السبت، 14 يونيو 2014

مستَنَدُ "البيعة" في خطاب الإسلاميِّين المشاركين(1)



بسم الله الرحمن الرحيم




مستَنَدُ "البيعة" في خطاب الإسلاميِّين المشاركين(1)




(1)

أقصد هنا بالإسلاميِّين المشارِكين حزبَ "العدالة والتنمية"، ومعه "حركة التوحيد والإصلاح"، ومَنْ هم على منهاجهم في الدفاع عن النظام المخزني، وترجيحِ المشاركة في الحياة السياسية، التي يتحكم فيها هذا النظام، ويوجهُ مساراتها وفق فلسفتِه وسياساته ومخططاته وأهدافه المرسومة.

في كتابات الإسلاميِّين الموالين، لم نعُدْ نجد كلمة "مخزن" مستعملةً وصفا للنظام السياسي الاستبدادي، الذي ينبني، في أساسه، على ملكية وراثية تنفيذية، حيث الملك يسود ويحكم بسلطات شبه مطلقة، لا سبيل معها إلى مراقبته أو متابعته أو محاسبته. فعند هؤلاء الإسلاميِّين، المؤسسةُ الملكية بريئة من المخزن، بل عند بعضهم أن الملكية نفسَها هي ضحية هذا المخزن، الذي لا يسمونه باسمه، وإنما باتوا يستعملون أسماءً ونعوتا أخرى، اخترعوها للإشارة إلى مراكز النفوذ في الدولة، وإلى لوبيات أصحاب المصالح، وشبكات الفساد المستشري في مفاصل الدولة ومؤسساتها الحيوية.

فعند هؤلاء الإسلاميِّين المشاركين، ومَنْ على مذهبهم في الموالاة، الملكيةُ لا علاقة لها، من قريب أو بعيد، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بهذه المراكز واللوبيات والشبكات، التي تُعَدُّ من تراكمات الماضي الموروثة، والملكُ اليومَ يسعى، جهدَه، للتخلص منها، وتطهير البلاد من أسبابها وآثارها، وما خلّفته من مظالمَ وجنايات ومآس، ما يزال كثير من الناس يعانون منها.

ويوضح بعضُ هؤلاء الكتاب الموالين أن بيعةَ الإسلاميِّين المشاركين إنما كانت من أجل التعاون مع الملك على الإصلاح في ظل الاستقرار، ومواجهة الأعداء والخصوم، النافذين في دواليب الدولة العميقة، المتربّصين بالملكية وبالأمة المغربية، وسدِّ الذرائع إلى الفتنة والفوضى والاضطراب.

ولا ينسى أصحابُ هذا الاختيار أن يُقوُّوا حجتهم بآيات وأحاديث مختارة، يؤيد ظاهرُ لفظها مذهبَهم السياسيَّ، واجتهادهم الفقهيَّ، ومنها، أساسا، النصوصُ المشهورة التي تحض على البيعة، وتُوعد بأشد العواقب من يموت وليس في عنقه بيعة.

قلت النصوصُ في هذا الباب كثيرةٌ ومتفاوتة في صحة أسانيدها ومتونها، ومتباينةٌ في ألفاظها ومضامينها، وهذا ما جعل علماء المسلمين وفقهاءهم، منذ زمان، يختلفون في توجيه ظاهر هذه النصوص، وتتعدّد اجتهاداتُهم في فقه أحكامها وتنزيل هذه الأحكام على واقع مُعيَّن.

مهما اختلفت مواقفُ الناس من هذا الاختيار السياسي الفقهي، فإنه سيظل اختيارا قابلا للنقد والنقض، يؤيده مَن يؤيده، ويرفضه مَن يرفضه، والأيام كشّافة حاكمة، والأمورُ بمآلاتها.

وفي رأيي أن مما يعيب هذا الاختيارَ، في جوهره، أنه يخلط السياسيَّ بالديني، على نحو تصبح الغايةُ المتوخاة هي تسويغ واقع سياسيٍّ بسند ديني، مع أن الأمر كلَّه، من أصله إلى تفصيلاتِ فروعه، سياسةٌ في سياسة، إلا أن يَقصد قاصدٌ إلى تحويل الدين، لِما له من هيبة وحرمة وقداسة، إلى مطية تُركبُ للإخضاع والتحكم، وأداةٍ "إديولوجية" تُستغل لاكتساب الشرعية المطلوبة، أو لاستكمال شرعية منقوصة، أو لإضفاء صبغة القداسة والدوام على أنظمة بشرية اجتهادية مظروفة بظروف الإنسان والزمان والمكان، وما يجري في هذه الظروف من تحولات وتطورات ومستجدات.

وفي الفقرة التالية بعضُ ما عندي من انتقادات على مُستَند البيعة في خطاب الإسلاميِّين المشاركين. 



(2)

الإسلاميون الموالون يقولون إنهم "بايعوا"، والحقيقة أنه لم تكن هناك "مبايعة"، بصيغة المشاركة، التي تفيد التراضيَ والتوافق والحرية من طرفي العَقْد، وإنما كانت هناك "بيعة"، بمعنى "العهد على الطاعة"، كما نقرأ عند العلامة الخبير ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة. وقوامُ هذا العهد، كما يقول ابن خلدون، "أن المبايِع يعاهد أميرَه على أنه يسلم له النظرَ في أمرِ نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعهُ فيما يكلّفه به من الأمر على المنشَط والمكرَه".

والملاحظُ على هذه "البيعة"، أنها طاعةٌ وتسليمٌ وخضوعٌ للمبايَع(بصيغة المفعول) من جانب المبايِع(بصيغة الفاعل)، ليس إلاّ. فهي إذن عَقْد بين طرفين، أحدهما قويٌّ غالب قاهر آمر، والثاني ضعيف مغلوب مقهور مأمور. وهذا مما يناقض روح التراضي والتشارك والتشارط، الواجب في كل مبايعة شرعية حقيقية.

مباشرة بعد إعلانِ وفاة الحسن الثاني، رحمه الله وغفر لنا وله، استُدعِيَ الأمراءُ، وكبارُ المسؤولين في الدولة، ورؤساءُ الأحزاب، وقياداتُ الجيش، لتوقيع عهد البيعة لمحمد السادس. وبهذه المناسبة، أصدرت حركةُ التوحيد والإصلاح، التي كان يرأسها، يومئذ، الأستاذُ أحمد الريسوني، بيانا تؤيد فيه البيعةَ التي تمّتْ لمحمد السادس.

ومما قلتُه، تعليقا على هذا الموقف الذي كان من حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية، في حوار جرى بيني وبين السيد مصطفى الخلفي، نشرَته جريدةُ "التجديد"، في شهري أبريل وماي من سنة 2002، (أنه في يوم 23 يوليوز 1999، وأثناء مراسيم تقديم البيعة للملك محمد السادس، تقدَّم الدكتور عبد الكريم الخطيب[رحمه الله، وغفر لنا وله]، ووقّع على عقد البيعة باسم حزبه. وبعدها بأيام، وفي أحد اللقاءات، سألتُ  أحدَ أعضاء الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية مستفسرا: كيف حصل أن وقّع الدكتورُ الخطيب على عقد البيعة باسمكم، وأنتم لم تطلعوا على مضمون هذا العَقد؟ فأجابني بسرعة وبلا تردد: لقد فوّضنا له في ذلك.

(كيف حصل هذا التفويضُ؟ ومتى؟ وهل كان التفويضُ قبل وفاة الملك أو بعد وفاته، رحمه الله؟

(لا يهم معرفةُ الجواب، ولكن يهم معرفةُ أن الدنيا كلّها تعلم أن "المبايِعِين المُحْدَثين"، عندنا في المغرب، لا يكون لهم أيُّ رأي، ولا يُستشارون عند صياغة مضمون عقد البيعة، فأحرى أن يَفْرضوا شروطَهم.

(وواضح أن هذا التفويضَ[الذي تحدث عنه القيادي في حزب العدالة والتنمية]، إنْ كان قد حصل فعلا، هو تفويض "على بياض"، وإلا فإن "البيعة" تعاقدٌ، والتعاقدُ تَشارُطٌ وتوافقٌ وتراض. وأقلُّ ما كان ينبغي أن يقوم به الدكتورُ الخطيب[رحمه الله] في هذا الصدد-لأن البيعةَ أمانةٌ ومسؤولية والتزام- هو أن يتشاورَ مع قيادةِ الحزبِ قبل أن يوقّع باسمهم. هذا أضعفُ الإيمان، لكنه لم يحصل، لأن "البيعة" عندنا أفرغتها الطقوسُ المخزنية الجبرية الموروثة من روحها التعاقدي، وأحالتها إلى شروطٍ تُفرضُ من جانب واحد، ولا يملك "المبايِعُ"(بصيغة الفاعل) إزاءها إلا الخضوعَ والتأييد.)

وقد ذكرت في هذا الحوار (أن السيد الخلفي وقَع في حرج كبير، وهو يحاول أن يدافع عن موقف التأييد الذي أعلنته حركةُ التوحيد والإصلاح لبيعة الملك محمد السادس، ولم يجِد مِن مَخرج لما هو فيه من الحرج إلا أن يتعصب للحركة التي ينتمي إليها ويدافع عن موقفها، وإن كان دفاعُه هذا لا مستَنَد له على الإطلاق، حيث كتب يقول: "وما أعلمُه أن حركةَ التوحيد والإصلاح عندما أعلنت تأييدَها للبيعة فقد بيَّنت أن هذا التأييد جاء على أساس العملِ بالكتاب والسنة والطاعةِ في المعروف...".

(وأقف من كلامه هذا على قوله: "على أساس الكتاب والسنة والطاعة في المعروف". فهذا شرطٌ لتأييد البيعة، لكن، هل هذا الشرطُ مكتوبٌ في نص عَقد البيعة؟ لا.

(هل أعلنت الحركةُ أن تأييدَها مرهونٌ بثبوت هذا الشرط في نص عَقد البيعة؟ لا.

(هل استُدعيت الحركةُ وطُلب إليها أن تُعطيَ رأيها وتطرحَ شروطَها قبل إمضاء العَقد؟ لا.

(إني تحدثت، وأتحدث دائما، عن "بيعة" تمَّتْ في أرض الواقع يوم 23 يوليوز1999، ولها نصٌّ مكتوب ومنشور لا ذِكْرَ فيه لأيِّ شرط من قِبَل المُبَايِع(بصيغة الفاعل) الموقِّع على العَقد، وإنما الأمر "بيعة" وتوقيعٌ على الطاعة المطلقة للملك من غير قيد أو شرط. وأنقلُ هنا بالحرف أهمَّ ما جاء في نص البيعة في هذا الخصوص: "... إن أصحابَ السمو الأمراء، وعلماء الأمة، وكبار رجالات الدولة، ونواب الأمة ومستشاريها، ورؤساء الأحزاب السياسية، وكبار ضباط القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية المُوقِّعين أسفله... يقدّمون بيعتَهم الشرعيةَ لصاحب الجلالة والمهابة أميرِ المؤمنين، سيدنا محمد بن الحسن بن محمد بن يوسف بن الحسن... ملتزمين بما تقتضيه البيعةُ من الطاعة والولاء والإخلاص والوفاء في السر والعلانية، والمَنشَط والمَكرَه، طاعةً لله واقتداءً بسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، سائلين الله لأمير المؤمنين طولَ العمر ودوام النصر والعز والتمكين". انتهى النص المنقول.

(فواضح من هذا النص أن الالتزامَ المذكور إنما هو مِنْ طرف واحد، فأين هو إذاً هذا الشرطُ الذي ذكر السيد الخلفي أن قرارَ التأييد كان مبنيا عليه؟ هذا الشرط، مع الأسف، كان موجودا في أماني الإخوة، وبالتالي فإن تأييدهم كان اختيارا سياسيا لا علاقة له بالبيعة مضمونا وشكلا.)

بإمكان القارئ الكريم أن يراجع هذا الحوارَ الذي كان بيني وبين السيد مصطفى الخلفي، على الروابط التالية:



(قراءة نقدية في تصور الدائرة السياسيّة لجماعة العدل والإحسان لمسألة المشاركة في الانتخابات)، بقلم السيد مصطفى الخلفي:


 (تصحيح ونقد)، بقلم عبد العالي مجذوب:


(توضيح وتعقيب على ردّ ذ.عبد العالي مجذوب)، بقلم مصطفى الخلفي:


http://www.aljamaa.net/ar/document/405.shtml


(حوار مُستأْنَف)، بقلم عبد العالي مجذوب:




للكلام تتمةٌ في مقالة قادمة، إن شاء الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.