الجمعة، 27 يونيو 2014

أين إمارةُ المؤمنِين في الواقع؟



بسم الله الرحمن الرحيم



أين إمارةُ المؤمنِين في الواقع؟
 


دعاء

قد جاءنا شهرُ رمضان المُبارَك. اللهم أهلّه علينا وعلى المسلمين في كل بقاع المعمورة باليمن والأمن والسلامة والسلام، ووفِّقْنا فيه لعمل الصالحات ونيل الخيرات والبركات.

 آمين

*****

أين إمارةُ المؤمنِين في الواقع؟

هذا السؤال مطروح، أولا، على العلماء الذي عليهم أن يبينوا للناس أمورَ دينهم، بلا تقاعس، ولا تخاذل، ولا تلعثم. عليهم واجبُ البيان، ليس ائْتِمارا بأمر من يستخدمهم ويضمن رواتبهم وامتيازاتهم، ولكن ائتمارا بأمر الله، الذي أخذ عليهم الميثاق، ليُبيِّنوا الحقَّ للناس بلا كتمان ولا تردد.

والسؤال مطروح، ثانيا، على الإسلاميِّين، الذين لا يفتأون يدافعون عن إمارة المؤمنين في كل مقالة ومناسبة، ويشيدون بفضلها في حفظ الدين، وجمعِ أمر الأمة وحمايتِه مِنْ أن يعبث به العابثون، وتعصفَ به رياحُ الفتنة والتياراتِ الهدّامة.

فإن كان من واجبات إمارة المؤمنِين حمايةُ حِمَى الملة والدين، فإن هذه الحمايةَ لا تكون بالتصدي للعلماء الأحرار-وإن كانوا لا يعترضون على إمارة المؤمنين- بالطرد والتضييق، ولا بإبعاد الخطباء الشرفاء عن المنابر، لأنهم يقولون الحق، لا يخافون لومةَ لائم، ولا بمنعِ المؤمنين من عمارة بيوت الله بمجالس الذكر والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، ولا بمحاكمةِ مَنْ يجتهد-بحسب علمه وفهمه وأسلوبه في التبليغ- في الذود عن مقدسات دينه والردّ على استفزازات اللادينيِّين الغلاة، وشُبهاتِهم ومطاعِنهم.

في اعتقادي، لا تكون حمايةُ الملة والدِّين بالتضييق على المؤمنين الدعاة-مهما اختلفنا مع مقالاتهم وأساليبهم- وتركِ الحبلِ على الغارِب للطاعنين على الإسلام، مِن شتى المشارب والمذاهب والتيارات، يتجرأون على معتقدات المسلمين جهارا نهارا، لا يجدون مِن سلطة إمارة المؤمنين صدّا ولا ردّا، ولا عتابا ولا عقابا.

فاللادينيون اليوم، ومنهم ملحدون صرحاءُ باتوا معروفين بوجوههم وأسمائهم ومقالاتهم وانحرافاتهم وضلالاتهم، بل منهم مَن يُستضاف، مُعزَّزا مُحتَفىً به، في القنوات العمومية- هؤلاء اللادينيّون بات لهم اليوم صوتٌ مسموع، رغم أنهم أقلية هامشية مقارنةً بغالبية الشعب المسلم. ولم يعودوا يكتفون بأن تكون لهم منابرُ لممارسة ما يزعمون أنه حقُّهم في الرأي والتعبير، ولِبَثِّ مقالاتِ التجريح والتشكيك والمغالطة والتضليل، بل تقَدَّموا في نضالهم ومطالبِهم درجاتٍ، وأصبحوا يُطالبون بتغيير الدستور ليستجيبَ لأهواء الملحدين، وتعديلِ القوانين بهدف التطبيع مع المُحرَّمات، وإباحةِ فعلِ المنكرات.

وتُعدّ (الجمعية المغربية لحقوق الإنسان)، في رأيي، مِن أبرز التنظيمات التي تبنّت هذا النهجَ اللادينيَّ الصارخ، وذهبت فيه كلَّ مذهب، تحت لافتةِ الدفاع عن حقوق الإنسان.

وقد احتضن مقر هذه الجمعية مؤخرا، يوم الاثنين 23 يونيو الماضي، ندوة لمجموعة من الشباب الطائش الضائع، إنْ أحسَنّا الظنَّ، ينتمون لمجموعات يُعدّ أفرادُها على رؤوس الأصابع لهامشيَّتِهم، ولِشذوذ أفكارهم ومطالبِهم، ولعدوانيّةِ خطابِهم ووقاحتِه وجراءته على الإسلام وأحكامه القطعية، وسننِه  وآدابه وأخلاقِه. ورغم قزميَّتِهم العدديّة، وشذوذِهم الفكري والاجتماعي، فإن صوتَهم بات واصلا ومسموعا بسبب ما يجدونه مِنْ دعم وتشجيع ورعاية وحماية، مِنَ الداخل والخارج، وبما يُسَلَّط عليهم من أضواء إعلامية كشّافة، تُقدِّمُهم وكأنهم المَهديّون المنتَظَرون، وتعرِضُ شذوذَهم وكأنه قضيةُ القضايا.

وأذكِّر القارئ الكريمَ أن مِن أشهر الإنجازات الفاضحةِ لهؤلاء "الذَرَارِيّ"، أنهم دَعَوا، سنة2009، إلى تنظيم حفلةٍ جماعية للمجاهرة بانتهاك حرمة رمضان، لكن دعوتهم انتهتْ إلى الفشل والخذلان. ونظّموا، سنة2013، وقفة احتجاجية بـ"تبادل القبلات" أمام البرلمان، اتّسمتْ بالسفالة والمهانة والانحطاط الأخلاقي، وانتهتْ، هي الأخرى، بالمذلَّة والاحتقار والعار على شرذمةِ السفهاء الذين شاركوا فيها.  

وفي تقديري أن هذه الندوةَ الشاذّة، في مقرِّ الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، أراد لها أصحابُها، الظاهرونَ في الواجهة، والمُتَوارون وراء الستار، أن تظهرَ على أنها حدثٌ عام يستحق أن يصورَه المصورون، ويحلله المحللون، ويعلّق عليه المعلقون، حتى يصلَ خبرُه إلى الأقاصي البعيدة، فيصبح حديثَ الناس في منتدياتهم، وشاغلَهم في نقاشاتهم. ونسيَ هؤلاء المنظمون، الكبارُ المختَفون، و"الذراريّ" الظاهرون النَّزِقون، أنهم في مجتمع مُسلم سيظل يلفِظُهم، وينبِذهم، ويحتقرهم، ما داموا يتطاولون على عقائد الإسلام، وقرآنِ الإسلام، وسنن الإسلام، وحرماتِ الإسلام.

الملحدون، السادةُ وغِلْمانُهم، في المجتمع الإسلامي، سيظلون، اليوم وغدا، أقليةً ملفُوظَة مكروهَة مهما ضخّم الإعلامُ اللادينيُّ صوتَهم، ومهما سمَّنَ الضُّلاّلُ هزالَهم، ومهما حسَّن الفُسَّاقُ مقابحَهم، ومهما مدَحَ الشياطينُ عاهاتِهم وخطاياهم.

أين هي إمارةُ المؤمنين في هذا الواقع؟

بماذا يرُدُّ حماةُ الملّةِ والدِّين على مَن يواجههم ويتحدّاهم ويُبَرِّق لهم عينَيْه، ويقول لهم بالفم الملآن: نريد أن تغيِّروا دستورَكم الممنوحَ بدستور جديد يضمن لنا حقَّ الإلحاد والمجاهرة بالدعوة إليه في المجتمع المسلم، ويُلغي كلَّ علاقة للمجتمع بالدين، ويُبيح المحرَّمات، ويحلّلُ الخبائث، ويطبّعُ مع الشيطان وما يخرج من معْدِن الشيطانِ مِن ضلالات ومنكرات؟

بماذا يردّ حماةُ الأمن الروحي للمغاربة على مَن يطالبهم بمنع تنشِئة أبناءِ المسلمين على دين آبائهم وأجدادهم؟

بِمَ يردُّ حماةُ المذهب المالكي والعقيدة الأشْعَريَّة وطريقة الجُنَيْد السالك على مَن يطالبهم بإلغاءِ الفرائض التي فرضها الله على المسلمين، في العبادات والمعاملات، في الدماء والأموال والأعراض، في السلوك والآداب والأخلاق؟

بماذا يردُّ الذين يحتكرونَ النظرَ في شؤون الناس الدينيَّةِ والدنيويَّة، ويَدّعون حمايةَ وحدة الأمةِ بإمارة المؤمنين ووحدَة المذهب المالكي، والسهرَ على الأمن الروحي للمؤمنين أن تمتَدَّ إليه يدُ الفتَّانين، وينتهكَه الخوارجُ الضَّالّون، على مَن يتكلُّم في ندوة علنية، وفي مكان عمومي، يُطالب بإقرارِ حرية الارتداد عن الإسلام، وبحرية المرأة الجنسية، أيْ بحقِّها في الزّنا والسِّحاق،  مِنْ غير أنْ يُعدّ ذلك منها جريمةً وخروجا على الطبيعة والأخلاق العامة؟

يا "حماةَ" حِمى الملة والدِّين، ألَمْ يصلْكم خبرُ هؤلاء الشراذم، الذين ينتهكون الدستور الممنوحَ، على علاَّته، ويخرقون القوانينَ المعمول بها، في الجُنح والجنايات، على مرأى ومسمع من سلطة النيابة العامة، ولا مَنْ يُحرّك ساكنا؟

 في رأيكم، يا حماةَ الملة والدين، ألا يُزَعْزِعُ هؤلاء الشواذُّ بهرطقاتهم وانتهاكاتهم وخرْجاتهم المشبوهة، عقيدةَ المسلمين، ويمتهِنُونَها ويدنِّسُونَها؟

أليس في بلادنا قانونٌ يحمي عقيدةَ المسلمين؟

أليس من واجباتِ دولةِ الحقّ والقانون أن تُطبّق القانون على جميع الناس، بلا تمييزٍ ولا محاباة، وبلا خشيةٍ من أيٍّ كان؟

وأنتم أيها الإسلاميون، المشاركون والمعارضون، الموالون والثوريون، ألا تستفزكم هذه الخرجاتُ اللادينية، التي بدأت تتكاثر وتتقوّى وتتجرّأ، والتي لا تُعير أيَّ اعتبار لدين المسلمين، ولا لأعرافهم وأخلاقهم، ولا للقوانين التي بها قوامُ العدالة والطمأنينة والاستقرار؟

أيها الإسلاميون المناضلون، مِن كلِّ المشارب والتيارات والاجتهادات، ألا ترَون أن هذه الخرجاتِ الشيطانيةَ تستحق منكم نبْذَ الخلافات التي تفرّقكم، ولو مؤقتا، ورصَّ الصفّ، وتوحيدَ الخطاب، في مواجهة منكَرِ هذه الشراذم المتحدية، في إطار القانون والقول البليغ؟

إني أعرف أن مِن الإسلاميِّين مَنْ تفرض عليه الضرورةُ السياسيةُ أن ينسج علاقات مع بعضِ دوائرِ هؤلاء اللادينيِّين، الذين يُناضلون تحت لافتات تمويهية، حقوقيةٍ وفكرية وفنية وثقافية حداثية، ويحتضنون ويتبنَّوْن ويدافعون عن هذه التيارات المنحرفة مِنْ نَوابِت الزندقة والإلحاد. والمأمولُ ألاّ تذهب بهم هذه العلاقاتُ السياسيّة الوقتيةُ إلى التقليل مِن شأن ما عليهم تجاه الدعوة، وهي الأصلُ الثابت الدائم، والركونِ إلى الذين ظلَموا أنفسَهم بمحاربةِ الله ورسوله والمؤمنين.

سيقولُ بعضُ الناس مِمّن تُلهيهم السياسةُ، بمضايِقها ومنعطفاتِها، في بعض الأحيان، عن لبِّ عملهم الدعوي، وعن الغضبِ لله ولرسوله، ولحُرُمات الله ومقدسات الإسلام، التي يعبثُ به الغِلْمة، ويدنسُها السفهاءُ الأشقياء- سيقول هؤلاء إن خرجاتِ هؤلاء "الذراريّ" المُبْطِلين ما هي إلا فرقعاتٌ مخدُومة لإلهاء الرأي العام بالأمور الهامشيةِ عن الأمورِ المركزيّة، وشغْلِ الناس بتوافِه القضايا حتى لا يشتغلوا بالمخزن وسياساته.

هناك من الإسلاميِّين ما ينظر إلى هذه النشاطات اللادينية الآخذة في التفاقم، تحت ألوان شتى، ويقيّمها مِن هذه الزاوية التي يغلب فيها السياسيُّ على الدعويِّ الإيمانيِّ.

لكني أطرح على أصحاب هذا النظرِ الأسئلة التالية؟

هل هذه الخرجاتُ المتجرئة على الإسلام ومقدساتِه واقعٌ حقيقيٌّ مَعِيشٌ أمْ لا؟

هل هي خرجاتٌ في تصاعد وتنامٍ أمْ لا؟

هل يُشكِّل استفحالُ أمرِ هذه الخرجاتِ خطرا داهما على المجتمع الإسلامي وقيمه ووحدته أمْ لا؟

وأخيرا، أليس إسلامُنا ومقدساتُه في قلْب الأمرِ الذي ينبغي أن نشتغِلَ به؟

أليس إسلامُنا ومقدساتُه مُقدَّما، في الحكم والاعتبار، على اجتهاداتِنا الفكرية واختياراتِنا السياسيّة؟

أليس دينُنا ومقدّساتُ دينِنا، في الأهمية والمكانة، قبْلَ أحزابِنا وجماعاتِنا وحركاتنا وطوائفِنا وتحالفاتنا وقبائلِنا وعشائرنا وسائرِ ما نعتزّ به وننتمي إليه ونتعلق به؟

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


الثلاثاء، 24 يونيو 2014

مستَنَدُ "البيعة" في خطاب الإسلاميِّين المشاركين(4)



بسم الله الرحمن الرحيم



مستَنَدُ "البيعة" في خطاب الإسلاميِّين المشاركين(4)



(1)

البيعة والدستور

الدستورُ، في مُصيبَتنا السياسية، رَضِينا أم كرِهنا، دستوران، وكلاهما سيّئُ السمعة، دستورٌ عرفيٌّ غيرُ مكتوب، ودستورٌ ممنوحٌ مكتوب. والعرفيُّ مقدَّمٌ على المكتوب، في الاعتبار، لأنه هو الأساسُ في تقاليد نظامنا السياسي، بل هو فوق الدستور المكتوب ومهيمنٌ عليه.

الحسنُ الثاني، رحمه الله وغفر لنا وله، في سنة 1981-وقد كان يحكم بيد من حديد وبسلطات مطلقة- عندما لم يجدْ في الدستور المكتوب(دستور1972) ما يُواجه به المعارضةَ التي رفَضتْ التمديدَ لمجلس النواب، لجأ إلى سلطة "إمارة المؤمنين"، التي يمنحها له الدستور العرفيُّ، واعتبر المعارضين الرافضين للتمديد خارجين على الجماعة.

الدستور العرفيُّ لا رسم له ولا حدود، وإنما هو أعراف مخزنية موروثة، وإضافاتٌ واجتهاداتٌ حديثةٌ اقتضَتها الظروفُ والتطورات ومستجدّات الحياة السياسية.

هذا الدستورُ الذي نرى آثاره بيّنةً في أرض الواقع والممارسة، هو الذي يشحن عبارةً مثل "أمير المؤمنين"-وهي في أصلها وصفٌ لا يُعطي للموصوف به أيَّ سلطة، ولا يرفعه فوق المؤسسات ويُعفيه من أيِّ مسؤولية- بمعان ومفاهيم تنبني عليها سلطاتٌ وصلاحياتٌ، تجعل "أمير المؤمنين" بمنأًى عن أي شكل من أشكال المراجعة والنقد والتقويم، وتنزِّهه أن تصلَه يدُ المراقبة والمتابعة والمحاسبة.

وفي اعتقادي أن الداء العضال الذي تعانيه حياتُنا السياسية ناجم عن أمرين اثنين، أولُهما متعلّق بهشاشة المصداقية التي يحظى بها الدستور الممنوح، لأن معارضيه يرونه وثيقةً لا تتوافر فيها شروط الحد الأدنى لتأسيس نظام سياسي ديمقراطي حقيقي. فهو دستور ممنوح، على مقاس محدد، يتحكم النظام المخزني في طريقة وضعه، وفي صياغة فلسفته ومضمونه، وفي هيكلة أبوابه وفصوله، وفي توجيه حملات التعريف به والدعاية له قبل الاستفتاء وبعده، ويحتكر كلَّ وسائل التأثير والتخدير، والترغيب والترهيب، لضمان النتائج المرضية المطلوبة في الاستفتاء.

والأمرُ الثاني متعلِّقٌ بعلامات الاستفهام التي سيظل يطرحها المعارضون للدولة المخزنية حول شرعية الدستور العرفّي، الذي يستند إليه الملكُ في احتكار سلطات كثيرة، وصلاحيات متعددة، تتعدى شؤونَ الناس السياسية والدنيوية لتشمل شؤونَهم الدينية والأخروية.

 فحينما يدافع الإسلاميون الموالون عن البيعة، في صورتها التي عرضنا بعضَ قسماتها فيما تقدم من أجزاء هذه المقالة، فإنهم يدافعون، شاؤوا أم أبوا، عن الدستور العرفيّ، الذي تكَوَّنَ من التراكمات الاستبدادية للدولة المخزنية، والذي يعطي للملك سلطات لا حدود لها.

وكلُّ ما نعرفه عن هذا الدستور الخفيّ/الظاهر، هو أنه لا رسم له ولا حدود، وأنه، في مضامينه، عبارة عن تقاليد وأعراف وطقوس ومفاهيم وتأويلات دينية كرستها تجاربُ طويلة من ممارسات الدولة المخزنية واجتهاداتِ علماء السلطان وفقهائِه.

أما في الدستور الممنوح المكتوب، فإن الإشارة إلى الدستور العرفي لا تتعدى بعضَ العبارات في الفصل41(دستور2011). ففي هذا الفصل، نصٌّ على أن الملك هو "أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامنُ لحرية ممارسة الشؤون الدينية"، وفيه أن الملك "يمارس الصلاحيات الدينيةَ المتعلقةَ بإمارة المؤمنين، والمخولة له حصريا، بمقتضى هذا الفصل بواسطة ظهائر".

وقد نما هذا الدستور العرفي وتطور، عبر عهود الدولة المخزنية المتعاقبة، وما عرفته هذه العهودُ من تحولات وتحديثات وترميمات، كانت تلجأ إليها الدولةُ، إمّا عن اختيار وإمّا عن اضطرار، للتكيف مع الوقت، وما يفرضه هذا الوقتُ من متطلبات ومستجدات ومفاجآت. وقد تمخض كلُّ هذا التاريخ عن مَتْن فكريٍّ وفقهي مخزني، فيه من الفرَادَة والغرابة والتناقض ما يبعث على الضحك والبكاء.

ويمكننا أن نقرأ هذا المتنَ الفكري الفقهيَّ المخزنيَّ فيما تنشرُه منابرُ بعض المؤسسات التابعة للدولة، والمتكلمة باسمها، والمدافعة عن نظامها، كوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمجلس العلمي الأعلى، والرابطة المحمدية للعلماء.

إنه متن غارقٌ في الأبحاث النظرية، واجترارِ مقالات القدماء في "الأحكام السلطانية"، واجتهاداتهم وفتاواهم في تسويغ أنظمة الاستبداد وتجوِيز إمارةِ المتغلِّبِين بالسيْف. اقرأْ مِثالا على هذا المتن فيما ينشره الموقع الإلكتروني لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس العلمي الأعلى، من دراسات في موضوع "البيعة" و"إمارة المؤمنين"، بدءا بما يكتبه السيد أحمد التوفيق، وزير الأوقاف، والسيد محمد يسف الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى.

ولسنا نجد عند الإسلاميِّين الموالين من جديد فكري خارج هذا المتْن الفقهي المخزني، في وجْهَيْه الموروثِ والمُحْدَث. وكل ما نجده إنما هو جهدٌ قائم على التقليد والتكرير، لتكيِيف مضامين هذا المتن وتنزيلِه على الواقع بحسب ما تقتضيه الأحوال السياسية.



(2)

البيعةُ ونظامُ إمارة المؤمنين

في خطاب الإسلاميِّين الموالين، تُعتبر البيعةُ هي الأساس الذي تقومُ عليه شرعيةُ إمارة المومنين وما يتعلق به من سلطات الإمامة العظمى وسلطاتها. وللكتاب الموالين للنظام المخزني مقالاتٌ طويلة وعريضة في الكلام على إمارة المؤمنين، معززة بشواهدَ ونصوصٍ من التاريخ والفقه والفتاوى، تؤكد، في رأيهم، أن ارتباط النظام الملكي الوراثي بإمارة المؤمنِين، هي حقيقة راسخة في الدين الإسلامي، تشهد لها تجاربُ غنيّة ممتدةٌ في تاريخنا السياسي وتراثنا الفقهي.

وإذا افترضنا حقيقةَ هذا الارتباط بين الملكية وإمارة المؤمنِين بناءً على بيعةٍ شرعيةٍ تتوافر فيها جميعُ الشروط المطلوبة في العقود القانونية الصحيحة، فإن هذه الحقيقةَ تصبح محلَ شكٍّ وشبهة حينما يكون الأساسُ الذي تقوم عليه، وهو عقْدُ البيعة، محلَّ نقد وطعن وتجريح وتضعيف.

فكيف يبني الإسلاميُّون الموالون مقالاتِهم في الإمامة العظمى وإمارة المؤمنين على أساس لا يصحُّ؟

كيف يمكنُهم الدفاعُ عن دستور عرفيِّ يستند إلى عَقْد مجروح، وأصلٍ متداعٍ؟

هذا عن الأساس الذي يبني عليه البانون شرعيةَ الدستور العرفي.

وفي واقع الفعل والممارسة، فإن مؤسسةَ إمارة المؤمنين تتمتع بسلطات وصلاحيات لا حدود له، لأنا لا نجد نصا دستوريا أو قانونيا يتحدث عن هذه الصلاحيات والسلطات بالاسم والصفة والتحديد، فأحرى الحديث عن المسؤوليات المترتبة عليها، وعن إمكانية المحاسبة والمتابعة في حال الإخلال ببعض هذه المسؤوليات وعدم الوفاء بما تقتضيه من واجبات والتزامات.

في الفصل41 المشار إليه، من دستور2011، نجد ذكرا لـ" الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين"، التي يمارسها الملك. لكن الذي لا نجده، فيما هو مكتوب في الدستور الممنوح، وفيما هو مبيَّنٌ في القوانين/الظهائر التنظيمية الصادرة عن إمارة المؤمنين، هو طبيعةُ هذه الصلاحيات الدينية، وحدودُها، وما يتعلق بها من سلطات، وهل هي صلاحياتٌ تتَرَتَّب عليها محاسبةٌ ومتابعةٌ، أم أنها صلاحيات على بياض، تجعل أمير المؤمنين أكبرَ من أن يُتابعَ ويَحاسَب.

الذي لا نعرفه، فيما هو مكتوب في الدستور الممنوح، وفيما هو منشور من الظهائر/القوانين المنظمةِ لبعضِ المؤسسات التابعة لإمارة المؤمنين، هو مِنْ أين  تبدأ صلاحياتُ أمير المؤمنين وأين تنتهي؟ وما هي وظائفُ هذه الإمارة، وما علاقتُها، سياسيا وتنظيميا، بمؤسسة الملك رئيس الدولة؟

فهذا أحدُ الكُتاب الموالين، وهو الكاتبُ الصحفي بلال التليدي، أراد أن يكتب، في غشت2009، عن "وظائف إمارة المؤمنين"، فلم يجد مرجعا موثقا يرجع إليه إلا الخطابات الملكية. فقد استنبط السيد التليدي من خطب الملك خمس وظائف لإمارة المؤمنين. وليس يهم العدد هنا، ولكن الذي يهم، في رأيي، هو أن نعرفَ الأصلَ القانوني والدستوري لهذه الوظائف، التي استنبَطها السيد التليدي، ولوظائف أخرى تحدث عنها غيرُه.

فالدفاعُ عن نظام إمارة المؤمنين، كما هو مُعاين ومَعِيشٌ في ظل الدولة المخزنية، هو دفاعٌ عن نظامٍ ليس له من أساس قانونيٍّ أو ضابط تشريعي إلا إرادة الملك، وما يراه الملك ويختاره ويستحسنه، ليس فوقه مؤسسةٌ يمكن أن تراقبَه أو تراجعه أو تعارضه.

وبهذا المعنى، يكون الملكُ هو الأصل الفكري والفقهي والتشريعي والقانوني الذي ترجع إليه  جميعُ الفروع، وهو المحور الذي تدور حوله كلُّ الاجتهادات الفقهية والفتاوى.

مثلا، ماذا عند الإسلاميِّين المشارِكين المؤيِّدين، طبْعا خارج المتن الفقهيِّ المخزنيِّ المحفوظ، وخارجَ حِيَل التبرير والتسويغ والتجويز- ماذا عندهم في تفسير احتكارِ الملك، بصفته أميرا للمؤمنين، لصلاحيِّة الفتوى في شؤون الناس الدينية والدنيوية؟

ماذا عندهم، خارج المتن الفقهي الاستبدادي، في تفسير كونِ الملكِ، أميرِ المؤمنين، هو وحده الذي ترجع إليه الكلمةُ الفصل في شأن الاجتهاد الديني؟

ماذا عندهم، خارج الاجتهادي المخزني الجبْري، في تبرير كونِ سلطة إمارة المؤمنِين، في الدستور العرفي، لا تقتصر على المسلمين وحدهم، بل تشمل غيرَهم من الملل الأخرى؟ وكيف يُفسرون لنا أن يكون مِنْ بين الموقعِين على البيعة المخزنية مَنْ ليس يَدِين بدِين الإسلام؟. ألمْ يؤكّدْ هذا الاجتهادَ المخزني الغريب الدكتورُ المدغري حينما كتب في (الحكومة الملتحية، ص102) "أن إمارة المؤمنِين تعني فقط رئاسةَ دولة المؤمنِين، بما فيهم الملل الأخرى التي تتعايش معهم في نفس الوطن مِنْ مسيحيِّين ويهود وغيرهم"؟

ماذا عندهم، مِنْ أدلة مُقنعة، وتفسيرات واضحة معقولة، واجتهادات راجحة، لتسويغ كونِ الملك، أمير المؤمنين، في الدستور العرفي، هو الوحيد الذي يحقّ له أن يجمع، في سياساته وممارساته وقراراته، بين الدين والسياسة، أما سائر المواطنين، فإما أن يختاروا مجالَ الدين، وإما أن يختاروا مجالَ السياسية؟

هذه أمثلة على هذا المتن الفقهي المخزني، الذي يؤثث فضاءات الدستور العرفي، والذي يجعل مما يسمى، عندنا، بنظام إمارة المؤمنين نظاما فوق النظام، وفوق المؤسسات، وفوق المحاسبة.

وأختمُ هذه المقالةَ بفقرات مِنْ مقالةٍ كنت كتبْتها، في دجنبر2006، بعنوان (مِقْمَعَة "أمير المؤمنين")، يمكن مراجعتُها على الرابط:


أقول فيها: "إني هنا بصدد النظر وإبداء الرأي في موضوع سياسي مائة في المائة، وهذا أمر مفهوم عند الفضلاء العقلاء، ولا يجادل فيه إلا من جرى على تقديس الحكّام، وتنزيه أقوالهم وسلوكاتهم وسياساتهم واجتهاداهم وقراراتهم أن تكون محلَّ نقد أو مراجعة أو محاسبة. هذه نقطة أولى.

"والنقطة الثانية أن وصفَ الحاكم، أيا كان أصلُه وفصلُه، بأنه أميرُ المؤمنِين لا تعني أن له أن يفعلَ ما يريد بلا حسيب ولا رقيب، بل إن سيرةَ الفاروق، رضي الله عنه، بيّنتْ لنا أن إمارة المؤمنين هي غُرْمٌ على صاحبِها ما لم تكن سلوكاتُه وسياساتُه وسائرُ تصرفاته منضبطةً بهدْي الإسلام، معتَقَدا وأحكاما وأخلاقا، وموزونَةً بموازين العدل، أقوالا وأفعالا، ومعروضَة للنقد والتقويم والمراجعة والمحاسبة.

"والنقطة الثالثة أنه ليس عيبا، ولا عارا، ولا منكرا، ولا جريمة، أن يتسمّى الحاكمُ أميرا للمؤمِنين، لكن المنكرَ المرفوضَ، والسلوكَ المبغوضَ، أن ترتبطَ بهذه التسمية سلطاتٌ تنفيذيَّة وصلاحياتٌ وامتيازاتٌ من دون أن يكون لذلك أيُّ سند من دستور أو قانون يُبيِّنُ ويضبط ويحدّدُ، ويجعلُ المسؤولياتِ موصولةً بالجزاء والحساب. بل إن التطوراتِ التي عرفتها الدولةُ الحديثة باتت تفرض على الحاكم، الذي يَدَّعي أنه من أنصارِ الديمقراطية والحداثةِ والحريات وحقوق الإنسان، أن يكون لدعواه ما يُصدِّقها في دستور مكتوب، وقانون مسطور، وميثاق محفوظ."

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.


الجمعة، 20 يونيو 2014

مُستَنَد "البيعة" في خطاب الإسلامِيِّين المشاركين(3)

بسم الله الرحمن الرحيم



مُستَنَد "البيعة" في خطاب الإسلامِيِّين المشاركين(3)



(1)

البيعة بين الواقع والأماني

حقيقة "البيعة"، في واقعنا السياسي، هي ما شهد به الأمير (مولاي هشام) في يومياته، وهي شهادة لها وزن واعتبار، لأن صاحبها من العائلة الملكية، وأحدُ الموقعين على البيعة.

المخزنُ القويُّ الآمرُ يُصَفّر، فإذا المأمُورُ الضعيف يسارع إلى التوقيع على عقْد الطاعة والخضوع، من غير أنْ ينْبِسَ ببِنْتِ شَفَة.

أمّا البيعةُ التي يتحدث عنها الإسلاميون الموالون-وأنا أفترض دائما فيهم حسنَ النية- ويبنون عليها مواقفهم السياسية، إنما هي بيعة "افتراضية"، لا وجود لها إلا في النصوص المجرّدة، والأماني النظرية، والتنظيرات المثالية، كقول الدكتور عبد الكبير المدغري، وهو ملكي مخزني قحّ، في كتاب "الحكومة الملتحية"(ط2006، ص103)، حينما يصف عقْد البيعة الذي تنعقد به إمارة المؤمنين بأنه "العَقْد الذي يسمح للأمة أن تشترطَ شروطها، وتحددَ الالتزاماتِ والمواثيقَ، وتفرضَ على أمير المؤمنين الالتزامَ بتحقيق الشروط والوفاءَ بالعهود...".

أرأيتم الفرقَ الواسع بين الواقع، الذي شهدَ به الأميرُ، وبين هذه الأماني والأوهام التي يتحدث عنها وزيرُ الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق السيد العلوي المدغري؟

إنه فرق ما بين السماء والأرض.

الأمير يشهد بأن حقيقة عَقْد البيعة المخزنية هي توقيعٌ على الخضوع بلا نقاش، والسيدُ المدغري يتحدث عن عَقْد، يتوهمُه ويتمَنّاه، (تشترط فيه الأمةُ شروطَها، وتفرضُ على أميرِ المؤمنين الالتزامَ والوفاءَ بالعهود)!!

ألم يكن السيدُ المدغري مِنْ بين الموقعِين على بيعةِ محمد السادس؟

نسألُه، وقد كان، بلا شك، من المشاركين في صياغة مضمونِ عَقْد هذه البيعة: أين هي، في مضمون هذا العَقْد، الشروطُ التي اشترطتها الأُمةُ، على افتراض أن الموقعِين كانوا يمثلون الأمةَ بحق؟

أين هي، في هذا العَقْد المخزني الجبْري القَهْري، إرادةُ الأمة التي تفرضُ على أمير المؤمنين الالتزامَ والوفاءَ؟

في جملة، أين هي رائحةُ إرادةِ الأمة وسيادتِها وكرامتِها في مضمون هذا العَقْد الذي وقّعه السيدُ المدغري يوم 23 يوليوز 1999؟

نسأل السيد المدغري، الذي نفترض أنه وقّع على البيعة بصفته واحدا من ممثّلي الأمة، وليس واحدا من ممثلي السلطة الآمرة القاهرة الغالبة-نسأله إن كان قد جرت قبل صياغة عقْد البيعة وتوقيعه مشاوراتٌ ومفاوضاتٌ وتوافقات عبّرت فيها الأمةُ عن إرادتها، وفَرَضت شروطَها؟

بل نسأله إن كان هو نفسه له رأيٌ أو شبهُ رأي فيما تضمنه عقْدُ البيعة، أم أنه كان مأمورا لينفذَ ما يُمْلَى عليه، لا غير؟

الجواب على مثل هذه الأسئلة معروف طبعا؛ فالسيد العلوي المدغري وغيرُه من الموقّعين، لم يكن لهم من اختيار إلا الاستجابةُ لصوت الصفّارة، كما عبر الأمير (مولاي هشام)، وتنفيذُ الأمر بالتوقيع على عهد السمع والطاعة بلا شروط.

وهل يمكن أن ننتظرَ من أحدِ خُدّام المخزن الأوفياء، مثلِ الدكتور عبد الكبير المدغري، أن يقول كلمةً، بل حرفا واحدا، لا يفتِلُ في حبلِ الدولة المخزنية؟ هل يمكن أن ننتظر منه، اليوم أو غدا، ولو تلميحا إلى تلميحٍ إلى تلميحٍ إلى شبهِ نقدٍ للبيعة التي تمتْ لمحمد السادس؟

إذن، فَلْنتوقّفْ أن نذهبَ بعيدا في الحُلْم، وإلا أوشَكْنا أن نبتعدَ عن الجدّ والمعقول.

أخلص من كل هذا إلى أن عقْد البيعة المخزنية لا علاقة له بالعقود الطبيعية القانونية السليمة، التي تتوافر فيها كل مقومات الصحة والشرعية والمصداقية. إنهُ تقليدٌ وطقوس ومظاهر واحتفالات لتكريس سلطة النظام على الدولة، والتمكين ليد القهر والاستبداد.



(2)

مبايعةٌ أم إذعان؟

يمكن أن نتبيّنَ بعضَ سمات الإكراه في البيعة المخزنية من نواح ثلاث، على الأقل:

الناحية الأولى هي أن الدولة/القصر، وهو الطرف الداعي إلى هذه البيعة، يملك أسبابَ القوة والبطش والإكراه وفرضِ إرادته.

الناحية الثانيةُ تتعلق بمضمون عَقْد البيعة. فالموقِّعون، وهم الطرفُ الضعيف الخاضع، لم يشاركوا، ولو برائحة حَرْف، في صياغة هذا المضمون، ولا طُلِب إليهم، بأيِّ شكل من الأشكال، أن يُبدوا ما عندهم من رأي.

والناحية الثالثة أن الموقِّعين لم يكن أمامهم إلا اختيارٌ واحد، وواحد فقط، وهو ما يطلبُه الطرفُ القويُّ، وهو التوقيعُ.

إن عَقْد البيعة، في ظل النظام المخزني، يُشبه، في كثير من نواحيه، ما يُعرفُ، في مجال المعاملات، بـ"عَقْد الإذعان"؛ والفرق بين العَقْدين، أن "عَقْد الإذعان"، في المعاملات، يترك للطرف الضعيف أن يختارَ بين الرفض والقبول، من غير تفاوضٍ ولا نقاش. أما "عَقْد البيعة"، في النظام المخزني، فليس فيه للطرف الضعيف إلا اختيارٌ واحد، وهو التسليمُ والتوقيعُ.

ولا بد أن نُذكِّر في هذا السياق أن التوقيعَ في شروط متلبِّسَةٍ بمعاني الإكراه، وفي أجواءٍ توحي بالرهبة والاضطرار، يُعرٍّضُ صحةَ هذا العَقْد للطعن، من الناحية القانونية والفقهية، فضلا عن الناحية السياسية. ويمكن أن نشيرَ هنا، على سبيل الاستئناس، إلى أن الإمامَ مالكا، رحمه الله، كان يُفتي ببطلان طلاق المكره. وقد كان إمامُنا بهذه الفتوى يُعرِّضُ بما عُرف بـ"أيمان البيْعة"، حيث كان الولاةُ يأخذون البيعةَ للحكام بالعسف والإكراه، ويُحلِّفون الناس، مثلا، بطلاق الأزواج وإعتاق الرقاب والتصدّق بالمال، إن هم نكثوا العهد، وخَلعوا البيعة من أعناقهم.



(2)

نوايا الإسلاميِّين وبلاّعةُ الدولة المخزنية

نياتُ الناس وما تُخفي صدورُهمْ علمُها عند الله، هو وحده، تعالى، الذي (يعلم خائنةَ الأعين وما تُخفي الصدورُ).

قد يكون دفاعُ الإسلاميِّين المشاركين عن النظام المخزني عن حسن نية، وعن اجتهاد فقهي وسياسي، كما يدّعون في خطابهم. لكن هذا لا يمنعنا أن نرى-بما نطالعه، في التاريخ القريب، من وقائع وأحداث وأخبار، وبما نقرأه فيما هو منشور من دراسات واعترافات ووثائق- أنهم كانوا مَسُوقين، بالرغم عنهم، بإرادة مخزنية وَفْقَ مخططات وسياسات وغايات مرسومة سلفا.

إن حسنَ نوايا الإسلاميِّين وبراءَة مقاصدِهم لا يُسقط سوءَ نيّة المخزن، ولا يبرّئ مخططاتِه وسياساتِه مما اشتَهَرَت به من مكر ومخادعة وعسف وطغيان.

لا يُمكن للمتابع المنصف أن ينكرَ أن هؤلاء الإسلاميِّين، في بداياتهم، في الثمانينيات من القرن الماضي، قد عانَوْا من الظلم المخزني، كما عانَى غيرُهم ممن كانت تلاحقهم تهمةُ المعارضة وشبهةُ التشكيك في ولائهم التام للنظام المخزني. لكنهم، وبغضِّ النظر عن نياتهم الحسنةِ ومقاصدهم البريئة، كانوا يُمْتَحنون، بوعي منهم أو بغير وعي، ويُسْتَدْرجون، حتى تَمَّ الإيقاع بهم في جوف بلاَّعة الدولة المخزنية، حيث لا حيلةَ ولا فِكاك.

ولْنرجعْ، مرة أخرى، إلى فقيه الدولة المخزنية، السيد عبد الكبير العلوي المدغري، الذي عُمّرَ على رأس وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية حوالي تسعة عشر عاما.

لقد كان من أبرز إنجازات هذا الرجلِ في هذه الوزارة التي تأتمر مباشرة بأمر الملك/أمير المؤمنِين، أنه استطاعَ، بتخطيطٍ وتعاونٍ وتنسيق مع وزير أمِّ الوزارات إدريس البصري-رحمه الله وغفر لنا وله- إخضاعَ مؤسسةِ العلماء، وما يتبعها مِنْ تعليم عتيقٍ وإمامة وخطابة ووعظ وإرشاد، لإرادة النظام، وترويضَ جزء من الإسلاميِّين-وكانوا في غالبيتهم مُنَظَّمين في حركة الإصلاح والتجديد، قبلَ أن يتوحدُوا مع رابطة المستقبل الإسلامي، سنة 1996، في تنظيم واحد باسم حركة التوحيد والإصلاح- وتأهيلَهم خطوةً خطوةً، وبأسلوب الجرعات، ليصلُحوا للاندماج في الحياة السياسية، وَفْق خطة مخزنية مدروسة، انتهت بقبولِهم، سنة 1996، في حزب الدكتور عبد الكريم الخطيب، الذي كان معدودا في خدّام المخزن الصرحاء الأوفياء، رحمه الله وغفر لنا وله.

ومن الأدوات التي استُعملت في هذا الترويض والتأهيل والإعداد المخزني ما عُرف في عهد المدغري بـ(الجامعة الصيفية للصحوة الإسلامية)، التي كانت بمثابة الطاحون الإديولوجيِّ المخزنيِّ، الذي طُحِن فيه الإسلاميّون طَحنا، والخلاّط الذي عُجِنوا فيه عَجْنا، والقالَبِ الذي شُكِّلُوا فيه تشكيلا، حتى تمكنت الروحُ المخزنية من جِينَات وعيهِم السياسي، فلا تسمع منهم بعدئذ-مِنْ رؤوسهم وأعلامِهم-ومنهم اليوم وزراء وموظفون سامون في الدولة-إلا المدحَ والتبجيلَ والتعظيمَ لأمير المؤمنِين، والإشادةَ والتنويهَ بالنظام المخزني.

لا أحدَ يجهلُ اليوم، إلا مَنْ يتعمّدُ التجاهلَ، كيف كانت تجري الأمور السياسيةُ في عهد الحسن الثاني، رحمه الله وغفر لنا وله. ولم يَعد خافيا أن المخزنَ، بطبيعته الاستبدادية، كان، وما يزال، يحرص على التحكم في الشاذّة والفاذّة مما يعتمل في الساحة السياسية، لا يقبلُ أن يفوته معرفةُ الصغيرة والكبيرة مما يجري في واقع الأحزاب والجماعات والجمعيات، من كل الألوان والتيارات، الموالي منها والمعارضِ. أما فبركةُ الأحزاب، وصناعةُ الرموز والقيادات، وتقريبُ هذا وإبعاد ذاك، وتزويرُ الانتخابات، واصطناعُ الواجهات الديمقراطية، وغيرها من مميزات "الديمقراطية الحسنِيّة"، فحدّثْ عنه ولا حرَج.

لقد أصبح ترويضُ الإسلاميِّين، وتدجينُهم، وتهييئهم لوظيفتهم المحددة في اللعبة السياسية التي يتحكم المخزنُ في كل خيوطها، من أهدافِ الدولة المخزنية منذ نجاح الثورة الإسلامية في إيران سنة1979. ويمكن أن نحددَ بدايةَ هذه السياسة المخزنية الغاشمة بنَكْبَة عائلةِ الفقيه العلامة الشيخِ محمد الزيتونيّ، رحمه الله، في فاس سنة1980. وقد توفي هذا العالم الجليل مظلوما في السجن المركزي بالقنيطرة سنة 1990، وقد بلغَ من الكِبَر عتيا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.