الخميس، 9 فبراير 2017

"هذا هو اسمي" أو مجمع التفاهات الحداثية(تتمة)

بسم الله الرحمن الرحيم

"هذا هو اسمي" أو مجمع التفاهات الحداثية(تتمة)

لقد سجلت هذه التجربة، في رأيي المستند إلى المقاييس الأدبية والنقدية المعتبرة المعروفة، جميعَ صفات الشذوذ والتجاوز والخروج على المألوف، لكنه خروج من المعروف إلى منكور ليس له من هوية إلا عند أصحابه، لأنه لا يرجع إلى أصل متعارف عليه حتى بين الحداثيين أنفسهم، لأن روح الحداثية، عندهم، هو اللاأصل، واللاتشكل، واللاقاعدة.
ومن الصفات الصارخة لشذوذ هذه التجربة نذكر الطابع النثري الغالب، بل التجربة كلها تجري على قواعد الكتابة النثرية، مع بعض الشكليات المتعلقة بتقسيم الفقرات، وترتيب الأسطر، وتوزيع الجمل.
ويحاول كثير من النقاد أن يجعلوا هذه الشكليات عنصرا معتبرا في التجربة الإبداعية، لكنهم، في محاولاتهم، لا يتجاوزون التأويلات الإنشائية، التي غايتها المدح والتقرير والتسويغ. أما كيف يكون تركُ فراغ في أول السطر، مثلا، عملا بديعا؟ وكيف يكون توزيع الكلمات على الأسطر، في حد ذاته، له معنى؟ وغير ذلك من الأسئلة المتعلقة بالعمق، فلا نكاد نعثر لها على أجوبة في الفضاءات النقدية الحداثية.
فكلهم متفق أن في هذه التجربة وأمثالها مما يطلق عليه "القصيدة الكلية"[1]: "يخرج أدونيس كليا عن المفهوم التقليدي للشعر، ويداخل بين ما يعتبر نثرا بالمفهوم التقليدي وما يعتبر شعرا."[2]
ومع ذلك، فإن هذه النثريات، في المنظور الحداثي، لا يمكن أن تكون إلا إبداعا شعريا فريدا، وخاصة إذا كانت من إنشاء واحد من الأعلام الرموز كأدونيس.
وهذه هي ذي التجربة بين أيدينا، نقرأها من غير وسطاء منكرين حانقين، أو مادحين مستجيدين.
وأسأل، حسب رأيي وذوقي ومكتسباتي الأدبية، وكذلك حسب ما انطبع في نفسي من شعور من جرّاء قراءة تجربة أدونيس-أسأل: أين يمكن أن تكون الشعرية في مثل قوله-لاحظ أنه كلام خال من علامات الترقيم. وقد جعل بعضهم هذا الخلو من أمارات الإبداع الأدونيسي في هذه التجربة[3]-:
"أغني
لغة النصل أصرخ انثقب الدهر وطاحت
جدرانه بين أحشائي تقيأت
لم يعد تاريخ ولا حاضر…"(ص635)

وقوله: "سيجيء الرافضون
        ويجيء الضوء في ميعاده…"(ص631)

وقوله: "لم يعد غير الجنون"[4]؟؟

أين هو الشعر في هذه العبارات؟
وإني لأجد خطابية فاقعة ممزوجة بمعجم عامي نابي تفوح منه روائح الكراهة والنتانة في مثل قوله:

"عدْ إلى كهفك التواريخُ أسرابُ جرادٍ، هذا التاريخُ يسكن حضن بغي. يجتر في جوف أتان ويشتهر عفن الأرض ويمشي في دودة عد إلى كهفك واخفض عينيك/"(ص633).
بغيّ، أتان، عفن، دودة… !!أليس في العربية غير مثل هذه الكلمات للتعبير عن مشاعر الغضب والثورة والرفض إزاء واقع وتاريخ وتراث مسخوط عليه؟
وقوله: "تقدموا فقراء الأرض غطّوا هذا الزمان بأسمال ودمع غطّوه بالجسد الباحث عن دفئه."(ص618) أليس يذكرنا بعبارة ماركس الحماسية الثورية الشهيرة: "يا عمال العالم، اتحدوا."؟ نثر عادي، وخطاب مباشر يخلو من أي تصوير أو تخييل ذي قيمة في ميزان الإبداع الجميل.
وأين هو حق المتلقي من الحد الأدنى من الفهم في مثل قول أدونيس: "إذا عبر الملح التقينا هل أنتِ"؟ (ص515)
أما فيما يخص الوزن الشعري، فإن النظرية الحداثية لا تعترف بشيء اسمه البحر العروضي، ومن ثم فليس من الحداثة الشعرية، عندهم، التزام تفعيلات بحر بعينه، تامة أو ناقصة، بل الأمر، عندهم، إيقاع داخلي[5].
بم يتميز هذا الإيقاع؟ كيف يمكننا معرفة الإيقاع الشعري من غيره من الإيقاعات النثرية العادية؟ ما هي الخصائص الصوتية والنغمية والكمية لهذا الإيقاع؟ هل هو إيقاع واحد أم أنواع متعددة؟
كل ما نعرفه، في هذا الموضوع، أن النقاد الحداثيين أنفسهم ما يزالون بعيدين عن الاتفاق على جواب واحد مقنع في شأن مسألة الوزن الشعري.
نقرأ هذه التجربة الأدونيسية فلا نجد إلا حركات الكلمات وسواكنها تتوالى، في التعبير، كيفما اتفق، مما حول التجربة إلى خليط من التفعيلات، بل أقول خليط من الأصوات التي لا تحيل على أي وزن من الأوزان، أو نغم أو لحن من الأنغام والألحان. بل الأمر أصوات مصفوفة على طريقة يمكن العثور عليها في أي خطاب نثري عادي.
ومع هذه الحقيقة التي لا ينكرها النقاد الذين تناولوا هذه التجربة الأدونيسية بالتحليل والتأويل والتعليق-وهي حقيقة الخروج على الأوزان الشعرية المعروفة، والخلط بين التفعيلات على غير مقياس، ولا مثال، ولا ضابط كمي معين، فضلا عن الصياغة التي يطبعها الأسلوب النثري العادي-مع هذه الحقيقة المعترف بها، وجدنا نقادا حداثيين أدونيسيين، كخالدة سعيد، يجعلون هذه الحقيقة معيارا لإبداعية أدونيس وثورته الحداثية.
ففي هذه التجربة الأدونيسية، حسب رأي خالدة سعيد، "محاولة لاستقصاء إمكانيات الإيقاع الصوتي في اللغة العربية وصهرها في سمفونية صوتية حركية جديدة، أي ترويضها وانتزاعها من مجراها المألوف ووضعها في مدار جديد لتصبح من عناصر لهجة الشاعر."[6]
وتضيف في السياق نفسه: "…أدونيس، هنا، يأخذ التفعيلة ويتخلى عن البحر كليا. يأخذ التفعيلات من بحور متعددة، وينظمها تنظيما جديدا مطابقا للإيقاع المعنوي في القصيدة. ففي القصيدة تتوالى المقاطع الهذيانية والغنائية، أو أمواج التوتر فأمواج الانبساط. ويحدث الانتقال من هذا وذاك بحركة التفافية حلزونية متغورة، هابطة في غور الهذيان، أو التفافية إشراقية صاعدة نحو المقطع الغنائي."[7]
فيمكننا أن نجد أي شيء في مثل هذا الكلام، إلا مفهوما واضحا عن كيان موسيقي يمكن حصره في صورة صوتية مكونة من حركات وسواكن-لأن الحركة والسكون من طبيعة الكيان الصرفي للكلمة العربية-لها خصائصها الكمية، ونبراتها وأنغامها المتميزة عند القراءة أو الترديد والإنشاد.
ما معنى "المقاطع الهذيانية" في لغة موسيقى الشعر العربي، وليس في لغة الحماسة والإنشاء؟ ما معنى أمواج التوتر وأمواج الانبساط بلغة الكم والأنغام والألحان؟ ما معنى "الالتفافية الحلزونية" و"الالتفافة الإشراقية" و"غور الهذيان" في لغة البحور والأوزان وعلم الأصوات؟
ونتذكر هنا، أيضا، أن النظرية الحداثية ترى أن الإبداع الشعري إنما جذوره-حسب تعبير أدونيس-في خطواته، أي ليس هناك قواعد، ولا بحور، ولا أوزان، ولا أسلاف، ولا مراجع سابقة، ولا تراث قبلي.
وأختم تعليقاتي على هذه التجربة الأدونيسية بالإشارة إلى ظاهرة ابتذال المقدس الديني، والإسلامي خاصة، التي تكاد تكون ملازمة لأي تجربة حداثية تسعى أن يكون لها قدر وصيت، وأن تلقى القبول والترحاب في نادي الحداثيين.
لقد أورد أدونيس، في هذه التجربة، كلمات هي بمثابة رموز دينية مقدسة (الله، والخالق، والنبي، والمسجد، والكنيسة، والمحراب، والمئذنة، والمصحف) في سياقات، وفي تعابير تغرقها في الدناسة والمهانة، بل توظفها توظيفا مقصودا يقدمها على أنها رموز للشر والفواجع والخطوب.
ومن عباراته في هذا المعنى:
"أرى المسجد الكنيسة سيّافين والأرض وردة."(ص618)
"سنقول الحقيقة: ليست بلادا
                  هي اصطبلنا القمري
                  هي عكّازة السلاطين وسجّادة النبيّ."(ص620)
"أحببت صفصافة تحتار برجا يتيه مئذنة تهرم…"(ص618)
"الأمة استراحت
في عسل الرباب والمحرابْ
حصّنها الخالق مثل خندقٍ
وسده…"(ص623)
"هل هذه المدينة آيٌ؟ هل ثياب النساء من ورق المصحف/…"(ص634)

والأمثلة، في هذه العبارات، واضحة لا تحتاج إلى تعليق.
وقد بلغ أدونيس أوج جراءته على ذات الله-تعالى الله وتقدست أسماؤه-حينما عمد إلى توظيف اسم الجلالة الأعظم في جمل تجريحية صريحة، وعبارات وصفية صفيقة تشبيهية تقطر إلحادا وجحودا، كقوله:

"هكذا أحببت خيمه
وجعلت الرمل في أهدابها
شجرا يمطر والصحراء غيمهْ

ورأيت الله كالشحاذ في أرض عليٍّ

وأكلت الشمس في أرض علي
وخبزت المئذنة…"(ص637)

ومثل قوله:
"هاتوا وطنا قربوا المدائن هزّوا شجر الحلم غيّروا شجر النوم كلام السماء للأرض[تأمل]/
     طفل تائه تحت سرّة امرأة سوداء بحثا
     طفل يشبّ
     وللأرض إله أعمى يموت…/"(ص640).

تعالى الله عما يهرف به الهذيان الحداثي من عبارات التجديف والتيه في صحاري الزندقة والإلحاد.
كان هذا نموذجا من قمة التجارب الحداثية. وأدونيس هو عنوان مدرسة بكاملها، لها تاريخها ومبادئها وأصولها في الفكر والسلوك ورؤية الكون والإنسان والمجتمع.
ولئن كانت جذور التجربة الأدونيسية، كما عبر هو، إنما هي في خطواتها-إن نحن سلمنا بذلك جدلا-فإن هذه الخطوات قد تحولت، بفعل الرمزية التي اكتسبها أدونيس، وبفعل آثار الأستاذية، فضلا عن الكتابات الحداثية الدعائية والإشهارية، إلى جذور لتجارب حداثية عديدة محترفة وهاوية، يكاد زبدها يغطي الفضاءات الشعرية في زماننا المعاصر.
خاتمة البحث في المقالة القادمة، إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.





[1]  عبارة "القصيدة الكلية" من اختراعات الحداثيين، التي استوردها نقادنا، مع عبارات كثيرة، تابعين مقلدين. وهي، في رأيي، عبارة لا تضيف شيئا له قيمة في ميزان الإبداع الفني، ولا في موازين النقد الأدبي الجاد.
[2] "الحداثة فكرة في شعر أدونيس"، لمحمد الخزعلي، في "عالم الفكر"(مرجع سابق)، ص100.
[3] انظر المرجع السابق مثلا، ص110-112.
[4] هذه العبارة ولّد منها النقاد الحداثيون المعجبون فلسفات وفلسفات، وخاصة الناقدة الأديبة خالدة سعيد، في دراستها حول هذه التجربة. راجعها في حركية الإبداع، ص87 وما بعدها.
[5] راجع ما كتبته خالدة سعيد حول هذه المسألة في دراستها لهذه التجربة في "حركية الإبداع"، ص110 وما بعدها.
[6] حركية الإبداع، ص113.
[7] نفسه، ص113و ص116.