الأربعاء، 21 ديسمبر 2016

الشعوذةُ السياسية مستمرة

بسم الله الرحمن الرحيم


الشعوذةُ السياسية مستمرة

إن عجبي لا ينقطع من هؤلاء الذين فرضوا أنفسَهم، أو فرضهم آخرون، على الساحة بصفتهم خبراءَ ومتخصصين في القانون الدستوري، والذين ما يزالون يحللون ويعلقون ويخمنّون، لتفسير ظاهرة ما بات يُعرف بـ"البلوكاج"، المتعلق بتكوين الحكومة، بعد النتائج التي أفرزتها انتخابات 7 أكتوبر 2016.
إلى حد الآن، السيد عبد الإله بنكيران ما يزال عاجزا عن تجميع الأغلبية الضرورية لإخراج حكومته إلى النور، والسبب الحقيقي-أقول السبب السياسي الحقيقي-لا يعرفه أحد، لأن المسؤولين المتكلمين في الموضوع، وفي مقدمتهم السيد بنكيران، لا يقولون كل شيء، بل تراهم يلفّون ويدورون، ويُلمّحون في كثير من الحالات، ولا يوضحون للرأي العام ما يجب أن يعرفه.
أسباب هذا التعثر، إلى الآن، إنما هي أرباع الحقيقة من هنا، وتسريبٌ مغرض من هناك، وتلميح في هذا التصريح، وتلويح في آخر. أما الواقع في الكواليس، وما يكون من نقاشات ومحادثات في الاتصالات الهاتفية، وما يدون في اللقاءات الخاصة المغلقة، فلا نعرف عنه-كما قلت-إلا الفتات الذي يخرج من هنا أو هناك.
قلت عجبي لا ينقطع من خبرائنا في السياسة والقانون الدستوري، لأنهم يصرون دائما على أن المخزن/القصر لا يدَ له في هذا التعثر الحاصل، وأن الملك حريص على احترام نصوص الدستور، والالتزام بالحياد التام إزاء ما يجري داخل الأحزاب، وما يجري فيما بينها، وخاصة فيما يخص التفاوض المتعلق بتشكيل الأغلبية.
وإن نحن سلمنا، بناء على المعطيات الناقصة الرائجة في الإعلام، أن السبب وراء هذه العرقلة ناتج عن تشبث السيد بنكيران بحزب الاستقلال/السيد شباط في تشكيل أغلبيته، وتشبث السيد أخنوش/حزب التجمع الوطني للأحرار، للمشاركة في الأغلبية، بشرط إبعاد حزب الاستقلال عن هذه الأغلبية-إن نحن سلمنا بهذا، فإننا سنكون إزاء لعب أطفال لا علاقة له بالسياسة المسؤولة، ولا يمت بأي صلة إلى الرزانة والمرونة والمعقولية، الواجب توافرها في أي عمل سياسي جاد.
وإن تركنا حزب السيد أخنوش، وسألنا عن موقف الحركة الشعبية/السيد العنصر، وموقف الاتحاد الدستوري/السيد ساجد، وموقف الاتحاد الاشتراكي/السيد لشكر، فإننا نفاجأ-دائما حسب المعلومات القليلة الناقصة الرائجة في الساحة-أن هذه الأحزاب، بين عشية وضحاها، أصبحت مواقفها تابعة لحزب الأحرار، وإن لم يصرح زعماؤها بذلك.
ماذا حصل حتى تصبح هذه الأحزاب (الحركة الشعبية، والاتحاد الدستوري، والاتحاد الاشتراكي)، في موقفها من تشكيل الأغلبية، مرتبطة بحزب الأحرار؟
في رأيي، لم يحصل أي شيء ذو بال على مستوى الوعي السياسي، بل إن هذا الموقف من هذه الأحزاب يبدو لي طبيعيا، لأنها أحزاب مرتبطة، في روح وجودها، بالدولة المخزنية، ومن ثَمّ، فهي أحزاب تعرف، بالطبيعة والتجربة، في أي اتجاه تهبّ الريح المخزنية، بل، عند الضرورة، قد تأتيها التعليمات مباشرة، أو مغلفة بقشرة رقيقة من التمويهات، لتفعل أو لا تفعل.
أما حزب الأحرار، الذي بات فأصبح بطلا سياسيا تهوي إليه الأفئدة، وتسلط عليه الأضواء، والذي بات السيد بنكيران المسكين يئن تحت رحمته، فهو حزب مخزني من رأسه إلى أخمص قدمه، ولم يكن، في يوم من الأيام، فيما أعلم، حزبا ذا شخصية مستقلة، وسياسة متميزة، واختيارات منفصلة عن الدولة المخزنية منذ تأسيسه في السبعينيات. فكيف يصبح السيد أخنوش-الذي ليس له أي ماض سياسي، ولا أي خبرة ولا كفاءة في مجال العمل الحزبي، إلا أنه من أهل المال، ومن المقربين من أهل السلطان-كيف يصبح بهذه السلطة المعرقلة المعطلة، مع أنه لم يحصل في الانتخابات إلا على37 مقعدا؟
من أين جاءته هذه القوة الخارقة، والقدرة الهائلة على التشويش والتخليط والعرقلة، إن لم يكن في ذلك مأمورا من المخزن، أو، على الأقل، موجها ومدعوما؟
وأما حزب الحركة الشعبية، فهو الآخر، حزب مخزني، في مبناه ومعناه، ولا يمكن أن يعيش خارج نفوذ الدولة المخزنية، وتاريخه، من التأسيس إلى اليوم، يغنينا عن تكرار ما هو معروف ومشهور.
وأما الاتحاد الدستوري، فهو أيضا حزب مخزني منذ كان، ولم يكن له وجود إلا في دائرة الدولة المخزنية منذ تأسيسه في الثمانينيات، وكان دائما حاضرا في الخرائط التي كانت ترسمها وزارة الداخلية على عهد التزوير المفضوح. وإن كان لهذا الحزب من تميز، فهو تميز خاص بالصراع على الزعامة داخله، وخاصة بعد وفاة مؤسسه المعطي بوعبيد، رحمه الله وغفر لنا وله.
وأما حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي عرف بماضيه النضالي "العتيد"، فقد بدأ تحوله إلى المعسكر المخزني، في ظل ما عرف بالتناوب التوافقي، الذي أثمر حكومة 1998 برئاسة السيد عبد الرحمن اليوسفي. وقد تعرض هذا الحزب التاريخي، بعد هذا التناوب الذي فرضه المخزن، إلى هزات متواليات، فرضت على كثير من نخبه ومناضيله ورموزه أن يغادروه، أو أن يشكلوا تيارات معارضة داخله، حتى انتهى إلى ما هو عليه اليوم، يرأسه السيد لشكر، ومعه في القيادة مجموعة من أصحاب المصالح، الذين لم يعد له خيار كبير خارج النفوذ المخزني.
إذن، كيف يمكن للخبراء والمختصين في السياسة والقانون الدستوري أن يقنعونا بأن هذه الأحزاب، التي يقال إنها السبب، بدرجة من الدرجات، في عرقلة تكوين الحكومة الجديدة، هي مالكة لقرارها، ومستقلة في توجهها عن المخزن المتحكم في كل خيوط اللعبة، والذي يعمل دائما، في موضوع الأحزاب المشاركة، من أجل ألا يجد نفسه أمام مفاجآت، قد توقعه في حرج، أو قد تفرض عليه أن يظهر على حقيقته، بما هو المحرك الأساس، من وراء الستار، للأحداث على الساحة السياسية.
هل يعرف "خبراؤنا" السياسيون، و"اختصاصيونا" الدستوريون، أن الأحزاب المخزنية، الأصلية العتيقة، والمُلحقة حديثا، قد تعلمت بالتجارب الطويلة، والخبرة العملية في خدمة الدولة المخزنية، أن تعرف مُراد المخزن وأن تعمل مِن أجل تحقيق هذا المراد، وإن لم تعط لها الأوامر المباشرة للفعل. إنها أحزابٌ، في أسمائها وقوانينها وهياكلها، وفي غير أولئك من المظاهر والترتيبات، لكنها، في الحقيقة، ووفق النظام السياسي المخزني السائد في البلاد، أذرعٌ وأدوات ووسائل وسلاح بيد المخزن، يستخدمها في تحقيق أهدافه، وعلى رأس هذه الأهداف استمرار هيمنته ودوام دولته.
أما حزبا العدالة والتنمية والاستقلال، فهما أيضا حزبان مخزنيان، أولا لإيمانهما بالدولة المخزنية، والتزامهما بالدفاع عنها، وثانيا لقبولهما المشاركة في "اللعبة الديمقراطية" بالشروط والقواعد التي فرضها المخزن، وفي مقدمة هذه القواعد الدستور الممنوح، الذي صيغت أبوابه وفصوله على قدّ الدولة المخزنية، ليبقى لهذه الدولة دائما السيادة والحكم، من غير أن يكون عليها أن تؤدي حسابا لأي أحد، أو أن تخضع للمراقبة من أي جهة.
فإن كان هذان الحزبان مخزنيين، فالسؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا إذن هذه العرقلة في طريق تكوين حكومة السيد بنكيران الثانية؟
لماذا هذا التأديب والتأنيب والإذلال الذي يتعرض له السيد بنكيران هذه الأيام؟
في تقديري، الجواب على هذا السؤال لن يكون إلا من قبيل الاحتمالات، ولا شيء بين أيدينا يدعو إلى الجزم واليقين؛ فقد تكون هذه العرقلة، كما أشرت، تأديبا للسيد بنكيران وتأنيبا له بسبب شيء كان منها لم يرض عنه المخزن.
وقد يكون السبب راجعا إلى أن المخزن لم يكن، في يوم من الأيام، يتصور نفسه يتعامل مع حزب يعلن مرجعيته الإسلامية، وإن لم يكن لهذه المرجعية، على عهد حكومة السيد بنكيران السابقة، أي أثر في السياسات المتبعة، والقرارات المتخذة، والاستراتيجيات المرسومة؛ لكن عواصف الربيع العربي فرضت على المخزن هذا التعامل، وفرضته عليه أكثر النتائجُ التي حصل عليها الحزب في مختلف المحطات الانتخابية، وخاصة التي جرت في ظل دستور2011. ولمّا لم تنجح مناورات المخزن وألاعيبه ومكايده للتخلص من حزب العدالة والتنمية من طريق صناديق الاقتراع، وجاءت النتائج الأخيرة مخيبة لتطلعاته، ومشوشة على مخططاته، فإنه لم يجد بدا من تفعيل الخطة(ب)، وهي افتعال هذه الأزمة، التي نعيش فصولها منذ تعيين الملك للسيد بنكيران لتكوين الحكومة.
وقد يكون سبب هذه العرقلة، التي أرى دائما أنها، في أصلها، عرقلة مخزنية، وما الأحزاب المتهمة إلا أدوات للتنفيذ- قد يكون السبب أن المخزن، الذي لا يثق إلا في ما يصنعه بيده، يخشى أن أغلبيةً تتكون، في نواتها الأساسية، من أحزاب العدالة والتنمية والاستقلال والتقدم والاشتراكية، يمكن أن تحدث بعض الخلل في السياسات المخزنية، التي تتقرر خارج الهيئات المنتخبة، وهو ما سيشكل حرجا لا يريد المخزن، بأي شكل من الأشكال، أن يجد نفسه معرضا إليه؛ فالمخزن دائما يكره المفاجآت، ويعمل دائما أن يتفادى من طرقها وأسبابها، فلذلك فهو يريد حكومة، على شاكلة الحكومات المخزنية السابقة، سامعة مطيعة، لا تناقش، ولا تعترض، ولا تشاغب، وليس عندها إلا القبول بما يملى عليها، والتكيف مع القرارات والاختيارات التي تنزل إليها من فوق.
كانت هذه بعض الأجوبة المحتملة على السؤال الذي طرحته في شأن سبب هذا المأزق الذي يعيشه السيد بنكيران هذه الأيام.
ومهما تكن الحقيقة وراء كل هذه التحليلات والتقديرات والتكهنات، فإن الثابت القائم في حياتنا السياسية هو أنها حياة قائمة على نظام يرفض، بطبيعته وببنيته وبفلسفته، أن يكون في ملعبه، الذي هيأه، في أدق التفصيلات، ليخدم دولته، أحزابٌ حرة، بمعنى الكلمة، تحترم صوت الناخبين، وتدافع عن اختيارهم، وتسعى أن تكون شرعيتها الحقيقية نابعة، أساسا، من إرادة الناخبين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.