الخميس، 18 أغسطس 2011

الوجهُ الآخر لأدونيس(6)


بسم الله الرحمن الرحيم

الوجهُ الآخر لأدونيس(6)
أدونيس أبو (نينار)

(1)
(نينار إسبر) هي ابنة أدونيس الثانية، وُلدت ببيروت سنة 1971، و(إسبر) هو الاسم العائلي. ولنينار أخت أكبر منها اسمها (أرواد). وأمّ (نينار) و(أرواد) هي الكاتبة الناقدة السورية (خالدة سعيد)، التي تعرفت على أدونيس في صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي أسسه النصراني اللبناني أنطون سعادة سنة 1932، وتزوجا سنة 1956.
اسم (خالدة سعيد) اليوم خاملٌ تغطّيه شهرةُ زوجها أدونيس، فهو لا يكاد يظهر إلا في المناسبات الأكاديمية، أو في بعض اللقاءات الإعلامية. وقد اشتهرت المرأة، أول أمرها، بمقالاتها النقدية في مجلة "شعر"، التي أسسها يوسف الخال بتعاون مع أدونيس. وقد كانت في البداية تكتب باسم (خزامى صبري) المستعار.
يقول أدونيس متحدثا إلى ابنته (نينار): "هل تعلمين أني لم أكن أرغب في الأولاد. لقد جئتما[أي (نينار) وأختها (أرواد)] من طريق الخطأ".(محادثات مع أدونيس أبي،86)
فتجيبه نينار: "أعلم هذا". ويطول الحديث بين الأب وابنته عن الوجود والخلق والإنسان والأولاد والنسل والحفاظ عن الجنس البشري، فلا تقرأ إلا الجفاف في الأفكار والعواطف، ولا ترى إلا الكلوح والخواء في الأفهام والعبارات، ولا تستشعر إلا التفاهة والضياع في الأحلام والأمنيات.
الأب يعترف لبنته بأنها قد جاءت إلى الدنيا خطأ، وهي تسايره في جفافه العاطفي، بل نجدها، في بعض كلامها، تنقم على وجود الجنس البشري كلّه!
ولنقرأ، مثلا، المقتطفَ التالي من حديثهما، (نينار هي المتحدث الأول):
-        عمْري اليوم ثلاثٌ وثلاثون سنة، وليس لي أولاد. أنا لا أرغب في الإنجاب، لأني لا أريد أن ألد مخلوقا سينتهي إلى الموت. عندي قطتان أحبهما، ولا أريد أن أرى ملامحي فيهما، وفي بعض الأحيان يخيل إلي أن هناك شبها قد بدأ يظهر بيني وبين القطتين...
أنا فضولية كثيرا فيما يخصّ موضوع العلاقة بالأولاد. لو افترضنا أنني أصبحت في يوم من الأيام أّمّا لطفل، فإنني قد أكون غير مرتاحة أن أرى فيه ملامحي...
وبعد مرور بعض الوقت، تسأل نينار أباها:
-        هل تؤمن بأهمّية أخْذِ الأبناء عن الآباء؟
-        لا.
-        إنه ليس مهما؟
-        نظريا، أحبذ أن يكون أبنائي مخالفين لي، وأن يكونوا متميزين فيما يفعلون. ولا يهمني مطلقا أن يكونوا مثلي...
-        ألا تورّثهم بعضَ القيم؟
-        لا، أنا لا أفرض عليهم شيئا. الشيء الذي يهمني هو أن يكونوا متفوقين في عملهم، وفي مستواهم المهني، مهما يكن العمل الذي يزاولونه...
-        هل لتوريث شيء للأولاد علاقةٌ بالخلود؟ فإن أنت بقِيتَ حيّا من خلالي، مثلا، بأن ظَلِلْتُ أبلِّغُ ما لقّنْتَنِيه، فأنت لن تكون موجودا للاستفادة من هذا...فأنا لا أرى فائدة في إنجاب الأطفال لمجرد أن جزءا منا سيجعلنا نبقى أحياء. أنا لا أهتم بهذا، لأني لن أكون حية لمعرفة ماذا سيقع بعد موتي...أما من جهة الأولاد، فإن لهم دورا آخر غير أن يكونوا فقط خلَفاً لسَلَف...إني أجد الأمر مضللا ومؤسفا. نعم، ورغم كل هذا، فمعظمُ الناس لهم أولاد، وإن لم يكن لهم، أحيانا، رغبةٌ فيهم، أو من غير أن يفكروا؛ إنه نوعٌ من التقاليد...
-        الأهمّ هو إيصال أفكار إلى الأبناء بدل التشابه الخِلْقي الشكلي.
-        أنا متفقة معك على طول الخط، إلا أن هناك كثيرا من الناس ليس لهم من هدف وراء الإنجاب إلا الإنجاب!
-        نعم، لأنه ليس لهم أمرٌ آخر يشتغلون به على الإطلاق. إنهم يعتقدون أنهم سيخلدون بفضل خصائصهم الجسمانية. في قريتي، كان الناس يقولون عن الطفل الذي يكون هو وأبوه، في الشبه، مثل قطرتين من الماء: "إنه بُصَاقُ أبيه".
-        نعم، إنهم يعتقدون أنهم سيدومون بواسطة عَقِبِهم!
-        بعض الناس لهم نقط ضعف...
-        فلماذا الإنجابُ إذن؟
-        أساسا لإعادة إنتاج النوع البشري. لأن الناس كلهم لو فكروا كما تفكرين، لانقرض النوع البشري في الأجيال المقبلة.
-        نحن اليوم ستة ملايير ونصف مليار إنسان فوق الأرض!
-        إن فكرتْ هذه الملاييرُ الستةُ مثلما تفكرين، فلن يكون هناك، بعد سنوات، طفلٌ فوق الأرض.
-        هذا يعني أن الإنسان ينجب لأسباب اقتصادية؟
-        من أجل البقاء، من أجل الاستمرارية...
-        الاستمرارية؟ لأية غاية؟ الأرض نفسُها ستموت في يوم من الأيام، وكذلك الشمس!
-        هذا موضوع آخر لا علاقة له بحفظ النوع البشري.
-        نعم، ولكن لماذا هذا الإصرار على حفظ النوع البشري؟
-        هل تريدين إنهاء الجنس البشري؟
-        نعم(ضحِكٌ)
-        إذن، قولي هذا بصراحة(ضحِك)
-        بجدّ، أنا أريد أن أعرف لماذا؟
-        لأن المخلوق البشري هو أجمل الأنواع الحية؟
-        أجل...
-        ليس هناك أجمل منه، لذا وجبت حمايته...(انتهى المقتطف،ص82-86)
فماذا في هذا الكلام غيرُ القَحْط الروحي والضحالةِ الفكرية؟

(2)
يلاحظ المتتبّعون لسيرة (نينار) أن هذه المرأة تشتغل في  مجالات فنية متنوعة، لكنها ليس فنانة بارعة في أي مجال؛ فهي موجودة في المسرح، في الرقص، في الاستعراض، في الرسم، في التصوير، في السينما، في الكتابة، لكنها فاشلة، بالمعنى الفني المهني، ومِنْ ثَمّ، فهي اسم مجهول، فنيا ومهنيا، لولا اسمُ أبيها، ولولا شهرةُ أبيها، ولولا محيطُ أبيها ونفوذه.
ظهر اسمُ (نينار) إلى الجمهور الواسع بصدور كتابِها "محادثات مع أدونيس أبي"، الذي ظهر في طبعته الفرنسية الأولى في مارس2006.
لقد خرجت البنتُ إلى دنيا الناس والإعلام والشهرة متدثّرةً باسم أبيها، وإلا، فماذا عندها من علم أو فن أو إبداع حتى تُسلَّط عليها الأضواءُ، وحتى تستدعيها مؤسساتٌ ووزاراتٌ وجمعيات في بعض الدول، وحتى يتم الاحتفاءُ بها والرفعُ من قدرها واستقبالها بالتبجيل والمدح والتعظيم؟
ليس عند المسكينة شيء، إلا أنها بنتُ أبيها، التي عرفَت، في دنيا الأضواء والإشهار والموضة والألوان، وهي التي تعرف شيئا عن فن التمثيل والاستعراض، كيف تستغل اسم أبيها لترتقي إلى مكانة هي أبعد وأضعف من أن تنالها لو رجع الأمر إلى نفسها وعملها بمعزل عن أبيها.
وقد كان المغرب من الدول التي استدعت (نينار) لعرض كتابها، ضمن أنشطة الدورة الرابعة عشرة لمعرض الكتاب بالدار البيضاء، في فبراير 2008.
وكتابُها هذا "محادثات مع أدونيس أبي"، كما أشرت سابقا، هو عبارة عن أحاديث دارت بينها وبين أبيها في جلسات متفرقة، جمعتها وطبعتها في كتاب. وهذا يعني أن (نينار)، في الحقيقة، لا علاقة لها بالفكر والكتابة والأدب، وأن هذا الكتاب الذي قدمته في معرض الدار البيضاء، في رأيي، لم يكن ليكتسب قيمةً لولا كونُ صاحبته هي ابنة أدونيس أولا، ولولا الجراءةُ على مقدسات الإسلام والمسلمين التي طبعت فقراته من أوله إلى آخره ثانيا، ولولا ثالثا، وفي رأيي دائما، لوبيات أصحاب الإعلام ودور النشر والتوزيع ومن ورائهم يدٌ تسعى، وستظل تسعى، من أجل أن يتردى المسلمون في حضيض الزيغ والضياع واللاهُوِيّة.
وقد نَظّم بيتُ الشعر، تحت رعاية وزارة الثقافة، لقاءً لمناقشة كتاب (نينار)، حضره مجموعةٌ من الشعراء والنقاد والفنانين. وقد تقدم، في هذا اللقاء، الكاتب الناقدُ عبد الرحمن طنكول بعرْض نوّه فيه بالكتاب وصاحبته، وأشاد بالجرأة التي تَميز بها في طرح كثير من القضايا المتعلقة بالدين والجنس والأسرة والسياسة، من غير أن يقول كلمةَ نقد واحدة ترفض وتحتج وتدين انتهاك مقدسات المسلمين، وتكذيب كلام الله، والاستهزاء بشرائع الإسلام وآدابه.
الكتابُ طافح بالمزاعم والافتراءات والأباطيل في حق دين المسلمين، والرجل الناقد المسلم، وكأنه لا يرى ولا يشعر ولا يغار ولا يغضب لدينه، يمدح الكتاب، بل يراه كتابا يمثل نوعا أدبيا جديدا، وهو "الحوارات"، لم يجد من النقاد ما يستحقه من الاهتمام.
عن أي "نوع أدبي" يتحدث السيد طنكول؟
الكتاب عبارة عن أحاديث غارقة في الكلام العادي، مصوغة بلغة شبه عامية، فلا أدب، ولا جمال، ولا خيال، ولا أي شيء.
والغريب أن الناقد طنكول ذكر في عرضه أن أدونيس، في أحاديثه مع ابنته، لم يكن معنيا بتقديم أجوبة نهائية على الأسئلة التي كانت تطرحها عليها (نينار)، لأنه، بصفته مبدعا، يُحول الأسئلة إلى أسئلة أخرى أكبر. وكأن الأستاذ طنكول لم يقرأ الكتاب، ولم يقرأ أجوبة أدونيس الواضحة الكاملة على كثير من الأشياء، وفي أكثر من موضوع، وخاصة في الموضوعات التي لها علاقة بالإسلام والمسلمين.
ألم يكن أدونيس واضحا حين كذّب القرآنَ، وحين زعم أن وصفَ القرآن لفترة ما قبل الإسلام بالجاهلية إنما هو من عمل المؤرخين المسلمين(ص171)؟
ألم يُنكر ما رواه القرآن الكريمُ عن عادة وأد البنات في الجاهلية(ص171)؟
ألم يجب على سؤال واضح لابنته بأنه ملحد لا يؤمن بدين(ص107)؟
ألم يصرح في حديثه أن كبارَ الشعراء في الإسلام كانوا ملحدين(ص146)؟
ألم يكن صاحبَ رأي واضح حينما زعمَ أن فكرة الله هي من اختراع الإنسان(ص163)؟
هذا مثال من أمثلة كثيرة. أليس أدونيس في هذا الكلام صاحبَ رأي وموقف واضح من الإسلام ومقدساته؟
ألم يكن أدونيس، في محادثاته مع بنته، متكلما مجيبا عن كثير من الأسئلة بما يوضح رأيه، ويكشف عن سربه، ويفضح حقيقةَ معتقداته؟
ثم يأتي الناقد المغربي، المنبهر الضعيف أمام بنت الحداثي الكبير، ليحدثنا عن أدونيس المبدع الذي لا يجيب عن الأسئلة، وإنما هو يولّد من الأسئلة أسئلةً أكبر منها، وذلك لإيهامنا بأننا أمام بشر لا كسائر البشر، وأننا بحضرة الإبداع المطلق، الذي يجب أن يعامل بطقوس خاصة؟
لقد كان الكتابُ بمضامينه الواضحة في واد، وعرضُ الناقد عبد الرحمن طنكول في واد آخر، وكأن اللقاء كان للمدح والتنويه والاحتفاء بالمرأة الضيفِ(ويقال أيضا ضيفَة) الكبير، لأنها ابنة أدونيس، ولا شيء غير ذلك. 
ثم تكلم، في هذا اللقاء، الذي خصص لبنت أدونيس وكتابها، الشاعرُ حسن نجمي، وهو يومئذ رئيسُ بيت الشعر، وسار على منوال الأستاذ طنكول، مادحا ومنوها بالكتاب وصاحبته،  وذاكرا أن من محاسن الكتاب ومزاياه أنه أسقط الطابوهات وخلخل المفاهيم الخاطئة.
ولا أحد من المتكلمين في هذا اللقاء النقدي تجرأ على نقد الكتاب نقدا حقيقيا مركزا على ما جاء فيه، بالعبارة الصريحة، من افتراءات وأحكام ظالمة، وأفكار وآراء مطبوعة بكثير من العبث واللاموضوعية.
لقد عرضت (نينار) كتابها في الدار البيضاء، كما عرضته في أماكن أخرى، وسألها السائلون، وناقشها المناقشون، وقام لها المعجبون وصفقوا، لكن كلَّ ذلك كان بناء على شيء يعتبر عندهم من المسلّمات، وهي أن من حق أيٍّ كان أن يقول  ما يريد، وبالطريقة التي يريد من غير قيد ولا شرط ولا حدود، ومن حقه- وهذا هو الأساس الذي لا حداثة عندهم بدونه- أن يتناول الدينَ والمتدينين- والإسلامُ دائما هو المقصود طبعا- بكل الأساليب الطاعنة الجارحة المشككة المستهزئة، وإلا فهو الإرهابُ وقمع الحريات ومنعُ الحقوق إلى غير ذلك مما نحفظه في صراخات الحداثيين المتطرفين من طينة أدونيس ومن ذهب مذهبه في الزندقة والإلحاد.
وقد كنت كتبت، في فبراير من سنة 2008، مقالا بمناسبة مجيئها إلى معرض الكتاب المذكور، عرضت فيه رأيي في الكتاب وصاحبته وأبيها. وسأورد هنا مقتطفات من هذا المقال أراها مناسبة لسياق الحديث وموضوعه.

(3)
لقد قرأتُ كتابَ (نينار) بمنظار يختلف جذريا عن منظار التلامذة الخاضعين المنبهرين المدّاحين. قرأته بمنظار يُسلط الضوء على المادة الأساس التي تشكل العمود الفقري لأحاديث الكتاب، والتي لا يُعيرها قراءُ الكتاب ونقادهُ والمتحدثون عنه، حسب ما علمت وقرأت، أدنى اهتمام. ولا أشك أن الإديولوجية اللائكية(اللادينية) لها دور كبير في مثل هذه القراءات النقدية التي تسكت عن جوهر محادثات الكتاب، وتشتغل بالهوامش من أجل تسجيل مزيد من المدح والإعجاب بالشاعر "الحداثي الكبير" وابنته التي ليست كسائر بنات حواء.
مضمون الكتاب كله، بأسئلة البنت وأجوبة الأب، يصب في اتجاه واحد وهو التشكيك في الدين، والطعنُ في  أصوله الإيمانية وشرائعه وآدابه وأخلاقه، ومحاكمةُ الإسلام والإسلاميين محاكمة كلها ظلمٌ في ظلم، وتلفيق في تلفيق، وباطل في باطل.
والكتابُ أيضا هو انتصار للمذهبية الحداثية المتطرفة بوجهيها الإلحادي والعبثي، وانبهارٌ واحتفاء لا حدّ له بالفكر اللاشيئي الذي يجسد في صورة ناصعة مأساويةَ التّغَرّب والضياع والمسخ الميئوس منه.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الكتاب، على طوله، يبيّن الدرك الذي تردّت فيه العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة العربية المسلمة على يد حداثيين لادينيين لا يؤمنون بأصول، ولا بشرائع، ولا بأخلاق، ولا بآداب، ولا بأعراف؛ بل الأصل عندهم في الأشياء هو اللاأصل، واللامعنى، واللاقصد، واللاهدف؛ عبث في عبث هي الحياة في هذه الرؤية، بل هي مأساةٌ أعمقُ وأثقل من مأساة الدهريين الذين يحدثنا القرآن الكريم عنهم وعن مصيرهم. ظلام في ظلام، والعياذ بالله.
لا بد أن أتكلم ههنا بهذه اللغة القوية والعبارة المتفجرة والإحساس الجيّاش، لأن واقعَ هذا المسخ الثقافي والعبث الفكري لا يحتمل لغة المجاملة، ولا عبارات "السادة" المثقفين في الصالونات المغلقة؛ إذن، فلتُسمّ الأشياءُ بأسمائها، وليعذرني القارئ الكريم.
من صفات هذا التردّي في علاقة الأب بأولاده، كما في هذا الكتاب، أن تسأل البنتُ أباها عن رأيه في جسدها، في خصوصيته الأنثوية، وفي جانبه الشهواني، بل وفي أكثر من ذلك مما لا يليق، في أخلاقنا وآدابنا وأعرافنا، إلا بأبناء "الزنقة" الذين لا ضابط لهم ولا وازع ولا ذوق. بل تصل الوقاحة والإسفاف والسفالة والعهارة مداها حينما تسأل البنت أباها إن كان يقع له في بعض الأحيان أن يشتهي جسدَها، أو أن يتصور المرأةَ التي يحلم بمضاجعتها على صورتها؟ وتسأله، أيضا، إن كان يأخذه إحساس ما بالغيرة حينما يتخيلها في أحضان رجل آخر، وهو أبوها الذي "خلق" جسدها، والذي طالما لمس هذا الجسد وداعبه؟ (ص58-59 وص96-104).
وعلى هذا النمط من الجرأة في حديث البنت مع أبيها لا تجد (نينار) حرجا أن تصرح بتعدد علاقاتها الجنسية مع الرجال، وبأنها لا ترى ضيرا على المرأة أن تتنقل من عشيق إلى عشيق، لأن المهم عندها هو أن تحسن هذه المرأةُ اختيار "أصحابها"(ص58). أما أبوها أدونيس، فليس يرى مشكلةً في تعدد مُضاجِعي ابنته، والمهم عنده أن تعتنيَ بنتُه بجسدها وألا تحتقره، وأن تعمل لتبدو دائما جميلة، وألا تسلّم جسدها لأي كان، ولكن تسلمه للرجل الذي يستحقه(ص99-100).
وفي سياق حديثها عن الطابوهات المتعلقة بموضوع "الجسد" و"الجنس" أو "الحب"، تذكر أنها كانت تعتقد أن هذه المحرمات مقصورة على بلاد المسلمين، لكنها في يوم من الأيام، وفي نيويورك الأمريكية، فوجئت بأن ذلك ليس صحيحا؛ فقد كانت هي وعشيق لها يسيران في أحد شوارع منهاتن، ومن حين لآخر كانا يتعانقان ويتبادلان القبل، فإذا ببعض الناس في سياراتهم يقفون وينهرونهما ويطلبون إليهما أن يستترا وأن يذهبا لأماكن مخصصة لما يفعلون، وكأنهم يقصدون دور البغاء(58-59). ولم يعجب البنتَ طبعا أن تجد في أمريكا من ينهرها وينكر عليها المجاهرةَ بما تسميه هي مشاعر "الحب"!!
كيف تعيش هذه المخلوقة (نينار)؟ كيف تنظر إلى الحياة؟ إلى الموت؟ إلى فكرة الأمومة والإنجاب؟ إلى الإيمان والكفر والإلحاد؟ إلى الدين؟ إلى الحجاب؟ إلى غير ذلك من الموضوعات الكثيرة التي أثارتها في أحاديثها مع أبيها؟
تقرأ أسئلةَ البنت وأجوبة الأب وما كان يدور بينهما من نقاش، ولا تجد إلا تكريسا لما أشرت إليه، قبل قليل، من تهجم سافر على الإسلام والمسلمين، وإصدار أحكام مبيتة ملؤها الجهل والحقد والتعالم والتردي في حداثية متطرفة غارقة في ظلام لا صباح له.
وأزيدك شيئا؛ فمن حين لآخر، والحديثُ جار بين الأب وبنته، كان الأب أدونيس يرفع كأسَ الخمر ويقرعه بكأس ابنته قائلا: في صحتك(ص91). هكذا يكون رضا الوالدين، وإلا فلا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويظهر ضياعُ البنت ومأساة وجودها أكثر حينما تصرح لأبيها بأنها لا تريد أن تصبح أمّا- وهل هي متزوجة أصلا؟ فواضح من سياق كلامها أنها تتحدث عن الإنجاب خارج مؤسسة الأسرة الطبيعية. لا تريد البنتُ (نينار) أن تصبح أما، لأنها، حسب تعليلها الحداثي البائس، لا تريد أن تنجب مخلوقا سينتهي إلى الموت(ص82). وبدل أن تكون أمّا عَزَبَة لمخلوقات آدمية، اختارت أن تكون أمّا لقطتين توليهما من عطفها وحبها الشيء الكثير(ص82).
ولا أدل على ضلال هذه البنت وخبالها من أن تتمنى أن تُحرق جثتها بعد موتها، وأن يذرّ رمادها في البحر المتوسط، لأن هذا الفعل، حسب عبارتها، له دلالة رمزية(ص125)!!
ألا تستحق هذه البنتُ منا الشفقة والرثاء؟
هل تركت هذه البنتُ شيئا لتستحق أن تكون النموذج المثالي للجالية العربية المسلمة المغَرّبة التائهة الضائعة في دخان الحضارة الغربية الحداثية اللادينية؟

(4)
لا يُخفي الوالدُ أدونيس موافقته لابنته في كثير من جهالاتها وزندقاتها وهرطقاتها؛ فلا خلاف بينهما على الإطلاق في التنكر للدين، وكذلك في المجاهرة، في كل مناسبة، بالكراهية والعداء للإسلام وشرائعه وآدابه وتقاليد أهله. أليسا معا حداثيين؟ أليسا ينتميان إلى صنف من البشر، ويحتلان مكانة فوق البشر، ويفهمان أكثر من البشر؟ باختصار، أليس هو أدونيس، وهي ابنته نينار؟
وأكتفي، فيما يلي، بإطلالة سريعة ومقتضبة على بعض المقولات الأدونيسية الإلحادية والعبثية الواردة في أثناء أحاديثه مع ابنته.
يُعجِبُ الأبَ العجوزَ كثيرا أن يتحدث في كل مناسبة عن لقبه (أدونيس)- وهو اسم لأحد الآلهة في الأساطير الوثنية القديمة- ويشيد بما أكسبه إياه هذا اللقب من المعنى الإنساني الكوني ، فضلا عن الشهرة. فهذا اللقب، يؤكد أدونيس مفتخرا، هو الذي أخرجه من ضيق الطائفية الإسلامية التي كان يسجنه فيها اسمُه (علي) إلى  سعة الهوية العالمية التي لا حدود لها. وحينما تلاحظ ابنتُه بأن اسم (علي) له دلالة إسلامية بخلاف لقب (أدونيس) الراسخ في الوثنية، فإنه يردّ بسرعة بأنه مع المعنى الوثني(ص46). وهذا ردّ طبيعي، وخاصة إذا علمنا أن أدونيس قد صرح في مناسبات عديدة بأنه وثني في معتقده. بل هو يذهب بعيدا لإثبات الأصل الوثني لاسمه الإسلامي حينما يزعم أن اسم (علي) مشتق من (EL ) وهو اسم الإله الأعظم عند السومريين...(ص46).
وهل يُخفي أدونيس إلحادَه؟ وهل يتردد الرجل في إعلان عدم إيمانه بأي دين؟
في(ص107) تسأله بنتُه: هل يمكن للإنسان أن يعيش بلا حدود وبلا دين؟ فيجيبها بالحرف: "هناك كثير من الناس يعيشون بلا دين، وأنا واحد منهم. إني لا أؤمن بدين". وتعقب (نينار) قائلة: "وأنا كذلك. إذن، يمكن للإنسان أن يعيش مستقلا عن الدين..."
وتسأله عن علاقته بطائفته العلوية في سوريا، فيجيبها بأنها علاقة محصورة في الجانب الاجتماعي والتاريخي(ص187).
والدين عموما، عند أدونيس، ليس فيه ما ينفع الناس اليوم.
وحتى لا أثقل على القارئ الكريم بالتكرار، يمكن مراجعة ما أوردته في المقالات السابقة من آراء أدونيس الإلحادية وافتراءاته على الإسلام وأصوله وتاريخه.
والإسلام كما يرى الملحدُ أدونيس كان في عصوره الأولى "متسامحا"؛ ففي عهد العباسيين كان اللواط مقبولا ومعترفا به(ص174-175). وعند هذه النقطة تغمر البنتَ نشوةٌ، وهي تسمع أباها يعرض عليها هذه "التفاهات"، فتقاطعه من السعادة صائحة: "ممتاز! إنه أمر عظيم Bravo! C'est génial! !"(ص175).
أما عن الخمار الإسلامي، فلأدونيس فيه تفسيرٌ عجيب فضلا عن إنكار أصله القرآني؛ فهو يرى أن المرأة لمّا كانت هي المنافس الوحيد لصورة الإله، فإن الرجل ارتأى أن يغطيَها(ص158). وقد عبر أدونيس عن موقفه من المسلمات الفرنسيات المتحجبات أثناء المعركة السياسية والقانونية والحقوقية التي اندلعت في فرنسا بهذا الشأن. وقد كتب مقالة في الموضوع كان فيها مَلكيّا أكثر من الملك، لأنه تطرف إلى أقصى حدّ في التشنيع على المواطنات الفرنسيات المتحجبات، واتهامهن في إيمانهن ونياتهن، وأنهن لم يردن بالتزام الحجاب إلا السوء لجمهورية الأنوار والإخاء والمواساة..!!
في جملة، قد تسأل أدونيس عن جميع أشياء الدنيا، وجوابُه دائما هو هو، يرجع بك، في نواته الصلبة، إلى أن الإلحاد هو معدن النور والحداثة والإبداع، وأن الدين هو أصل كل الشرور وكل أشكال القيود والمظالم والنقائص على وجه الأرض.
هذا هو (أدونيس) الأب، وهذه هي بنته (نينار)، في محادثاتهما "الحداثية" إلى أقصى حد.
المقالة القادمةُ، إن شاء الله، ستكون خاتمةَ مقالاتي عن الوجه الآخر لأدونيس.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مراكش: 18 غشت 2011