الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

حينما يصبح الاجتهادُ السياسيُّ مُقَدّسًا!!


بسم الله الرحمن الرحيم


حينما يصبح الاجتهادُ السياسيُّ مُقَدّسًا!!



بعد تردّد طويل، أرجعُ اليومَ إلى الكتابةِ والتعبير عن آرائي مباشرة، لأني رأيت أن التعبيرَ والتصريحَ والحوارَ من خلال بعض وسائل الإعلام لا يقرؤه الناسُ دائما من جميع جوانبه على الوجه المطلوب، بل هناك من الناس، وبدافع نفسي خاص، من يُصرّ على ألاّ ينظرَ إلى الأمر إلا بعين السوء، التي من طبيعتها الأزلية أنها لا ترى إلا المساوئ.
أرجع اليومَ، في هذه المقالة، وفي مقالات أخرى، إن شاء الله، لأعبّر عن رأيي بلا واسطة ولا حجابٍ قد يتسبب في تضبيب الرؤية عند بعض الناس، وقد يحمل آخرين إلى الذهاب بعيدا في سوءِ الظن وفساد التأويل.
فهذا رأيي مكتوبا يقرؤه الناسُ في عباراته الأصليّة واضحا جليا، يقبلونه أو يرفضونه، يؤيدونه أو يعارضونه، يتعاطفون معه أو ينفرون منه، يُزكّونه أو ينتقدونه؛ لا يهم. المهم هو أن أحس بأني حرّ في إبداء رأيي وإن تضايق منه بعض الناس، وتمنوا أن يظل رأيا مدفونا إلى الأبد.

جوهر القضية
إن جوهرَ قضيّتي مع إخواني في جماعة العدل والإحسان أني تجرأت ذاتَ يوم، فانتقدت اختيارا كنت أراه اجتهادا سياسيا، مثلُه مثلُ سائر الآراء البشرية الظنية، فاكتشفت أن غيري كان يعدّ هذا الاختيارَ وكأنه أصل من الأصول الدينية المقدسة، التي يجب في حقها الخضوعُ والتسليم وحَنْيُ الرأس.
اكتشفتُ أن ما كنت أنظر إليه على أنه اجتهادٌ مؤقت إلى حين، واختيارٌ مظروف بظروف، وتوجّهٌ ألجأت إليه الضرورةُ وواقعُ الحال، هو في اعتقاد بعض إخواني من الأصول الثابتة التي لا يجوز المساس بها، بل هو، عند بعضهم، من الدين وفق قراءة معيّنة لبعض النصوص القرآنية والحديثية.
وبطبيعتي، لم أكن لأستسلم ولا لأسلّم للرأي الآخر ما دمت غير مقتنع به، وما دمت أراه رأيا متهافتا يخالف أبسط قواعد المنطق والسياسة، فضلا عن قواعد الأصول الفقهية ومسالك الرأي والاجتهاد.

تناقضُ الخطاباتِ
من أجل التبسيط والتقريب، تصوّروا معي، أيها العقلاء الفضلاء، ما يلي:
هذا رجلٌ يريد أن ينضمّ إلى جماعة العدل والإحسان، فيسأل عن منهاجها السياسي، بعد أن اطمأن إلى منهاجها التربوي، فيكون الجوابُ الذي يسمعه أن منهاجَ الجماعة السياسي يتمثل في السعي إلى إقامة الخلافة الثانية على منهاج النبوة، التي ورد الوعدُ بها في حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ويضيف الجوابُ أن الطريقَ إلى هذه الخلافة لا يمر إلا من طريق زوال أنظمةِ العض والجبر، ومنها النظامُ الملكي الحاكمُ في المغرب.
والسؤالُ الذي يُمكن أن يطرحه هذا الراغبُ في الانضمام إلى الجماعة، وهو سؤال مشروع ومعقول، هو: هل النصُّ في منهاج الجماعة السياسي على أن من أهداف الجماعةِ القومةَ(الثورة) على النظام الملكي، لإقامة الدولة الإسلامية القطرية، تمهيدا للخلافة الثانية الموعودة- هل هذا النصّ اجتهادٌ سياسي ظنّي، أم هو من الأصول الدينية القطعية؟
في الجواب على مثل هذا السؤال المفتَرض تظهرُ العقدةُ والإشكال في المنهاج السياسي للجماعة، لأنه جواب يمتاز بكثير من الخلط والاضطراب والغموض.
في الخطاب الذي تواجه به الجماعةُ الرأيَ العام نقرأ أن الأمر يتعلق باجتهاد سياسي من بين اجتهادات أخرى، لها هي الأخرى نصيبُها من الصحة والمصداقية، ومن بين هذه الاجتهادات الأخرى، على سبيل المثال، الاجتهادُ الذي يأخذ بها الإخوةُ في حركة التوحيد والإصلاح، ومعهم إخوانُهم وجمهورُهم والمتعاطفون معهم في حزب العدالة والتنمية.
هذا الخطابُ الرسمي الذي نقرؤه في واجهةِ الجماعةِ سرعان ما يسقط أو يصبح مشكوكا فيه، أو يصبح غيرَ ذي مصداقية، حينما نعلم يقينا أن الجماعة كان قيامُها، أوّلَ ما قامت، على أن القومةَ/الثورة على الحكم الجبري هي من "المنهاج النبوي"، وأن أيّ وافدٍ جديد على الجماعة لا بد أن يعتقد اعتقادا جازما لا لَبْسَ فيه ولا تردّدَ أن مطلبَ زوال النظام الجبري مطلبٌ لا يقبلُ النقاش أو المراجعة، لأنه مطلب يشكل جزءا أساسا من النواة الصلبة التي بها قِوَامُ الجماعة.
مَنْ قال هذا؟ ومن قرّره على هذا الوجه من اليقين والقوة والجزم؟ ومن ذا الذي جعل مطلبَ زوال النظام، الذي هو في خطاب الواجهةِ مطلبٌ سياسي اجتهادي بشري نسبي، مطلبا مَسْلُوكا في المعتقدات المقدسة، والحقائق المطلقة التي تقع فوق النقد والمراجعة والتعديل؟
مَنْ فرضَ، داخل الجماعة، ألاّ يُناقش الناسُ هذا الموضوعَ على اعتبار أن القرارَ فيه من المُسلّماتِ التي لا تحتاج إلى نقاش؟

في الحقيقة
الذي أعرفُه، ويعرفه جميعُ المهتمين المتتبعين العارفين بشؤون الجماعة -والأمر هنا لا يتعلق بأسرار، وإنما يتعلق بشيء مكتوب ومنشور- أن مطلبَ زوال النظام الملكي لم يكنْ، في أصله، اختيارا صادرا عن تحاور وتشاور في مؤتمر تأسيسي، أو في مجلس جماعي شوري، بل هو مطلبٌ تبلورَ في فكرِ مرشد الجماعة ومؤسّسها، رحمه الله، قبلَ تأسيس الجماعة، ثم ظل يختمر في أثناء قراءاته وتفكّرِه وتدبّره وتجاربه مدّة تقارب، في تقديري، خمسة عشر عاما(1964-1979)، حتى خرج ناضحا، أولا، في كتاب "المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا"، الذي بسط فيه الأستاذ ياسين، رحمه الله، تصورَه واجتهاده في مجالات الدعوة والتربية والسياسة والتنظيم، ثم في  غيره من الكتابات، من بعد ذلك، ثانيا.

"المنهاج النبوي" كتابٌ ليس كسائر الكُتب
"المنهاج النبوي" كتابٌ ليس كسائر الكتب، لأنه ما يزال إلى اليوم يُعدّ بمثابة "القانون الأساسي" لجماعة العدل والإحسان، ومِنْ شأن القوانين الأساسية في كل التنظيمات أن تكون مُلزِمة لجميع أعضاء التنظيم إلزاما يوجب عليهم احترامَها، ومراعاةَ مقتضياتها، والانضباطَ بضوابطها، والسيرَ على هدْيها.
وها هنا التباسٌ، قد يصل إلى حدّ التناقض في نظر بعض الناس، يحتاجُ إلى نقاش وتوضيح: فمِنْ جهة، "المنهاج النبوي" كتابٌ يَعرض اجتهادا بشريا للمناقشة والأخذ والردّ، ومِنْ جهة أخرى، يصبح هذا المنهاجُ نفسُه "قانونا" مُلزما!!!
لدفع هذا الالتباس، قد يقول قائلٌ إن "المنهاج النبوي"، بما هو فكرٌ واجتهادٌ ونظرٌ، كان دائما، وما يزال، مطروحا على الناس لينقدوه ويقوّموه، ويُغنوه ويطوّروه، ويأخذوا منه ويردّوا. أمّا مَن اختارَ من الناس الانتماءَ إلى جماعة العدل والإحسان، فإنه يصبح، بالضرورة، ملزَما بمبادئها وأهدافها وقوانينها، أي ملزما بـ"منهاجها"، الذي هو كتاب "المنهاج النبوي" نفسُه.
قد يعترض معترضٌ على هذا التفسير بأن المعروفَ في "القانون الأساسي"، عند الشروع في التأسيس، أن يكون في شأنه نقاشٌ وتداولٌ بين المُؤسسين قبل أن يحصل حوله توافقٌ أو اتفاقٌ أو تراضٍ أو ما شابَه هذا مما يفيد أن "القانون" قد تم إقرارُه بإرادة جماعية يطبعها الرضا وحريةُ الاختيار. أمّا في حالة "العدل والإحسان"، فإن المعروفَ أنه لم يكن هناك تشاورٌ وتداول، ثم اتفاقٌ أو تراض على "قانون أساسي" للجماعة قبل إعلان تأسيسها.

سلطان التربية
 مما تنبغي معرفتُه في هذا الصدد، حتى نَصفَ الأشياءَ كما هي في حقيقتها، أن الجماعةَ، عند تأسيسها، لم تكن على شاكلةِ الأحزاب السياسية، والمنتديات الفكرية، والجمعيات الثقافية، وإنما كانت تتميّز، وما تزال إلى اليوم، بأنها جماعة دعويّة أساسُها وجوهرُها وبوّابتُها التربيةُ ثم التربيةُ ثم التربية.
ومن حقّ سائلٍ أن يسأل هنا: وبِمَ تتميز "الجماعة الدعوية" عن غيرها من التنظيمات حتى يجوز تأسيسُها بلا "قانون أساسي" ارتضاه المؤسسون بعد نقاش وتحاور وتشاور، وحتى يجوز خضوعُها لـ"منهاج" لم يتشاور فيه واضعُه مع أحدٍ من أصحابِه المُؤسّسين، ولا استمع إلى آرائهم فيهم؟
كان الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله، هو النواة الصلبة، التي لولاها لما كان هناك اليوم كيانٌ اسمُه "العدل والإحسان". لقد كان اليَعْسوب الذي حوله كان الاجتماعُ، وبه ارتفع البناء. واليعسُوب في اللغة أميرُ النحل وذكَرُها، ويُطلق على السيد والرئيس والمُقَدَّم.
فدعوةُ العدل والإحسان، قبل أن تُصبح واقعا حيّا برجالها ونسائها، وتنظيمها ومواقفها، كانت حيّة في قلب صاحبِها، رحمه الله، وهو في بداياتِ نظرِه في فقهِ التجديد والتربية والتنظيم، وتفكيرِه في مسالك تكوين "جند الله"، والسيرِ بهم  لاقتحام العقباتِ صعودا إلى القيامِ لله، والقيامِ على طواغيت العضّ والجبر. كان هذا الخطُّ المنهاجيُّ، في تصور الرجلِ وتفكيرِه، واضحا، على الأقل في معالمِه الكبرى، قبلَ ميلاد الجماعة بسنوات.
وقد كان برهانُ صدقِ الرجل الداعيةِ، رحمه الله، يسبقه، ويسير بين يديه. برهانُ صدقٍ على ربّانيته العالية وتقواه، في أقواله وأفعاله، وعلى علمه، فهما وفقها ونظرا وتأليفا، وعلى صلابتِه في قول الحق والإنكارِ على الظالمين، وعلى ذلّتِه على المؤمنين وسلوكِه سبيلَ المُحسنين.
هذا هو مؤسسُ دعوة العدل الإحسان، رحمه الله، بشهادةِ مَنْ عرفوه وخالطوه وعاشروه وصحبوه وتتلمذوا له.
فأصحابُ الرجل المجتمعون حوله، في بدايات التأسيس، كان يكفيهم ما يرون من سلوك الرجل، وما يسمعون من كلامه، وما يشعّ عليهم من سمْته الإيماني وفضله العلمي، ليصدّقوه ويصحبوه ويطمئنوا إلى أن يكون لهم مربيا ومرشدا. صدقُ الرجل عند أصحابه كان يكفي، ومن ثَمّ لم تكن بالناسِ يومئذ حاجةٌ ليعرفوا أكثر، أو ليسألوا عن التفاصيل فيسيئوا الأدبَ مع رجل لا يشكّون في سلامة طَوِيّته وصدقِ دعوته وشرفِ مقصده ومبتغاه.
هكذا مضى الأمرُ في تلقائية وبساطة، وهكذا عُقِد العَقْدُ، وتَوَثّق العهدُ، فكان من هذه الصحبة جماعةٌ تُعتبر الأسرةَ الأولى التي بها كان التأسيس. وهكذا كانت البدايةُ، حتى إذا بدأت الأواصرُ بين المصحوب وأصحابِه تتمكن وتترسخ، جاء "المنهاج النبوي"، ليُنظم التربيةَ، ويَرسم معالمَ الطريق، ويحدد آفاق السير.
جاء "المنهاج النبوي"، فاستقبله الأصحابُ بلا نقاش ولا سؤال، لأنه منهاجٌ من وضع المُربّي الذي وثقوا به، وامتدادٌ طبيعيّ لسلطته التربوية التي سلّموا له بها. فلم يلتفِت أحدٌ، في البداية، إلى مناقشة المبادئِ التي ينبني عليها هذا المنهاجُ، والخطط التي يرسمها، والغاياتِ التي يحدّدها. كان يكفي الناسَ أن واضع هذا المنهاجَ هو المصحوب المربّي المرشد.
لقد كان مرشدُ الجماعة، رحمه الله، حسب ما هو مسطّر في "المنهاج النبوي"، وحسب الأمر الواقع أيضا، هو "المربي الأول"، و"هو الذي يتخذ القرارات التربوية والتنظيمية"، و"هو الذي يُمضي أو يرفض خطط التربية، وبرامج الدعوة، أو يعدلها". في جملة، وبنص "المنهاج النبوي" دائما، المرشدُ هو "صاحب الأمر والنهي في كل صغيرة وكبيرة".
وهذه السلطةُ المطلقةُ بوّأت المرشدَ بين أصحابه مكانةً لم يكونوا يملكون معها، وإن كانوا من دائرة المُقرَّبين، إلا السمع والطاعة في غلاف من المحبة والاحترام يناسبُهما، وجعَلَتْه المقررَ الأولَ في جميع شؤون الجماعة. هذا هو الواقع، أصفُه كما هو، لا أتلجلجُ ولا أتلعثمَ.
تتمة الكلام في مقالة جديدة إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

مراكش: 26 دجنبر 2012