السبت، 28 ديسمبر 2013

وميضٌ يوشك أن يكون له ضِرَامُ


بسم الله الرحمن الرحيم



وميضٌ يوشك أن يكون له ضِرَامُ




 عنوان هذه المقالة مستوحى من شعر لنصر بن سيار، وقد كان واليا لبني أمية على إقليم خراسان، يقول فيه:


أَرَى خَلَلَ الرَّمادِ وَمِيضَ جَمْر//ويُوشِكُ أَنْ يكُونَ لـه ضِـرامُ

فإِنْ لَمْ يُطْفِهِ عُقَلاءُ قَـــــــوْمٍ//فإِنَّ وَقُودَهُ جُثَثٌ وهـــــــامُ

فإِنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَـــــــى//وإِنَّ الحَرْبَ أَوَّلُها كَـــــــلامُ

وهو شعر في الإنذار من مخاطر الفتنة والتقاتل والخراب والسقوط، التي كانت تهدد دولة الأمويين جراء استفحال قوة العباسيين وانتشار دعوتهم وزحف جيوشهم.

لكن هذا التحذير لم ينفع في إطفاء الجمر، وكانت النتيجة الفاجعة أن الجمر تحول إلى نار لم تزلْ متأجِّجة حارقة ماحقة، حتى أتت على دولة الأمويين من الأساس.

وهذه النيران التي نراها اليوم مشتعلة في كثير من بلادنا العربية الإسلامية إنما هي نتاج جمار كانت كامنة تحت الرماد، لم تجد من عقلاء القوم وفضلائهم من يبادر إلى إطفائها.

العنف اللفظي، والكراهية والبغضاء، والتنافر والتدابر السياسي، وتنامي خطابات الإقصاء والاستئصال، وغيرُها من صفات التعادي باتت سمة مميزة لهذه الجمار الهامدة تحت الرماد، والتي توشك أن تتحول إلى نيران تأتي، لا قدّر الله، على الأخضر واليابس، إن لم يبادر الفضلاء العقلاء الأمناء إلى خطة توقف الانحدار، وتعصمنا من التردي في نار الفرقة وأهوال الفتنة.

نذكر من ومضات هذه النار الكامنة تحت الرماد هذه التشققاتِ العرقية المستشريةَ في مجتمعنا بين العروبيين المتطرفين والأمازيغيين المتعصبين، وهذه الخصاماتِ العدائيةَ الطاحنة بين الإسلاميين، بمختلف فصائلهم ومشاربهم، وبين اللادينيين من كل التيارات والإديولوجيات، وهذه الصراعاتِ العبثيةَ الدائمة بين المكونات السياسية، من الأغلبية والمعارضة، المشاركة في الحياة السياسية الرسمية، التي يتحكم في كل خيوطها النظامُ المخزني المهيمن، وهذه الفوضى التي تخيم على الحياة الفكرية والثقافية والفنية، والتي لا نكاد نجد فيها متنفسا للتواصل والتفاهم والتراضي، بلْهَ الانسجام والتعاون والتعاضد، وهذا الإعلامَ الغارقَ، في غالبيته، في إذكاء النعرات، وإثارة الحزازات، والتمكين لخطابات الكراهية والتحريض والإقصاء، ونشر ثقافة الانحطاط والتفسخ والتغرّب والضياع.

هذه بعض الومضات الكامنة في الرماد، والتي يوشك أن يكون منها نارٌ ملتهبة، لا قدّر الله، تأكل البرّ والفاجر، لا تستثني أحدا.

الإلحادُ الصريح بات له صوتٌ مسموع، ونضالٌ مشروع، في مجتمع مسلم!! فهذه فتنة تهدد بشَرٍّ مستطير لا تبقي مصائبُه و لا تذر.

بعضُ النخب من الذين يسمّون أنفسَهم مثقفين وناشطين حقوقيين باتوا يتجرأون على كل مقومات المجتمع بوجه مكشوف، لا يردعهم دينٌ، ولا قانونٌ، ولا أعرافٌ، ولا أخلاق، يهيمون في كل واد، تحت لافتات لامعة خادعة، وأخرى ممسوخة مستوردة، وثالثة شيطانية مظلمة، يحسبون كل صيحة عليهم، تراهم حاضرين في الإعلام حضورَ الكلاب الضالة في مطارح الأزبال، ومُطنْطنين في المنتديات المفبركة على المقاس طنْطنَة الذباب حول الجيف المنتنة والقاذورات المضرة.

حبل التواصل منقطع بين مكونات المجتمع ومختلف تياراته وإديولوجياته واجتهاداته؛ المخزن منغلق على ذاته، لا يريد أن يرى الناسُ غيرَ ما يراه، وهو ماض في قبضته الحديدية، لا يهمه أن يكون في المجتمع اختناق أو ضغط يوشك أن يحدث انفجارا لا يمكن لأحد أن يتوقع مداه، وما يمكن أن يجرّه من خسائر وحرائق ومآس.

والمعارضاتُ من خارج لعبة النظام ومؤسساته منكفئةٌ هي الأخرى على نفسها، لا ترى إلا ذاتها في خطاباتها المتشددة، ومواقفها الرافضة، واختياراتها الجامدة، كلُّ معارضة منها متقوقعة داخل إديولوجيتها، ترى نفسها الأولى بالقيادة والفكر والنظر ورسم خارطة الطريق.

وفي سماء المشهد السياسي المخزني، لا نسمع للأحزاب المشاركة غير أصوات التكالب والتعاير والتكايد والتهارش والتعاضّ، وخاصة من جهة الأحزاب التي تصنفُ نفسَها في خانة المعارضة، لا يأبهون للقنابل السياسية الموقوتة، المهيأة للانفجار في أي وقت، ولا لأنّات المظلومين، في السجون وخارج السجون، ولا للأزمات المتلاحقة التي باتت تضيق الخناق على الناس، في سائر مناحي معايشهم، ولا للتيارات المخربَة الزاحفة من الهوامش نحو قلب المجتمع، تحتل المواقع، وتعتلي المنابر، وتعبئ وتحرض وتنظّم.

قد يكون في كلامي شيءٌ من التعميم المُخلّ، لكن السوءَ الذي بات يشمل أحوالَنا من كل النواحي يبرر، في اعتقادي، هذا التعميمَ ويفرضه فرضا.

إن من الواجب على العقلاء فينا أن يعتبروا، قبل فوات الأوان، بما جرى ويجري في تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن بعد عواصف الربيع العربي التي اجتاحت هذه البلدان. ومن أولويات هذا الاعتبار، في نظري، التداعي للحوار والتعايش والتعاون والتنافس البناء من أجل واجب الوقت، وهو المصلحة العامة، في جوهرها وحقيقتها الواسعة، لا في شعاراتها الشكلية وخطاباتها الإديولوجية الحزبية الديماغوجية الضيقة.

واجب الوقت على النظام المخزني، قبل فوات الأوان، أن يفتح نوافذ متعددةً للتواصل والتحاور مع معارضيه الحقيقيين، المُبعَدين خارجَ لعبته السياسية، وأن يسعى معهم لبناء نموذج سياسي ديمقراطي يستوعب الجميع من غير إقصاء ولا إلغاء ولا تهميش، وأن يعمل معهم، في الأجلين القريب والمتوسط، على تجاوز حالة الاختناق التي تهدد حياتَنا السياسية بأوخم العواقب، وإرجاع المصداقية الغائبة لمؤسسات الدولة وقوانينها، وأن يوقن أن الاستبداد مهما طال، فإنه إلى زوال، لن تغنيَ عنه قوته وجبروته وبطشه ومناوراته شيئا.

وواجب الوقت، كذلك، على المعارضين أن يستمعوا إلى صوت العقل والمصلحة العامة، بدل وضع الأصابع في الآذان، والانغلاق في الإديولوجيات العدمية الصماء، التي لا تغني ولا تسمن، والتي لا يمكن أن يجنيَ منها الناس إلا الشوك والحسرة والندامة، في العاجل أو الآجل من الآماد.

وأعتقد أن أيَّ تغيّر إيجابي في علاقة النظام المخزني بمعارضيه، وأيَّ تقدم في هذه العلاقة نحو مدّ جسور التواصل والتحاور والتعايش والتعاون، سينعكس بالإيجاب على مكونات المجتمع الأخرى، بل سيجعل مختلف فضاءات المجتمع تتأثر، بالرغم عنها، بما ينتج عن التواصل الإيجابي البناء بين المخزن وبين معارضيه الحقيقيين.

اليوم، كلُّ مكونات المجتمع السياسي والمدني والحقوقي والإعلامي منقسمة متصارعة متنافرة متدابرة حسب ما يحكم علاقة المخزن بمعارضيه الثوريين من توتر وتناقض وتصارع. فهذه المكونات خاضعة، شاءت أم أبت، لما يشوب أجواء العلاقة بين النظام وبين مختلف فصائل معارضي الدولة المخزنية، بل هي مكوناتٌ تائهة في أجواء التوتر والفوضى واللاتواصل، التي تطبع مختلف جوانب حياتنا السياسية والاجتماعية.

إلى متى سيظل المخزن متمسكا بإديولوجيته، التي ترسخ الاستبداد ومؤسساتٍ تأتمر بأوامر من هم فوق المتابعة والمحاسبة؟

إلى متى ستظل حياتنا، في مختلف قطاعاتها، محكومةً بقرارات لا يمكن مراقبتها ونقدها أو مراجعتها وإلغاؤها؟

إلى متى سيظل المخزن يُصمّ أذنيه عن سماع صوت معارضيه، ويسير في طريق سياسة الإخضاع والمنع والقمع والخنق؟

متى سيعي المخزنُ وأعوانه وتابعوه أن دولة الاستبداد لا يمكن أن تولد إلا النار المحرقة المهلكة المدمرة المخربة، وأن الشعوب، مهما طال رقودها وهوانها واستعبادها وإخضاعها، لا بد أن تستيقظ وتتحرك كالطوفان الهادر الكاسح الجارف كل ما يعترض طريقه؟

إني ألاحظ ما يجري في واقع حياتنا العامة، فأرى هذه التشققات الاجتماعية، والصراعات الإديولوجية، والنعرات العرقية، والسياسات الاستبدادية، والمعارضات العدمية، التي تهددنا في الصميم. أرى هذه الفرقة التي تزداد تمكنا يوما بعد يوم، فأرى من خلالها وميضَ فتنة يوشك أن يكون له ضرام. أحس بكل هذا، فأجدني أكرر مرة أخرى أبياتا من شعر نصر بن سيار، الشاعرِ الخطيب السياسي القائد العسكري الأموي:

وقلت من التعجّب: ليت شعري//أأيقاظٌ أميةُ أم نيـــــــــــــــــــامُ
فإن يقظَتْ فذاك بقاءُ ملـــــــــكٍ//وإن رقدَت فإنــــــــــــي لا ألام
فإن يك أصبحوا وثوَوا نيامـــــــــا//فقلْ قوموا فقد حان القيــــــامُ



وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين