الخميس، 7 يونيو 2012

الأدب بين حرية الإبداع وشريعة المجتمع(1)



بسم الله الرحمن الرحيم




الأدب بين حرية الإبداع وشريعة المجتمع




(1)

أوصاف منحولة ورسالة مزعومة



لكل مجتمع من مجتمعات الدنيا قوانينُ تحمي أرواح الناس، وعقائدَهم، وأموالَهم، وأعراضهم، وأخلاقهم، وصحتَهم، وغيرَ ذلك من اختياراتهم، وحقوقهم، ومكتسباتهم المادية والمعنوية. وأعتقد أن هذا الأمر من المسلمات البدهية، التي لا تحتاج إلى مجادلات أو نقاشات، بل إنها من سمات الإنسان منذ بدأ هذا الإنسان يعيش في مجتمع ونظامٍ، ومنذ كان للإنسان حقوقٌ وعليه واجبات.

وليس من النظام، ولا من العدل في شيء، أن يكون هناك، في مجتمع تحكمه شريعة وتنظم شؤونَه قوانين، أفرادٌ أو طبقاتٌ من الناس فوق هذه القوانين وأكبر من تلك الشريعة، يفعلون ما يشاؤون، ويقولون ما يشاؤون، ويعيثون في حقوق الآخرين كيف يشاؤون، من غير أدنى خوف أن ينالهم عقابٌ أو أيّ شكل من أشكال المتابعة والردع والزجر والقصاص.

حينما يكون هناك، في مجتمع ما، أفرادٌ فوق القانون، فإن مصير هذا المجتمع المتحتمَ، عاجلا أو آجلا، هو الفوضى والتسيّب وضياع الحقوق، فضلا عن التخلف والرجوع إلى حياة ما قبل المجتمع الإنساني العمراني المنظم.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإذا كانت كلّ مجتمعات الدنيا تسعى بكل ما في وسعها من أجل حماية صحة أفرادها، ومراقبة مأكولاتهم ومشروباتهم أن يعبث بها غشّاش، أو أن يسمّمها مجرم طمّاع، فأحرى عقائدهم، وأخلاقهم، وأذواقهم، وغير ذلك من دعامات نظام التربية والتعليم، الذي به القوام الروحي والمعنوي للمجتمع، وبه ضمان قوة نسيج كيانه على مستوى الأفراد والجماعات.

وهذه الضرورة القانونية الاجتماعية لحماية حقوق الناس المعنوية والمادية، لا يجادل فيها إلا الفوضويون الهدّامون، الذين من شعاراتهم اللااستقرار واللاقانون.

ويَلزمُ أن أذكّر هنا أن الهدم، والرفض، والتجاوز، والتمرد على كل أشكال القوانين والقواعد ومبادئ النظام هي من المميزات الأساس للفلسفة الحداثية في صورتها الإديولوجية المتطرفة[1].

وفي ميدان الأدب، فإن هذه الفلسفة الحداثية، كما تتجلى لنا في المدرسة الأدونيسية[2] وأتباعها، لا تفتأ تَنْحَل الأديب عامة، والشاعر على وجه التخصيص، صفاتٍ غيرَ طبيعية تمتاز من بينها صفتان اثنتان متلازمتان، هما القداسة والتعالي على القوانين.

واستنادا إلى هاتين الصفتين "الخارقتين" "الميتافيزيقيتين" المُتَوهَّمتين[3] وجدنا أصحاب هذه الفلسفة "الطليعية" المتطرفة يحمّلون الشاعر رسالة تضارع رسالة النبيّ، بل وتزيد عليها.

فالشعر، عندهم، "نبوة ورؤيا وخلق"[4]، و"الشاعر نبيّ له مسؤوليته التاريخية في ممارسة "الواجب" الذي يلتقي فيه الشاعر العربي المعاصر مع غيره من كبار الشعراء في العالم."[5]

فالنبوة الإنسانية، كما يمثلها جبران، مثلا-حسب زعم أدونيس[6]- تمتاز بأن النبي الأديبَ لا يُنفّذ إرادةَ الله المسبقة الموحاة، "كما هو الشأن في "النبوة الإلهية"، بل، على العكس، يحاول "أن يفرض رؤياه الخاصة على الأحداث والأشياء، أي وحيَه الخاص."[7] ويؤكد أدونيس هذا الزعم بقوله: "الجبرانية هي، جوهريا، نبوة إنسانية"(المرجع السابق).

وعند هؤلاء الحداثيين المتطرفين أن الكشوف الشعرية سابقة على الوحي[8].

وعندهم أن من مهام هذه "النبوة الحداثية" "إعادةَ خلق العالم" و"تفسير الكون"(نفسه،ص18) ، ومن ثم فإن من طبيعة الشعر الحداثي "ألا يقبل أي عالم مغلق نهائي، وألا ينحصر فيه، بل يفجره ويتخطاه"[9]، وذلك لا يمكن حدوثه إلا "في مناخ الحرية الكاملة، حيث الإنسان مصدر القيمة، لا الآلهة، ولا الطبيعة."(نفسه)

باختصار، إن دور الشعر الحداثي، عندهم، هو "أن يعيد النظر أصلا في هذا العالم، أن يبدّله…"(نفسه، ص99).

وفي رأيي أن إضفاء صفة النبوة والقداسة على الشاعر، وتحميلَه رسالة "خلق العالم" و"تبديله" و"إعادة النظر فيه"، و"تفسير الكون"، وغير ذلك من المهام "الخارقة للعادة"، هو من الأوهام الحداثية الضاربة بجذورها في أعماق فلسفة العبث واللامعقول.

ونخرج من ضيق الوهم إلى رحابة الواقع المعيش، ونسأل: كيف يمكن أن يتأتى للشاعر تغييرُ العالم، وتخطيه، وتفجيره؟ بأية آلة؟ باللغة؟ بالخيال؟ بالتصوير الفني؟

نعم، يستطيع الشاعر أن يعبر عن إلحاده، وعن تشككه في الأديان، وعن رفضه لقوانين المجتمع، عن عبثيته ولا مسؤوليته. يستطيع أن يفعل هذا، لأن في إمكان العبارة اللغوية، والصياغة الشعرية أن تسعفه في مطلبه إلى حد بعيد.

أما الحديث، في رسالة الشاعر، عن التغيير، والتمزيق، والهدم، والخرق، وغيرها من مفردات الحداثة الإديولوجية العنفية، فما نراه إلا من آثار الفلسفات العبثية المجردة في النقد الأدبي، وذلك من جرّاء خضوع الرؤية الفنية الإبداعية إلى الرؤية الفلسفية الإديولوجية، وإلا فما علاقة هذه الرسالة الوهمية "الميتافيزقية" بالنقد الأدبي عموما، وبخصائص الإبداع الشعري تخصيصا؟

إن الشاعر، قبل أن يكون فنانا مبدعا، هو أولا إنسان يعيش في مجتمع منظم، مثله مثل سائر الأفراد، له ما لهم من حقوق، وعليه ما عليهم من واجبات.

ولا شك أن عالَمَ الشاعر، في تجاربه الذاتية، وخصيصته الفنية الإبداعية، هو عالم التعبير، والتصوير، والتخييل، والصياغة، والكلام، والمعاني. لكن هذا التميز لا يجرد الشاعر عن اجتماعيته ومسؤوليته تجاه الناس بما هم شركاؤه داخل المجتمع الواحد، المجتمع الإقليمي الصغير أو المجتمع الكوني الكبير.

وإنه لمن الضحالة في النقد الأدبي، ومن الجراءة على الدين ومقدساته، ما نجده عند كُتاب الحداثة، وأخص هنا كتّاب المدرسة الأدونيسية، من إضفاء صفة النبوة على الشاعر، ونحْله، تبعا لذلك، صفات القداسة، والنزاهة، والعصمة، ورسالةِ الزعامة والهداية والتوجيه.

وهذا، عندي، من أقبح ما يقرأه المؤمنُ في كتابات الحداثيين المتطرفين، وكأن الحداثة، عند هؤلاء الكتاب النقاد، إنما وُجدت، فقط، لكي لا ترعى حرمة لأي مقدس من مقدسات الناس، ولو كان هذا المقدس هو الإسلام دين المسلمين في المجتمعات العربية الإسلامية.

فما معنى قول الأديب الباحث المغربي محمد بنيس: "…والشاعر الخالق للغة هو النبي"[10]؟ أين هي صفة النقد في مثل هذا الكلام؟

أين هي المسؤولية الاجتماعية تجاه الآخرين؟ وأين هو الذوق، بلْهَ الإبداعَ الشعريَّ، في مثل قول أدونيس في تجربة "نوح الجديد"[11]:

 "لم أحفل بقول الإله…ولا نصغي لقول الإله…لا نصغي لذاك الإله…تقنا إلى رب سواه."؟

وهل من إسفاف أكبر من هذا الذي نقرأه في مثل قول أدونيس:

"لا الله أختار، ولا الشيطان

"كلاهما جدار"؟

وقوله:

"أحرق ميراثي، أقول أرضي

"بكر، ولا قبور في شبابي.

"أعبر فوق الله والشيطان."؟

وقوله، على لسان الشلمغاني(محمد بن علي. قيل صُلب سنة322 بسبب إلحاده وزندقته):

"اتركوا الصلاة والصيام وبقية العبادات

"لا تتناكحوا بعقد


"أبيحوا الفروج

"للإنسان أن يجامع من يشاء…"؟[12]

وإذا تجاوزنا مسألة المضمون الفاسد، فأين هي الشاعريةُ في هذا الكلام يا نقادنا الحداثيين؟

ليس في هذا الكلام، في رأيي، رائحة من الشعر، إلا أن يكون الشعرُ يساوي حكايةَ الإلحاد والزندقة بألفاظ غارقة في العامية النابية، والإسفافَ في انتهاك مقدسات المؤمنين إلى قاع الحضيض.

وماذا، غيرُ فحش الكلام مصوغا بنثر تقريري بارد، في مثل قول أدونيس، المرشح العربي المفضل-ويا حسرة على العرب- لجائزة نوبل:

"خرج العاشقُ إلى عشيقته يجامعها للمرة الأولى


                            "يتقدمه إله يهيء السّرير

                            "ترافقه إلهة تفكّ زنّارها…"؟(نفسه، ص15)

ومن الكلام الذي قرأه أدونيس وأجاز نشره في مجلته "مواقف"، قولُ عبد الله العذري:

"قُبض على الله

"فيما كان يسرق رغيفا

"في شوارع مكة

"قال شرطي: "هل سنقطع يده؟"

"قال آخر:

"ليس منا"

"صرخ الرئيس:

"قلنا لك ألا تعود !"

"قال الله:

"الكرسي الذي تجلس عليه كان لي."[13]

أين هي الصنعة الفنية في هذا الكلام؟

أين هو الإبداع الذي دعا أدونيس إلى قبول مثل هذا الكلام؟

إن نشر مثل هذا الكلام، في مجتمع مسلم، يقدس أبناؤه اسم الله، واسم رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويعظمون العقائد والشرائع وغيرَها من مقتضيات الإيمان في الأقوال والأعمال، لا يمكن أن يولّد في النفوس إلا مشاعر المقت والكراهية والاشمئزاز.

والأمثلة على هذه الوقاحات الكلامية، في تجارب الحداثيين أنصارِ الإديولوجية العنفية المتطرفة، أكثر من أن تحصى، وحسبنا منها هذه الإشارات السابقة.

وللكلام بقية في الأسبوع المقبل إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.




[1] أذكّر هنا بأن وصف بعض الحداثيين بالتطرف ليس من عندي، بل اقتبسته من كلام بعض الأدباء والنقاد الذين عاشوا التجربة الحداثية من الداخل، وخبروا فلسفتها وأطروحاتها فكرا وإبداعا. من هؤلاء الأديب المغربي أحمد المعداوي، الذي استعمل عبارة "الحداثة المتطرفة" وعبارة "غلاة الحداثة" لوصف المتطرفين من أنصارها، وذلك في أكثر من موضع من كتابه النقدي: "أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث"، ص110،115،147،175.
[2] نسبة إلى "أدونيس"، علي أحمد سعيد إسبر، الحداثي الملحد المشهور، وهو سوري الأصل من مواليد سنة 1930، ومقيم في فرنسا، وما يزال مرشح العرب الأول لجائزة نوبل للآداب. وإني أعدّه على رأس الحداثيين اللادينيين، لأن مشروعه برمته، في الأدب والنقد والفكر، إنما عمادُه الطعن على الإسلام ومقدساته، والإشادة بضلالات الإلحاد والدفاع عن رموزه في الماضي والحاضر. ومن مسلماته الحداثية أن الإلحاد كان أول شكل للحداثة العربية.
[3] من الانتقادات التي وجهها الدكتور صادق جلال العظم-وهو من رفقاء أدونيس القدامى على درب النضال الشيوعي في لبنان- لبيان أدونيس حول الحداثة، أن أدونيس، في حديثه عن الإبداع، ينزع إلى استعمال لغة "لا تستخدم عادة إلا عندما يراد الإشارة إلى الله." ويذكر العظم أننا حينما "ننفذ إلى الجوهر في "بيان الحداثة" نجد أنفسنا أمام مقولة ميتافيزقية أولية إطلاقا…"، ثم ينتهي إلى أن الإبداع، عند أدونيس، يقع "في التحليل الأخير، خارج الزمان والمكان والتاريخ والصيرورة المادية والبشرية عموما."(أدونيس والنقد المنفلت من عقاله، بقلم صادق جلال العظم، في مجلة "دراسات عربية"، العدد4، السنة18، فبراير/1982، ص59.)
[4] الشعر العربي ومشكلة التجديد، لأدونيس، في مجلة "شعر"، عدد21، السنة6، شتاء 1962، ص98.
[5] "الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها"، للدكتور محمد بنيس: 3/87، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، بين عامي1989و1990.
[6]  سيلاحظُ القارئ أني أركز كثيرا في كلامي على مقولات أدونيس، والسبب أني أراه رئيسَ مدرسة، والتركيز عليه يكفي لاستحضار المدرسة بكاملها. ثم إن غزارة كتاباته ووضوحها في هذا الشأن تغنينا كثيرا في الكشف عن فلسفة الحداثيين اللادينيين ومراميهم القريبة والبعيدة.
[7] الثابت والمتحول،(صدمة الحداثة)، ص165. وهذا الكتاب في أصله أطروحة نال بها أدونيس، من جامعة القديس يوسف بلبنان، شهادة الدكتوراه. وهو يجمع بين دفتيه، وبالعبارة الصريحة، أسس المذهب الأدونيسي في محاربة الإسلام، في معتقداته وشرائعه وأخلاقه وآدابه، وفي الانتصار لمذاهب الزندقة والإلحاد بكل مشاربها وتياراتها واجتهاداتها، وفي كل مظاهرها وتنظيماتها وتجلياتها.
[8] حركية الإبداع(دراسات في الأدب العربي الحديث)، لخالدة سعيد، دار العودة، بيروت،ط1، 1979،ص89. للتذكير، فخالدة سعيد هاته هي زوجة أدونيس، ورفيقته في النضال ضد الإسلام وحضارته منذ أيام الحزب القومي السوري الاجتماعي بسوريا. وله معها بنتان "نينار" و"أرواد".
[9] الشعر العربي ومشكلة التجديد، لأدونيس، ص98.
[10] الشعر العربي، بنياته وإبدالاتها:3/97.
[11] أغاني مهيار الدمشقي، الآثار الكاملة، المجلد1، دار العودة، بيروت، ط3،ص499،450.
[12] مفرد بصيغة الجمع، لأدونيس، دار العودة، بيروت، 1977،ص85.
[13] مجلة "مواقف"، العدد 46، ربيع1983، ص47.