بسم الله الرحمن الرحيم
لا حدود للفن، ولا قواعد، ولا رسالة!!
هل للفن التشكيلي قواعد؟
هل لفن النحت قواعد؟
هل لفن الشعر قواعد؟
يجيبنا أدونيس بأن من خصوصيات
الفن أنه لا تحده حدود، ولا تضبطه قواعد.
وماذا عن فن المعمار؟ ماذا عن
الفن القوطي، مثلا، في هندسة الكنائس والكاتدرائيات؟
إن نحن وافقنا أدونيس فيما
يدعيه، فإننا سنقبل، ضمنا، بإمكانية وجود فن معماري بلا قواعد، وذلك هو الخبل
والجنون بعينه؛ وكذلك فن الموسيقى، إن نحن تابعنا أدونيس في دعواه، سيتحول إلى
فوضى في الأصوات، ونشاز في الأنغام.
وكان عباس محمود العقاد من
النقاد الكبار الذين تصدوا بقوة وحزم لأنصار "الشعر الحر"، في بداياته
الأولى، الذين كانوا يزعمون أن الشعر يمكن أن يبقى شعرا وإن لم يكن موزونا، وزادوا
في زعمهم أن "التفعيلة" في "الشعر الحر" هي أساس الوزن. كان
هذا قبل أن تجتاح أدبنا العربي، وفي مجال الشعر خاصة، تيارات الفوضى والعبث والهدم
بلا بناء بديل.
لقد وصلت هذا التيارات اليوم
على يد الحداثيين المتطرفين، وعلى رأسهم أدونيس، الحد الأقصى في العبث واللامعقول،
لأنها حطمت جميع الحدود والقواعد، وكفَرت بكل ما يحيل على الأصول أو النموذج أو
المعايير؛ فالفنان عندهم هو الذي يصنع نموذجه، ويضع قواعده، ويفرض معاييره.
فالنثر البارد الفارغ من أي
معنى يمكن أن يسمى عندهم شعرا، لأنه لم يعد هناك مقياس أو قاعدة أو مثال يمكن أن
يحتكم إليه في الحكم والتقويم.
فأدونيس، مثلا، يكتب اليوم ما
يريد، وبأي طريقة يريد، وعلى الناس أن يقبلوا عمله، وإن كان لا يساوي شيئا في
موازين النثر والشعر، على أنه إبداع جميل، وشعر حداثي بديع، وطريقة في التعبير لا
أصل لها، ولا مثال، ولا قاعدة!
"إن العبقرية والمقدرة
لا تظهران إلا إذا خضع الإنسان للقوانين الطبيعية أو القواعد الوضعية. فإذا فاز،
وقد ألقيت عليه تلك القيود، فمن الحق أن يقال فيه، بعد ذلك، عبقري أو مقتدر. أما
إذا تُرك الإنسان يفعل ما يشاء في الوقت الذي يشاء، ومن غير حدود في المكان
والزمان، ثم جعل هو من نفسه حكما على نفسه، فإن لكل إنسان الحق، حينئذ، في أن
يدّعي العبقرية والمقدرة."[1]
حينما نتعمد هدم الحدود
القائمة بين مفاهيم المصطلحات، فذلك يعني تعمّد الإساءة إلى نظام الحياة،
والاستهانة بالمنطق الإنساني، الذي قضى، وسيقضي دائما، على الرغم من دعاة الهدم
والفوضى والعبث، بأن هناك حدودا مفهومية تخص استعمال كل كلمة، سواء في اللغة أو في
الاصطلاح.
"إن اللغة، التي هي
محصول الذهن الإنساني عبر عشرات القرون، لا تضع الأسماء اعتباطا ولا عبثا، وإنما
هناك مفهوم فلسفي عام يكمن وراء كل تعريف وتسمية في كل لغة."[2]
وماذا يمكن أن تجني الإنسانية
عامة، وآدابها بصفة خاصة، من هذه المذاهب العبثية الهدّامة، التي ليس في قاموسها
إلا لغة الرفض، والسلب، والتجاوز، والقطيعة، وما إلى هذه الألفاظ في لغة العبث
واللامعقول- ماذا يمكن أن تجني الإنسانية من هذه المذاهب غير الفوضى والانحطاط
والتفاهة وغيرها من النتائج السلبية التي تخرج الإنسان من إنسانيته، وتفرض عليه،
بالوهم المغرق في الوهم، الموشّى بشعارات المعرفة الحداثية، أن يعطّل جميع حواسه
من أجل معرفة هي اللامعرفة، وعقل هو اللاعقل، ومستقبل هو اللامستقبل، وغاية هي
اللاغاية، ومعنى هو اللامعنى، وأفق إنساني هو اللاأفق، وحرية هي اللاحرية- في
جملة، من أجل شيء هو اللاشيء؟
فمذاهب العبث والهزل "لا
تتحدث بشيء غير الهدم والإلغاء: فلا لون، ولا شبه، ولا رسم، ولا قاعدة في التصوير،
ولا لفظ، ولا معنى، ولا منطق، ولا مدلول في الشعر والنثر. وإنه لمن حسن الحظ أن
تقصى هذه الدعوى عن الفنون التي ترتبط بها ضرورات المعيشة والاجتماع، فإنها لو
تناولتها لسمعنا بفن المعمار الذي لا حجرات، ولا جدران، ولا حجارة، ولا طلاء فيه،
وسمعنا بمجامع الموسيقى التي لا تميز بين الضوضاء والألحان، ولا محل فيها للمعازف
والآلات."[3]
وما أجمل هذا الاحتجاج اللطيف
من الأستاذ العقاد! فقد جمع بين المنطق الرصين والسخرية التي لا
تفارقها رزانة العقل. كان هذا الاحتجاج من العقاد قبل أن يتفاقم أمر هؤلاء
الحداثيين، فيدعيَ أدونيس أن
الموسيقى من الفنون التي لا تحدها حدود، ولا تضبطها قواعد، ومن ثَمّ فإن
"الضوضاء" باتت عندهم من الفنون الجميلة، التي تستحق منا الرعاية
والإعجاب.
ومهما كانت الدواعي والشعارات، فإن الدعوة إلى نقض
مفاهيم اللغة، وتجاوز قواعد الفنون التي تعارفتها أمة، بمختلف شعوبها، على طول
تاريخ يعدّ بعشرات القرون، إن لم يكن أكثر، إنما هي، في أبسط غاياتها وأوضح
معانيها، دعوةٌ إلى التقاطع، والتدابر، واللاتواصل، أي دعوة إلى موت اجتماعي
وحضاري محتّم.
فما معنى أن يصطلح الناس طوال قرون ذوات العدد على أن
الأبيض هو الأبيض، ويأتي آحاد الناس، في زاوية من الزمان، ليقولوا: لا، إنما
الأبيض هو الأسود، ثم يتبعه ثالث، فيقول: لا، إنما الأبيض هو الأصفر، وهكذا في
دوّامة من اختلاط المفاهيم لا تنتهي إلى طائل، بل تنتهي، حتما، إلى التضارب،
والتنافر، والتباعد، واللاتفاهم.
وما معنى أن يدعي أدونيس-والناس يستمعون إليه اليوم
على أنه واحد من أهل الفن والاختصاص، الذين لا يراجع حكمهم، ولا يناقش رأيهم-أن
الشعر، مثله مثل الموسيقى والنحت، من الفنون التي لا يمكن أن تنبني على أسس،
وتنضبط لقواعد، وتستجيب لمقاييس؟
فمثلا، حينما يصبح الشعر نثرا، والنثر شعرا، من غير
اعتبار للفوارق الأساسية بين الفنين، وحينما يصبح الحديث عن الوزن حديثا إنشائيا
لا يعترف بالقواعد والحدود والضوابط والمفاهيم المميزة للأشياء والمعاني بعضها من
بعض، وحينما يصبح الاحتجاج لمثل هذه الفوضى في استعمال مفردات اللغة واصطلاحات
الفنون والعلوم قائما، أساسا، على التخييل الجامح، والوهم البعيد، والتصورات
والآراء العبثية اللامعقولة-حينما يقع مثل هذا، فإن كل شيء يصبح مباحا.
إذن، أين هي المسؤولية الإنسانية؟ أين هي مسؤولية
الكلمة؟ أين هو احترام حق الإنسان، وكرامته، وعقله، وعواطفه، ومشاعره؟
الشعر الحداثي، عند أدونيس ومن سار على نهجه من
الحداثيين المتطرفين، هو كل شيء، إلا أن يكون كلاما منظوما على طريقة ما، شعرية أو
تصويرية، أو تخييلية، ومفهوما، بصورة من صور الفهم في الخطاب الشعري العربي،
ومعبرا عن مقصد، ويرمي إلى أداء رسالة.
إن الشعر الحقيقي، عندهم، لا شأن له بما عرفه القدماء
من أوزان عروضية، وقواعد بلاغية، وصياغات وفنون أسلوبية، وألفاظ شعرية، وغير ذلك
من لوازم العمل النقدي الأدبي الشعري. إنما هو شعر يصنع شكله وقيمه، ومعاييرُه في
خطواته، كما عبّر أدونيس. قواعده الأساس هي أن يمضي مع التجربة، لا يكرر، ولا
يتشكل، ولا يتحدد، ولا يتصور، ولا ينتهي إلى صورة معلومة الحدود والمساحات
والألوان والأبعاد.
فالفنان، عند أدونيس، هو الذي يضع قواعده؛ فـ"من
خصوصيات الفن، شعرا كان أم نحتا أم تشكيلا، أنه بلا قواعد، وبلا حدود"[4]. "فالفنان هو الذي يضع القواعد، ويمكنه، في بعض الأحيان، أن
يغير أصول الفن أو الشعر من أساسها. ليس لأحد أن يحكم إن كان عمله فنا أم لا. وليس
من شك في أن من أعظم أسرار الإبداع أنه لا يمكن حصره في حدود وفي تعريفات. الفن هو
في حركة أبدية؛ هو دائما جديد، وفي جدته قواعده. ولهذا السبب، أظن أنه لا حدود
للشعر، وفي بعض الأحيان، اللاشعر يمكن أن يتحول إلى شعر"[5].
تأمل هذه العبارة الأخيرة:
"اللاشعر يمكن أن يتحول إلى شعر"!
كلام في كلام، وعبث في عبث،
ولعب بالكلمات إلى أقصى مستويات اللعب.
وهذه نماذج من كلام أدونيس في محاولته في تعريف الشعر
الحديث.
"فقوام الشعر الحديث[عنده] معنى خلاق توليدي، لا
معنى تصويري وصفي. إنه، كما يقول الشاعر الفرنسي رنيه شارRené Char [تأمل السياق الذي يرد فيه ذكر هذه المرجعية الغربية]: "الكشف عن
عالم يظل أبدا في حاجة إلى الكشف."[6]
"فجوهر الشعر، كما يقول بودلير[تأمل]، هو
"السير دائما ضد الحداثة.""[7]
"فالأثر الشعري الذي لا يكون، بالنسبة للشاعر
وللقارئ إلا اشتفاء أو إرواء للغليل، هو، في الحقيقة، كما يقول مارلوA.Marlaux[تأمل]،
ضد الشعر."[8]
لقد أحال في صفحتين على ثلاثة من مصادر أفكاره
وتقريراته وتنظيراته. ومع هذا الاحتماء بالمرجعية الغربية، نقرأ الإضافات
الأدونيسية، في صورة عبارات إنشائية تطغى عليها النزعة الوثوقية التأكيدية
القاطعة، بأسلوب أستاذي تحدوه سلطة تعليمية تقريرية توجيهية، من مثل عبارات: إن
الشعر الحديث هو كذا وكذا… والشاعر الحق الحديث هو من يفعل كذا وكذا… وعلى الشاعر
الحق أن يفعل كذا وكذا… ولا يجوز أن يكون كذا وكذا…ولا يمكن أن…إلى آخر مثل هذه
التعابير العامرة بالوثوقية والأستاذية والنزعة الجبرية.
باختصار كبير جدا، وبعبارات أدونيس: "لن تسكن
القصيدة الحديثة في أي شكل، وهي جاهدة، أبدا، في الهرب من كل أنواع الانحباس في
أوزان أو إيقاعات محددة…"[9]،
و"ليس الشاعر الشخص الذي لديه شيء ليعبر عنه، بل الشخص الذي يخلق أشياءه
بطريقة جديدة."[10]
و"القارئ الحقيقي، كالشاعر الحقيقي، لا يُعنى بموضوع
القصيدة [لاحظ، وكـأنه يتحدث عن مسلمات وحقائق مطلقة ونهائية]، وإنما يُعنى
بحضورها أمامه كشكل تعبيري، أعني صيغة الرؤيا."[11]
و"على القارئ الجديد أن يتوقف عن طرح السؤال
القديم: ما معنى هذه القصيدة، وما موضوعها؟…"[12]،
لأن "الإصرار على أولية الموضوع، أي على وظيفة الشعر، إنما هي نفي
للشعر."[13]
وخارج هذه الحدود الفلسفية الفضفاضة، والتأملات
الذاتية المحلقة، والإنشاءات الرومانسية الغائمة العائمة، لا شأن للشعر الحداثي،
عند النقاد الحداثيين المتطرفين، بالوزن، والبلاغة، والقواعد اللغوية والأسلوبية،
وغيرها من الأدوات، والآلات، والمعارف، والعلوم، التي فيها رائحة الأجداد، رائحة
الماضي، رائحة تجارب القرون والأجيال.
وفي المقالة المقبلة وقفةٌ مع
تجربة أدونيسية بعنوان "هذا هو اسمي".
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ
العالمين.
[1] هذا الشعر الحديث،
للدكتور عمر فرّوخ، ص173.
[2] قضايا الشعر
المعاصر، لنازك الملائكة، ص220.
[3] اللغة الشاعرة،
لعباس محمود العقاد، ص173.
[4] Conversations avec Adonis, mon père, p.139.
[5] نفسه.
[6] "محاولة في تعريف
الشعر الحديث"، مجلة "شعر"، العدد 11، السنة 3، صيف1959، ص80.
[7] نفسه.
[8] نفسه، ص81.
[9] نفسه، ص83.
[10] نفسه، ص85.
[11] زمن الشعر، ص72.
[12] نفسه.
[13] نفسه. وبمنظار هذه النظرية الحداثية وصفت خالدة
سعيد القارئ العربي بأنه "كسول ينام على حرير الأمجاد والكشوف الماضية؛ رفع
شعار "القناعة كنز"، واستراح عن طلب المغامرة في المجهول والمصيري.
ترعبه فكرة العودة إلى البدء، إلى البراءة…"(حركية الإبداع، ص94). ولا يخفى
ما في مثل هذا الكلام من ادعاء وتعالم وأستاذية ونظرة احتقار إلى القارئ العربي
عموما.