الثلاثاء، 10 يناير 2017

مِن قِصَص الشعراء مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه

بسم الله الرحمن الرحيم

مِن قِصَص الشعراء مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه

كان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، مع الشعراء، عدة حكايات، وكان دائما يتصرف تصرفَ القاضي النزيه، الذي كلُّ همه هو إقامة العدل، وحماية الحقوق.
ونقف، بإيجاز، عند اثنتين من هذه الحكايات، تجسدان النازلة القضائية بكل عناصرها، في أوضح صورة: المدّعي، والمدّعَى عليه، والقاضي، والشهود من أهل الخبرة والاختصاص، وطريقة أو مسطرة التحري والتحقق، قبل إصدار الحكم النهائي.
والحكاية الأولى كانت مع الحطيئة(جرول بن أوس)، والثانية مع النجاشيّ الحارثي(قيس بن عمرو).
قصة الحطيئة مع الفاروق، رضي الله عنه.
وفيما يخص الحكاية الأولى، فقد شكا الزّبرقان بن بدر الحطيئةَ[1] إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وادّعى عليه أنه قد هجاه، وذكر من ذلك قول الحطيئة:
دع المكارم لا ترحل لبغيتهـا

واقعدْ فإنك أنت الطاعم الكاسي[2
فحاول سيدنا عمر، رضي الله عنه، أن يهوّن عليه وقع كلام الحطيئة، وأن يُفهمه أنه إنما أراد معاتبته لا هجاءه[3]، لكن الزبرقان لم يقتنع، وبقي مصرا على دعواه وشكواه. فأرسل عمر، رضي الله عنه، إلى حسان بن ثابت يطلب رأيه في قول الحطيئة، فقال حسان: "لم يهجه، ولكن سلح[تغوّط] عليه[4]. فحبسه عمر، وقال: يا خبيث، لأشغلنك عن أعراض المسلمين."[5]
وقد ذكر ابن سلام أن عمر، رضي الله عنه، كان "يعلم من ذلك ما يعلم حسان، ولكنه أراد الحجة على الحطيئة."[6] فهو لم يحتج إلى حسان لأنه لم يكن له علم بالشعر، بل لأنه قاض واجبه الأول إقامة العدل، وأن لا يصدر حكما إلا بعد التثبت والتحقق. ولم يزل كل قاض يتحرى العدل والإنصاف محتاجا، دائما، لخبرة أهل الميدان، ومعرفة أهل الاختصاص.
فنحن هنا إذاً أمام نازلة قضائية بحتة، يراد فيها تبين وجه الحق، والاقتصاص من الجاني، وإنصاف المجني عليه.
قصة النجاشيّ مع الفاروق، رضي الله عنه.
وفي الحكاية الثانية أن النجاشي الحارثيّ(قيس بن عمرو)[7] هجا بني العَجْلان، فاستعدوا عليه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، "فقال عمر: ما قال فيكم؟ فأنشدوه:
إذا الله عادى أهل لؤم ورقّـــة

فعادى بني العجلان رهطَ ابن مقبل.
فقال عمر: إنما دعا، فإن كان مظلوما استجيب له، وإن كان ظالما لم يستجب له. فقالوا: وقد قال أيضا:
قُبَيِّلةٌ لا يغدرون بذمــــــــــــة

ولا يظلمون الناس حبّة خــردل.
فقال عمر: ليت آل الخطاب هكذا. قالوا: وقد قال أيضا:
ولا يردون الماء إلا عشيــــة

إذا صدر الوُرّاد عن كل منهــل.

فقال عمر: أقل للّكاك[الزحام]. قالوا: وقد قال أيضا:
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم

وتأكل من كعبٍ وعوف ونهشلِ.

فقال عمر: أَجَنَّ القوم موتاهم فلم يضيّعوهم. قالوا: وقد قال:
وما سُمّي العَجلانَ إلا لقيلهــم


خذِ القَعْبَ[8]واحْلب، أيها العبد، واعْجلِ

فقال عمر: خير القوم خادمهم(وكلنا عبيد الله)؟."[9]
ولمّا رأى عمر، رضي الله، الناس مصرين على دعواهم لا يتزحزحون عنها، أرسل إلى حسان-وفي رواية "الشعر والشعراء" أرسل إلى حسان والحطيئة-فسأله، فقال "مثل قوله في شعر الحطيئة"[10]، أي أن النجاشي لم يهجهم فقط، ولكن سلح عليهم.
"وكان عمر، رضي الله، عنه، أبصر الناس بما قال النجاشي، ولكن أراد أن يدرأ الحدّ بالشبهات، فلمّا قال حسان ما قال، سجن النجاشي، وقيل: إنه حدّه."[11]
وهناك روايات كثيرة تؤكد أن عمر، رضي الله عنه، في مثل هذه الشكاوي، التي يكون الشعراء مدّعى عليهم فيها، كان أحرص ما يكون على أن ينأى برأيه وذوقه وعلمه وحسه الشعري عن الحكومة، وكان يستشهد للفريقين(المدّعي والمدّعَى عليه) رجالا، كحسان بن ثابت، يسلم النظر إليهم، "فرارا من التعرض لأحدهما"[12]، "فإذا سمع كلامهم[أي الرجال المحكّمين] حكم بما يعلم، وكان الذي ظهر من حكم ذلك الشاعر مقنعا للفريقين."[13]
ونخلص من كل هذا إلى أن الإسلام، ممثلا في أولياء الأمر، أي المسؤولين الحكوميين بعبارة العصر، لم يتعرض للشعر بما هو فن، ولا للشعراء بما هم شعراء يلتزمون حدود قانون المجتمع وآدابه وأخلاقه. وكل الروايات التي وردت عن عقاب الشعراء، على عهد الخلفاء الراشدين تحديدا، إنما كانت من صميم العمل الواجب على أولياء الأمر تجاه سلوكات إجرامية، من أجل إقامة العدل، وحفظ الحقوق، ورعاية مصالح الناس[14].
وللبحث تتمة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



هوامش
[1] قد أجمعت المصادر على أن الحطيئة كان من أقبح الناس خُلُقيّا وجسديا. قال الأصمعي، فيما أورده صاحب الأغاني: "كان الحطيئة جشعا، سؤولا، ملحفا، دنيء النفس، كثير الشر، قليل الخير، بخيلا، قبيح المنظر، رث الهيئة، مغموز النسب، فاسد الدين."(الأغاني: 2/163)
وقال عنه صاحب الأغاني: "وكان ذا شر وسفه، ونسبه متدافع بين القبائل."(نفسه: 2/157).
ووصفه ابن قتيبة بأنه "كان رقيق الإسلام، لئيم الطبع."(الشعر والشعراء، ص199).
ومع هذا الإجماع على وصفه بأقبح النعوت، فإنهم قد اعترفوا له بمكانته الشعرية العالية، حيث وصفوه بأنه كان "متين الشعر، شرود القافية"(طبقات الشعراء، لابن سلام، ص47)، وأنه "من فحول الشعراء ومتقدميهم وفصحائهم، متصرّف في جميع فنون الشعر من المديح والهجاء والفخر والنسيب، مجيد في ذلك أجمع."(الأغاني: 2/157).
[2] طبقات الشعراء، لابن سلام، ص51. والشعر والشعراء، ص203.
[3] الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، دار الثقافة، بيروت، ط8، 1979:ج2/ص186.
[4] لقد كان الحطيئة "بذيئا هجّاء"، لم يكد أحد يسلم من سلاطة لسانه؛ فقد هجا أمه وأباه، بل وهجا نفسه. ومما قاله في هجاء أمه:
جزاك الله شرّا من عجـــــــوز

ولقّاك العقوق من البنينـا…

حياتك، ما علمت، حياة ســوء

وموتك قد يسرّ الصالحينـا.

 (الشعر والشعراء، ص200. وديوانه، ص186،187)
ومما قاله في هجاء أبيه:
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي

وبئس الشيخ أنت لدى المعالي

جمعت اللؤم، لا حيّاك ربـــّي،


وأبواب السفاهة والضـــلال.

 (نفسه. وديوانه، ص168)
[5] الشعر والشعراء، ص203. وفي رواية "طبقات الشعراء"، لابن سلام: "درق عليه" مكان "سلح عليه". تراجع تفصيلات أخرى في هذه القصة في ("الأغاني": 2/179 وما بعدها).
[6] طبقات الشعراء، ص51.
[7] "كان فاسقا رقيق الإسلام"(الشعر والشعراء، ص204). ومن فسقه أنه كان يجاهر بالإفطار في رمضان والناس صيام. وقد أُخذ في ذلك، "فأُتي به علي بن أبي طالب، فقال له: ويحك، ولداننا صيام وأنت مفطر، فضربه ثمانين سوطا وزاده عشرين(سوطا)، فقال: ما هذه العلاوة يا أبا الحسن؟ فقال: (هذه) لجرأتك على الله في شهر رمضان، ثم وقفه للناس ليروه…"(نفسه)
[8] القعب: القدح الضخم.
[9] الشعر والشعراء، ص205.
[10] نفسه.
[11] العمدة، لابن رشيق: 1/52. وفي رواية ابن قتيبة أنه لم يسجنه، بل هدّده "وقال له: إن عدت قطعت لسانك."(الشعر والشعراء، ص205)
[12] العمدة: 1/76. البيان والتبيين: 1/240.
[13] البيان والتبيين: 1/240.
[14] راجع أمثلة أخرى، في هذا الموضوع، في "باب من استعدي عليه من الشعراء"، في "العقد الفريد"، لابن عبد ربّه الأندلسي(أحمد بن محمد)، الجزء السادس، ص166-173.