السبت، 14 ديسمبر 2013

حوارٌ مع بعض القراء



بسم الله الرحمن الرحيم



حوارٌ مع بعض القراء




بعض قرّاء مقالاتي، ومنهم إخوة أعزاء أحترم رأيهم، وأتقبل نقدهم بكل أخوة وصدر رحب، فهموا من كلامي أني أدعو جماعة العدل والإحسان إلى الدخول تحت العباءة المخزنية، والمشاركة في الحياة السياسة التي يتحكم النظام في كل خيوطها من الألف إلى الياء.

أنا لم أدْعُ قطّ إلى أن تتخلى الجماعةُ عن مبادئها وتنخرطَ في العمل السياسي بشروط الدولة المخزنية، ومقالاتي بين أيديكم شاهدة، فليس فيها، ولو عبارة واحدة يُفهم منها صراحة ما فهمه بعضُ القراء الكرام.

نعم، قد يفهم الناسُ من بعض عباراتي وانتقاداتي أني ألمح إلى ذلك، ولكن هذا فهمهم واستنتاجهم وقراءتهم. أما أنا، فعندما أنتقد الادعاء بأن العملَ خارج المؤسسات هو أجدى نفعا على الجماعة من العمل من داخلها، فإني لا أقصد، بالضرورة، الدخولَ إلى البرلمان أو الحكومة أو غيرها من الأدوات الخاضعة لإرادة النظام المخزني، وإنما قصدي، في جوهره، يرمي إلى تبيان أن وضعية الجماعة الحالية تجعلها جماعةً بعيدة عن الناس، لأنها مضطرة أن تعمل في الـ"السرية" أو ما يشبه السرية، ومن ثَمَّ تصبح الدعوة معرضة لأَنْ تتقاذفها الأمواج المتلاطمة في سواحل البحر المخزني اللجيّ، وتذروَها الرياحُ العواصف في صحاري دولة الاستبداد.

أكسيجين الدعوة، أيِّ دعوة، هو الحرية، وإلا فهي إديولوجيا صائرة، بالرغم عنها، إلى انحسار وانكماش وانغلاق.

بعبارة أخرى، السياسةُ أداة لخدمة الدعوة، وأي عُطْل أو عطب أو صدأ أو تلف أو ما شابه يصيب هذه الأداة، هو راجع لزوما على الدعوة بالأثر السلبي؛ ويمكن أن أفسر هنا عطل الأداة/السياسة أو عطبها أو صدأها أو تلفها بالآفات التي يمكن أن تطرأ على الاجتهاد السياسي، كالجمود في الفكر، والغلو في الرأي، والتشدد في المواقف، وما إليها من النقائص والأمراض، تكون، في عاقبة الأمر، وبالا على جسم الدعوة، وعثراتٍ في طريقها، وخنقا لحريتها.

فإيجابيّات العمل من داخل المؤسسات- وهي في أصلها وحقيقتها مؤسساتُ الشعب والمجتمع- لا حصر لها، وقد ذكر بعضَها الأستاذ مرشد الجماعة، رحمه الله، في مواضع كثيرة من كتاباته، وخاصة في حديثه عن اختيار المشاركة في الانتخابات، بما هو اختيار ممكن، حينما تضطر الأنظمة المستبدة، لسبب من الأسباب، أن تفتح للناس طريق العمل الديمقراطي، وتسمح لهم بحرية الرأي والتعبير والاختيار.

سيحاجّني بعضُ القرّاء بأن المخزن، عندنا، يسد جميعَ الطرق في وجه تنظيمات المعارضين على شاكلة جماعة العدل والإحسان، ولا يسمح لأحد منهم بالتنفس، فأحرى أن يسمح لهم بالتنظيم والتعبير والاختيار بحرية، ومن ثَمَّ، فإن المراهنة على هذا الطريق مراهنة خاسرة، لا محالة.

وجوابي على هذه الحجة في عنوانات ثلاثة:



العنوان الأول: نيّةُ التعشّي تبرِّر واقعَ التغذّي

في منطق الناس-وهو المنطقُ الغالب في السياسة- أن الذي يعلن في وجهك أنه ينوي التعشّيَ بك، يعطيك المسوّغَ الكافيَ لتبادر إلى التغذّي به.

وهذا هو المنطق الحاصل اليوم بين الجماعة وبين النظام المخزني؛ فجمود جماعة العدل والإحسان عند اجتهاد مرشدها السياسي الأصلي يعني أنها تقول للنظام إنني لا أقبل بأقلَّ من رأسك، ومن ثَمَّ فهي ترفض أي شكل من أشكال التعامل مع النظام، لأنه نظام جبريّ حقّه أن يزول ليفتح الطريق لإقامة الخلافة الثانية الموعودة.

وطبيعي، وخاصة في دولة عاشت قرونا تحت سلطان النظام الملكي، أن يكون جوابُ الدولة المخزنية على موقف الجماعة هو القمع والمنع والحصار، لأن هذه الجماعة باتت، في نظر النظام الحاكم، كيانا يعمل خارج القانون، وهدفه الصريح المعلن هو القضاء على الدولة القائمة.

طبيعيّ ومنطقيّ، حينما يتحول الصراع السياسي إلى صراع وجود، إمّا أنا وإمّا أنت، أن نرى من الدولة ما نراه تجاه معارضيها الثوريين، الذين لا يخفون أن هدف نشاطهم السياسي هو إنهاء وجود النظام الملكي، الذي ينظرون إليه على أنه الشر المحض، الذي لا خير يُرجى مع وجوده.

طبعا، أنا هنا لا أبرر القمع المخزني الواقع على المعارضين الثوريين، وإنما أصف الأشياء كما يفرضها منطق الصراع السياسي حينما يتحول إلى معركة كسر العظم، أكون أو لا أكون. الجماعة تعلنُ، حسب ما رسمه المرشد في اجتهاده السياسي، أنها تريد رأسَ النظام، والنظام يردّ بما تمليه عليه غريزة البقاء السياسي، بالقمع والمنع والحصار، مستندا هو الآخر إلى الشرعية والقانون، بمفهومه وتأويله وممارساته.

باختصار، المخزنُ يسعى جاهدا ليتغذّى بالجماعة قبل أن تتعشّى هي به.



العنوان الثاني: الدرس الإيراني

لقد أعلن مرشدُ الجماعة، رحمه الله، في كتاباته أن مشروع القومة الإسلامية التي بسطه في اجتهاده السياسي لا يمكن أن يبلغ غايتَه إلا بزوال النظام الجبري، أي بزوال النظام الملكي، لتبدأ مسيرةُ بناءِ دولة الخلافة الثانية على منهاج النبوة.

لكنه، رحمه الله، بحكمته السياسية، ترك للناس، في أرض الواقع والمِراس، فجوةً للتهوية السياسية، لأنه كان يعلم أن الشروط والظروف والأحوال قد لا تكون دائما مواتية للسير في طريق القومة الذي رسمه في اجتهاده.

لقد كتب الرجلُ، رحمه الله، في القومة ما كتبَ، في ظروف كانت تمتاز، في البلاد العربية والإسلامية، بالانقلابات العسكرية، والثورات الشعبية، والصراعات الإديولوجية، تؤطرها، دوليا، من قريب أو بعيد، الحربُ الباردة التي كانت مستعرة بين المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، والمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي الغابر.

كان خطابُ الثورة/القومة يومئذ خطابا شعبيا مطلوبا، وخاصة في أوساط طلبة الجامعات وشرائح واسعة من المثقفين والمفكرين، تغذّيه نجاحاتُ الانقلابات والثورات والصراعات هنا وهناك. وإن من التخشّب والجفاف الفكري، عندي، أن يظن ظانٌّ أن الأستاذ عبد السلام ياسين لم يكن متأثرا بالأجواء التي كانت تفرضها تلك الانقلابات والثورات والصراعات.

ترك في اجتهاده فجوةً، بل فجوات للتهوية السياسية، حتى لا تتعرّض الدعوة للاختناق. لكن الجمود والتقليد يُعمي ويُصمّ، ولهذا لم يُعر الناسُ، وخاصة من أصحابه من أهل الغناء والسابقة، اهتماما كبيرا لما قاله المرشدُ، بالعبارة الصريحة، وهو قليلٌ، وبالتلميح بين السطور، وهو كثير، في سبل التصرف والاجتهاد السياسي في مواجهة أنظمة الاستبداد والقهر.

قرأ الناسُ الاجتهادَ السياسيَّ لمرشد الجماعة حرفيّا-وما يزالون يفعلون- بمنظار المُريد الذي لا يرى فيما يصدر عن مرشده إلا تجلياتٍ لعطاءات ربّانية لا يمكن تقويمُها ووزنُها وتقديرُها حقَّ قدرها بموازين السياسة والترجيح والعقل والرأي، التي تعارف عليها الفضلاء والعقلاء من أهل الرأي والسياسة والفكر، وإنما حقُّ هذه التجليات، بمنظار المريد المجذوب، أن تُحتَضن بالتصديق والتسليم وانتظار اليوم الموعود.

أنا مسلم أؤمن بأن لله أولياء، وبأن الله قادرٌ أن يختص بعضَ  عباده بما يشاء  من فضله، سبحانه، في العلم والفهم والفقه والرأي والنظر البعيد، وأن يجعلهم مُسدَّدين في النظر والاجتهاد. والأستاذ المرشد عبد السلام ياسين كان، رحمه الله، واحدا من هؤلاء المسدَّدين، يشهد له بهذا سيرتُه وتراثُه وعطاؤه الثرّار الذي سيظل معينا فياضا إلى ما شاء الله.

أنا، في نقدي، لا أقترب من شخص المرشد المربي العالم المفكر، رحمه الله رحمة واسعة، وأجزل له العطاء جزاء ما وفّى وقدّم، وكتبه عنده من المقرّبين الأبرار (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا).

ولست أحتاج أن أثبت حسن نيتي وصفاء سريرتي تجاه رجل خبَرت سيرته طويلا، بل كنت من السبّاقين إلى الكتابة عنه، وكان لي مشروع كبير في هذا الباب لولا الظروف والموانع الطارئة. 

أنا، في نقدي-ومقالاتي شاهدة- لا أقترب من شخص الرجل، وإنما أركز على اجتهاده السياسي، الذي حوّله الأصحابُ إلى صنم مُقدس، والذي ما فتئ المرشدُ نفسه، في حياته، يقدّمه على أنه عصارةُ ما وصل إليه علمُه وفهمُه وفقهُه، لم يدّع له، كما يفعل الأصحابُ اليوم، مكانةً فوق المراجعة والنقد والنقض والتعديل والتطوير، بل كان يحذر أن يصير رأيُه الاجتهاديُّ، من بعده، سدّا تتجمد عنده العقول والأفهام والإرادات.

وإني لمضطر، مع الأسف، أن أكرّر هذا كثيرا، لأن بعض الناس ما يزالون مصرين على ألا يفهموا من كلامي إلا ما يريدون، بل منهم من يذهب بعيدا في تقويل كلامي ما لا يقوله، وهذا من الظلم الذي لا أجد له مبررا، سامحهم الله.

وأرجع إلى السياق الذي كنت فيه.

من الفجوات التي تركها الأستاذ ياسين، في نظره السياسي، للتهوية والتصرف تجاه الأحداث المتقلبة والاجتهادِ وفق مستجدات الوقت، وما يجري به الزمان من تطورات وتحولات ومفجآت- من هذه الفجوات المتروكة حديثُه، رحمه الله، عن تجربة الثورة الإسلامية في إيران، بل اعتبارُه، في بعض كلامه في "المنهاج النبوي"، "أن مستقبل الإسلام رهين باستيعابنا لدرس إيران...".

وما هو هذا الدرس الإيراني الذي جعل الأستاذ ياسين مستقبلَ الإسلام رهينا باستيعابنا له؟

ملخص هذا الدرس أن علماء إيران قبلوا في دستور1906 أن يتعايشوا، مؤقتا، مع الديكتاتورية الشاهنشاهية، فنجحوا في فرض بعض القيود على سلطات الشاه. وكان هذا التقييد الدستوري بداية لمسيرة طويلة انتهت في سنة 1979 بنجاح الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، رحمه الله.

وكأن الأستاذ ياسين، رحمه الله، كان يقصد بهذا الدرس الإيراني أن التعايشَ مع الاستبداد والتعاملَ مع مؤسساته ممكن عند الضرورة، من غير أن يعني هذا التعايشُ والتعاملُ استسلاما لسلطان المستبد، ولا تفريطا في المبادئ والثوابت، ولا فتلا في حبل دولة الظلم والطغيان، وإنما الضروراتُ تبيح المحظورات، كما تقول القاعدة الأصولية.

هذا هو ملخص الدرس. ويمكن للقارئ الكريم أن يقرأ استنتاجاتي وتعليقاتي على هذا الدرس في الفقرة الأخيرة من مقالتي "عن الدستور والإصلاحات الدستورية في خطاب جماعة العدل والإحسان" على الرابط التالي:




العنوان الثالث: بين القانون والسياسة

إن التشبث باختيار القومة، في صيغته الحرفية كما وردت في منهاج الأستاذ ياسين، فرضَ على الجماعة أن تعيش في دوّامة من التناقضات لا سبيل من التخلص منها، في رأيي، إلا بتبني خطاب سياسي رسمي واضح، أولا، وبمراجعة اجتهاد المرشد بكل شجاعة ومسؤولية.

توضيحُ هذا أننا نرى، من جهة، أن الجماعةَ لا تفتأ تكرر أنها جماعة قانونية، وهي تعتمد، في هذا، على بعض الأحكام الصادرة عن المحاكم المغربية من مختلف الدرجات. ومن جهة ثانية، نراها تؤكد دائما أن قضيتها مع النظام ليست قانونية وإنما هي سياسية مائة في المائة.

فإن كانت القضية في أساسها سياسية، فلماذا المناورة بالورقة القانونية؟

مطلبُ الوضوح في هذا الموضوع يقتضي الخروجَ من هذا التناقض، لأن المخزن والجماعة كليهما يعرف أن الصراع بينهما منذ بدايته كان دائما صراعا سياسيا لا علاقة له بالقانون.

فالطرفان، الدولةُ والجماعة، متناكران متدابران متنافران متصارعان سياسيا، وما الورقة القانونية التي يلجأ إليها هذا الطرف أو ذاك، لتثبيت حجته وإضعاف موقف خصمه، في حقيقتها، إلا أداة من أدوات الصراع السياسي "الوجودي" المحتدم بين الاثنين.

فحينما يصف الخطابُ المخزني الرسمي الجماعة  بأنها محظورة قانونيا، فإنه يستغل القانون لهدف سياسي واضح. وكذلك الجماعة-ولنكنْ واضحين في هذه المسألة، ولنكفَّ عن لغة المناورة والتخليط والتلبيس- فإنها أولُ من يعرف أن قضيتها مع النظام قضية سياسية، وما الاحتماء بالشرعية القانونية إلا وسيلة من وسائل الدفاع والهجوم، و"الحرب خدعة"، كما في الحديث الصحيح.

الجماعةُ تريد رأسَ النظام، فكيف يُعقل أن يسمحَ هذا النظام بأن يكون لمَنْ يريد رأسَه وجودٌ قانونيٌّ يحميه ويحمي نشاطه ويحمي تنظيمه، بل يساعده على التقوّي والتوسع والانتشار؟!!

وهناك من يحتجّ بأن هناك أنظمة ملكية-في بريطانيا مثلا- تسمح بوجود أحزاب تعارض الملكية، وتدعو إلى نظام جمهوري. والحقيقة هنا أنْ لا قياسَ مع وجود الفارق، لأن النظام الملكي الذي يسمح بوجود معارضين له هو نظام ديمقراطي يحتكم فيه الناس إلى القانون، وصوت الأمة هو الفيصل في الانتخابات، والملكُ فيه-أو الملكة- لا يملك سلطات تنفيذية مطلقة أو شبه مطلقة، كما هو الحال في الأنظمة الملكية التي تسود وتحكم بيد من حديد في بلادنا العربية الإسلامية.

الاحتجاج بهذه الحجة يشبه، في معناه والغاية منه، الاحتجاج بالشرعية القانونية، لأن القصد، في النهاية، هو استعمال كل الوسائل التي يمكن بها إضعاف الخصم وتسجيل بعض النقط عليه، يمكن استغلالها في المنابر الإعلامية والمحافل الحقوقية.



وبعد،

فالحجّة القائلة بأن المخزن يسدّ جميع المنافذ إلى العمل السياسي القانوني الطبيعي في وجه الجماعة، يردُّ عليها خصومُ الجماعة بأن الجماعة هي التي تسدّ على نفسها الطريق إلى الحياة السياسية القانونية، لأنها ترفض التعامل مع مختلف مؤسسات الدولة، وفي قلبها النظام الملكي، الذي تسعى الجماعة لزواله.

ولا بد من التذكير، في خاتمة هذه المقالة، أن مؤسسات الدولة أمرٌ واقع، اعترفت بها الجماعة أم لم تعترف، بل إن الجماعةَ مضطرة إلى الاعتراف بهذه المؤسسات في حياتها الاجتماعية العادية، وإن ظلّت ترفضها في خطابها الإديولوجي.

أما النظامّ الملكي، وهو أمُّ مؤسسات الدولة وقلبُها في المغرب، فهو، في اعتقادي، عُقْدَة العُقَد في الاختيار السياسي لجماعة العدل والإحسان. وفي تقديري أن هذه العقدةَ، في العمل السياسي، لا بد لها من حلّ، طال الزمن أم قصر. أما التعنت والتشدد والتطرف في المواقف، سواء من جهة الجماعة أو من جهة النظام، فليس يزيد الصراع إلا تأججا واستفحالا، وهو ما يبقي حياتنا السياسيةَ رهن الاعتقال والاختناق إلى أجل غير مسمّى.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين