السبت، 7 يونيو 2014

الإسلاميون واليساريون بين السياسة والإديولوجيا



بسم الله الرحمن الرحيم


الإسلاميون واليساريون بين السياسة والإديولوجيا



(1)
أسجلُ في البداية ما أصبحت أعتقد أنه من المُسَلَّمات في مضمار النضال السياسي عموما، وهو أن الإصرار على النظر بمنظار الإديولوجيا، ولا شيء غير الإديولوجيا، لا يمكن أن ينتج عنه إلا التباعدُ والتنافر والتشدد والغلو، وأنّ أيَّ مبادرة ترمي إلى التفاهم والتصالح والتقارب بين الإسلاميِّين واليساريِّين، محكوم عليها، اليوم وغدا، بالفشل ما لم تتحررْ من القيود الإديولوجية، وما لم تلتزم بمبادئ  العمل السياسي وقوانينه وقيمه وآدابِه.
وأستعمل "الإديولوجيا" هنا بالمفهوم الذي يحدّدها في منظومة من الأفكار والمعتقدات والتعاليم، التي تَنتِج عنها رؤيةٌ خاصة للعالم والإنسان والحياة، وقد تكون هذه الإديولوجيا ناشئةً، في أصلها، عن مصدر ديني إيماني، أو فلسفي فكري، أو فوضوي عبثي، أو غيرِ أولئك من المصادر.
أما السياسة، فأقصد بها التصديَ للحكم وتدبير الشأن العام، وإدارة مؤسسات الدولة.
فالإديولوجيا، بالمفهوم الذي أشرت إليه، مجال للمثال والمطلق والقطعي، بخلاف السياسة، التي كانت، وستظل، مجالا للواقعي والنسبي والظني.
فالذين يصرون أن يكونوا سياسيِّين، وهم لا يتزحزحون عن خندقهم الإديولوجي، ولا يرون الحقيقةَ السياسية إلا فيما تصوِّره لهم أفكارُهُم ومعتقداتُهم وأحلامهم وأمانيهم، لا يمكن أن يكون منهم إلا الغلوُّ والتطرف والعنفُ، وإن ظلّوا، في خطاباتهم وشعاراتهم، وفي لقاءاتِ المناسبات والمجاملات، يتبرَّأون من أهل الغلو والتطرف والعنف.
وقد يكون هذا من الأسباب الرئيسية، التي جعلت العلماءَ الذين تجرّدوا للفكر والتصنيف بعيدين عن السياسة. وإن وجدنا عالما يخوض في السياسة، ويشارك في معامِعِها، فهو خائض ومشاركٌ بقواعد السياسة، وفنون خدعِها وأساليبِ حيلها، لا بالفكر المحض، والنظر المجرد، والمثالِ المطلَق.
فللإديولوجيا عقولُها ومجالُها وطقوسُها وآلاتُها، وللسياسة أهلُها وعوالمُها وجغرافيتُها وأدواتها. وهذا لا يعني أن هناك تنافيا وتعارضا بين السياسة والإديولوجيا، كما لا يعني أن السياسيَّ لا بد أن يكون مستغنيا عن الإديولوجيا، بل قد يكون العملُ السياسيُّ، في جوهره، عند معظم السياسيِّين، ذا مرجعية إديولوجية، لكنه في أرض الواقع والممارسة، عملٌ متلبِّسٌ بقواعد السياسة، محكومٌ، في تفصيلاته، بقوانين النسبيّة، وترجيحِ المصالح، واعتبار معطيات الواقع وتطوراته ومستجِدّاته.

(2)
حينما يتناظر الإسلاميون واليساريون بالإديولوجيا، فإن النتيجة الحتمية هي التصادم والتباغض والتنافر وتبادل الاتهامات، لأن من شأن الإديولوجيا، حينما تتصدّى للسياسة بغير مفاتيحها وقواعدها وأدواتها، أن ترفضَ المخالفَ وتجرِّحه وتتهمَه وتُدينَه. وهذا الرفضُ والتجريح والاتهام والإدانة قد يكون صحيحا، وله ما يبرره، على المستوى النظري الاعتقادي الإديولوجي البحت، لكنه، على المستوى السياسي، لا يمكن أن يجرَّ إلا المواجهات تتبعُها المواجهاتُ، ولا يمكن أن يولّد إلا التعاديَ والتكاره والتباغض، ولا يمكن أن يثمر شيئا سوى ترسيخ حزازاتِ النفوس، وإطالةِ عمر الصراع.
الإسلاميون، إديولوجيا، هم نقيض اللادينيِّين، من اليساريِّين وغير اليساريِّين. وكذلك اليساريون هم نقيض الإسلاميِّين، إديولوجيا، في المعتقدات والتصورات والغايات.
فالتعايشُ بين الطرفين ممكن سياسيا، بشرط أن يقتنع كلُّ واحد من الغريمين أن بقاءه متخندقا في إديولوجيته لا يمكن أن ينتهي إلى شيء محمود.
والتعايشُ السياسي الذي أقصده هنا هو الاعتراف بالآخر،  والاحتكامُ إلى القانون، والالتزام بقواعد التنافس المدني الحضاري، والقبول بحكم الأغلبية، واحترامُ حق الشعب في أن يختار عن حرية ورضا، واجتنابُ أساليب الإكراه والعنف، ودعمُ عمل المؤسسات المسؤولة، المنتخبة وغير المنتخبة، وحمايةُ وحدة الأمة أن تصيبها النعراتُ، مهما كان لونُها، وتشقّقَها العصبياتُ، وتمزقها المذهبيّات والإديولوجيات.
التعايشُ السياسيّ ممكن بين الإسلاميِّين واليساريِّين، إنْ كان الطرفان يقبلان، حقيقةً لا ادّعاءً، وفعلا وسلوكا، لا خطابا ووعودا، بنظام سياسيّ مدني يمثل سيادةَ الشعب، تكون فيه يدُ القانون فوق الجميع. وسأوضح كلامي في الفقرة التالية.

(3)
إن كان عندنا، مثلا، قوانينُ تجرّم المجاهرةَ بالإلحاد والدعوةَ إليه وسط المسلمين، وتجرّمُ الشذوذ الجنسي وتمنع تنظيمات الشواذ في المجتمع المسلم، وتجرّمُ المسّ بمقدسات المسلمين وتعاقبُ منتهكي حرمات الإسلام وآدابه في العلن- إن كان عندنا مثلُ هذه القوانين، فهل اليساريون مستعدون لاحترامها، والعمل على تغييرها أو تعديلها أو إلغائها بالطرق المشروعة إن كانوا يعارضونها وغيرَ راضين عنها؟
ونفترض الأمر نفسَه، فيما يخص الإسلاميِّين؛ فهل هؤلاء مستعدون، في ظل الدولة المدنية الديمقراطية، التي تحكمها قوانين ومؤسسات مسؤولة، أن يحترموا قوانينَ تبيح مُحرمَات، كالرّدة والخمر والزنا والشذوذ، وإن كانت تخالف معتقداتهم، وأنْ يناضلوا بالطرق السياسية الديمقراطية المشروعة، لينالوا ثقةَ الناس/الناخبين، حتى يتمكنوا من تبديل هذه القوانين أو تعديلها، تطبيقا لما قد يكون مُسَطَّرا في برنامجهم من وعود ومشاريع وأفكار؟
فالذي يعرفه كلُّ الناس، هو أن الدولة الديمقراطية المدنية لا يمكن أن تسير إلا على هذا المنوال؛ أغلبيةٌ تحكم، وأقلية تعارض، ولكلٍّ حريتُه وحقوقُه، وحدودٌ لمجال عملِه وسلطته وصلاحياته.
أنا أعرف أنني أبسِّط الصورةَ هنا أكثر من اللازم، وأعرف أيضا أن الأمر، في الواقع، أعقدُ مما تحاول هذه الصورةُ بيانَه وتمثيلَه. ومع هذا، فإني أرى أن التعايشَ الذي أتحدث عنه، بين الإسلاميِّين واليساريِّين، لا يمكن أن يتم خارج احترام القوانين والمؤسسات، وقبل هذا وذاك، احترام إرادةِ الشعب، والاعتراف بسيادته، وبحقوق الأغلبية وسلطاتِها، التي تنبثق من هذه السيادة وتنبني عليها.
أين المشكل، إذن، إذا كان الجميع، في الشعارات والخطابات، يتفق على وجوب احترام القوانين وعملِ المؤسسات، التي تمثل هذه القانونَ وتحميها وتسهر على تطبيقها؟
المشكلُ، كما تخبّرنا تجاربُ الواقع، أن اليساريِّين، بالتحديد، يشترطون شروطا، هي في حقيقتها شروطٌ إديولوجية، تقتضي التحكمَ في إرادة الشعب/السيد، وسلبَه حقا أساسا من حقوقه، في الدولة المدنية الديمقراطية، وهو حرية الاختيار. وتوضيح هذا أن اليساريِّين، حينما يشترطون مسبقا ألا تعكس القوانينُ، وخاصة القانون الأساسي، أي الدستور، الذي يُحدد طبيعةَ الدولة ويرسم أسسَها، وينظم سلطاتها، ويبيّن طرقَ سير مؤسساتها، هُويةَ الشعب ودينَه وثقافته وأعرافه وآدابه، فإنهم يريدون أن يفرضوا ديمقراطية على هواهم، مُفْرَغَةً من جوهر الديمقراطية التي تعارف عليها الديمقراطيون الحقيقيون ومارسوها.
نعم، إن استطاع اليساريون ومن على مذهبهم في اللادينية، أن يقنعوا الشعبَ السيّدَ أن يصوتَ على مشروع دستور يسلخهم عن هويتهم، فلا يمكن، حينئذ، إلا التسليمُ لهم، والديمقراطيةُ جولاتٌ في حرب سِجال، اليومَ لهم، وغدا عليهم، وهكذا دَوَالَيْك.
إن أقنعوا الناسَ أن يصوتوا لمشروعهم، وفازوا بثقتهم، فلا يملك منافسوهم الديمقراطيون إلا أن يعترفوا بهزيمتهم، ويقبلوا بفوز خصومهم، ويستعدوا ويجتهدوا من جانبهم، لجولة أخرى من جولات المنافسة، حسب ما تقتضيه قواعدُ الديمقراطية، ليعرضوا أنفسَهم ومشاريعهم على الشعب، ولينظروا ما تحكمُ به كلمة الشعب الحاسمةُ.
أما أن يُفرضَ على الناس، بغير رضاهم، أن يكون لهم دستورٌ لا يعبر عن رضاهم واختيارهم وهويتهم، فهذا من الاستبداد الممقوت، الذي يرفضه كلُّ ديمقراطي نزيه ومنصف.

(4)
وبعد، فقد كانت حركة 20فبراير، غداةَ ظهورها في الشارع المغربي، في 20 فبراير سنة2011، محكا لاختبار مدى قدرة الإسلاميِّين واليساريِّين على التعايش والتعاون والتنسيق، في أرض التجربة والواقع، بعيدا عن سماء الإديولوجيا. لقد تعارفا وتعاونا ونسّقا وتشاركا في تنظيم أنشطة الحركة حوالي عشرة أشهر، قبل أن تنفجر الحركة بسبب الاختلاف الإديولوجي، وليس السياسي، كما يتوهم بعضُ الناس.
لقد اضطَرَّ هذا الاختلافُ جماعةَ العدل والإحسان إلى إعلان انسحابها من الحركة، وهو ما أدى بالحركة إلى الضعف والانحسار شيئا فشيئا، حتى انتهت إلى الاضمحلال الذي نراها عليه اليوم.
وما زلنا نقرأ، بعد ذلك، في خطابات الأماني والشعارات، ونسمعُ في مداخلات بعض الندوات والمناسبات، عن ضرورة التحاور بين الطرفين، لكن لا شيء يتغير في واقع العلاقة بين الطرفين، والسبب الجوهري، عندي، هو تغليب الإديولوجيِّ على السياسي، وخاصة عند اليساريِّين، الذين لا يريدون أن يعترفوا بحقِّ الشعب المسلم في حرية الاختيار حسب ما تمليه عليه هويتُه ودينُه وأخلاقُه ، وإن همْ ادّعَوْا الاعترافَ للشعب بهذا الحق في الأوراق والندوات والدعايات، فإنهم يأتون بما يناقض هذا الادعاءَ في مواقفهم وممارساتهم.
وعندنا فيما جرى في تونس، مهدِ الربيع العربي، وفي مصر العربية الإسلامية، خيرُ مثال على هذه الديمقراطية الهجينة المُشوهة، التي يسعى اليساريون لفرضها على الشعوب المسلمة.
لقد رأيناهم في مصر يتنكرون لاختيار غالبية الشعب، ويتحالفون، خزايا وصاغرين أذلاءَ، مع الانقلابيِّين الدمويِّين، في أبشع مذبحة في حق إرادة الشعب وسيادته.
لقد طبّلوا وزمّروا ورقصوا، في تبعيةٍ وذُلّ وصَغَار، لحكم العسكر، لأنهم لم يرضوا أن يكون الشعبُ حرا في اختياره، وتقرير مصيره السياسي. وها نحن نرى اليوم الشعبَ المصري، يُكره إكراها، بالحديد والنار، ماديا ومعنويا، على قبول حكم الطغاة المستبدين، بمباركة مَن يزعمون، بلا حياء، أنهم يساريّون مع  الديمقراطية وحريات الشعوب.
وفي تونس ما بعد الثورة، ما يزال اليساريون، مع حلفائهم في جبهتهم الشعبية، يناورون، ويعرقلون، ويصطنعون الأزمات تلو الأزمات، حتى لا يكون هناك وفاقٌ مع الإسلاميِّين. وقد استعملوا  كلَّ ما يملكون من أسلحة إديولوجية دعائية حقيرة، ضد الإسلاميِّين، واستغلوا كلَّ الفرص التي أتيحت لهم، ليضعوا العراقيل، ويختلقوا الأزمات، ويشوشوا على المسيرة، حتى لا يصل مركبُ المجلس التأسيسي إلى بر الأمان. لكن حكمة الإسلاميِّين، مُمثَّلين في حزب النهضة، ودهاءَهم وتبصرَّهم ومرونَتَهم في التعامل مع الأوضاع، فوَّتَ على اليساريِّين الفوضويِّين المتربصين كلَّ فرص النجاح في إحداث الفوضى، وإيجاد أسباب الانقلاب على إرادة الشعب التونسي، كما فعل رفاقُهم المصريون.
اليوم، ما تزال التجربةُ التونسية في المخاض، وما تزال أمامها تحدياتٌ كبيرة، قبل أن تنتهيَ الفترة الانتقالية الحالية إلى شاطئ النجاة، ويبدأَ الشعب مسيرته الديمقراطية، بمنأًى عن إيديولوجيا الرفض والهدم والفوضى.
وأختم بكلام يناسب هذا السياق، أقتبسُه من الجزء الثاني من مقالة كتبتها في أبريل2013، بعنوان "من قضايا الحوار بين الإسلاميِّين والعلمانيِّين"، جاء فيه:
(في اعتقادي أن الواقع السياسيَّ لا بدّ أن يفرضَ على الناس-إن كانوا، إيمانا وفعلا، يقدّمون المصلحةَ الوطنية العامة على المصلحة الحزبية الخاصة-أن يتخلّصوا من لباسهم الإديولوجي الخشن، وأن يبتعدوا عن لغة اليقينيّات والحتميّات، التي سادت الخطابات الثوريةَ في الماضي، وأن ينظروا بعيدا بمنظار السياسة وما تفرضه من جلبٍ للمصالح ودرء للمفاسد، وما تستدعيه من وجوب سدِّ الذرائع إلى اشتعال الفتن وشيوع المنكرات واختلاط الحق بالباطل، وأن يناقشوا ويقوّمُوا ويرجّحوا ويوازنوا، ثُمّ تكون عندهم الشجاعةُ ليقرّروا ويختارُوا، وهم المسؤولون، أمام الله، أولا، ثم أمام التاريخ ثانيا، عما يمكن أن يترتب على قرارهم واختيارهم من مواقفَ وأحداثٍ وسياساتٍ، في هذا الاتجاه أو ذاك، نحوَ التقدم والبناء والتصالح والتعايش والتعاون، أو نحو التمزق والتخاصم والتنابذ والخراب.
(قلت وأكرر أن الذهابَ إلى طاولة الحوار بعُدّة الإديولوجيا لا يمكن أن ينتهيَ بالناس إلى طائل. وإنما الطائلُ النافعُ يكون في الحوار السياسي المسؤول، الذي يبحث عن ملتقَيَات التوافق والتعايش والتراضي، والذي يبْغِي البناءَ والتعاون والنجاح في بلورة "ميثاق" أو "مذكرة تفاهم" أو "مرجعية مشتركة"، أو "برنامج حدٍّ أدنى"، أو غير هذه من الأشكال والصيغ التي يغلب فيها الأملُ على اليأس، ويطغى فيها النورُ على الظلام.)انتهى الاقتباس.
يمكن مراجعة مقالات كتبتُها، لها علاقة بموضوع هذه المقالة، على الروابط التالية:
"عن تحاور الإسلاميِّين واليساريِّين"(شتنبر2011)

"المعارضون للمخزن؛ مُعوّقاتُ التقارب والتحاور والتحالف"(مارس2013)

"من قضايا الحوار بين الإسلاميِّين والعلمانيِّين"(مقالتان) (أبريل2003)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.