الجمعة، 17 يناير 2014

دعوة ٌ إلى "ميثاقٍ" مستحيل



بسم الله الرحمن الرحيم

دعوة ٌ إلى "ميثاقٍ" مستحيل


 المقصودُ بعنوان هذه المقالة هو الدعوةُ التي ما فتئت جماعةُ العدل والإحسان تكررها في جميع المناسبات، للفضلاء السياسيِّين، من أجل "ميثاق جامع"، لمواجهة الفساد والاستبداد، الذي تمثله وترعاه الدولةُ المخزنية، وفي قلبها النظامُ الجبريّ، أيْ النظامُ الملكي.

والملاحظةُ الأساسيةُ على هذه الدعوة أنها تستثني النظامَ الحاكمَ أن يكون شريكا في هذا الميثاق، لأن رأسَ هذا النظام هو المطلوبُ من وراء هذا الميثاق المنشود.

وبعبارة أخرى، فإن الميثاقَ الذي تدعو إليه جماعة العدل والإحسان هو ميثاقٌ بين معارضي الدولة المخزنية، وفي مقدمتهم التنظيماتُ الثوريَّة المطالبةُ بسقوط هذه الدولة من أساسها.

  
تذكير

أذكّر القارئ الكريمَ أني قد كنت كتبت في شهر يونيو من سنة 2011 مقالا مطولا في جزأين عن "الميثاق" في منهاج جماعة العدل والإحسان. في الجزء الأول، الذي عنونته بـ"الميثاق الإسلامي في الأصل المنهاجي"، والذي يمكن مراجعُته على على الرابط التالي:


بيّنتُ بالنصوص الواضحة التي أوردتها من كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله، أن "الميثاق"، الذي تحدث عنه الأستاذُ في كتاباته، إنما هو "ميثاق إسلامي"، أو "ميثاق جماعة المسلمين"، "يتميز، أولا، بأن زمانَه بعدَ القومة الإسلامية، وأنه، ثانيا، دعوةٌ لغير الإسلاميِّين من موقع القَويّ المُنتصر، وأنه، ثالثا، مشروعُ تعاهد وتعاقد يُدعى الفضلاء المنافسُون للدخول فيه بشرط يشترطُه الإسلاميون الغالبون...ولهذا، يمكنُ وصفُ هذا "الميثاق الإسلامي"، الذي يطرحه مرشدُ الجماعة في كتاباته، وخاصة في كتاب "العدل"(ط1، سنة2000)، بأنه "ميثاق الغالب"، لأن هناك في المُتواثِقين المُفترَضِين طرفاً يَشترط على طرفٍ آخر من موقع القوة."

وفي الجزء الثاني، الذي عنونته بـ"الميثاق الجامع والضرورة السياسية"، والذي يمكن مراجعتُه على الرابط التالي: http://www.hespress.com/permalink/32849.html،

ذكرتُ أن الميثاقَ الذي كان "إسلاميا"، في اجتهاد الأستاذ ياسين، رحمه الله، بات، تحت وقع الضرورة السياسية، "ميثاق الفُضول"، الذي يمتاز بأنه "يُسقط شرطَ المرجعية الإسلامية، وهو ما يعني انفتاحَه على جميع المرجعيّات، بما فيها المرجعيات اللادينية بكل تياراتها".

فالدعوةُ اليومَ إلى هذا الميثاق المُعَدَّل، الذي فرضَته الظروفُ السياسيةُ المتطورة، هي، كما قلت في جزء المقالة المشار إليه، "دعوةٌ من طرف واحد، هو جماعةُ العدل والإحسان، لا نجد لها، لحدّ الآن، أيَّ نوع من الاستجابة لدى الأطراف المَعنيّة". وقد أضفْت، في السياق نفسه، أن "الدعوة إلى "ميثاقٍ"، كيفما كان نعتُ هذا الميثاق، لا يمكن أن ترقى لتصبح "إنجازا سياسيا" حقيقيا ما دامت دعوةً قائمةً من طرف واحد لا تكاد تجد لها مُجيباً". فالدعوةُ التي لا تجد لها صدى لدى الآخر، هي، عندي، في حكم "الفكرة"، أو "الأمنية"، أو "النداء"، أو ما تشاء من الرّغبات التي يُمكن أن يحلم بها كثيرٌ من الناس، ما دامت لم تتمثَّلْ "كيانا واقعيا" له نَسبٌ بما هو معيش ومُعطى، وليس بما هو مطويٌّ في الأماني والأحلام".

وممّا قلتُه في نهاية المقالة المذكورة أن الأصل هو "أن جميع المقترحات والمبادرات السياسية تحتمل الصحةَ وتحتمل عكسها. وكان ينبغي، من باب وجوبِ النقد الذاتي، أن تسألَ الجماعةُ نفسَها بكل صدق وصراحة: لماذا لم نتقدم خطوةً واحدةً بعد كل هذه السنوات؟ لقد افترضنا دائما أن الآخر هو السبب، فلنُجرّبْ اليوم، ولْنفْترضْ أن العلّة كامنةٌ في الفكرة ذاتها، في مبادرة الميثاق نفسِها. لِنفترضْ، ولو مرة، أن العلةَ فينا، ولْنرَ النتيجة.

لماذا لا تجرؤ الجماعةُ على مثل هذا التجريب؟ لماذا توجّهُ الاتهامَ دائما للآخر، مع أن الذاتَ، وخاصةً في أمر سياسي اجتهادي، هي مَظِنَّة الخطأ والوهم وسوءِ الفهم والتقدير؟".



لماذا هي دعوةٌ إلى "ميثاق" مستحيل؟

لقد جدّدت الجماعةُ، في البيان الأخير الصادر عن الدورة السابعة عشرة للمجلس القطري للدائرة السياسية(مقدس) (يناير2014)، "الدعوة لفضلاء البلد والغيورين على مصالحه وأمنه واستقراره، لصياغة ميثاق جامع يؤسس لعمل تشاركي، تعبئة للجهود، واقتساما لأعباء تغيير يعيد للشعب سيادته وقراره في اختيار ومحاسبة من يحكمه، وكيف يحكمه".

هي، إذن، دعوةٌ تتكرر وتتجدد منذ سنوات، وكأن الجماعةَ لا تملك من مشروع تتقدم به إلى "الفضلاء" و"الغيورين" غير هذه الدعوة.

والجدير بالذكر أن التقريرَ السياسيَّ المقَدَّمَ في هذه الدورة لـ(مقدس) يشهد بأن هذه الدعوةَ من الجماعة لم تحقق شيئا ملموسا على أرض الواقع، بل لم يستطعْ هذا التقريرُ السياسيُّ أن يأتيَ برقمٍ، أو اسمٍ، أو مبادرةٍ، أو أيِّ معطى آخر مادي واقعي مُنْجَز، مما يمكن اعتباره نوعا من البداية على طريق هذا الميثاق المنشود؛ لا شيء على الإطلاق، ومع ذلك، تتكرر الدعوةُ، ويتجدد النداء، ولا من سامع ولا مجيب!

المفتَرَضُ أن هذا الميثاقَ المرجوَّ سيكون مع كياناتٍ سياسية واقعية، لا مع أشباح ومخلوقات لا وجود لها إلا في الخيال والأوهام.

أشرتُ في مطلع هذه المقالة إلى أن الميثاقَ الذي تدعو له جماعةُ العدل والإحسان لا يمكن أن يكونَ النظامُ المخزنيُّ طرفا فيه، لأن الجماعةَ، في منهاجها السياسي، تنطلق من أن النظامَ المخزنيَّ، وقوامُه النظامُ الملكيُّ، هو أصلُ البلاء الذي ينبغي استئصالُه، وما "الميثاقُ"، إلا وسيلةٌ أو "آلية"، كما وصفَه رئيسُ الدائرة السياسية، الأستاذُ عبد الواحد متوكل، في كلمته في افتتاح أشغال (مقدس17)، من أجلِ تحقيق هذا الاستئصال.

ويترتّبُ على استثناءِ النظام المخزني الحاكمِ من المشاركة في الميثاقِ المطلوب استبعادُ جميعِ الكيانات السياسيّة، الممثَّلةِ في تنظيمات أو في أفراد، المدافعةِ عن بقاء النظام الملكي، والمقتنِعَةِ بأنه النظامُ الصالح لحياتنا السياسية، مهما اختلفتْ اجتهاداتهم وزوايا نظرهم، لتبرير اقتناعهم ودفاعهم.

المقتنعون بالنظام الملكي، المدافعون عن شرعيته وصلاحية وجودِه، هم واقعٌ سياسيٌّ لا يمكن إغماضُ العين عنه، وإن كنا نختلف معهم إلى حدّ التناقض.

هؤلاء موجودون في الواقع، سواء أكانوا في صورة مخزنيِّين أقحاح، أم في صورة سياسيِّين لهم رأيٌ واجتهاد ووجهةُ نظر تُرجِّحُ في أعينهم أن النظامَ الملكي ضروريٌّ في حياتنا السياسي، بل منهم من يرى، عن اجتهاد بريء، أن الانتقالَ الديمقراطيَّ عندنا لا يمكن أن يتحقق بمعزلٍ عن النظام الملكي.

ويمكنُ أن أمثِّل على التنظيمات السياسيِّة، التي تقول بأن مستقبلَ الديمقراطية في بلادنا مرتبطٌ بالملكية، بِـ"الحزب  الاشتراكي الموحّد"، ومعه في "تحالف اليسار الديمقراطي" "حزبُ الطليعة الديمقراطي الاشتراكي"، و"حزبُ المؤتمر الوطني الاتحادي".

فهذا التحالف، مثلا، لا يمكننا أن نصنّفه في التنظيمات المخزنيّة الصريحة، كحزب "الحركة الشعبية"، أو حزب "الاتحاد الدستوري، تمثيلا، لا حصرا. وهو تحالفٌ يتزعم اليوم الدعوةَ إلى تبني نظامِ الملكية البرلمانية، حيث الملكُ يسود، بصلاحيات رمزية وسيادية مقلصة ومحددة، ولا يحكم. وقد صدَرتْ عن الحزب الاشتراكي الموحد، في هذا الموضوع، أكثرُ من وثيقة تتضمن اقترحاتٍ فيها بيان وتفصيل.

بل خذْ مثالا آخر، وهو "حزب النهج الديمقراطي"، الذي له خلفيةٌ إديولوجية يسارية متطرفة. فهذا الحزب، على الرغم مما نقرؤه في أدبياته عن معاداته للدولة المخزنية، فإنه، رسميا، لا يقول بوجوب زوالِ النظام الملكي، بل هو اليوم، أقربُ إلى تبنّي اختيارِ رفاقه في "تحالف اليسار الديمقراطي".

فماذا يبقى من الكيانات السياسية المُنظَّمَة، المعترفِ بها قانونيا، والتي يُحتَمَل أن تستجيب لدعوة جماعة العدل والإحسان؟ بل حتى الأحزاب الممنوعةُ، كحزب "البديل الحضاري"، و "حزب الأمة"، و"الحزب الديمقراطي الأمازيغي"، لا نعرف عنها، فيما هو منشورٌ من أدبياتها السياسية، أنها أحزاب تناهضُ النظام الملكي، وتسعى لإسقاطه.

فالأحزابُ "القانونية"، وعددها خمسةٌ وثلاثون حزبا، فضلا عن الأحزاب الممنوعة، إما أحزابٌ مَلكيةٌ أكثر من الملك، وتشكلّ الغالبيةَ، وإمّا أحزابٌ ملكية إصلاحية، أقصد التي تدعو إلى ملكية برلمانية حقيقية، وإما أحزابٌ ملكيةٌ مترددة أو غامضة.

فمع مَنْ تتوقعُ أو تتمنَّى جماعةُ العدل والإحسان عَقْدَ ميثاقها، والطبقةُ السياسية جميعُها مع الملكيّة؟

أنا هنا أتحدثُ عن اليوم، وعن الغدِ القريب، أما الغدُ البعيد فعلمُه عند الله، ولا أحدَ يستطيع أن يتنبأ بأحداثِ المستقبل ومستوراته على وجه التدقيق واليقين، وإنما هي نظراتٌ، وتوقعات، وتمنيات، واستشرافات للآفاق، لا أقل ولا أكثر. وقد أكدتْ لنا الثورةُ التونسية المجيدة الرائدةُ أن أشهر مراكزِ الأبحاث والرصد والتوقع، وأكبرها في العالم، لم يكن بمقدورها أن تتوقع، ولو من باب التخيّل البعيد، ما حصلَ في دجنبر من سنة 2010.

أنا أتحدثُ هنا عن الفعل السياسيِّ الذي ينبَني، في أساسه، على ما يعيشه الناس في واقعهم، ويحسّونه في حياتهم، لا على ما يحفظونه في معتقداتهم، ولا على ما ينشدونه في متمنياتهم وأحلامهم.

هذا الواقع السياسيُّ المعيشُ يؤكدُ أن دعوة العدل والإحسان إلى "ميثاق جامع"، حسبَ ما هو مسطَّرٌ في منهاجها السياسي الذي كان، وسيظل، اجتهادا من مرشدها، رحمه الله، إنما هي صيحةٌ في واد، ودعوةٌ إلى "ميثاق مستحيل"؛ لماذا؟

لأنها، في رأيي، دعوةٌ من طرف واحد، لا تجد لها صدى لدى الآخر. فهي عبارة عن خطاب إنشائي عام ما زلنا نقرأ أشبَاهَه في كثير من الخطابات والبيانات السياسية، وخاصة منها الصادرة عن المعارضين.

وأيضا، لأنها دعوةٌ تتعامى عن الواقع السياسي المعيش، ولا تكاد تُقيم اعتبارا لموازين القوى المتحكِّمةِ فيه، بل نجدها تتعالى على هذا الواقع، وتهربُ من مواجهتِه إلى جميلِ النظريات ومعسولِ الأمنيات.

وثالثا، لأنها دعوةٌ صادرة عن رؤية سياسية جامدةٍ عند اجتهاد سياسيٍّ لا يعرف التطويرُ والتعديلُ إليه سبيلا. فهي دعوة، في اعتقادي، لن تجد لها مجيبا، حتى من أصحاب الإديولوجياتِ التي تتقاطع مع الجماعة في بعضِ الآراء السياسية، وتلتقي معها في بعض المبادئ الحقوقية والمحطات النضالية والأنشطة الاحتجاجية.

ورابعا، لأنها دعوةٌ لا يصحبُها الوضوحُ اللازمُ، مع ما يعنيه هذا الوضوحُ من مسؤولية؛ الأستاذُ عبد السلام ياسين، مرشدُ الجماعة، رحمه الله، كان واضحا إلى أقصى حدّ، حينما تحدث عن "الميثاق الإسلامي" أو "ميثاق جماعة المسلمين"، عن أهدافه ومضامينه، وعن طبيعةِ الفصائل المدعُوَّة إليه، وعن مكانةِ أو ريادة الإسلاميِّين في المبادرة والدعوة وقيادةِ المرحلة الانتقالية التي تلي الطوفانَ. أما اليوم، فالدعوةُ تكاد تكون جافةً إلا مِنَ التكرار الممل، الذي لا يطمع أحدٌ في طائل من ورائه، اللهمَّ إلا ما يكون مِنْ بعضِ الأفرادِ الذين لا يمثلون إلا أنفسَهم، مِنْ مجاملاتٍ وتنويهات وتقديرات تفرضُها أخلاقُ العلاقات العامة، وآدابُ لقاءاتِ المواسم والمناسبات.

وبعد، فإني أقدّرُ-والله تعالى أعلم- أن الجماعة بتكرارها الدعوة إلى "ميثاق مستحيل"، قد تبتعدُ شيئا فشيئا عن ملعب السياسة، بحدوده ومعالمه ومميزاته المعروفة، وتقتربُ لكي تصبح بلا مشروع سياسي حقيقي يحظى بالجاذبية والمصداقية، ويمتاز بالوضوح والمسؤولية.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.