستوياته، في
استوائه وانحرافه، في اهتدائه وضلاله، في رزانته ومجونه…إلخ. فكيف نقصر الجودة فيه
على تجارب الكفر، والزندقة، والمجون، والعبث، والفوضى، والمعاصي، وننفيها عن تجارب
الإيمان، والضراعة، والتقوى، والاستقامة، والفضيلة، وغيرها من أعمال القلوب وأبواب
الخير والإحسان؟
ولنتأمل
المثالين التاليين، وهما جميعا من مختارات أدونيس؛
يقول أبو
نواس في وصف الحرام:
ما مرّ يوم وليس عندي
|
|
من طُرف اللهو خصلتان
|
كأس رحيق ووجه ظبي
|
|
تضل في حسنه المعانـي
|
نلت لذيذ الحرام منـــــه
|
|
وناله
الناس بالأمانــــــــي
|
كم
لذة قلت قد وعاهـا
|
|
في
وسط اللوح حافظان.[8]
|
ويقول أبو
العتاهية في التذكير بالموت والقبر:
يا ساكن الحجرات مـا
|
|
لك غير قبرك مسكن…
|
فكأن شخصك لم يكن
|
|
في الناس ساعة تُدفـن
|
وكأن أهلك قد بكـــوا
|
|
جزعا عليك ورنّنــوا
|
فإذا مضت لك جمْعـة
|
|
فكأنهم لم يحزنـــــــــــــوا
|
الناس في غفلاتهــــــــــم
|
|
ورحى المنية تطحـن.[9]
|
فعلى أي
شيء بنى أدونيس اختياره لهذين المثالين؟ فمضمونا المثالين متضاربان ومتنافران
ومتباعدان.
فالأول في
الحياة ولذاتها الحرام، والثاني في الموت ومصير الإنسان في القبر.
الأول في
الدنيا، والثاني في الآخرة. الأول في اللهو والمجون، والثاني في التوبة والتذكر[10].
الأول في
الأماني والأحلام، والثاني في الحقائق والمصير المحتوم.
فلا
مقارنة، إذاً، بين المضمونين. لكن الجامع بينهما في مختارات أدونيس هو فنية الشاعر
في المعالجة، وبراعته في التعبير والتصوير، وطريقته في اختيار الألفاظ وصياغة
العبارات. في جملة، الجامع بين المثالين هو الشاعرية المبدعة.
ومن جهة
أخرى، فإن المثالين، بالمقياس الجمالي الشعري المجرد، هما جيدان، بما اشتملا عليه
من براعة في التصوير، وتميز في النظم.
أما
بالمقياس الإسلامي الشرعي-أقول الشرعي، وليس الفني الجمالي المجرد- فمثال أبي
العتاهية أحلى وأجمل، لأنه، بمضمونه، يقع في دائرة الحلال المباح. أما مثال أبي
نواس، فهو، بمضمونه، واقع في دائرة المحرم، ومن ثم فهو قبيح مسترذل.
لكن
شاهدنا من وقوفنا عند هذين المثالين هو التدليل على أن الشاعرية لم تكن، في يوم من
الأيام، مقصورة على القول في المحرمات والمعاصي وانتهاك المقدسات، وإنما هي
موجودة، كذلك، في موضوعات الحلال، والمباح، والواجب، وغيرها من المضامين الواقعة
في دائرة الخير الفسيحة الأرجاء.
وحينما
نتأمل الأسباب التي يراها أدونيس وراء ضعف الشعر "كما ونوعا في العقود الخمسة
الأولى التي تلت الإسلام"[11]،
نتذكر الافتراضات الأدونيسية التي أشرت إليها في سياق كلامي السابق، والتي يبني
عليها أدونيس، في تنظيراته واستنتاجاته، وكأنها من المسلمات البديهية التي حازت
تصديق العقول والقلوب.
فهو يرجّح
أن أسباب ضعف نوعية الشعر في الإسلام "تكمن في الموقف الإيديولوجي الإسلامي
ذاته من الشعر"[12]،
لأن الإسلام "جعل الشعر أمرا نافلا يمكن الاستغناء عنه"[13]،
وجعله لا يقوّم من حيث هو شعر، ولكن بما هو كلام يحسن إذا كان في خدمة الإسلام،
ويقبح إذا كان في غير خدمة الإسلام[14].
ولعل من
أكبر مطاعن هذا الكلام النظري أنه يسند الفعل إلى الإسلام مطلقا، ولا يعين، وهو ما
يفقده، في رأيي، صفة الموضوعية وأمانة البحث العلمي النزيه. فلا أحد يستطيع-لأن
المطلوب غير موجود أصلا-أن يأتينا بشيء، كيفما كان، يثبت أن النقاد كانوا يردون،
بالاستسقاط والاسترذال، الأشعار التي لا تخدم الإسلام.
وحسب رأي
أدونيس، دائما، فإن الشعر، مع هذا الضعف الذي تسبب فيه الإسلام، لم يسترجع عافيته
الإبداعية إلا بعد أن ابتعد الشاعر عن الدين، وخرج على جماعة المسلمين، ودخل في
العالم "المحرّم" برفض الأشكال والأفكار المسبقة. وقد بلغت هذه العافية
الإبداعية أوجها في شعر أبي نواس وأبي تمام.[15]
ويوغل
أدونيس في إثبات التهمة على الإسلام-هكذا مطلقا، بغير تحديد ولا تشخيص ولا تسمية
فاعل بعينه-حين يقرر أنه كانت هناك نظرتان "في فهم الشعر وكتابته: نظرة تستند
إلى الإسلام، كرؤيا وكممارسة، ونظرة تستند إلى الشعر ذاته، من حيث إنه تجربة
متميزة، أو فعالية إنسانية تتصل بأخص خصائصه الإنسانية…"[16].
وبعد هذه
الملاحظات على تصورات أدونيس وآرائه في تسويغ دعوى سقوط الشعر بعد مجيء الإسلام،
فإن ما نستنتجه هو أن أدونيس، في معظم تنظيراته في موضوع الإسلام والفكر والثقافة
عموما، والإسلام والشعر خاصة، كان يجتهد غاية الاجتهاد من أجل التميّز برأي مخالف،
وإن كان هذا الرأي قائما، في أساسه، على مجرد افتراضات، منها ما لا يصح، ومنها ما
يحتاج إلى إثبات، ومنها ما لا أساس له إلا في ذهن صاحبه.
وشتان،
بعد هذا كله، ما بين رأي يقوم على البحث والتحري والاستنتاج الموضوعي، ورأي يقوم
على التعصب الإيديولوجي، والحكم القبلي المسبق. وفي حالة الرأي الثاني، فإن الخطاب
النقدي يتحول إلى ما يشبه الخطاب الحزبي بإغراقه في إبراز الذات ومحاولة إثبات
تميزها، مع ما قد يصاحب ذلك من تجاوزات وأحكام غير منصفة في حق العقائد، والأشخاص،
ومعطيات التاريخ.
هذا فيما
يخص مستندات دعوى ضعف الشعر في الإسلام، القائمة، أساسا، على أحكام إيديولوجية
مسبقة في حق الإسلام باعتباره، حسب زعم المدّعين، قطب الرحى في النظرية التقليدية
الاتباعية في التاريخ العربي الإسلامي.
وللحديث
تتمة في المقالة القادمة، إن شاء الله.
وآخر
دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
هوامش:
[1] الموشح، ص78.
[2] الثابت والمتحول،(تأصيل الأصول)، ص104. وقد قرأنا لأدونيس،
في مقالة سابقة، نصوصا يصرح فيها بأن الإسلام قد اغتال الشعر واللغة، وأن الشعر،
بمجيء الإسلام، قد مات، ولم يبعث من موته إلا على يد الشعراء اللادينيين في العصر
العباسي.
[3] عجيب أمر هذه المختارات الشعرية الأدونيسية، لأني أجدها
بين يديّ، في كثير من الأحيان، مفتاحا لنقض كثير من المقولات النظرية في الحداثية
الأدونيسية. فهي تسعف الباحث بالأمثلة الشعرية الكثيرة، التي تكذب كثيرا من
الافتراضات النقدية النظرية، كما تسعفنا بالدليل القوي على نسبية الأحكام في نقد
الشعر، وفهمه وتذوقه، وعلى أن العبرة في هذه الأحكام، إنما هي، أساسا، بالمشاعر
الذاتية، والانطباعات العاطفية، والذوق المدرب، وليست بالأفكار الإيديولوجية،
والفلسفات التجريدية.
[4] ديوان الشعر العربي، مختارات أدونيس: 2/195.
[5] نفسه: 2/163.
[6] نفسه: 2/164.
[7] نفسه: 2/165.
[8] نفسه: 2/105.
[9] نفسه: 2/167.
[10] من الأبيات التي لم يثبتها أدونيس، والتي تلي البيت الأول
في مثالنا:
أحدث لربك توبة
|
|
فسبيلها لك ممكن
|
واصرفْ هواك لخوفـــه
|
|
مما تسر وتعلن
|
(ديوان أبي العتاهية، ص226.)
[11] الثابت والمتحول،(صدمة الحداثة)، ص235.
[12] نفسه.
[13] نفسه.
[14] نفسه.
[15] نفسه، ص235،236. وانظر أيضا ما قاله في: كتاب "نظرة
أورفي"(بالفرنسية)، ص150و162، وكتاب "العنف والإسلام"(بالفرنسية)،
ص141.
[16] نفسه، ص236.