بسم الله الرحمن
الرحيم
(الأدب الإسلامي) بين
القبول والرفض(2/2)
في الجزء الأول من هذه المقالة تحدثت عن الصنف الأول من الرافضين لـ(الأدب الإسلامي)، جملة وتفصيلا، أي
تسميةً ومضمونا، وذكرت أنه يستحيل التواصل مع هؤلاء بأي نوع من أنواع الحوار
والنقاش، لأنهم، في آرائهم ومقالاتهم ومواقفهم، "عدميّون" متطرفون إلى
أقصى الحدود في التعامل مع الإسلاميّين، إلا أن يكونوا "إسلاميّين" على
دينهم الحداثيّ اللادينيّ. وهذه العدميّةُ من هؤلاء ليست مقصورة على مجال الأدب،
بل هي عامة تشمل مختلف الفنون، وخاصة فيما له علاقة بالمعتقدات والأخلاق.
رفضٌ مُعَلَّل في حوار
أدبي مثمر
أما الصنف الثاني
من المعترضين على تسمية (الأدب الإسلامي)، فيشهدُ له خطابُه ولغتُه في النقاش والحِجاج
بأن الحوار والتفاعل والتواصل معه ممكنٌ، لأنه لا يعترضُ ولا يرفض من منطلق
إيديولوجي أعمى، ومن موقف لاديني جاحد، وإنما هو اعتراضٌ قائم على اعتباراتٍ، منها
ما هو شرعي وتاريخي، ومنها ما هو فني ونقدي.
ويمكن أن أمثل لهذا
الصنف بالأديب الباحث السعودي الدكتور (مرزوق بن صنيتان بن تنباك)، الذي حاور أنصارَ (الأدب الإسلامي)
وناقشهم نقاشا واسعا وغنيا ومفيدا، عموما، وإن كان حادّا ومتحاملا، في بعض
الأحيان، في بعض ما قال وكتَب في نقاشه، لكنه لم يجرح العواطفَ والمشاعر، أو
يتطاول على المعتقدات والمقدسات، بل إنه ناقش واعترض ورفض من داخل الدائرة
الإسلامية، اعتقادا وأحكاما وأخلاقا، وتاريخا وأدبا ونقدا.
وقد نتج عن حوار الدكتور بن تنباك مع
الدكتور وليد قصاب، وهو عضو في رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وأحدُ أعلام الأدب
الإسلامي الحديث، مادةٌ أدبية نقدية مهمة نُشرَت، باسم المتحاورَيْن، في كتاب
بعنوان "إشكالية الأدب الإسلامي"، ظهر في طبعته الأولى سنة 2009، عن دار
الفكر بدمشق.
أذْكر هنا أن تمثيلي بالدكتور مرزوق بن
تنباك إنما هو للوقوف على نموذج من نماذج الحوارات الأدبية النقدية، التي اشتهرت،
منذ تأسيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية، بين أنصار الأدب الإسلامي ومناوئيه.
وليس من غاية هذه المقالة أن تتحدث بتقصّ واستفاضة عن شبهاتِ الرافضين المُعترضين
وما ردَّ به المؤيدون المدافعون، لأن هذا الموضوعَ-أقصد شبهاتِ الرافضين وردَّ
المؤيدين عليها-قد كُتب فيه الكثير، بين مختصَرٍ مُركَّز ومطَوَّل مُفصَّل، وهذه
الكتابات منشورة وميسَّرة لكل طالب باحث ومتابِع مهتمّ. مثلا، يمكن مراجعةُ المئات
من العناوين المتعلقة بموضوع الأدب الإسلامي، إبداعا ونقدا، في الجزء الأول من
(دليل مكتبة الأدب الإسلامي في العصر الحديث)، الذي أعده الدكتور عبد الباسط بدر،
والذي صدرت طبعته الأولى سنة 1426هـ/2005م، عن مكتبة العبيكان، بالرياض.
لكن الذي يجب تسجيلُه هنا هو أن أنصار الأدب الإسلامي
قد كتبوا ما لا يُحصى من المقالات دفاعا عن اختيارهم، وشرحا وتوضيحا واحتجاجا
وتبريرا لحقِّ وجود كائن اسمه (الأدب الإسلامي)، ونشروا، كذلك، خلال ثلاثة عقود،
العديد من الكتب والدراسات الأدبية والنقدية في مجالي التنظير والتطبيق، فضلا عن
الأبحاث والأطاريح الجامعية، في الاتجاه نفسه، مُنظّرين ومدافعين ومُحاجّين، حتى
ملُّوا من كثرة الردّ؛ يقول الدكتور عبد القدوس أبو صالح، وهو اليوم رئيس رابطة
الأدب الإسلامي العالمية، في أحد حواراته الصحفية: "نحن
مَلِلْنا من كثرة ما ردّدناه في وسائل الإعلام المختلفة حول التهم والشبهات التي
أثارها معارضو الأدب الإسلامي..."[من حوار منشور في موقع (لها أون لاين)، بتاريخ 27 جمادى الآخرة 1429هـ//02 يوليو 2008].
أما خصومُهم، فلا نعثر لهم إلا على آراءٍ
ومقالاتٍ مبعثرة هنا وهناك، لا تُسعف الباحثَ في الوقوف على حقيقة آرائهم وحقيقةِ
الأسس الأدبية والنقدية التي بنَوْا عليها اعتراضَهم ورفضهم. وقد أشرت، في الجزء
الأول من هذه المقالة، إلى أن أصحابَ الموقف الإيديولوجي المتطرف، ليس عندهم إزاء
"فكرة" الأدب الإسلامي وأصحابها إلا الرفض القائم، في جوهره، على رفض
الدين بما هو دعوةٌ تشمل الحياةَ والإنسان والمجتمع، وبما هو عقائد وشرائع وأخلاقٌ
تخصُّ الإنسان، في خاصة نفسه ودخيلة عواطفه وقناعاته، كما تخصّه في علاقاته مع
الناس، في مجتمعه، وفي العالم الذي يعيش فيه، كما تخصّه في إيمانه وعمله، في
معتقده الباطني وسلوكه الخارجي، في حاجاته الروحية والمادية، في شؤونه الاقتصادية
والاجتماعية والتعليمية والتربوية والفنية، أي في جميع مناحي وجوده الروحي والمادي،
وجميعِ تجليّات هذا الوجود في الدنيا حياةً، وفي الآخرة بعد الممات.
قلت لقد نَشر أنصار الأدب الإسلامي، على
الأقل منذ تأسيس الرابطة إلى اليوم، كمّا هائلا من الكتابات، في الردّ على دعاوى
الخصوم وشبهاتِهم وتخوفاتهم وانتقاداتهم، وقد تراوحت ردودهم بين المقالات
الإنشائية القصيرة والبحوث الأكاديمية المتعمقة المستقصية المعتمدة على لوائح
طويلة من المصادر والمراجع والشهادات والمقالات، لتفنيد مزاعم الخصوم، وتثبيت
رؤيتهم وتقوية حجتهم.
ولست أشك في أن الذين قرأوا هاتِه الكتابات
وتابعوها، الواحدة تلو الأخرى، وتأملّوها ووقفوا عندها بما تفرضه الدراسةُ الجادة
والبحث الموضوعي، قبل إصدار أيِّ حكم أو اتخاذ أي موقف، يمثلون قلة القلة، بل أكاد
أزعم، بحكم ما وقفت عليه من كتاباتِهم المنشورة، على ندرتها، أنهم يُعدّون على
رؤوس الأصابع.
وهذا هو المؤسف حقا؛ أحكامٌ ومواقف
واتهامات بناء على ماذا، إن لم تكن بناء على تتبع وبحث واهتمام، وبناءً على قراءة
علمية متأنية، وفحص علمي موضوعي؟ وأين الرافضون المعترضون من كل هذا؟ وأين هم من
الدراسة العلمية والتتبع الموضوعي؟
وأوضّح لقارئ هذه السطور أني لا أقول هذا
في حق رافضي الأدب الإسلامي ومناوئيه، لأني من أنصار هذا الأدب. كلاّ، أنا أقول ما
أقوله في حق هؤلاء الرافضين الإيديولوجيّين المتطرفين، لأني أرى-ومقالاتُهم
وتصريحاتُهم بين يدي- أن موقفهم لا علاقةَ له بالموضوعية والإنصاف، بل لا علاقة له
أصلا بالعلم وقواعده وأخلاقه، والبحثِ وأدواته ومعاييره. إني أنتقدهم لهذا أساسا،
أما موقفي أنا من الأدب الإسلامي ومقالات أنصارِه، فسيظهر، شيئا فشيئا، في أثناء مقالاتي
القادمة إن شاء الله.
وأرجع، بعدَ هذا الاستطراد، إلى مثال
الدكتور مرزوق بن تنباك. فهذا الباحث واحدٌ من القلائل، الذين كتبوا ما كتبوا عن
الأدب الإسلامي عن معرفة وتتبع وقراءة واعية فاحصة ناقدة، لا عن هوى إيديولوجيّ،
أو عَداء مُبيَّت، أو عصبيّة عمياء.
لقد ذكرت أنه اشترك مع الدكتور وليد قصاب،
أحدِ أعلام رابطة الأدب الإسلامي العالمية، في إصدار كتاب (إشكالية الأدب
الإسلامي)، سنة 2009، الذي ضم دراسةً لابن تنباك عرضَ فيها رأيه بشيء من التفصيل
تجاه "مصطلح" الأدب الإسلامي، وضمَّ أيضا عرضا للدكتور وليد قصاب، يردّ
فيه على أبرز الانتقادات والشبهات والاعتراضات التي وردت في دراسة الدكتور بن
تنباك.
ولا بد أن أذكر هنا أن مشاركة الدكتور بن
تنباك في هذا الكتاب "الحواري" لم تكن المرة الأولى التي يكتب فيها بن
تنباك في هذا الموضوع، لأن موقفه من "مصطلح" الأدب الإسلامي قديم، عبر
عنه في مقالة مطولة نشرها في مجلة (الدارة) السعودية الفصلية قبل صدور الكتاب
المشرك مع الدكتور قصاب بحوالي سبع عشرة سنة.[نُشرت هذه المقالة بعنوان
"مصطلح الأدب الإسلامي"، في العدد الثالث، السنة الثامنة عشرة، ربيع
الثاني/جمادى الأولى/جمادى الثانية، 1413هـ(1992م)، ص75-121.]
الدكتور بن تنباك،
في كتاباته وحواراته، لا يرفض الأدب الإسلامي جملة وتفصيلا، كما يفعل أصحاب
الإيديولوجيا اللادينية المتطرفة، وإنما اعتراضُه يتركز على التسمية/المصطلح؛ يقول
في هذا المعنى: "الاعتراضُ كان على مبدأ تصنيف الأدب إلى إسلامي
وغيره، وقد كان رأيي ينطلق من هذا المعنى(...)لم أنظر للمضمون، لأن المضمون في
الأدب يعبر عنه في جملته وضمن المعنى العام. وقد وُجدت المعاني والمضامين
الإسلامية وغير الإسلامية منذ القدم، ولم يعترض النقاد على الاتجاهات أيا كان
موضوعها، وإنما التصنيف هو موضوع الاعتراض(...)إنني لا أصادر حق المبدعين في
مضامين الأدب ورسالته الإنسانية إن كان محتواه يحمل رؤية إسلامية..."[جريدة (الشرق
الأوسط)، الملحق الثقافي، الاثنين، 17 رجب
1437هــ//25 أبريل 2016م.]
يلخص لنا الدكتور بن تنباك، في الجزء الأول من
كتاب (إشكالية الأدب الإسلامي)، أسباب
رفضه لمصطلح الأدب الإسلامي في ثماني نُقط:
الأولى: المصطلح خروجٌ على كل ما أقرته
الأمة الإسلامية وقبلته من فنون الآداب، ولم يكن للمصطلح مسوغ شرعي أو نقدي، ولم
يُعرف مثله في تاريخ الآداب الإنسانية والعربية والإسلامية.
الثانية: المصطلح يعلن الأسسَ الطائفية
والمذهبية في الأدب، الأمر الذي لم يسبق مثله في كل العصور وفي كل الأمصار، ولا
يمكن إقرارُ مثل هذه الطائفية الأدبية.
الثالثة: قتلُ ملكات الإبداع لدى الشباب
بما يسمّونه الالتزام، وتحديدُ أطر ضيقة للشعر والنثر لا يتجاوزها المبدع إلى
غيرها من فنون الأدب كلها إلا ما يسمونه الاتجاه الإسلامي، وهو اتجاه يخصصُ شمول
الإسلام برؤية ضيقة محدودة.
الرابعة: تضييق دائرة المباح أمام الناس،
بينما القاعدة الشرعية تنص على أن الأصل في الأشياء كلها الإباحة.
الخامسة: حمل الناس على محامل الشك، وتلمس
الأخطاء وتفسيرُها بسوء الظن، وتصنيفُ عامة المسلمين في الحاضر والماضي إلى أصناف
لا يقبلون منهم إلا صنفهم وحده.
السادسة: التشويش على الماضي الذي لا يوافق
منهجهم، والتوجه إليه بالتزييف والتجريح مهما كان معناه، ومهما كان حظ قائله من
العلم والفقه والتقوى.
السابعة: حمل الناس في الأدب والدين على رأي
محافظ ضيق الأفق أحادي النظرة، شديد التزمت والانغلاق، بعيد عن سماحة الإسلام وسعة
رحمته بالناس، والهوس النفسي بتزكية الرؤية الخاصة وعدَّها الصواب وغيرها الخطأ.
الثامنة: أثبتت التجربة الإبداعية عند
أدباء هذا المنهج فشلَها، وتحجّر معانيها، وضعف قدرتها على القيام بأدنى درجات
القبول الفني فيما قدموا من صور الإبداع الفني في الشعر والنثر.
لقد كان اعتراض الدكتور مرزوق بن تنباك على
"مصطلح" (الأدب الإسلامي) قائما، أساسا، على رفض تصنيف الأدب إلى أدب
إسلامي وأدب غير إسلامي، حيث وصف هذا التصنيف بأنه بدعة، وأن أصحابه يبنون رأيهم
على تقديم النظرية على التطبيق، أي أنهم ينظّرون لأدب لمّا يوجدْ، على أمل أن يوجد
مستقبلا وفق الحدود المرسومة، والنظرية السابقة.
ومما له علاقة بتقدم النظرية على التطبيق
موضوع "الالتزام" في الأدب؛ وهو موضوع، عند المعترضين على مصطلح (الأدب
الإسلامي)، يحدّ للأديب حدودا، ويفرض عليه الالتزام بها وعدمَ تعدّيها، وهو ما
يخنق الإبداع، بل قل يضيق عليه واسعا، ويحرم عليه مباحا.
ومن انتقادات المعترضين على
التسمية/المصطلح أن خطاب أنصار المصطلح تغلب عليه العاطفة، وليس يستند إلى حجج
قوية من الدين والتاريخ والسلف وقواعد الفن والإبداع.
ومن هذه الانتقادات أن أنصار المصطلح ينجرّون،
في كثير من آرائهم، إلى الحكم على مَطويات ضمائر السالفين والخالفين، وتصنيفِهم،
على ضوء المعايير التي وضعوها، وهي تصنيفاتٌ قد يكون فيها كثير من الرجم بالغيب،
والتطاولُ والجرأة على الأعراض، والنبشُ في السرائر، والتشكيكُ في المقاصد والنيات
المغيَّبة، فضلا عما يكون في هذا التصنيف من تحقير وانتقاص لأقدار الناس.
ومما يأخذه
المعترضون على مُناصري مصطلح (الأدب الإسلامي) أنهم يردون الروايات التاريخية
المتواترة، ويشككون في الأخبار التي تسير على غير هواهم، بل ومنهم من يرفض أو يشكك
أو يتأول تأولا بعيدا، وبغير موجب قوي، ما أقره الرسول، صلى الله عليه وسلم،
وصحابتُه ومن سار على نهجهم من التابعين وأخبار سلف الأمة.
ويرى
المعترضون أنه، في مجال التجريب والتطبيق والإنجاز الإبداعي، تبدو حصيلة الأدب
الإسلامي، هزيلة في موازين الفن والإبداع، رغم مرور عقود على بداية التنظير،
وبالتحديد منذ الإعلان عن تأسيس رابطة الأدب الإسلامي العالمي سنة 1984.
في الجزء
الثاني من الكتاب المشترك، ردٌّ للدكتور وليد قصاب على اعتراضات الدكتور بن تنباك،
ومناقشةٌ لأهم ما أورده من شبهات.
في المقالة القادمة، إن
شاء الله، قضيةٌ أخرى من القضايا المتعلقة بموضوع (الدين والأدب).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.