الخميس، 26 يناير 2017

الشعر الحداثي وإيديولوجيا العنف والهدم

بسم الله الرحمن الرحيم
الشعر الحداثي وإيديولوجيا العنف والهدم

تمتاز الحداثيّة اللادينية المتطرفة بالدعوة المطلقة إلى الهدم والتجاوز والتخطّي، وأنصارها لا يفتأون يهاجمون التراث ومن يسمونهم بالتراثيين، لا يكاد يكون عندهم مكان للوسط والاعتدال، تطبع غالبية مواقفهم الإيديولوجيةُ الحداثية العنفية.
وقد اشتهرت، من بين المنابر التي حملت لواء هذا التيار الأدبي، مجلة "مواقف" التي أصدرها أدونيس، بعد اختلافه مع رفيقه على درب الحداثة يوسف الخال مؤسس مجلة "شعر"، وانفصالِه عن التجمع الحداثي الذي كان قد تكوّن حول هذه المجلة، من أنشط هذه المنابر الحداثية في الدعوة للإيديولوجية الحداثية العنفية.
وقد امتازت تجارب أدباء هذا التيار، عموما، بقوة الرفض تجاه الموروثات بصفة عامة، والموروث الثقافي الأدبي الشعري بصفة خاصة. وقد عبرت رسالة أدونيس إلى أنسي الحاج[1]-وهي ليست الرسالة الوحيدة، وإنما هي رسالة نموذجية تصلح مثالا على غيرها من الرسائل والمقالات-عن هذه الروح الرافضة الثائرة المدمّرة لكل مظاهر التراث، عقائدَ، وأفكارا، ومؤسسات، وقواعد، وقوانين، إلى آخر ما نعته أدونيس بالمستنقعات المقدسة، في قوله من هذه الرسالة: "كل ما هو موجود بالوراثة، بالتقليد، بالعادة، يجب أن يعاد النظر فيه، أن يُرفض: هذا طريقنا…الوراثة، التقليد، العادة؟ يا لهذه المستنقعات المقدسة، ولمأساة الإنسان الذي يجابهها في مجتمعاتنا العربية."[2]
وقد زعمت خالدة سعيد، في مقالة لها مطولة عن "بوادر الرفض في الشعر العربي الحديث"، أن الشاعر العربي لن يصير حديثا حتى يصل إلى مستوى الرفض الكلّي الكياني، لأن الرفض، عندها، حسب فلسفتها الكلامية وكلامها الفلسفي، رفضان: جزئي أو حضاري، "يتناول رفض مظاهر الحياة كالعلائق الاجتماعية والمعتقدات والتقاليد والتصورات العامة، وقيم الخير والشر، والنظر إلى الإنسان والفن والعالم، لكنه يبقي على المقولات الأساسية والمبادئ المنطقية، كمبدأ الهوية، ومبدأ اللاتناقض والأسس الطبيعية للعالم، وحتميات الموت والحياة والزمن."[3] وهذا الرفض، في كلامها دائما، قد مثله، في تراثنا، عدد من الشعراء، كأبي العلاء، وأبي نواس، والحلاج، وديك الجن الحمصي، وأبي تمام، ومسلم بن الوليد[4].
أما النوع الثاني من الرفض، حسب تقسيم خالدة سعيد، فهو الرفض الكياني الشامل ذو الوجه الفلسفي[5]، والذي يمثله، في تجمع "شعر"، أي في حزب الكاتبة، أمثال أدونيس، ويوسف الخال، وأنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وفؤاد رفقه. فَـ"عندما يقول أدونيس "قاتل القمر أنا، قاتل العنقاء المشعوذة" يلمح إلى رفض إرث طويل من الخرافات والمعتقدات المهترئة. وحين يستصرخ نيران "فينيق" إنما يتطلع لبعث عالم جديد يتخطى العالم المتفسخ الهرم."[6]
وقد افتتحت خالدة سعيد مقالتها بعبارات تفيض من اليأس والتيه في العبث واللامعقول. عبارات تُعلم القارئ أنه لن يقرأ، في المقالة، عن شيء له معالم وحدود ينتهي إليها، وعن بناء له شكل وكيان وقسمات ولون، وإنما الأمر رفضٌ، وهدمٌ، ويأس، وحقد، وجنون قاتل.
تقول عبارات خالدة سعيد في مطلع مقالتها: "النفي، الغربة، الوحدة، الحرمان، الاضطهاد، اللامنطقي، عبودية المكان والزمان، الموت الفاجع-تلك رايات عصرنا؛ فيرفع اليأس لواءه، ويرقص الرعب في كلمات الشعراء. يقطع الشاعر الحديث الأسباب بين سفينته والمرافئ، ويسلم أشرعته لريح الضياع."[7]
ما أسهل أن ينطق المرء بعبارات الهدم، واليأس، واللامعنى، وهو متنعم في عيش هنيء رغيد، مكفِيٌّ في حاجياته الحيوية الضرورية. إنه ترف الكلام، ترف الفلسفة العبثية !!
وما أصعب أن يبني الإنسان شيئا له معنى في الحياة، وفي مقاييس الإنسانية، وهو في قلب المعركة، يعاني صخور الواقع وآلام المخاض !!
ما معنى الخوض في أحاديث أساطير آلهة الوثنيين القدامى، وفلسفتها، وحبْك أساطير حديثة حولها، كل ذلك من أجل تكريس جاهلية الإنسان الوثني القديم، وإحياء رمائم خرافاته، والاحتفاء بها هذا الاحتفاء الحداثي العظيم؟
ما معنى أن يتجه شاعر الرفض الكياني، حسب نعت خالدة سعيد، إلى الوثنية ورموزها للتعبير عن ثورته؟[8]
كيف رأى هذا الشاعر "قدره مجسدا في الآلهة الوثنية التي حكمت على (سيزيف)…"[9]؟ كيف "رآه أيضا في الآلهة التي تركت قلب (برميثيوس) طعاما للنسور"[10]؟
ما معنى قول خالدة سعيد: "الشاعر العربي لم يبلغ مرحلة الرفض بالمعنى المعروف عند نيتشه، والذي عبّرت عنه شخصية زرادشت، أو بالمعنى الذي عبرت عنه شخصية فاوست، أي تقويض العالم القائم وبناء عالم جديد على أنقاضه، كأنْ يهتف فاوست لِموفيستوفيليس عندما جاء يعرض عليه خدماته: حطّم هذا العالم وهدّمه أولا، ثم نرى إذا كان الآخر يأتي بعد ذلك. الرفض بهذه الصورة الواضحة المباشرة الراسخة، المنبثقة عن موقف واضح وحاسم من العالم ما يزال الشعر العربي ينتظره."[11]؟
ما معنى هذا الكلام، على ما فيه من تكلف في اصطناع الخطاب الفلسفي؟
إنه، في جملة واحدة، يعني أن الرفض الذي ينتظره الشعر العربي هو الرفض الذي يعلن الإلحاد والتمرد على دين الله.
فلماذا هذه المسافات الطويلة من الكلام؟ ولماذا كثرة الدخول والخروج؟
ولماذا الله؟ وأنتَ؟ وأنتِ، مَنْ خلقك؟ من سوّاك؟ تعالى الله، ولا إله إلا الله.
متى كان الجمال الشعري والإبداع الفني مقرونا بالمجاهرة بالإلحاد في دين الله، في عبارات غارقة في الإسفاف، والتبجح بالتطاول على ذات الله، تعالى وتنزه وتقدست أسماؤه؟
ما معنى هذه العبارات في رسالة ليوسف الخال، يخاطب فيها سلمى الخضراء الجيوسي: "إن الله يموت، يا صديقتي، ككل حي، يموت كتموز، وكالمسيح، لكي تتجدد بموته الحياة، ويعود الخصب إلى الأرض…"[12]؟
ما معنى هذه المجاهرة الموغلة في البذاءة والوقاحة؟
أية حرية هاته التي تعطي لكل الناس أن يقولوا كل شيء، وفي كل شيء؟
أليس للإنسانية قيم ومقدسات وحرمات؟ أليس من حقي، مثلا، أنا المتلقي المؤمن، ألا أسمع من يجاهر في وجهي بالطعن على مقدسات ديني، وأصول إيماني؟ فمن يحميني، إذاً، من عسف هذه الحريات التائهة الضاربة في كل صوب، لا تهتدي إلى شيء، "إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه."[13]؟
هذا الرفض الحداثي الكياني يعني القطيعة "مع المرجعية الدينية والتراثية، وإسقاط النماذج، واستبدال ذلك بالتجربة والكشف[14]…[أي] إسقاط علم المطلقات وكل ما يقوم به منفصلا عن الإنسان، أو يتعالى على التاريخي."[15]
أما المراجع التي يُرجع إليها لتثبيت مثل هذا الفهم، وإعطائه مصداقية لدى القارئ، لا تخرج عن دائرة أمثال نيتشه، وماركس، وفرويد؛ فهم، وحدهم، المفكرون والمنظرون والفلاسفة والمحللون، الذين يملكون الحقيقة المطلقة في شأن الإنسان ومصيره. فالحقيقة كانت مع (نيتشه) حينما "جعل الإنسان محور العالم، إذ نقل الغيب إليه"[16]، ومع ماركس، الذي "نقل الميتافيزيقا إلى المجتمع"[17]، ومع فرويد، الذي "رأى "غيبا" جديدا في باطن الوعي الإنساني"[18]، إلى آخر المراجع والأسماء والأعلام والنظريات الفلسفية اللادينية، التي تعج بها كتابات الحداثيين اللادينيين.
في جملة، على الشاعر الحداثي، في زعم أدونيس ومن على شاكلته، إعادة النظر في كل شيء. وأولى خطوات العمل هي الهدم والرفض وإسلام النفس، توهما وتقليدا وتكلفا، لليأس والضياع والقلق والغربة وغيرها من المقولات، التي نفقت سوقها في هذا الخطاب.
يقول أدونيس: "وظيفة الشاعر هي أن يهدم ويزيح الأقنعة... وأن يكون دائما متحيزا للاضطرابات والزلازل الثقافية...الأهمية الوحيدة للكتابة هي الهدم والتدمير (...)"[19].
عن أي هدم يتحدثون، وعن أي بناء؟
ماذا صنع هؤلاء الحداثيون، منذ كانوا، غير العبث والفوضى واللامعقول، في حدود الكلام؟ ومن يستمع، اليوم لهذا الكلام، خارج أسوار البحث الأكاديمي، وخارج المناسبات القليلة التي يتسنى فيها اجتماع أفراد العائلة المشتتين؟
ماذا بنى هذا الخطاب الهدمي الرفضي العنفي العبثي اللاديني غير التيه والاستغراق في قيم السلب، وملذات الشذوذ المتطرف؟
وماذا نرى حينما ننظر بمنظار هذا الخطاب النقدي العبثي إلى الممارسة الشعرية الإبداعية الفعلية؟
ملخص ما نراه، حسب مقالات المدرسة الحداثية الأدونيسية، أن المبدع الحداثي ليس عليه أي شكل من أشكال الالتزام إزاء القواعد المتوارثة في شأن اللغة والبيان والموسيقى وغيرها من مكونات صنعة الشعر. ليس عليه أي التزام بالمشترك النقدي الفني، بالمشترك الإنساني، الذي من طريقه يكون التفاهم والتواصل، وعلى أساسه يكون التقدير والتقويم.
إن هذا الخطاب الحداثي إنما حياته بقتل هذا المشترك، وهدم مختلف جسور التواصل والتفاهم، كجسر القواعد الثابتة التي طورتها الأجيال المتعاقبة الطويلة، وجسر المفاهيم الاصطلاحية التي بها تم نقل المعارف عبر التاريخ، وجسر المعجم اللغوي الذي يؤمن الخطوات الأولى على طريق التلاقي والإبلاغ.
فهذا يوسف الخال[20] يؤكد في الافتتاحية السابقة، وفي غيرها من المقالات والمناسبات، أن مجلة "شعر" تنتمي إلى الفئة التي "تدعو إلى إطلاق الشعر من كل قيد أو شرط، فلا قواعد عروضية مسبقة، ولا حدود تقف حائلا بين الشاعر وبين الإبداع."[21] أي إطلاقه من "المشترك"، وإسلامه إلى "الذاتي الخاص"، الذي لا يُعرف بصفة، ولا يُحد بمعنى، ولا يضبط بقواعد وشروط.
وقد عبّر كما أبو ديب عن هذا "المشترك النقدي"[22] بسلطة النموذج، طبعا، حسب رأيه والمشرب الحداثي الذي يصدر عنه[23]، فضلا عن المنهج الذي اختاره لمعالجة موضوعه.
فهو يعدد، تحت هذه السلطة، "اللغة الشعرية، جماعيتها، سلطويتها، تقريريتها، ووصفيتها، وخارجيتها، وتقليصها للتجربة الإنسانية إلى سرد مباشر"[24]، ثم "الصيغة الإيقاعية الصامدة الرتيبة للشعر" أي "إخضاع الهاجس الشعري لقواعد النظام العروضي-التقفوي ومعطياته المسبقة، التي تتشكل خارج القصيدة"[25]، ثم "تحول الشكل إلى حامل إيديولوجي للدلالة، إلى طقس يزدحم بمفاهيم السلطة الدينية، والسياسية، والاجتماعية"[26]، ثم "تصور اللغة بوصفها وسيلة أو أداة جاهزة دقيقة التحديد، نقية من الالتباس، لفكر جاهز"[27]، إلى آخر مقالته.
والشاهد من كلامه أن المشترك المتوارث في صناعة الشعر، بما يمثله من قواعد وحدود وشروط ومعايير وخصائص متميزة، قد أصبح اليوم نموذجا متسلطا يعيق الأدباء أن ينطلقوا في فضاءات الإبداع، ويحبس الشعر في دائرة النظم الرتيب، وتكرار النماذج الماضية. والحل هو القطع والهدم والرفض وما تشاء من مرادفات هذه الكلمات، ومعانيها، ولو في غياب أي شكل من أشكال البديل. بل إن روح هذا البديل المفترض إنما قوامه اللاتشكل، واللاتحدد، واللاتصور، أي قوامه، باللغة النقدية الواضحة الحارقة، العبثُ والفوضى والجنون.
فبرفض سلطة النموذج أصبحت الحداثة الجديدة، حسب كمال أبي ديب دائما: "مغامرة أغنى [لاحظ اللعب بالعبارات، وتأمل]، وخيبة أعظم. اكتشافا أسمى وانحسارا أشد. أصبحت أعمق داخلية فيما هي، في الوقت نفسه، أكثر قدرة على فهم العالم الخارجي. أصبحت أكثر تحديدا فيما هي أبعد غوصا في اللامحدود واللامحدد. أصبحت أكثر حميمية فيما هي أحدّ وعيا للانفصام بينها وبين العالم، أي أنها أصبحت بؤرة للتناقضات أكثر احتدامية وغزارة فيض."[28]
وتعدّ كتابات كمال أبو ديب مثالا كافيا شافيا على الخطاب النقدي الحداثي المعاصر، والفقرة السابقة عينَةٌ منه، وهي غنية بالدلالات.
وللبحث تتمة في المقالة القادمة، إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.



هوامش:

[1] بعثها له من باريس في أوائل سنة 1961. راجع النص الكامل لهذه الرسالة في "زمن الشعر"، ص225-231.
[2] زمن الشعر، ص228.
[3] بوادر الرفض في الشعر العربي الحديث، مجلة "شعر"، عدد19، السنة 5، صيف 1961، ص92،93.
[4] نفسه، ص93.
[5] نفسه.
[6] نفسه.
[7] نفسه، ص88.
[8] نفسه، ص94.
[9] نفسه.
[10] نفسه.
[11] نفسه، ص92.
[12] مجلة "شعر"، عدد15، السنة 4، صيف 1960، ص140.
[13] من الآية 14 من سورة الرعد.
[14] والفصيح في العربية أن تقول: واستبدال التجربة والكشف بذلك، لأن المجرور بالباء في استعمال فعل "استبدل" هو المتروك.
[15] الملامح الفكرية للحداثة، خالدة سعيد، في مجلة "فصول"، المجلد 4، العدد 3، أبريل، ماي، يونيو، 1984، ص30.
[16] نفسه، ص31. انظر، أيضا، "بوادر الرفض في الشعر العربي الحديث"، مجلة "شعر"، (مرجع سابق)، ص89.
[17] نفسه.
[18] نفسه. وأيضا، في مقالة "بوادر الرفض في الشعر العربي الحديث"، في مجلة "شعر"، (م.س)، ص89.
[19]  Identité inachevée, p.54.
[20] لماذا يوسف الخال؟ لأنه واحد من أقطاب الحداثية الشعرية العربية أولا. وثانيا، لأنه مؤسس مجلة "شعر"، التي بُني حولها "تجمع شعر"، الذي أصبح، إلى حد ما، يشكل مدرسة قائمة بذاتها وصفاتها وأهدافها. وثالثا، لأن معرفة الأصل قد يكفينا، في كثير من الأحيان، عناء التشتت في تتبع جزئيات الفروع. والعبرة، أخيرا، في اعتقادي، هي بالمضامين المفاتيح، وليس بتعدد الأسماء وكثرة النقول.
[21] من افتتاحية العدد العاشر من مجلة "شعر"، السنة 3، 1959، ص3.
[22] يمكن أن نختار تسمية أخرى أو وصفا آخر غير هذا الوصف. ذلك ليس مهما، وإنما المهم هو أن المقصود بهذا المشترك النقدي، مهما كان الاسم، هو ذلك الرصيد من المعارف والقواعد والتجارب، الذي رسخه زمان طويل من الإبداع والتطوير، والذي به تتعارف الأجيال وتتواصل، وبه تتناقل المعارف والخبرات وتتداول.
[23] وكمال أبو ديب، في نظري، هو أحد تلامذة المدرسة الأدونيسية النجباء بامتياز.
[24] "الحداثة، السلطة، النص"، في مجلة "فصول"، المجلد 4، العدد 3، 1984، ص42.
[25] نفسه.
[26] نفسه.
[27] نفسه.
[28] نفسه، ص43.