بسم الله الرحمن الرحيم
(إنّما الأعمالُ بالنيات)
(1)
لقد مرت مسيرةُ يوم الأحد 20 يوليوز للتضامن مع غزة
الواقعة تحت نيران العدو الهمجي، وإدانةِ الوحشية الصهيونية، ومعها المجتمعُ
الدولي المنحاز للعدوان، والأنظمةُ العربية الضعيفةُ والمتواطئة والمتخاذلة.
لقد مرت المسيرةُ، ورجع المشاركون، كلٌّ بحسب نيته. فمن
كانت مشاركتُه، بحق، هي للتضامن مع غزّة وإدانة العدوان الصيهوني، فقد نال الأجر
والثواب، الذي يناله المواطِن المحاصر المقموع الضعيفُ العاجز عن نصرة إخوانه إلا
بالخروج للشارع، ورفع الصوت عاليا حتى يعرفَ العالمُ أن ما يجري في غزّة اليوم هو
مذابح وإبادةٌ وقتل وحشي يشهد على أن العدو الصهيوني بات فاقدا لأبسط صفات
الإنسانية.
ومَن كانت مشاركتُه من أجل أن يراه الناس، وتصوِّرَه
الكاميرات، ويتحدث عنه الإعلامُ بأنه حضر وسار وتكلم، أو مِن أجل التمويه وخلط
الأوراق وذرّ الرماد في العيون، للتغطية على موقف الدولة المخزنية المبدئي
الاستراتيجي التابع لأمريكا وأوروبا، والدائر في فلك أغنياءِ إمارات الخليج،
والمؤيد لنظام الإنقلابيِّين الدمويِّين في مصر، الذي يقف مع العدوان الصهيوني
بتشديد الحصار على الفلسطينيِّين، وإغلاق معبر رفع، الذي يُعدُّ الرئةَ الوحيدة
التي يتنفس منها أهل غزة، والنافذةَ الأساسية التي يتواصلون منها مع العالم
الخارجي-
مَن كانت مشاركته من أجل التمويه وخلط الأوراق وتبييض
الموقف المخزني المساند، مبدئيا واستراتيجيا، لسياسات أمريكا في المنطقة، ومِن هذه
السياسات ضمانُ أمن العدو الصهيوني المغتصب، وحماية حرية الملاحة وتدفق النفط
العربي عبر قناة السويس-مَن كانت مشاركتُه لمثل هذه الأهداف، فإن جزاءَه سيكون وفاقا
لمَا نوَى، وما قصد، و(إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء)، سبحانه،
(يعلمُ خائنةَ الأعين وما تُخفي الصدور).
(2)
إن الاعتداء الهمجيَّ على غزّة هو عديلُ الانقلاب الدموي
على الشرعية في مصر. وإن مَن أيَّد الانقلابَ وما ارتكبه مِن مذابح-لقد قارب عدد
الشهداء في هذه المذابح ثلاثة آلاف شهيد، فضلا عن آلاف الجرحى، وعشرات الآلاف من
المعتقلين- لا يمكن أن يكون صادقا في تضامنه مع غزة، وإنما هو تضامنٌ
"تاكتيكي" تمويهي، لامتصاص غضب الشارع المشتعِل، وكسب بعض النقط في الرصيد
السياسي الذي يعاني مِن الهزال، والتشويش على مواقف المعارضين للدولة المخزنية.
النظام الانقلابي في مصر اليوم، يُعدُّ، كما كان
سلفُه على عهد مبارك، بشهادة العدو الصهيوني نفسه، "كنزا استراتيجيا" للعدو
المغتصب. وما كان للإنقلابيِّين أن يرتكبوا ما ارتكبوا في حقّ الشرعية
الديمقراطية، التي كان يمثلها الرئيسُ محمد مرسي، مِن تلقاء أنفسهم، وبإرادة
مستقلة، وإنما كان انقلابُهم ومذابحهم في حق الشعب المصري بمباركة مِن أمريكا
وأروربا، ومعهما العدوُّ الصهيوني، علاوةً على الأنظمة الاستبدادية العربية.
إذن، الانقلابيون الحاكمون في مصر، ودولةُ الاغتصاب
الصهيوني، وأمريكا وأوربا، والأنظمةُ العربية الاستبدادية، وفي مقدمتها إماراتُ
الخليج النفطية- هؤلاء جميعا يشكلون تحالفا طبيعيا، ولا يمكن، بمنظار التحليل
السياسي العميق، فصلُ ما يجري مِن عدوان على غزّة عما جرى ويجري في مصر على يد
الانقلابيِّين الدمويِّين.
فلننظْرْ، مثلا، إلى ما سُمِّي بالمبادرة المصرية
للتهدئة، والتي ما يزال الانقلابيون يصرون عليها، يؤيدهم، طبعا، الصهاينةُ
والأمريكيون والأوربيون والدول العربية الاستبدادية؛
فقد أصبح من المعروف أن هذه المبادرة وضعها الانقلابيون
في مصر بتشاور من العدو الصهيوني المعتدي، فضلا عن رئيس السلطة (أبو مازن)، الذي
لا يملك إلا أن ينصاع لمصر، ومِن ورائها الإرادةُ الأمريكية الصهيونية، وحاولوا
فرضَها فرضا على المقاومين الصامدين في الميدان، يواجهون همجيةَ أعتى آلةٍ عسكرية
في المنطقة. وكأن الطريقةَ التي وُضعت بها هذه المبادرة، وفُرِضَت، كان القصدُ
منها أن يرفضَها المقاومون في غزة، حتى يشكلَّ هذا الرفضُ غطاء سياسيا دوليا،
ليستمرَّ العدو المعتدي في عدوانه، يقتلُ، ويحرق، ويهدم، ويخرب، لعله يحققُ أهدافَه
بإخضاع المقاومين، وتدمير قواعدهم، وضرب معاقلهم، والتخلص من أسلحتهم.
لقد صُنِعَت المبادرةُ المصرية المتحيزة المتواطئة مع
العدوان الصهيوني، بطريقة مراوغة ماكرة، لتعطيَ لهذا العدو ومَن يساندونه، علانيةً
أو سرا، المبررَ الكافيَ لتظل آلتُه العسكرية العاتية الجبانةُ على ما هي عليه من
همجيّة ودموية سيسجلها التاريخ عارا على هذا المجتمع الدولي المتواطئِ بسكوته،
المشاركِ في الجريمة بتردده وتسويفه، الوالغِ في دماء الشرفاء الأحرار الأبرياء
المظلومين بجبنه ونفاقه.
وكان مجلسُ جامعة الدول العربية-هذا الكيان المهترئ،
العاجز منذ كان، الذي بات يتحكم فيه حكامُ الأنظمة العربية المستبدة، يتقدمهم
أمراءُ الدول النفطية السفيهة المترفة- قلت كان اجتماعُ هذا المجلس العاجز الفاشل،
على مستوى وزراء الخارجية، يوم 7 يوليوز2014، أي بعد سبعة أيام من بداية العدوان
الغاشم على غزة-لاحظوا هذا التأخر في الاجتماع؛ بعد سبعة أيام!!- قد انتهى
بقرار يتضمن اثنتين وعشرين نقطة، تدور كلُّها تقريبا حول الشجب، واستجداءِ تدخل
المجتمع الدولي، وتسول الصدقات والالتفاتات لدى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وحول مساعدات مالية لإعمار القطاع، تمَّ إقرارُها منذ
سنوات، لكن لم يتم الوفاءُ بها، وحول ما يجب على الدول الأعضاء لمناصرة القضية
الفلسطينية، والوقوف بجانب الحق الفلسطيني في مواجهة المعتدي الظالم، إلى غير ذلك
مما معروف ومعهود في بيانات الشجب والكلام والتضامن التي تصدرها هذه الجامعة،
والتي تبقى، في نقطها الجوهرية، حبرا على ورق.
قلت تضمن هذا القرارُ، على شاكلة القرارات السابقة،
كلاما طويلا وعريضا عن إدانة العدوان والتعبير عن التضامن والوقوف مع الشعب
الفلسطيني المظلوم، وهو كلام، كما قلت، يبقى كلاما، وخاصة في النقط التي تتطلب
جرأة سياسية، وقرارات جماعية مستقلة ومسؤولة، ومواقف عملية محسوسة وحازمة. لكن مَربِط
الفرس في هذا القرار هو النقطة المتعلقة بالمبادرة المصرية، التي جاء قرارُ المجلس
المجتمع ليدعمَها، ويطالبَ "كافة الأطراف المعنية بإعلان قبولها للمبادرة
والتزامها بما نصت عليه"، ويدعوَ "الأطراف الإقليمية والدولية إلى
قبولها وتهيئة المناخ اللازم لاستدامة التهدئة". والفقراتُ بين قوسين مقتبسة
من نص قرار مجلس جامعة الدول العربية.
وتضمن
القرارُ أيضا نقطة تخصّ "شكر جمهورية مصر العربية على جهودها المبذولة لوقف
العدوان الإسرائيلي، وتحقيق التهدئة، وتحركها لمواجهة الكارثة الإنسانية التي
تواجه المدنيِّين في قطاع غزة، وتثمين قرارها فتحَ معبر رفح لاستقبال الجرحى،
وتقديم العلاج اللازم لهم، وتوجيه الشكر للمملكة الأردنية الهاشمية لجهودها
الرامية إلى وقف العدوان الإسرائيلي، وتحقيق التهدئة، وخصوصاً من خلال عضويتها
الحالية في مجلس الأمن، وكذلك توجيه الشكر لكافة الدول العربية التي تقدم المساعدة
للشعب الفلسطيني في محنته، والتأكيد على ضرورة استمرار هذه الجهود، وتقديم مساعدات
إنسانية وطبية عاجلة وعلاج جرحى هذا العدوان".
كلامٌ
في كلام، وبعضُه كذبٌ وبهتان.
الشكر
لدولتين تحاصران أشقاءهما الفلسطينيِّين، بخضوعهما لمعاهدتَين وقّعهما نظامان
مستبدان مع العدو الصهيوني المغتصِب، وتَمَّ فرضُهما على الشعبين المصري والأردني
بالحديد والنار. وما يزال الفلسطينيون المظلومون، وفي قلبهم المقاومةُ الثابتة
الصامدة المُشَرِّفة، يعانون الويلات مما جرَّت عليهم هاتان المعاهدتان. ثُم كانت
اتفاقيةُ أوسلو المشؤومة سنة 1993، بين منظمة التحرير الفلسطينية والعدو الصهيوني،
والتي تولَّد عنها ما يُسمَّى اليوم بالسلطة الفلسطينة، التي تحولت على عهد رئيسها
محمود عباس إلى أداة إضافية مِن أدوات قمع
المقاومة ومحاصرتِها، بل وتجريمها وإدانتها. ولهذا، ليس غريبا أن يكون الرئيس
محمود عباس عنصرا أساسيا لا يمكن الاستغناء عنه في مناورات الكبار مِن أجل إخضاع
الفلسطينيِّين، ونزعِ أسلحة المقاومة، وفرضِ سلام بالشروط التي تضعها الدولةُ
الصهيونية المغتصبة الباغية.
لقد
حاولوا أن يُبعدوا المقاومة عن صياغة مبادرتهم المخادعة المزعومة، حتى يحملوها(أي
المقاومة) مسؤوليةَ المجازر التي يرتكبها الصهاينة، وحتى يُعطوا للعدو-شاؤا أمْ
أبوا- مسوّغا سياسيا مريحا ليعيث في الشعب الفلسطيني ذبحا وتدميرا وتخريبا.
(3)
هناك
عنصرٌ آخر يجعل الانقلابيِّين في مصر والصهاينة المغتصبين في فلسطين مشترِكَيْن في
جرائم المذابح التي تقع اليوم في غزة، وهذا العنصرُ هو كراهيتُهما للإسلاميِّين،
ومحاربتُها لهم تحت غطاء دولي فضفاض هو "محاربة الإرهاب".
فحركةُ
حماس حركةٌ إرهابية عند الصهاينة المجرمين والانقلابيِّين الدمويِّين، ومِن ثَمَّ
فمحاربتُها والسعيُ لاستئصالها وإبادتِها عملٌ "مشروع" لا يمكن إلا أن
يحظى بالقبول لدى "المجتمع الدولي" المنافق الظالم المتحيز.
وعلى
الرغم مِن أن جبهة المقاومة في فلسطين تضم فصائل متعددة مِن مشارب مختلفة
وإديولوجيات متباينة، فإن التركيز دائما على حماس، لماذا؟ لأنها تمثل رأس المقاومة
وعنوانَها وروحَها. فجميع الفصائل المقاومة روحُها إسلاميةٌ، بغض النظر عما بينها
من اختلافات، فكريا وإيديولوجيا وسياسيا وتنظيميا. إنها إذن مقاومةٌ إسلامية يجب
في حقها الذبحُ والحرق والاستئصالُ باسم "مكافحة الإرهاب"، حتى يتخلصوا
مِن الرمز الذي ما تزال تمثلُه، والروحِ الذي ما تزال تبثُّه في الشعب الفلسطيني،
وخاصة في الأجيال الشابة الناشئة.
إن
المجازرَ التي تنفذها الآلة العسكرية الصهيونية الإجرامية في غزّة اليوم هي، في
جوهرها، وجهٌ مِن أوجه الحرب المعلنة على الإسلاميِّين في العالم، وفي العالم
العربي الإسلامي بصفة خاصة. فالإسلام، عند الصهاينة، يعني المقاومةَ، والصمودَ،
والاستشهاد. إن الإسلام كان دائما وراء الحركات الجهادية في فلسطين، وفي غير
فلسطين مِن بلادنا العربية الإسلامية. إنه الروحُ الذي به تظل المقاومةُ حية نشيطة
قوية متجددةً لا يعرف الضعفُ والخمول والبلى إليها سبيلا. إنه الوقود الذي به تظل
شرارةُ الغضب والثورة والمقاومة مشتعلةً لا تنطفئ ولا تخبو.
جميعُ
فصائل المقاومة في فلسطين، وإن لم تكن محسوبة على الإسلاميين، تستلهم روحَ الإسلام
وقيَّمَه في المواجهة والثبات والإقدام والاستشهاد. ولهذا، كان رأس الإسلاميِّين
مطلوبا عند الصهاينة، كما هو مطلوب عند الانقلابيِّين في مصر، وكما هو مطلوب عند أنظمة
حكامنا المستبدين.
(ويمكرون
ويمكر اللهُ، والله خيرُ الماكرين).
(ومَنْ يتولَّ اللهَ ورسولَه والذين آمنوا فإن
حزبَ الله همُ الغالبون).
(ألاَ
إن حزبَ الله همُ المفلحون).
(ألا
إن نصر الله قريب).
وبعد،
فقد انتهتْ مسيرةُ يوم الأحد(20 يوليوز)، بالرباط، ورجع الناسُ إلى بيوتهم، بعد أن
نال كلُّ واحد مِنْ مشاركته بحسب نيته المُضمَرة، وأهدافه المقصودة. وفي الحديث
الصحيح المشهور: (إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوَى. فمَن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرُته إلى
الله ورسوله، ومَنْ كانت هجرتُه لدُنْيا يُصيبُها أو امرأة يتزوجها فهجرتُه إلى ما
هاجر إليه).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.