بسم الله الرحمن الرحيم
أيّ خارطةٍ سياسيّةٍ لجماعة العدل
والإحسان؟
بعضُ إخواني-حفظهم اللهُ ووقاني وإياهم عثرات الطريق
ومنزلقاته، وفتحَ أعيننا جميعا على أخطاره ومفاجآته- يذهب بهم الظن، حينما أكتب
منتقدا الأساسَ الذي يقوم عليه الاختيار السياسي لجماعة العدل والإحسان، إلى أنني
أصبحت أسوِّغ قبولَ دولة الاستبداد والفساد، وأنني تركت وراء ظهري كلَّ ما كتبته
في نقد النظام المخزني وفضح مخازيه.
هذه هي الإديولوجية الصمّاء، دائما، لا تعرف شيئا خارج
الأبيض والأسود؛ فإما أنت معي، وإما أنت ضدي. إما أن تكون مع العدل والإحسان، في
كل ما تأتي وما تدع، وإما أنت مسلوك في المدافعين عن الاستبداد ودولته!!
الذين يفزعون إلى معانقة هذه الإديولوجية في حجاجهم لا
يطيقون أن يناقشوا الرأيَ المخالف حق النقاش، لأنهم، في اعتقادي، لا يريدون أن
يذهب الناسُ معهم بعيدا في تقليب النظر في الأسس التي يبنون عليها آراءَهم
ومواقفهم، ويرجّحون بها اختياراتهم.
إن الاحتماءَ بمنطق (إما أبيض، وإما أسود)، في نقاش فكري
سياسي، يقوم، في أصله، على تعدد الرأي واختلاف زوايا النظر، وتنوع أدلة الحكم
وقرائن الترجيح، هو عندي نوعٌ من القمع والترهيب، لا يركبه إلا الضعفاء الذين ليسوا
متمكنين من أدوات المناظرة والحجاج والحوار.
محجةٌ لاحبةٌ أمْ مَأْزِقٌ سياسيّ!؟
(1)
في البداية، نظريا على الأقل، كانت المحجّةُ لاحبةً،
وكان الطريق نهجا مستقيما واضحا. لكن الانتقالَ من الكتابة النظرية إلى التطبيق
العملي كان مشروطا؛ وأذكّر هنا بأمر قلّما انتبه إليه من تناولوا منهاجَ جماعة
العدل والإحسان بالدراسة والتحليل، والنقد والتقويم، وهو أن الأستاذ المرشد، كاتبَ
"المنهاج النبوي"، رحمه الله، قد جعل تنزيلَ مضامين المنهاج إلى أرض
الواقع مرهونا بتحقّق واحدٍ من شرطين: إما أن تتبنى الدولةُ نفسُها المنهاجَ،
وتحملَ على عاتقها تنفيذَه وتحقيقَ مقاصده، وإما أن ترفع عن الجماعة يدَ القهر
والظلم والقمع والمنع، وتُمكنَها من كل حقوقها في الدعوة والرأي والتعبير
والتنظيم، كسائر التنظيمات السياسية المرضيّ عنها.
قال مرشدُ الجماعة، رحمه الله، في مقدمة الطبعة الأولى
من كتاب "المنهاج النبوي"(ط3، 1994، ص9):
"مخططُ التربية
والتنظيم الذي نقدّمه لا يمكن تطبيقُه إلا في إحدى حالتين:
"1. إن
أصبح الحكام منطقيين مع مبادئهم المعلنة عن إعطاء الحريات العامة فيقبلوا وجود
حركة إسلامية علنية معترف بها إلى جانب الحركات والأحزاب السياسية الأخرى. وأقلُّ
ما يُطلب
من حكام المسلمين أن يعترفوا بحق الشعب المسلم في ممارسة إسلامه دون وصاية الحكومة.
"2.
إن أدرك الحكام خطأهم في اضطهاد الإسلاميين وعقدوا نية صالحة لدعم الحركة
الإسلامية، ليتصالحوا مع الله ومع الشعب المسلم، وبرهنوا عنها بميثاق يصوت عليه
الشعبُ يعقدون فيه مع الله ومع المؤمنين الرجوع إلى الحكم بما أنزل الله بعد فترة
انتقالية يعطون فيها المؤمنين كامل الحرية وكامل الدعم لبناء كيان إسلامي سياسي
تتهيأ به انتخاباتٌ إسلامية ودستور إسلامي وحكومة إسلامية."انتهى كلام
الأستاذ ياسين من مقدمة "المنهاج النبوي".
لم يُتحْ للمنهاج النظريّ أن يعرفَ طريقَه إلى واقع
التنفيذ إلا في شكل اجتهادات على هامش الأصل. وسارت الجماعةُ مسيرتَها تحت ضربات
القمع والمنع والحصار المستمر، تعيش حياةً تنظيمية استثنائية، بكل ما في الكلمة من
معنى، لغياب شروط العمل الطبيعي، في ظل الدولة المخزنية المستبدة الظالمة.
ورغم الظروف الاستثنائية التي أحاطت بالجماعة منذ ظهورها
في الساحة السياسية المغربية، فإنها ظلت متشبثة، حَرْفيّا ومِنْ غير أدنى مراجعةٍ
أو تعديل، بمرتكزات الاختيار السياسي الذي بسطه الأستاذُ عبد السلام ياسين في
منهاجه، والذي لا يرى من سبيل إلى الخلافة الثانية على منهاج النبوة إلا سبيلَ
القومة على أنظمة العض والجبر. وترجمةُ هذا الاختيار، في حالة المغرب، أن مستقبلنا
وانعتاقنا وحريتَنا لا تتحقق إلا بزوال النظام الملكي الوراثي الجبري، ومن ثَمّ
فإن عدمَ الاعتراف بالنظام، ورفضَ كل أشكال التعامل والتواصل معه بات اختيارا
استراتيجيا في عمل الجماعة، وإن كان هذا الاختيارُ في أصله، الذي تبلور في
السبعينيات من القرن الماضي، اجتهادا مظروفا بحوادث زمانه، وأحوال الناس في هذا
الزمان، وتطورات الصراعات الدولية، التي كانت تتحكم فيها الحربُ الباردة بين
المعسكرين العظيمين، الشرقيِّ بزعامة الاتحاد السوفييتي، والغربيِّ بزعامة
الولايات المتحدة الأمريكية.
وأنا أعتقد أن الذين يُصرّون اليوم، إما عن اجتهاد
واقتناع، وإما عن تقليد واتباع، أن الاختيارَ السياسيّ للجماعة، وإن كان في أصله
اجتهادا للأستاذ المرشد، هو اختيار من صميم الدين، ومِنْ ثَمَّ فهو اجتهاد قائم
على أسس إيمانية تربوية، لا يمكن التعامل معه تعاملَنا مع الاجتهادات الصادرة عن
العقل السياسي الخالص، المنقطع عن النبع الإيماني الرباني الديني-
أنا أعتقد أن الذين يُصرون على هذا الفهم، اقتناعا أو
اتّباعا، واهمون، بل مخطئون، لأنه لا أحد ادّعى أن المجتهدَ السياسي، وقتَ اجتهاده
وفي أثناء إعمالِ عقله، يكون منقطعا عن الدين، بل قلت وأكرر أن المجتهدَ المسلم في
القضايا السياسية الظنية-وليس عندنا هنا قطعيات دينية-لا بد أن يستحضر مقاصدَ
الإسلام الكبرى، وأن يرجّح المصالح المعتبرة في الشرع، وهو يجيل نظرَه، ويعمل
عقله، ويبسط رأيه، فإن أصاب كان له أجران، وإن أخطأ كان له أجر واحد.
إن السبب الجوهري وراءَ هذا الفهم الخاطئ، في اعتقادي،
هو أن الجماعة، ممثلةً في قيادة الصف الأول، تفرضُ التعامل مع فكر المرشد ورأيه
واجتهاده تعاملا غيرَ عادي، وتعتبر هذا الفكر والرأي والاجتهاد تجليا من تجليات
شخصية الرجل المربي الرباني، التي لا تقوّمُ بمعايير العقل والسياسة وحدها، وإنما
تقويمُها الحقيقيُّ يفرض، لزوما، عدمَ استبعاد المكانة المحورية لشخصية المرشد
الإرشادية التربوية.
طبعا، هذه المطابقةُ بين شخصيّة المرشد المربي وبين ما
صدرَ عنه من آراء وأفكار، لا نقرأها واضحةً في أدبيّات الجماعة المنشورة، لكنها
مفهومة ومحسوسة لمَنْ يُحسن قراءة ما بين السطور، ولمَنْ جرّب الحياة داخل
الجماعة، وعاش، ولو لبعض الوقت، أجواء مجالسها التربوية والتعليمية، وأجواءَ
لقاءاتها التأطيرية والتواصلية العامة.
إن استمرارَ الأصحاب، ومنهم أعضاءُ القيادة الحالية
للجماعة، في النظر إلى آراء المرشد السياسية على أنها مِنْ طينة ربّانية تختلف عن
الاجتهادات البشرية العادية، وأنها، لهذا السبب، مستعصية على التغيير والمراجعة
والتعديل، لأنها آراءٌ لا يؤثر فيها الزمان وما يجري فيه من تغيرات وتحولات
وتطورات، سيؤدي، لا محالة، إلى وضعٍ تصبح فيه الجماعة بلا مشروع سياسي حقيقي، وقد
تصبح بعيدة عن الواقع السياسي بكل تشعباته ومستجداته وتحدياته، وهو ما سيفرض
عليها، شيئا فشيئا، أن تتحول إلى "طريقة" من الطرق التربوية، بوسائل
عصرية، ليس لها في السياسة إلا ذكرياتُ الأيام الخالية، وإلا ما هو محفوظٌ في
كتابات المرشد من اجتهادات وآراء وأفكار، أراد لها صاحبُها، رحمه الله، أن تكون
مفتاحا للتجديد والتطوير والتنوير، فاستحالت، بفعل الجمود والتقليد والتكرار، إلى
صنمٍ مقدس مِغْلاَقٍ لكل عقل وإبداع.
المنهاجُ، كما تصوره مرشدُ الجماعة، وخطّط له ورسمَ
معالم تطبيقه، لم يُكْتبْ له أن يرى النور في شروط طبيعية، وظروف مواتية، كما كان
يتمنى المرشد. ومع الأيام، وفي ظل قمع مخزني دائم وشامل، تراكمت، بفعل الضرورة
وغريزة حبِّ البقاء، ممارساتٌ واجتهاداتٌ على هامش الأصل المنهاجي، امتازت بالرؤية
القصيرة والمعالجة المرتجلة للقضايا الآنية، وإن كان خطابُ الجماعة الرسمي لا يفتأ
يدّعي عكس هذا، بل ما يزال قياديو الجماعة يؤكدون في جميع المناسبات أن الجماعة
سائرة نحو أهدافها المسطرة بهدوء واطمئنان، تُطبّقُ برامجَها المرسومةَ في
مخططاتها، لا تؤثر فيها الأحداث الهادرة حولها، ولا تشوّشُ عليها الاستفزازات
المخزنية المتواصلة، ولا يَحْرِفُ قافلتَها عن وجهتِها المقصودة نُباحُ الكلاب
وعُواءُ الذئاب.
نعم، قد يكون عند الجماعة مخطّطَاتٌ، ومكاتبُ دراسة،
ومختبراتٌ للتحليل والتقويم والبرمجة، ومشروعاتٌ قيد الإنجاز قائمة على تصور
مستقبلي، وأطرٌ محترفة ومتمكنةٌ في كذا وكذا من العلوم والمعارف والتخصصات. لكن،
ماذا يفيد كلُّ هذا إن بقيَ سجينَ الأوراق ورفوفِ المحفوظات؟ ما الفائدة من طاقات
ومواهب وعبقريات فذة لا يُسمعُ عنها إلا في اللقاءات الخاصة المُغلقَة، والمجالس
التنظيمية "شبه سرية"؟ ما الفائدةُ من كنوز في الخطابات والأوراق، لا
يكاد يُعرف لها أثرٌ في حياة الناس، وفي حلِّ مشاكلِ الناس، وفي معالجةِ معاناة
الناس؟
وواضح أني هنا أتحدث عن الوجود الفعلي بين الناس، في شكل
مشاريع وبرامج ومخططات واقعية، لا عن حضور عددي، في هذه النقابة أو تلك، أو حشْدٍ
بشري كمّي في هذه المسيرة أو تلك.
(2)
كانت المحجةُ لاحبةً، ثُمّ بدأ الطريق في الانعراج
والانحدار والضيق، ثُمَّ الانشعاب إلى بُنيّات موحشة، بلا معالم ولا دليل ولا
أنيس.
مِنَ "المحجة اللاحبة" إلى بُنَيّاتِ
"ميثاق الفضول"الضيّقة، وسُحُب حركة "20فبراير" الخادعة العابرة، ثُمَّ الخروج إلى مأزق
سياسي لا تخطئه عينُ المراقب المهتم المتتبع. وفي كل مرة، حينما يُواجَهُ أحدُ
المسؤولين القياديين في الجماعة بسؤال صحافي حول الوضعية السياسية الحرجة للجماعة،
لا يكون الجواب إلا بالإنكار ومعانقة لغة الخَشَب، مع الأسف، في خطاب
"سِيزِيفِي" يبعث على الشفقة. الوصفُ "سيزيفي" من أسطورة "سِيزِيف"
المشهورة عن المعاناة والعبث الأبدي.
وإنْ سألتَ قيادةَ الجماعة، المُمَثَّلَةَ أساسا في مجلس
الإرشاد، جوابا واضحا شافيا عن أسئلة من قبيل:
ما هي خريطتُكم السياسيّةُ بعد خروجكم من حركة 20فبراير؟
ومَنْ هُمْ الآن حلفاؤكم، بالأسماء والأرقام، من الفضلاء
المدعوين لغد "الميثاق الجامع" الذي ما زلتم تنادون به؟
هل عندكم تصور واضح عن الطريق السياسي العملي لتغيير
موازين القوى لصالح القوى المناهضة لدولة الاستبداد والفساد؟
هل قمتم، من جانبكم، بمبادرات فعلية، ولو جنينية،
للتقارب والتواصل مع قوى اليسار، الذين يُعتبرون شركاءكم الحقيقيين في معارضة
النظام المخزني، ورفضِ الانصياع لدولته اللاديمقراطية، والذين يُتَوقّع أن يشكلوا
طرفا ذا وزن في الميثاق الذي تدعون إليه؟
هل من تواصل سياسي، كيفما كان، بينكم وبين القوى
السياسية المشاركة في اللعبة المخزنية؟
هل من تنسيق بينكم وبين غيركم من فصائل الإسلاميين في
الساحة، وخاصة وأن هؤلاء هم أقرب الناس إليكم، وأقرب أن يكونوا أول المستجيبين لدعوة
"الميثاق"؟
هذه أمثلةٌ من أسئلة يمكن التعرّف من خلال الأجوبة عنها
على مستوى النشاط السياسي الحقيقي، وليس الوهمي، للجماعة، وكذلك حجم حضورها
وتأثيرها فيما يخص العلاقات العامة، والعلاقات التواصلية مع مختلف مكونات المجتمع
السياسي.
وأنا لا أتردد في الجزم بأن أجوبةَ الجماعة على الأسئلة
المطروحة ستكشف عن وجود سياسيٍّ للجماعة يمتاز بالهامشية والانعزالية وتضخّم الأنا
وانعدام العلاقاتِ التواصلية العادية مع الهيئات السياسية النشيطة في الساحة.
الذي يتحدثُ عن "ميثاق جامع" في المستقبل، لا
بد أن يهيّئَ أسبابَه ومقدماتِه في الحاضر، وهذا ما لا نرى له أثرا في الواقع.
الذي يتحدث عن ضرورة العمل من أجل تغيير موازين القوى
لصالح القوى المعارضة للدولة المخزنية، يتوجب عليه أن يتخذ للأمر عُدّته، وأن يمهد
بنسجِ علاقات سياسية طبيعية، ثُمّ تحالفات، مؤقتة أو استراتيجية، وفق خطط وبرامجَ مدروسة، ومطالبَ
وأهدافٍ واضحة. فأين الجماعةُ من كل هذه التمهيدات الضرورية؟
الذي ما يزال متشبثا بخيار "القومة"، كما هو
مبسوط في اجتهاد الأستاذ المرشد، رحمه الله، في المنهاج، عليه أن يُثبت، في الواقع
المحسوس، وفي الحياة السياسية الحقيقية، وليس الافتراضية، أنّ هذا الخيارَ ما يزال
ممكنا وقابلا للتطبيق، وأنّ الإعدادَ له سائر في الطريق المرسوم، وأنّ تعاطف
الجماهير المسلمة وتجاوبَها معه يزداد ويتسع ويترسخ يوما بعد يوم، وهذا ما يشهدُ
بضده الواقع المعيش، ويكذّبه الوضعُ الاستثنائيّ الاستنزافيّ الذي بات بلا نهاية،
وكأنه الوضعُ الطبيعي للجماعة، والذي يُكلّف الجماعةَ، وخاصة في القواعد، الكثيرَ،
فلا تكاد تتخلص من مُشكل، حتى تجد نفسها حاصلةً في مشكل آخر، وهكذا في دوّامة من
المشاكل والشواغل الهامشية، التي تستنزف الجهود، وتكلف الناسَ فوق ما يطيقون. ويا
ليت هذه الجهودَ والتكاليفَ الباهضة كانت من أجل أهداف واضحة، وثمار تستحق ما
يُلاقَى في سبيلها من عناء وبلاء ومشقة.
الجهودُ والطاقاتُ تُستنزَف وفقَ سياسة ماكرة مدروسة
جرّب النظامُ المخزني أنها سياسة ناجحة، وأن لها آثارا فعّالة على المديَيْن
القصير والطويل، حيث تظهر الجماعةُ غارقةً في الهامِشِيَّات التي تُجَرّ إليها
جرّا. ثم ماذا بعد هذه "الاشتباكات" و"المناوشات" المتكررة بين
الدولة والجماعة، هنا أو هناك؟ يمر يومٌ أو يومان، ثم يُطوى الحدثُ ويصير من
العاديات المَنسيَّات على هامش الحياة السياسية، التي يُنشّطها المَخزنُ ومنْ يدور
في فلك نظامه من سياسيِّين وإعلاميِّين واقتصاديِّين ومفكِّرِين وفنانِين وغيرهِم
من أرباب الفكر والقلم والمال والأعمال.
أنا أزعم أنه لو كان للجماعة خارطة سياسيةٌ حقيقيةٌ تُناسب
واقعَنا السياسي، ومقاصدُ واضحةٌ في مضامينها ومعالمها، لَمَا انشغَلَتْ بهذه
الهوامش، التي تستنزف الجهدَ بلا طائل، وتعرقل السيرَ، وتشتّت البال، ولمَا كان
عندها وقت تضيّعه في حوادث طارئة على الطريق.
الحدثُ السياسيُّ اليومَ، شئنا أم أبينا، يصنعه الذين
خرجوا فائزين من امتحان الربيع العربي المغربي، في مقدمتهم النظامُ المخزني،
يتبعُه حلفاؤه وصنائعُه وتوابعُه. والأخبارُ السياسيّةُ اليومَ، إن كنا واقعيين
وموضوعيِّين ومنصفِين، تدور حول تجربة حزب العدالة والتنمية في حكومة النظام
المخزني، وهي تجربة ما تزال الأضواءُ مسلَّطَةً عليها من كل جانب، من جانب الخصوم،
ومن جانب المحللين، ومن جانب الخبراء والمهتمين من القوى الخارجية.
هذه التجربة/الفلتة
تستحق، سياسيا، أن تكون موضوعا شاغلا للرأي العام السياسي، وشاغلا للإعلاميين
وأقلام الصحفيين، وشاغلا للاقتصاديين، في الداخل والخارج. ولا يكفي هنا أن نقول إن
الحكومة في النظام المخزني لا حول ولا قوة لها، وأن الفاعل الحقيقي في الدولة هو
الملك وما يتبع له من مؤسسات ومستشارين، وما يتمتع به من صلاحيات وسلطات، تجعله
فوق المؤسسات وخارج المتابعة والمحاسبة؛ لا يكفي الهروب بترديد هذه الحجة كلما
تعلق الأمر بالنظر في أمر الحكومة، أو أمر البرلمان، أو غيرهما من مؤسسات الدولة،
المنتخبة وغير المنتخبة.
نعم، ما يزال للنظام المخزني، بروحه الملكيّة المستبدّة،
اليدُ الطولى في شؤون الدولة، لكن الوضعَ اليوم هو غيره قبل ثلاثين سنة، مثلا، بل
هناك أمور لا بد أن يأخذها السياسي الواقعي بعين الاعتبار، منها، على سبيل المثال،
أن الساحة لم تعد موسومة بذلك الاختناق
الذي كان يميزها قبل زمان الربيع العربي، وإن كنا ما نزال بعيدين عن تحقيق الحلم
الديمقراطي المنشود.
السياسيّ المسؤول هو من يشمّر ويخوض في المخاضة من أجل
أن يساعدَ على إيجاد أوضاع وأسباب وظروف وشروطٍ تساعد على جعل موازين القوى تميل لصالح الحريات
والديمقراطية الحقيقية ودولة المؤسسات المستقلة المسؤولة، لا أن يعتصم بالرفض
المطلق، ويجلسَ في قاعة انتظار قد لا ينتهي.
ليس من السياسة الحاضِرة الفاعِلة الشاهِدة المؤثِّرة أن
نرفض كل شيء، وأن نقول: لا شيء تغيّر، فلنرجعْ إلى مراقدِنا وأبراجنا،
ولْنَسْتَغْشِ ثيابَنا، ولْنَنْنَظِرِ وقوعَ المُعجِزة!
وقد أشرت في المقالة السابقة التي عبرت فيها عن رأيي في
الوضعية التي عليها جماعة العدل والإحسان اليوم، بعد سنة من وفاة مرشدها(http://majdoubabdelali.blogspot.com/2013/12/blog-post.html)،
أن الحديث عن ممارسة السياسة من خارج المؤسسات، وفي دولة
كالمغرب، هو حديث عن الأحلام والأوهام، إن لم يكن حديثا عن العبث واللامعقول. وإذا
أضفنا إلى هذا ما تمتاز به مواقف المعارضة، في غالبيتها، أو على الأقل في جزء
معتبر منها، من تشددٍ وتطرف في المطالب والمواقف، ومن سفسطةٍ وصراخ وتخليط وتهويش
ومبالغةٍ ومغالطة في نقد الحكومة وتقويم أنشطتها وتحركاتها وسياساتها وقراراتها،
عرفنا السببَ وراء هذا المشهد المضطرب المختلط الغامض المحتقن، الذي يلخص أزمتنا
السياسية، والذي يمكن أن يؤديَ، لا قدر الله، إلى انفجار غير متحكم فيه، قد يأتي
على الأخضر واليابس، إن لم يتدارك العقلاءُ الوضعَ، ويحاولوا نزعَ الفتائل،
والرجوعَ بالأمور إلى نصابها، حتى ينقشعَ هذا الضبابُ الكثيفُ الذي يُخيّم على
الآفاق، فتتضحَ الرؤيةُ، وتزولَ أسبابُ هذا الاحتقان السياسي والاجتماعي، وترتقيَ
العلاقاتُ بين مختلف الفاعلين السياسيين، في مقدمتهم النظامُ المخزني الفاعلُ
الرئيسُ، إلى مستوى إيجابي معقول، تُقدَّمُ فيه المصالحُ العامة على المصالح
الخاصة، وتحترمُ إرادةُ الشعب وسيادتُه وكرامتُه، ويُطبق القانون على الجميع بلا
تمييز، وتصانُ الحرياتُ والحقوقُ، وتسودُ قواعدُ التنافس النزيه، والنقد الباني،
والتداول الحقيقي.
لنتكلّمْ بطلاقة وصراحة ومسؤولية
إن عُقْدة العُقد في المنهاج السياسي لجماعة العدل
والإحسان هو الموقفُ من النظام الملكي الحاكم في المغرب منذ قرون.
في اجتهاد مرشدِ الجماعة، رحمه الله، كانت المحجةُ لاحبةً،
وهي محجة تسير في خط مستقيم متصاعد ينتهي بالزحف على النظام الجبري، لينطلق السيرُ
نحو بناء دولة الخلافة الثانية على منهاج النبوة.
كانت المحجة لاحبةً في تصوّرٍ نظريٍّ دوّنَه الأستاذُ
المرشد في كتاب "المنهاج النبوي"، اجتهادا منه لزمانه، الذي امتاز
بظروفه ورجاله وأحوال مجتمعاته وصراعاته، الإقليمية والدولية، وغيرها من المميزات
والخصوصيات.
فأين هي الجماعة اليوم، في إطار الاستعداد والإعداد،
عمليا وواقعيا وتنفيذيا، للقومة التي تصوَّرها
المرشد، رحمه الله، في كتاب المنهاج؟
كلنّا مع سقوط دولة الاستبداد والاستعباد. كلّنا مع سقوط
دولة العض والجبر وما في حكمها من الدول القائمة على الديكتاتورية والفساد.
لكن السؤال الذي ينبغي أن نطرحه دائما هو: كيف نسير إلى
الهدف المرسوم، ونمهدُ الطريقَ إلى الخلافة الموعودة؟
ما هي خارطة طريقنا السياسية اليوم، بعد أن لم يعد
الطريقُ الذي رسمه الأستاذُ المرشد في المنهاج سالكا؟
ما هي خططُنا(أ، ب، ج، د...) لمناهضة الاستبداد، وبناء
العامل الذاتي، وتكوين الموجة العارمة، بطلائعها وجنودها وجمهورها وأنصارها،
لإسقاط الاستبداد؟
أربعون سنة، تقريبا، مرت بعد ظهور البيان الأول لجماعة
العدل والإحسان، الذي جسدته رسالة "الإسلام أو الطوفان"، فماذا تحقق من
مشروع القومة على الأرض السياسية، بالأرقام والمعطيات والممارسة في الواقع؟
سبيلُ إسقاطِ الاستبداد لا يخرج عن واحد من ثلاثة، وقد
ذكر هذا مرشدُ الجماعة، رحمه الله، في أكثر من موضع في كتاباته: إما مِن طريق
الانقلاب، وإما من طريق الثورة/القومة على شاكلة زلزال الثورة الإيرانية، بتعبير
المرشد، وإما من طريق الانتخابات.
أمّا طريق الانقلاب العسكري، فقد بات اختيارا مكروها
ومرفوضا ومدانا، وإن كان ما يزال له عشاقه ومؤيدوه في بلاد المسلمين، والانقلابُ
العسكري الذي حدث في مصر العربية الإسلامية يوم 3 يوليوز2013 خير شاهد في هذا
الباب.
أمّا الثورة الشعبية العارمة الكاسحة، فطريقُها هو الآخر
لا يظهر أنه سالك، وعواصفُ الربيع العربي التي مرت في المغرب قد أكدت أن الشعب
المغربي، فضلا عن أحزابه ونخبه وأحزابه وجماعاته الثورية المعارضة للدولة
المخزنية، ما يزال أمامه طريق طويل قبل أن يبلغ النضجَ السياسيَّ الثوري المطلوب.
وهذه الحقيقة الحارقة التي يشهد بها الواقع يرفضها السياسيّون الديماغوجيون
السوقيّون (الشعبويون).
أما طريق الانتخابات، وهو من السبل التي لم يستبعدها
الأستاذ ياسين في اجتهاده السياسي، بل جعلها من الوسائل التي يمكن بها الوصول إلى
السلطة ومن ثَمَّ الانقضاض على دولة الجبر، فقد بات اليوم، عند الجماعة، طريقا
مرفوضا؛ فقيادةُ الجماعة التي بيدها زمام الحلّ والعقْد، ترفض كلَّ أشكال التعامل
السياسي مع الدولة القائمة، بنظامها ودستورها وحكومتها وسائر مؤسساتها. الرفض، ثُم
الرفضُ، ثُم الرفض، ثُم تزعم الجماعةُ أنها في قلب العمل السياسي!
فأي ممارسة سياسية هاته التي تكون مع الرفض المطلق؟
وأي ممارسة سياسية هاته التي تكون بلا خارطة طريق؟
نعم، المسلمون جميعا يؤمنون بأن الله، تعالى، قادرٌ أن
يجعل عاليَها سافلها في عشية أو ضحاها، وقادر، جل جلاله، أن يخلق الحي من الميت،
كما خلق الشرارة الأولى لثورات الربيع العربي في تونس الخضراء، التي لم يكن أحد
يتوقع أن يكون منها ما كان. لكن هذا الإيمان شيء، والعمل السياسي الذي نحن بصدد
الحديث عنه شيء آخر. فنحن في واقع يفرض على السياسيِّين التشميرَ، والاجتهاد،
وتقديمَ مشاريع وتصوراتٍ وخارطةَ طريق واضحة المعالم، يعرف الناس فيها مبدأ الأمر
من منتهاه.
الإيمانُ بوعد الخلافة الثانية على منهاج النبوة شيءٌ،
والسيرُ إلى هذا الوعد في منعرجات السياسة، وخُدعها، وعويصاتها، وضروراتها، وممكناتها،
وإكراهاتها، وألاعيبها، وتحالفاتها، وظنونها، ومجاهلها، وضلالاتها، شيء آخر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.