الثلاثاء، 24 يونيو 2014

مستَنَدُ "البيعة" في خطاب الإسلاميِّين المشاركين(4)



بسم الله الرحمن الرحيم



مستَنَدُ "البيعة" في خطاب الإسلاميِّين المشاركين(4)



(1)

البيعة والدستور

الدستورُ، في مُصيبَتنا السياسية، رَضِينا أم كرِهنا، دستوران، وكلاهما سيّئُ السمعة، دستورٌ عرفيٌّ غيرُ مكتوب، ودستورٌ ممنوحٌ مكتوب. والعرفيُّ مقدَّمٌ على المكتوب، في الاعتبار، لأنه هو الأساسُ في تقاليد نظامنا السياسي، بل هو فوق الدستور المكتوب ومهيمنٌ عليه.

الحسنُ الثاني، رحمه الله وغفر لنا وله، في سنة 1981-وقد كان يحكم بيد من حديد وبسلطات مطلقة- عندما لم يجدْ في الدستور المكتوب(دستور1972) ما يُواجه به المعارضةَ التي رفَضتْ التمديدَ لمجلس النواب، لجأ إلى سلطة "إمارة المؤمنين"، التي يمنحها له الدستور العرفيُّ، واعتبر المعارضين الرافضين للتمديد خارجين على الجماعة.

الدستور العرفيُّ لا رسم له ولا حدود، وإنما هو أعراف مخزنية موروثة، وإضافاتٌ واجتهاداتٌ حديثةٌ اقتضَتها الظروفُ والتطورات ومستجدّات الحياة السياسية.

هذا الدستورُ الذي نرى آثاره بيّنةً في أرض الواقع والممارسة، هو الذي يشحن عبارةً مثل "أمير المؤمنين"-وهي في أصلها وصفٌ لا يُعطي للموصوف به أيَّ سلطة، ولا يرفعه فوق المؤسسات ويُعفيه من أيِّ مسؤولية- بمعان ومفاهيم تنبني عليها سلطاتٌ وصلاحياتٌ، تجعل "أمير المؤمنين" بمنأًى عن أي شكل من أشكال المراجعة والنقد والتقويم، وتنزِّهه أن تصلَه يدُ المراقبة والمتابعة والمحاسبة.

وفي اعتقادي أن الداء العضال الذي تعانيه حياتُنا السياسية ناجم عن أمرين اثنين، أولُهما متعلّق بهشاشة المصداقية التي يحظى بها الدستور الممنوح، لأن معارضيه يرونه وثيقةً لا تتوافر فيها شروط الحد الأدنى لتأسيس نظام سياسي ديمقراطي حقيقي. فهو دستور ممنوح، على مقاس محدد، يتحكم النظام المخزني في طريقة وضعه، وفي صياغة فلسفته ومضمونه، وفي هيكلة أبوابه وفصوله، وفي توجيه حملات التعريف به والدعاية له قبل الاستفتاء وبعده، ويحتكر كلَّ وسائل التأثير والتخدير، والترغيب والترهيب، لضمان النتائج المرضية المطلوبة في الاستفتاء.

والأمرُ الثاني متعلِّقٌ بعلامات الاستفهام التي سيظل يطرحها المعارضون للدولة المخزنية حول شرعية الدستور العرفّي، الذي يستند إليه الملكُ في احتكار سلطات كثيرة، وصلاحيات متعددة، تتعدى شؤونَ الناس السياسية والدنيوية لتشمل شؤونَهم الدينية والأخروية.

 فحينما يدافع الإسلاميون الموالون عن البيعة، في صورتها التي عرضنا بعضَ قسماتها فيما تقدم من أجزاء هذه المقالة، فإنهم يدافعون، شاؤوا أم أبوا، عن الدستور العرفيّ، الذي تكَوَّنَ من التراكمات الاستبدادية للدولة المخزنية، والذي يعطي للملك سلطات لا حدود لها.

وكلُّ ما نعرفه عن هذا الدستور الخفيّ/الظاهر، هو أنه لا رسم له ولا حدود، وأنه، في مضامينه، عبارة عن تقاليد وأعراف وطقوس ومفاهيم وتأويلات دينية كرستها تجاربُ طويلة من ممارسات الدولة المخزنية واجتهاداتِ علماء السلطان وفقهائِه.

أما في الدستور الممنوح المكتوب، فإن الإشارة إلى الدستور العرفي لا تتعدى بعضَ العبارات في الفصل41(دستور2011). ففي هذا الفصل، نصٌّ على أن الملك هو "أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامنُ لحرية ممارسة الشؤون الدينية"، وفيه أن الملك "يمارس الصلاحيات الدينيةَ المتعلقةَ بإمارة المؤمنين، والمخولة له حصريا، بمقتضى هذا الفصل بواسطة ظهائر".

وقد نما هذا الدستور العرفي وتطور، عبر عهود الدولة المخزنية المتعاقبة، وما عرفته هذه العهودُ من تحولات وتحديثات وترميمات، كانت تلجأ إليها الدولةُ، إمّا عن اختيار وإمّا عن اضطرار، للتكيف مع الوقت، وما يفرضه هذا الوقتُ من متطلبات ومستجدات ومفاجآت. وقد تمخض كلُّ هذا التاريخ عن مَتْن فكريٍّ وفقهي مخزني، فيه من الفرَادَة والغرابة والتناقض ما يبعث على الضحك والبكاء.

ويمكننا أن نقرأ هذا المتنَ الفكري الفقهيَّ المخزنيَّ فيما تنشرُه منابرُ بعض المؤسسات التابعة للدولة، والمتكلمة باسمها، والمدافعة عن نظامها، كوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمجلس العلمي الأعلى، والرابطة المحمدية للعلماء.

إنه متن غارقٌ في الأبحاث النظرية، واجترارِ مقالات القدماء في "الأحكام السلطانية"، واجتهاداتهم وفتاواهم في تسويغ أنظمة الاستبداد وتجوِيز إمارةِ المتغلِّبِين بالسيْف. اقرأْ مِثالا على هذا المتن فيما ينشره الموقع الإلكتروني لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس العلمي الأعلى، من دراسات في موضوع "البيعة" و"إمارة المؤمنين"، بدءا بما يكتبه السيد أحمد التوفيق، وزير الأوقاف، والسيد محمد يسف الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى.

ولسنا نجد عند الإسلاميِّين الموالين من جديد فكري خارج هذا المتْن الفقهي المخزني، في وجْهَيْه الموروثِ والمُحْدَث. وكل ما نجده إنما هو جهدٌ قائم على التقليد والتكرير، لتكيِيف مضامين هذا المتن وتنزيلِه على الواقع بحسب ما تقتضيه الأحوال السياسية.



(2)

البيعةُ ونظامُ إمارة المؤمنين

في خطاب الإسلاميِّين الموالين، تُعتبر البيعةُ هي الأساس الذي تقومُ عليه شرعيةُ إمارة المومنين وما يتعلق به من سلطات الإمامة العظمى وسلطاتها. وللكتاب الموالين للنظام المخزني مقالاتٌ طويلة وعريضة في الكلام على إمارة المؤمنين، معززة بشواهدَ ونصوصٍ من التاريخ والفقه والفتاوى، تؤكد، في رأيهم، أن ارتباط النظام الملكي الوراثي بإمارة المؤمنِين، هي حقيقة راسخة في الدين الإسلامي، تشهد لها تجاربُ غنيّة ممتدةٌ في تاريخنا السياسي وتراثنا الفقهي.

وإذا افترضنا حقيقةَ هذا الارتباط بين الملكية وإمارة المؤمنِين بناءً على بيعةٍ شرعيةٍ تتوافر فيها جميعُ الشروط المطلوبة في العقود القانونية الصحيحة، فإن هذه الحقيقةَ تصبح محلَ شكٍّ وشبهة حينما يكون الأساسُ الذي تقوم عليه، وهو عقْدُ البيعة، محلَّ نقد وطعن وتجريح وتضعيف.

فكيف يبني الإسلاميُّون الموالون مقالاتِهم في الإمامة العظمى وإمارة المؤمنين على أساس لا يصحُّ؟

كيف يمكنُهم الدفاعُ عن دستور عرفيِّ يستند إلى عَقْد مجروح، وأصلٍ متداعٍ؟

هذا عن الأساس الذي يبني عليه البانون شرعيةَ الدستور العرفي.

وفي واقع الفعل والممارسة، فإن مؤسسةَ إمارة المؤمنين تتمتع بسلطات وصلاحيات لا حدود له، لأنا لا نجد نصا دستوريا أو قانونيا يتحدث عن هذه الصلاحيات والسلطات بالاسم والصفة والتحديد، فأحرى الحديث عن المسؤوليات المترتبة عليها، وعن إمكانية المحاسبة والمتابعة في حال الإخلال ببعض هذه المسؤوليات وعدم الوفاء بما تقتضيه من واجبات والتزامات.

في الفصل41 المشار إليه، من دستور2011، نجد ذكرا لـ" الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين"، التي يمارسها الملك. لكن الذي لا نجده، فيما هو مكتوب في الدستور الممنوح، وفيما هو مبيَّنٌ في القوانين/الظهائر التنظيمية الصادرة عن إمارة المؤمنين، هو طبيعةُ هذه الصلاحيات الدينية، وحدودُها، وما يتعلق بها من سلطات، وهل هي صلاحياتٌ تتَرَتَّب عليها محاسبةٌ ومتابعةٌ، أم أنها صلاحيات على بياض، تجعل أمير المؤمنين أكبرَ من أن يُتابعَ ويَحاسَب.

الذي لا نعرفه، فيما هو مكتوب في الدستور الممنوح، وفيما هو منشور من الظهائر/القوانين المنظمةِ لبعضِ المؤسسات التابعة لإمارة المؤمنين، هو مِنْ أين  تبدأ صلاحياتُ أمير المؤمنين وأين تنتهي؟ وما هي وظائفُ هذه الإمارة، وما علاقتُها، سياسيا وتنظيميا، بمؤسسة الملك رئيس الدولة؟

فهذا أحدُ الكُتاب الموالين، وهو الكاتبُ الصحفي بلال التليدي، أراد أن يكتب، في غشت2009، عن "وظائف إمارة المؤمنين"، فلم يجد مرجعا موثقا يرجع إليه إلا الخطابات الملكية. فقد استنبط السيد التليدي من خطب الملك خمس وظائف لإمارة المؤمنين. وليس يهم العدد هنا، ولكن الذي يهم، في رأيي، هو أن نعرفَ الأصلَ القانوني والدستوري لهذه الوظائف، التي استنبَطها السيد التليدي، ولوظائف أخرى تحدث عنها غيرُه.

فالدفاعُ عن نظام إمارة المؤمنين، كما هو مُعاين ومَعِيشٌ في ظل الدولة المخزنية، هو دفاعٌ عن نظامٍ ليس له من أساس قانونيٍّ أو ضابط تشريعي إلا إرادة الملك، وما يراه الملك ويختاره ويستحسنه، ليس فوقه مؤسسةٌ يمكن أن تراقبَه أو تراجعه أو تعارضه.

وبهذا المعنى، يكون الملكُ هو الأصل الفكري والفقهي والتشريعي والقانوني الذي ترجع إليه  جميعُ الفروع، وهو المحور الذي تدور حوله كلُّ الاجتهادات الفقهية والفتاوى.

مثلا، ماذا عند الإسلاميِّين المشارِكين المؤيِّدين، طبْعا خارج المتن الفقهيِّ المخزنيِّ المحفوظ، وخارجَ حِيَل التبرير والتسويغ والتجويز- ماذا عندهم في تفسير احتكارِ الملك، بصفته أميرا للمؤمنين، لصلاحيِّة الفتوى في شؤون الناس الدينية والدنيوية؟

ماذا عندهم، خارج المتن الفقهي الاستبدادي، في تفسير كونِ الملكِ، أميرِ المؤمنين، هو وحده الذي ترجع إليه الكلمةُ الفصل في شأن الاجتهاد الديني؟

ماذا عندهم، خارج الاجتهادي المخزني الجبْري، في تبرير كونِ سلطة إمارة المؤمنِين، في الدستور العرفي، لا تقتصر على المسلمين وحدهم، بل تشمل غيرَهم من الملل الأخرى؟ وكيف يُفسرون لنا أن يكون مِنْ بين الموقعِين على البيعة المخزنية مَنْ ليس يَدِين بدِين الإسلام؟. ألمْ يؤكّدْ هذا الاجتهادَ المخزني الغريب الدكتورُ المدغري حينما كتب في (الحكومة الملتحية، ص102) "أن إمارة المؤمنِين تعني فقط رئاسةَ دولة المؤمنِين، بما فيهم الملل الأخرى التي تتعايش معهم في نفس الوطن مِنْ مسيحيِّين ويهود وغيرهم"؟

ماذا عندهم، مِنْ أدلة مُقنعة، وتفسيرات واضحة معقولة، واجتهادات راجحة، لتسويغ كونِ الملك، أمير المؤمنين، في الدستور العرفي، هو الوحيد الذي يحقّ له أن يجمع، في سياساته وممارساته وقراراته، بين الدين والسياسة، أما سائر المواطنين، فإما أن يختاروا مجالَ الدين، وإما أن يختاروا مجالَ السياسية؟

هذه أمثلة على هذا المتن الفقهي المخزني، الذي يؤثث فضاءات الدستور العرفي، والذي يجعل مما يسمى، عندنا، بنظام إمارة المؤمنين نظاما فوق النظام، وفوق المؤسسات، وفوق المحاسبة.

وأختمُ هذه المقالةَ بفقرات مِنْ مقالةٍ كنت كتبْتها، في دجنبر2006، بعنوان (مِقْمَعَة "أمير المؤمنين")، يمكن مراجعتُها على الرابط:


أقول فيها: "إني هنا بصدد النظر وإبداء الرأي في موضوع سياسي مائة في المائة، وهذا أمر مفهوم عند الفضلاء العقلاء، ولا يجادل فيه إلا من جرى على تقديس الحكّام، وتنزيه أقوالهم وسلوكاتهم وسياساتهم واجتهاداهم وقراراتهم أن تكون محلَّ نقد أو مراجعة أو محاسبة. هذه نقطة أولى.

"والنقطة الثانية أن وصفَ الحاكم، أيا كان أصلُه وفصلُه، بأنه أميرُ المؤمنِين لا تعني أن له أن يفعلَ ما يريد بلا حسيب ولا رقيب، بل إن سيرةَ الفاروق، رضي الله عنه، بيّنتْ لنا أن إمارة المؤمنين هي غُرْمٌ على صاحبِها ما لم تكن سلوكاتُه وسياساتُه وسائرُ تصرفاته منضبطةً بهدْي الإسلام، معتَقَدا وأحكاما وأخلاقا، وموزونَةً بموازين العدل، أقوالا وأفعالا، ومعروضَة للنقد والتقويم والمراجعة والمحاسبة.

"والنقطة الثالثة أنه ليس عيبا، ولا عارا، ولا منكرا، ولا جريمة، أن يتسمّى الحاكمُ أميرا للمؤمِنين، لكن المنكرَ المرفوضَ، والسلوكَ المبغوضَ، أن ترتبطَ بهذه التسمية سلطاتٌ تنفيذيَّة وصلاحياتٌ وامتيازاتٌ من دون أن يكون لذلك أيُّ سند من دستور أو قانون يُبيِّنُ ويضبط ويحدّدُ، ويجعلُ المسؤولياتِ موصولةً بالجزاء والحساب. بل إن التطوراتِ التي عرفتها الدولةُ الحديثة باتت تفرض على الحاكم، الذي يَدَّعي أنه من أنصارِ الديمقراطية والحداثةِ والحريات وحقوق الإنسان، أن يكون لدعواه ما يُصدِّقها في دستور مكتوب، وقانون مسطور، وميثاق محفوظ."

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.