بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلاميون وأعداءُ الإرادة
الشعبية
(1)
ليس هناك من سبيل للتعبير عن الإرادة الشعبية في النظم
الديمقراطية الحديثة إلا سبيل الاستفتاءات والانتخابات العامة.
الذين يقفون اليوم مع الانقلابيِّين في مصر هم من أعداء الإرادة
الشعبة ولو جاؤوا بملء الأرض أحمالا من المبررات والتسويغات والتأويلات.
الانقلاب العسكري عمل إرهابي صريح لا يحتمل التأويل، وكل
مشكك في هذا أو مراوغ أو محتال إنما هو من أعداء الحرية والديمقراطية، ولو تغنى
بشعارات الدنيا كلها في مجال الحقوق والحريات والانتخابات.
إن السؤال عن مستقبل علاقة الإسلاميين بغرمائهم
الإديولوجيِّين والسياسيين بات ملحا بعد مذابح الانقلابيين في مصر.
لقد أبان الانقلاب على الشرعية والديمقراطية، والسطو على
إرادة الشعب في انتهاك فظيع لكل القوانين والأعراف والقواعد والأخلاق، عن مدى الحقد
والكراهية والرغبة في الانتقام والاستئصال التي يُكنه الانقلابيون وحلفاؤهم والمتآمرون
معهم للإسلاميين، لا لشيء إلا لأنهم إسلاميون، الإسلامُ هو مرجعيتهم الأساس في
تصوراتهم واجتهاداتهم ومشاريعهم ومقاصدهم وممارساتهم وسائر أمورهم وشؤون حياتهم.
الإسلاميون، و(الإخوان المسلمون) في مصر في مقدمتهم، لهم
تاريخ طويل في الدعوة والفكر السياسي والاجتهاد الفقهي الحديث. وتجاربهم السياسية
الغنيّة بالعبر والدروس قد ألهمتهم الكثيرَ في تجديد فكرهم السياسي، وتطوير
أساليبهم في النضال والتواصل والتبليغ. ويكفي أن نرجع إلى المكتبة السياسية
الإسلامية الحديثة لنرى حجمَ العناوين التي نُشرت منذ مطلع القرن العشرين إلى
اليوم، في مضمار الفقه السياسي الإسلامي، وفي موضوع الإسلام وأنظمة الحكم في
الدولة الحديثة، وفي مجالات الحريات والحقوق والواجبات، وفي قضية الشورى
والديمقراطية وما يتعلق بهما من شؤون الانتخابات والبرلمانات وغيرها من الموضوعات
والقضايا والإشكاليات، التي كَتب فيها الإسلاميون، ونظّروا، واجتهدوا، وجدّدوا، وصاغوا
آراء ونظريات وتصورات جديرة بأن ترتفع بالفكر الإسلامي الحديث إلى مصاف الفكر
الإنساني العالمي الرائد.
معظمُ خصوم الإسلاميين، مع الأسف، لا يقرأون للإسلاميين،
ولا يتابعون التطورات الحاصلة في نظرهم واجتهادهم. والقلة التي تحاول أن تقرأ لهم،
لا تريد أن تفهمَ أن الإسلاميين في العصر الحديث ليسوا كما تصورهم خطابات الكراهية
والافتراء والتشويه والتلفيق، التي يبثها الخصوم والأعداء، وليسوا كما يتحدث عنهم
الجهالُ في نواديهم، والعامة في شوارعهم وأسواقهم، والزنادقةُ الضالون في
صالوناتهم، والأعداء المتآمرون في إشاعاتهم ودعاياتهم وأباطيلهم وقنواتهم.
الاستثناء موجود في كل شيء؛ في أعرق الدول الديمقراطية
تجد أفكارا متطرفة، وتنظيماتٍ عنيفة، واجتهاداتٍ شاذة بريئةً وغيرَ بريئة. المهم،
أن الشاذ المنحرف، أو الغاليَ المتطرف، أو المتنطعَ العنيف، لا يخلو منهم مجتمع من
المجتمعات، وما سمعنا أن الديمقراطية قد أُلْغِيَت أو عُطِّلَت في دولة ديمقراطية
حقيقية بسبب وجود هؤلاء الشواذ والغالين والمتطرفين والمجرمين. هناك القانون الذي
لا يحابي أحدا. وهناك المؤسسات الحية المتيقظة الساهرة على مصالح المواطنين وأمنهم
واستقرارهم وسعادتهم. وهناك الانتخابات الحرة التي تجري في وقت معلوم، يتنافس فيها
المتنافسون لإقناع الناس وكسب أصواتهم ونيل رضاهم. وهناك الدستور وما يتفرع عنه من
قوانين وهيآت ومؤسسات، يحمي الحقوق والحريات، ويردع المخالفين، وينظم الحياة
السياسية ويحفظها أن تتسرّب إليها أسبابُ الفوضى والقلاقل والفتنة القاتلة
الحارقة.
(2)
بعد المذابح البشعة التي ارتكبها الانقلابيون في مصر-وما
يزالون يفعلون- في حق الشرعية الانتخابية والمؤسسات الدستورية، وفي حق المحتجين
المعتصمين الرافضين للانقلاب، ها هي ذي رياح الفتنة والخراب والتمرد والعصيان
والانقلاب على النظام والقانون تهب في هذه الأيام على تونس الخضراء مهد ثورات
الربيع العربي.
عندما تسأل عن الأسباب الكامنة وراء هذا التوجه نحو رفض المؤسسات
والقانون والنظام، ورفض الاحتكام إلى الانتخابات والرضا بنتائجها، تجد على رأس هذه
الأسباب هذا العداءَ المستحكم للإسلاميين، ولو كانوا في اجتهادهم وحرصهم على
القانون والحريات وبناء مؤسسات الدولة المدنية الحديثة، على طريقة حزب النهضة،
الذي له سجلٌ حافل ومعروف في رفض التطرف
والفقه السياسي الحرفي المتزمت، والاعتراضِ على الاجتهادات الإسلامية المتطرفة في
المجال السياسي، حتى بات هذا الحزب موصوفا بالخروج على الإسلام عند طائفة من غلاة
التيار السلفي.
حزب النهضة، رغم حصوله على المرتبة الأولى في
الانتخابات، اختار طريق التوافق وعدم الاستئثار بالسلطة، فقبِل عن طواعية أن يعمل، في المرحلة
الانتقالية، بالتوافق والاشتراك مع حزبين يختلفان معه إديولوجيا، فيما يعرف
بالترويكا التي تولت زمامَ الحكم بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي.
رغم كل هذا، فإن المعارضين الناقمين الذي فشلوا في
الانتخابات لا يبرحون يسعون لحل هذا المجلس التأسيسي، وإشاعة البلبلة السياسية في
البلاد، بإحداث الفراغ الذي يتمناه المخربون الكارهون للاستقرار، الحالمون برجوع
سلطانِ الاستبداد والفساد، ونظامِ القمع وسلب الحقوق وتقييد الحريات.
لماذا هذا السعي الحثيث لبثِّ الفوضى وتقويض النظام
وتعطيل المؤسسات؟
لماذا يصر هؤلاء الفوضويّون، على العرقلة والتعطيل، رغم
أن الانتخابات على الأبواب؟
لماذا كل هذه الكراهية والعداء للإسلاميين، وإن كانوا
ديمقراطيين إلى أقصى الحدود، كحزب النهضة بزعامة الشيخ راشد الغنوشي؟
من يقف وراء هذا المدّ الفوضوي التخريبي الجائج؟
أهُمْ فلولُ النظام الديكتاتوري الساقط البائد؟
أهُمْ الخاسرون بسبب الوضع الجديد من ذوي المال والنفوذ
فيما يُسمَّى بالدولة العميقة؟
أهُمْ أصحاب المصالح من القوى الدولية، التي لا مصلحة
لها في الاستقرار، ولا في وجود نظام ديمقراطي حقيقي يعبر عن إرادة الأمة، وينظم
شؤونها، ويدافع عن هويتها وثرواتها وسيادتها واستقلال قرارها؟
أهمْ الأذرع الصهيونية المبثوثةُ في أرجاء بلادنا
العربية الإسلامية، النشيطةُ وراء كل نار مشتعلة، لإدامة تخلفنا وتبعيتنا وفقرنا
وانحطاط أحوالنا؟
قُلْ هُمْ كلُّ أولئك، وغيرهم من أولياء الشيطان،
الساعين في الأرض فسادا، بالبطش والجور والسلب والإرهاب وإشعال الفتن والتمكين
لأسباب الفساد والدمار.
(3)
المجلس الوطني التأسيسي في تونس يوشك على الانتهاء من
كتابة مشروع دستور توافقي يرضى عنه الجميع، إلا مَنْ لا يرى نفسه إلا في الفراغ المفتوح
على المجهول، وفي الفوضى المُعوِّقة المُعطِّلة المُكدّرة، وفي الفتن الهائجة
المائجة.
وبالرغم من المجهود الجبار الذي بذله المجلس التأسيسي
بزعامة الترويكا لتجاوز المرحلة الانتقالية بسلام، فإن أعداءَ الاستقرار والإصلاح
والديمقراطية ما فتئوا يثيرون القلائل لأتفه الأسباب حتى يفسدوا كل شيء، وحتى
يرجعوا بالناس إلى نقطة الصفر، وليست الاغتيالاتُ السياسيةُ إلا واحدا من أساليبهم
الإجرامية الحقيرة للعرقلة وخلط الأوراق وإثارة النفوس والنعرات، وبثِّ الشقاق
ومشاعر القلق والخوف بين المواطنين.
المجلس التأسيسي بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مشروع
الدستور، الذي سيُعرَض على المواطنين، في استفتاء شعبي حرّ، لإقراره أو رفضه،
بإرادتهم المستقلة التي لا يقيدها أي نوع من أنواع الضغط والإكراه والمساومة
والرشوة.
لكن محبي الفوضى والرجوع بالناس إلى ظلام القيود والعسف
والطغيان يسعون، بكل أساليبهم الفاجرة، لتعطيل مسيرة الإصلاح والبناء والتوافق
برمتها، وجر البلاد إلى الفتنة التي تنتعش فيها أسباب الشر والفساد والدمار.
لماذا هذا التمردّ المصطنعُ الذي لا مبرر له؟
لماذا تكوين جبهة للإنقاذ في تونس، على الطريقة المصرية،
وكأن (المايسترو) في جوقة البلدين واحد؟
لماذا لا ينتظرون الإعلان عن مشروع الدستور؟
لماذا لا ينتظرون موعد الانتخابات، الذي بات قريبا؟
هؤلاء المعرقلون الفوضويون الفتنويون، بإيعاز من الدولة
العميقة، أو بتخطيط من متآمرين من الداخل والخارج على النظام الديمقراطي الوليد في
تونس، أو بوحي من الضمائر الخربة التي مات فيها أي إحساس بالوطنية والمسؤولية،
ينطلقون من رفض أن يكون للإسلاميين يد في نجاح الانتقال الديمقراطي في البلاد.
وبحكم أنهم أقلية لا شعبية لها ولا وزن، وأنهم مسكونون بهاجس أنهم سيكونون دائما
خاسرين في أي انتخابات ديمقراطية نظيفة تجري في البلاد، فإن المخرج الوحيد الذي
يبقى أمامهم هو تعطيل المسيرة حتى لا تصل إلى الانتخابات، كما فعلوا في مصر.
في مصر، حاولوا العرقلة والتعطيل منذ البدايات الأولى
لما بعد سقوط الديكتاتور مبارك، لكنهم فشلوا في إيقاف المسيرة. وكانوا في كل
انتخاب أو استفتاء يفشلون في تعطيله-وهي الخطة (أ) في مخططاتهم- ينتقلون إلى الخطة
(ب)، فيُجمِّعون جموعَهم، ويُجيِّشون جيوشَهم، ويوحدون إمكانياتهم وأبواقَهم،
ويراهنون على الفوز في الانتخابات أو الاستفتاء.
لكنهم، في كل مرة من المرات العديدة، التي دُعي فيها
المصريون للإدلاء بأصواتهم، كانوا يحصدون الفشل، وكان الإسلاميون يحصدون الفوز،
وينالون ثقة غالبية الناخبين.
وبعد فشلهم المتكرر في الانتخابات والاستفتاءات، انتقلوا
إلى الخطة (ج)، وهي من جنس الخطة (أ)، وهي تقوم في أساسها على إشاعة البلبلة
والفوضى والقلاقل، وإثارة الشارع بكل ما يملكون من نفوذ ومال وإمكانيات وتحكمٍ في
خدمات اجتماعية حيوية، كالوقود والكهرباء والخبز والنقل وغيرها.
لم يتركوا وسيلة إلا استخدموها في التحريض والإثارة
والتأزيم وإدخال البلاد في دوامة العنف والاضطراب، فكان قتلٌ وحرقٌ وهجوم على
المؤسسات السيادية، وغيرها من أعمال الإجرام والتخريب.
وبالرغم من كل هذا، لم ينجحوا في بلوغ ما يريدون، فكان
اللجوء إلى الحل الأخير، وهو سيطرة الجيش جهارا نهارا على الحكم بالقوة وسفك
الدماء، وتعطيل جميع المؤسسات الدستورية، وإيقاف مسيرة بناء الدولة الديمقراطية.
السياسيون الفاشلون في الانتخابات، الراسبون في نيل ثقة
الناس ورضاهم، قبلوا، أذلة صاغرين، أن يكونوا أدوات تابعة بيد الجيش ومن يحركه من
القوى الأجنبية التي لا مصلحة لها في أن يكون في مصر نظام ديمقراطي مستقر، وحياة
سياسية طبيعية يمارس فيها المواطنون حقوقهم بلا وصاية ولا إملاء ولا إكراه.
لقد تم، بسبب الانقلاب الدموي الغادر الغاشم، تعطيلُ
الدستور المصري الذي صوت عليه المصريون بأغلبية قاربت(65%)، وتم حل مجلس الشورى الذي انتخبه المصريون بإرادتهم
الحرة، وقَبْل ذلك تم حلُّ مجلس الشعب، في سعي نشيط للرجوع إلى المربع الأول،
وتقويض كل ما تم بناؤه بإرادة المصريين ورضاهم.
معارضو الإسلاميين راهنوا على أن يرفض المصريون مشروعَ
الدستور في الاستفتاء، لكن أملَهم خاب حينما جاءت النتيجة بقبول الدستور بنسبة
معتبرة ومحترمة.
ولماذا اعترضوا على مشروع هذا الدستور أصلا؟
هل هناك دستور في الدنيا تم إقراره بتوافق كامل مائة في
المائة، من غير أن يكون هناك رافضٌ أو معترض أو متحفظ؟
ليس هناك هذا التوافق التام إلا عند قوم لا يعرفون من
الديمقراطية إلا الاسم.
لقد اطّلعْتُ على نصوص الدستور المصري الذي تم إقراره في
استفتاء شعبي شفاف. وأنا أزعم أنه دستور جمع الكثير من حسنات دساتير العالم. أما
أن يكون هناك فصلٌ أو عبارة أو صياغة لم تعجب فلانا أو فلانا، فذلك أمر طبيعي، لأن
الكلمةَ الفاصلة الحاسمة ستكون للشعب، وعلى المعترضين، إن كانوا ديمقراطيين حقيقة
لا ادعاء، أن يقنعوا الشعب بوجهة نظرهم، وأن يجعلوه يصوت لصالح رأيهم.
لقد توجهوا للشعب، قبل الاستفتاء، بكل ما يملكون من
قدرات على الافتراء والكذب والتزوير والتشويه، لينالوا من المشروع المعروض، وقاموا
بحملات تضليلية فاقت حدّ التصور، لكن باطلهم ارتدّ عليهم بالخسران المبين. لكنهم
لم يهدأوا، ولم يعتبِروا، ولم يستحيوا، ولم يُسلّموا، وظلوا في غيهم وبغيهم
وحربهم، حتى انتهى بهم المطاف إلى استدعاء الجيش، والسطو على إرادة الناس، وسلب
حقوقهم بالقوة الجبارة الظالمة.
وبعد، فماذا نستفيد من سرد كل هذه الحوادث والوقائع
والمعطيات؟
نستفيد أن مستقبل علاقة الإسلاميين بخصومهم مستقبل يلفّه
ضباب كثيف، بل قلْ هو مستقبل ينذر بصراعات ومواجهات لا نهاية لها، مادام هؤلاء
الخصوم، بكل فصائلهم وتوجهاتهم وتياراتهم، يرفضون الاحتكام إلى صوت الشعب، واحترام
ما يحكم به هذا الصوت.
لقد أبانت الأحداث في مصر، بعد الانقلاب الدموي
الإرهابي، أن خصوم الإسلاميين مستعدون أن يضحوا بكل شيء في سبيل منع فوز
الإسلاميين.
لقد حاولْتُ البحثَ عن منطق مقبول ومعقول وراء اعتراضات
المعترضين، ومواقفِ خصوم الإسلاميين، فلم أجد إلا الحقد الدفين، والكراهية
والشحناء والعداوة العمياء.
في اعتقادي، لا سبيل إلى تفادي المواجهات مستقبلا إلا
سبيل الانتخابات والرضوخ لإرادة الشعب.
أما سبيل الانقلابات والدبابات والفوضى وتأجيج القلائل،
فهو سحر سينقلب على الساحر، عاجلا أم آجلا، (والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس
لا يعلمون).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
فاس: 29 يوليوز2013