السبت، 13 أكتوبر 2018

أدبٌ عربيّ أم أدبٌ إسلاميّ؟


بسم الله الرحمن الرحيم


أدبٌ عربيّ أم أدبٌ إسلاميّ؟

أجدّد الاتصال بالقراء الأعزاء، بعد غيْبة طالت بعض الشيء، وأسأل الله، العليّ القدير، سبحانه، أن ييسّر لنا من الأسباب ما يجعل من تواصلنا هذا تواصلا مثمرا بناء، ونافعا ممتعا؛ فإن من اللقاءات بين الناس ما لا يكون منها إلا اللغو والقيل والقال، لتزجية الفراغ، وإشباع فضول نفساني ما يزال يكبر ويتسع بمقدار السرعة التي تسير بها التطورات التكنولوجية، وخاصة في مجال الإعلام، في وجهه الإلكتروني الجبار، الذي بات له من القوة ووسائل الجذب والإغراء والتخدير ما يجعل منه اليوم، وخاصة في أوساط الشباب الناشئ، السلطةَ الأولى في توجيه الأفكار والأذواق والسلوكات، وتشكيلِ الاقتناعات والمعتقدات، وتقييدِ الأفهام والإرادات، وزرعِ أسبابِ كثيرٍ من العلل والانحرافات والعاهات، التي لا تفتأ تنتشر في مجتمعاتنا العربية الإسلامية وتستفحل وتُزمِن.
نسأل الله، تعالى، أن يقيَنا شرورَ هذا العالم الافتراضي الرقمي، الآخذِ في التمدّد والتمكن والتغلغل، في النفوس والقلوب والعقول والعواطف والأفكار وسائر أشكال الوعي والشعور والفهم، مُولّدا عبر شبكاته العنكبوتية ومواقعه التواصلية ما لا يُحصى من صور الجهل والبؤس والانحطاط، وذلك عبر إخراج ونشر أسوأِ ما في الإنسان وأقبحِه وأخسّه وأحطّه.
لا شك أن للعالم الافتراضي، ولمواقع التواصل الاجتماعي إيجابياتٍ وفوائدَ، لكن أين نحن منها؟ ماذا حصّل شبابُنا من هذه الفوائد، وماذا نال من تلك الإيجابيات؟ أتركُ لكم أن تجيبوا بالجواب الذي ترتاحون إليه ويعكس اقتناعاتكم بناءً على معايشاتكم وملاحظاتكم وتسجيلاتكم الواقعية اليومية.
نسأل الله، تعالى، أن ييسّر لنا ما في هذه الثورة الإعلامية التكنولوجية الجائحة الكاسحة من خيور وحسنات وطيبات، وأن يجنّبنا ما فيها من شرور وسيئات وخبائث، آمين.
وبعد، فإنني، في هذه الأيام، بصدد الانتهاء من إخراج كتاب جديد بعنوانٍ استفهامي/إشكاليّ/جدليّ: (أدبٌ عربيّ أم أدبٌ إسلاميّ؟).
وموضوع الأدب الإسلامي يقع في دائرة أوسع عنوانها (الدين والفن)، وما يزال أهل الفكر والفلسفة والأدب والفن، في كل العصور، ومن مختلف المعتقدات والمشارب والتوجهات، يتكلمون ويجتهدون ويدلون بآرائهم وما يؤديهم إليه نظرُهم في شأن علاقة الدين بالفن.
إذاً، سيظل هذا الموضوع مجالا للنقاش والجدال والاختلاف وتعدد الرأي وتباين المقالات والاجتهادات، ما دام هناك اختلاف في المعتقدات والتصورات والاقتناعات والمشارب والأذواق. أذكّر بهذه الحقيقة الوجودية التي تصبّحنا وتمسّينا، لا تفارقنا ولا نفارقها، في حياتنا، لأؤكد اليأسَ من وجود رأي أو موقف واحد، أو حقيقة متفق عليها في شأن صلة الدين بالإنسان والحياة عموما، في كل مجالاتها وما تمتاز به هذه المجالات ويتفاعل داخلها من اقتناعات ونظريات ومواقف ومناشط وسلوكات، وفي شأن صلة الدين بمجال الفنون والآداب بصفة خاصة.
لقد وصل التطرف بالحداثيّين اللادينيّين إلى حد إطلاق أحكامٍ فاضحة ظالمة لا تقوم على أي سند من علم أو نصوص أو رواية موثقة وأخبار صحيحة معتبرة، إلا الرجم بالغيب، والاتباع الإيديولوجي الأعمى، كالحكم بأن جميع كبار الشعراء في العربية كانوا ملحدين، وأن الدين لا يمكن أن يصدر منه فن بديع، وأن الشعر كان دائما معاديا للدين، وأن الإسلام والشعر ضدان لا يجتمعان، وغيرها مما أعتبره عدوانا حداثيا على الحقيقة والتاريخ والأدب والنقد، فضلا عن الجراءة على الحكم على مغيّبات القلوب، مما لا يعلمه إلا علام الغيوب، سبحانه، ونسبةِ شعراء إلى الإلحاد، وشعرُهم يشهد، بالعبارة الصريحة، أنهم كانوا مسلمين، والله أعلم بما ماتوا عليه من نية واعتقاد، وبما سيكون مصيرهم يوم الحساب.
أذكّر بهذا، وأخصص الحداثيّين اللادينيّين المتطرفين بالكلام، لأن موضوع الفن والدين عموما، والأدب والإسلام خصوصا، سيظل، في اعتقادي، موضوعا للتشاكس والتضارب بين طرفين ليس بينهما إلا التناقض والتدابر والتنافر، طرف حداثي يستند إلى أطروحات حداثية متطرفة، ليس عندها إزاء الدين-والإسلام بالتحديد-إلا الرفض والاتهام والإدانة، وطرف ثان إسلامي متشدد "متزمت" يستند، في الغالب، إلى اجتهادات تغلب عليها السمة الفقهية، تحولت بفعل التوظيف (الدعوي) فأصبحت وكأنها من كليات الدين وأصوله وقطعياته، وما هي كذلك. وإذا كان "الأصل في الأشياء الإباحة"، كما تقول القاعدة الفقهية، فإن موضوع الأدب، وهو من الموضوعات المرتبطة بالتربية والتعليم والذوق والثقافة، فضلا عن الموهبة والعطاء الجبلّي، يفرض تعاطيا يمتاز بقدر كبير من المرونة وحسن الظن، ما لم يكن هناك من المخالفات والانحرافات والتجاوزات ما يستدعي الموقف الحازم الحاسم، والحكم الواضح الذي لا تشوبه شائبة من تردد أو تخاذل أو تعاطف.
فمثلا، من الحداثيّين اللادينيّين المتطرّفين ملحدون مناضلون، أي ملحدون لا يكتفون بإلحادهم لأنفسهم، بل يجتهدون ويسعون، ما وسعهم الاجتهاد والسعي، لا يَكِلّون ولا يَمَلّون، من أجل محاربة الإسلام بما يقولون ويفعلون، وبما يروّجون ويختلقون ويزوّرون، وبما يكتبون وينشرون؛ فهمّهم ألاّ يكون في الناس مسلمون إلا على مقاس "دينهم" الحداثي، وعلى هواهم، فيما يرون وفيما يعتقدون. همّهم أن يكون في الناس مسلمون بلا إسلام، بما يدعون إليه من حريات فردية لا حدود لها، وبما يدافعون عنه مما يزعمون أنه مرجعيةٌ كونية للقيم وحقوق الإنسان-وما ثَمّة مرجعيةٌ كونية، وإنما هي مرجعيةُ الحضارة القوية الغالبة المسيطرة، ولكنهم يتجاهلون.
هذا الصنف من الحداثيّين، في اعتقادي، حيثما كانوا ومهما فعلوا، لا يمكن أن يأتيَ منهم خير للناس، لأنهم، في تقديري، يمثلون-بحربهم الظالمة القذرة على الإسلام، وبما يفرضون من وصاية فِجّة ووقِحة على الضمائر والمعتقدات والأذواق والسلوكات، وبما يحملون من آراء وأفهام وتصورات-يمثلون واحدةً من أبشع المصائب التي ابتُلي بها المسلمون في العصر الحديث إلى جانب مصائب أنظمة الحكم الجبريّ الطاغوتي.
الأصل عندنا في الإسلام أن (لا إكراه في الدين، قد تبيّن الرشد من الغي)[من الآية256 من سورة البقرة]؛ فالإنسان حر فيما يعتقده ويختاره، وهو مسؤول عن هذا الاختيار. وليس هناك مِن مُوجِب من الدين لإكراه الناس حتى يكونوا مسلمين، أو للضغط عليهم لإجبارهم، بهذه الوسيلة أو تلك، على اختيار ما يكرهون، وقبول ما يرفضون. هذا هو الأصل المتأصل في الإسلام.
أما الحداثيّون المتطرفون، فلا يرون إلا "دينَهم" الحداثيَّ "دينا" يستحق أن يعتنقه الناس ويعتقدوه. حتى اللائكية التي تفرض، في أصلها وعند أصحابها الأقحاح، فصلَ الدين عن الدولة، مع حفظ حقوق الناس واحترام حرياتهم فيما يعتقدون، وفيما يختارون، لم تسلمْ من تشويهات اللادينيّين المتطرفين، وتأويلاتهم المحرِّفة المتطرفة، التي حوّلت الأصل اللائكي(العلماني) "المتسامح" مع مختلف العقائد والأديان، إلى أصل يكرّس مذهبيةً لادينيّة عدوانية، ترى الدينَ عدوا يجب محاربتُه واستئصاله.
فالحداثيّة، في موطنها الأصلي، ما تزال متسامحة مع الدين، وإن عارضته أو اختلفت معه، فلا يعني ذلك أن تعاديَه إلى درجة السعي إلى تجفيف منابعه والعمل من أجل محو أثره في حياة الناس، كما يسعى الحداثيون اللادينيون المتطرفون عندنا، ويتمنّون، ويحلُمون، وهيهات هيهات.
ومهما جحد الجاحدون وأنكر المنكرون، فإن الدين سيظل في حياة الناس، وفي قلوبهم، وفي أخلاقهم وسلوكاتهم. هذا ثابت في إيماننا نحن المسلمين، وثابت في الدنيا بشهادة تاريخ الأمم والحضارات، وبشهادة آثار الأولين والآخرين، وبشهادة الإنسان منذ كان للإنسان وجود فوق الأرض.
الدين حقيقة في حياة الإنسان، آمن به منْ آمن، وجحد به من جحد. والأدب ما هو إلا تجلٍّ من تجليات نشاطات الإنسان في هذه الحياة، ومن ثَمّ، فطبيعيٌّ أن تكون هناك علاقة نَسَب بين الدين والأدب، إما لمضمون هذا الأدب، أو لمعتقد الأديب، أو لبلده، أو لغير هؤلاء من أسباب النسب والانتماء، على أن يكون الحكم في أدبيّة الأدب راجعا لمعايير الفن وقواعد الصنعة التي تعارفها الأدباء، وثبّتَتها عهودٌ طويلة من التجربة والمراس.
فهل يمكننا، مثلا، أن ننكر علاقة النسب بين الإسلام وشعر المدائح النبوية؟ أليست هذه المدائح، بغرضها، من الأدب الإسلامي؟ والأدب الصوفي، شعرا ونثرا، أليس هو الآخر معدودا في الأدب الإسلامي؟ أليس موضوع المناجاة والابتهالات والضراعة والتوسل في الشعر من الأدب الإسلامي؟
في هذه الأمثلة(المديح النبوي، التصوف، التوسل والمناجاة) يصعب إنكار ما للغرض والمضمون في إثبات علاقة النسب بين الأدب والدين، إلا أننا مع ثبوت هذا النسب، لا نحكم بأن هذا الأدب، لتناوله لهذه الأغراض والموضوعات، هو جيّدٌ فنيا وبديعٌ بمقاييس الإبداع الأدبي.
فإنكار النسبة بين الدين والأدب مطلقا، كما يفعل الحداثيون اللادينيون المتطرفون، هو إنكار لواقع في الحس والشعور، لأن من حق أي عمل أدبي أن يكون له انتماء وصفة ونسب يميزه من غيره من الآداب خارج نطاق مقاييس الفن والإبداع. يكون انتساب الأدب إلى الدين بما هو دين، لا بما هو معيار فني للنقد الأدبي. وقد قرأنا في مقالات نقادنا القدماء تمييزا واضحا بين الدين وبين الإبداع، ورأيناهم يحكمون للشاعر بالشاعرية والبراعة في الإبداع من غير اعتبار لمعتقده، لأنهم كانوا واعين بأن الأمرين، أي الدينَ والأدبَ، كما عبّر القاضي الجرجاني، "متباينان، والدين بمعزل عن الشعر"[الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص64].
هذا من جهة اللادينيين المتطرفين. أما من جهة أنصار الأدب الإسلامي، فرغم وعيهم بأهمية النظم والتصوير والتشكيل في العمل الأدبي، وأن الإبداع والجمال لا يكفي فيه المضمون المنبثق من "التصور الإسلامي"، كما لا يكفي أن يكون الغرضُ في مدح الإسلام وما يتعلق به من معتقدات وشرائع ومواعظ وأخلاق وغيرها من الموضوعات، فإن قضية الإبداع وصناعة الجمال ما تزال تشكل تحديا أمام الأدب الإسلامي الحديث، ليس على مستوى الكلام والتنظير والتمني-فهناك منتوج نظري كثير ومتنوع على هذا المستوى-ولكن على مستوى العمل والإنشاء. وهذا التحدي كان، وما يزال، من المداخل الواسعة التي تُسّهل على معارضي الأدب الإسلامي-من المعتدلين المقبولين في نقاشهم وحوارهم ونقدهم-مهمةَ النقد السلبي، والاتجاه في تقويمهم نحو التضعيف والتحفظ والتجريح والرفض.
ولا بد أن أذكّر هنا بحقيقة يغفل عنها كثير من الناس، وهي أن التحديَ الفنيّ الإبداعيّ لا يخص الأدبَ الإسلامي، وإنما هو تحدٍّ يعمّ الأدب الحديث كلَّه، وخاصة في صورته الحداثية المتطرفة، التي أسقطت الحدودَ بين الأجناس الأدبية، وأبعدت المضامين أن يكون لها شأن في قيمة الإبداع، بل وفرضت الغموضَ واللامعنى واللعبَ بالعبارات مطلبا مِن مطالب الأدب الحديث.
فإن كانت قضية الإبداع تشمل الأدبَ الحديث بكل مدارسه ومشاربه وتياراته، فإنها، في تقديري، قضيةٌ تظهر بشكل أعمق وأخطر في الأدب الحداثيّ، وخاصة في وجهه العبثيّ المتطرف.
الأدب الإسلاميّ، في أسوأ التقديرات، أدبٌ يعبر عن مضمون وغرض ومعنى. أما أن يكون هناك أدب-مهما كان نسبُه وصفته وانتماؤه-بلا مضمون، وبلا رسالة، وبلا معنى، وفي بعض الأحيان، بلغةٍ وعبارة تعاني من السقم والركاكة والابتذال، فذلك، في رأيي، هو "موت الأدب" بعينه. وأيهما أولى أن يُهتمّ به أولا، أدبٌ يعاني من قلة الإبداع ومن ضعفٍ في الصنعة الفنية الجمالية، أو "أدب" يُحتضر، لم يبق له من الأدب إلا الاسم، لا يني أصحابُه و"عرّابوه"-بما يجرّبون ويخرّبون، وبما يُحدثون ويُخربِقون-يقتربون به من موت محقق؟!! في اللغة: خَرْبَقَ العملَ إذا أفسَده.
إني تعمّدت أن أركز في هذه السطور على الحداثيّين اللادينيّين المتطرفين، وما يَرضَوْن عنه من أدب حداثيّ، لا يفتأ يجرّ الفنَّ وصناعةَ الجمال إلى حافة العبث واللامعقول، بل إلى حضيض اللامعنى واللاتواصل واللاهدف، إلا هدف المخالفةِ والتشويش والتأزيم والتخليط-لقد تعمدت التركيزَ على هؤلاء، لأنبه إلى خطرهم الداهم الماحق، اليوم وغدا، على النشاط الإنساني عموما، وفي مجال الآداب والفنون بوجه خاص، لأن العبث والفوضى والعنف والتطرف واللامسؤولية، في الفكر والخطاب والسلوك على السواء، لا يمكن أن تجني منها الإنسانية نفعا، ولا بناء، ولا تقدما، ولا إصلاحا. في جملة، اللادينية المتطرفة العمياء، وفي ركابها الإلحاد المناضل، ليس وراءها للبشرية إلا البوار.
نعم، الأدب الإسلامي اليوم يطرح عدة قضايا تحتاج إلى حوار ونقاش ومعالجة أدبية نقدية صريحة ومعمقة، تعتمد التصورَ الإسلاميّ في مبادئه وأصوله وكلياته، وتنأى عن أي وصاية دينية متزمتة، وعن أي اجتهاد فقهيّ "جاف" في موضوع قوامُه الفنُ والجمال والإبداع.
وقد صدرت لأنصار الأدب الإسلامي كتاباتٌ كثيرة في مختلف القضايا التي تتعلق بإسلامية الأدب. وما يزال الكتاب الإسلاميون يطرحون للنقاش، ومن زوايا متعددة، ووجهات نظر متباينة، مسائلَ جدلية، كمسألة الالتزام، ومسألة إسلامية الأديب، ومسألة المضمون والشكل، ومسألة التقريرية والتعبير المباشر، ومسألة الأخلاق. المهم أن هناك حيوية وتفاعلا ونقاشا، واختلافا محمودا، ونقدا بناء، وبحثا مستمرا. وفي اعتقادي، لا خشية مما يجرى على الطبيعة، حيّا متفاعلا متجاوبا متدافعا، وإنما الخشية كلُّ الخشيةِ من العدميّة والجحود والتقوقع والاعتصام بشواهق العبث والفوضى واللامسؤولية.
وبعد، فإني، في نهاية هذه الكلمة، أريد أن أنبّه، باختصار، إلى بعض الأمور:
الأمر الأولُ هو أنه قد يغلب على ظن كثير من الناس-وقد يكون منهم باحثون متخصصون-أن أدب الفُحش والمجون، عند القدماء-شعر أبي نواس وأمثاله مثلا-كان يعرف انتشارا واسعا بين الناس، وكانوا يقبلون عليه بغير تحفظ، ولم يكن هذا الأدبُ يجد من الدولة/السلطان، في الأغلب الأعم، إلا التسامح والصدر الرحب!
وهذا الظن الغالبُ على بعض الناس ليس صحيحا، لأن وسائل النشر والتوزيع قديما كانت تعتمد، أساسا، على النسْخ اليدوي-وهو عملٌ كان حاسما في مهنة الوِراقة-وهذه وسيلة لم تكن "شعبية"، أي لم تكن متيسرة للعموم بالشكل الذي يتصوره بعضُ الناس، لا ماديا ولا علميا، ومن ثَمّ، فإن نَسْخ دواوين الشعر الماجن الفاحش لم تكن بالكثرة التي نتوهمها، حتى نحكم بأن شعرَ أصحابها كان عليه إقبالٌ وسط الناس؛ فالنُّسَخ القليلة المعدودة التي كان يوفرها النسّاخون من هذا النوع من الأدب، كانت، في الغالب، تكون بطلب هذا أو ذاك من المهتمين الميسورين، ولهذا، يمكن أن نفهمَ أن تداولَ هذه النُّسخ القليلة كان يتم في دوائر جد ضيقة، بعيدا عن عين الرقابة العامة، وخاصة عين العلماء والفقهاء وأهل الفتوى، الذين كانوا يمثلون، بحق، الرأيَ العام، ويعبرون عن ضمير الأمة الإسلامية.
إذاً، النشر والتوزيع، أي النَّسْخُ والتداولُ، كان محصورا في نخب من المثقفين وأهل المال والسلطان، وهي نخب، مهما بلغت سلطتُها من القوة، لم تكن قطعا تمثل الجماهيرَ المسلمة، حتى نحكم بأن نشر أدبِ الفحش والخلاعة وتوزيعَه، قديما، كان شعبيا. وعلى هذا، يمكننا أن نرجّح-إن لم نجزمْ-أن تداول الأدب الفاحش كان نخبويا، وكان مستهلكوه، في غالبيتهم، من الطبقات الميسورة وممن كان يدور في فلك هذه الطبقات من أهل الفكر والأدب والفن.
الأمر الثاني هو أن الأدب، بطبيعته، عمل منبثق، أساسا، من العاطفة والوجدان، ومما يكون قد ترسّخ في هذا الوجدان من اقتناعات، وفي تلك العاطفة من مشاعر. وعملٌ بهذه الصفة لا يجدي معه القمعُ والمنع والوصاية والإكراه إن كان، لسبب من الأسباب، عملا مكروها وغيرَ مرضيٍّ عنه.
فالأدب، بما هو إبداع، أي بما هو موهبة وحاجة نفسانية داخلية لا تفتأ تسعى للإشباع والتحقق-الأدبُ بهذه الصفة الجوهرية، قوة متفجرة دافعة، كالسيل العَرِم، لا يمكن حبسها ومنعها من الخروج والظهور، مهما تكن الموانع. فالشاعر شاعر، يعبر عن عواطفه ومشاعره وبواطن نفسه، سواء أكان على دين وخُلُق أم لم يكن، وسواء أكانت هناك قوامع وموانع وزواجر أم لم تكن. وتقويمُ عمله إنما يكون بمقدار حظه من الإبداع والعطاء الفني الجميل. وهذا المقدارُ يختلف الناس في وزنه ومعرفة قدره، تبعا لاختلاف تذوقهم، وتباين تصوراتهم ومعتقداتهم وثقافتهم، وتفاوت طبقاتهم ومستوياتهم فيما يتعلق بعلمهم وآلاتهم النقدية.
نعم، هناك القانونُ الذي يوجد في كل مجتمع بشري متحضر فوق الأرض، والذي يحمي حقوقَ الناس المادية والمعنوية، ويحفظُ مقدساتهم أن تُنتهك وتُدنّس، ويرعى الأخلاقَ العامة أن تستباح. فإن كان هناك تعدّ على المقدسات والحرمات والحريات والحقوق، باسم الفن والأدب، فإن العدالة مطلب ضروري-في حدود القانون دائما-أولا، لإنصاف المظلومين، إن ثبت أن هناك ظلما، ومعاقبة الظالمين، إن ثبت أنهم ظالمون، وثانيا، لتثبيت شرعية القانون وهيبته وسلطانه، لأن قانونا لا يُطبق، ولا يُعبأ به، وجودُه وعدُمه سواء، وثالثا، ليعرف الناس أن الفنانَ، مهما علا قدره وذاعت شهرته وقوي نفوذه، لن يكون فوق القانون وأكبرَ من المتابعة والمحاسبة، حسب نصوص القانون، ووفق مبادئ العدالة والإنصاف.
الأمر الثالث يتعلق بالتصرف الذي يكون من الناس تجاه العمل الإبداعي، هل يقبلونه أم يرفضونه؟ هل يطربون له أم يعرضون عنه؟ هل يُقبلون عليه بالثناء والنشر، أم يسكتون عنه ويدفعون به إلى زوايا الإهمال والنسيان؟ هل يقرأونه وينقُدونه فنيا، ويبيّنون ما فيه من جوانب إيجابية، وما فيه من جوانب سلبية، أم ينكرونه بالكليّة وكأنه غير موجود؟ وهل هناك من مقاييسَ موحدة ومعاييرَ متفق عليها في التعامل مع الإبداع؟ وأين يقع الدين والأخلاق وقوانينُ المجتمع وأعرافُه من كل هذا؟
ثم هنا مسألة لها تعلق بالأمور السابقة وهي مسألة التربية؛ فالشخص/المجتمع الذي تربّى على الإسلام وأخلاقه وآدابه حتى أصبح يجري من فكره ووعيه وذوقه مجرى الدم، لا يمكن أن يُعير أيَّ اهتمام لما يراه من الأعمال الإبداعية ساقطا وبذيئا وضعيفا، وإن زكّاه النقاد ورفعوه وقدّروه ومدحوه. لكن أيُّ نقاد؟ وبأي مقاييس؟ وعلى أي أساس؟
وأخيرا، هناك الإعلام، وخاصة في وجهه الإلكتروني الجبار، بكل أنواعه وأشكاله ومستوياته ودرجاته؛ فهذا الإعلام الرقمي الحديث، المرئي والمسموع والمقروء، آخذ في التوسع والانتشار والتمكن بسرعة مذهلة، وذلك على حساب الوسائل التقليدية، في التربية والتعليم ونقل المعارف واكتساب المهارات ونشر الأخبار والمعلومات. هذا الإعلام "الوحش" بات اليوم قادرا أن يدخل إلى جميع البيوت، وأن يصل إلى كل الآفاق. ومن ثَمَّ، فإن التربية هي الكفيلة بتزويد المرء بالأدوات الفعّالة القادرة على وزن الأعمال وتقديرها والحكم عليها. التربية الفردية والجماعية هي القادرة على نشر هذا الإبداع، وطيّ ذاك. هي القادرة أن تفرض مقاييس للإبداع الرفيع، والعمل الفني الجميل، وتفضحَ ما سواه مما هو انتحال وادعاء وتزوير وعبث وسخف.
(والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.