بسم الله الرحمن الرحيم
الوجهُ الآخرُ لأدونيس(7)
هَبَاءٌ وغُثاءٌ وجُفَاء
(1)
لقد حاولتُ في المقالات الستّ السابقة أن أعرض مقابحَ
الوجه الآخر لأدونيس، الذي يُراد لنا ألاّ نراه، وألا نعتبره في تقويم أعمال
أدونيس والحكمِ عليها.
وليس الوجهُ الأدبيُّ المشهورُ لأدونيس بمنآى عن مقابح
الوجه الخفيّ، بل إن تجلّيات مقابحِ هذا الوجه الخفيّ على قسمات وجه أدونيس
الشاعر، في شكل تشوهات وشوائب، لا تخفَى على القارئ المسلم العارف الواعي الذكي، بل
تحيله، في نظر هذا القارئ، وجها في غاية البشاعة، تُنكره الأذواق المهذبة، وتنفر منه
الفطر السليمة.
الوجهُ
الآخر لأدونيس أنه ملحدٌ مناضلٌ يقوم "دينُه الحداثي الوثني" على أساس
معارضة الدين ونفيه ونقْضه، وفرض الإلحاد حقيقةً "متعالية" ومسلّمةً
وجودية، حيث ينتفي الله-جلَّ اللهُ وتعالى وتقدس وتعظّم- ويحل مكانه
الإنسان/الإله، الإنسان/النبيّ، الإنسانُ الخالق الصانع المبدع.
أدونيس،
في وجهه الآخر، هو صاحبُ مشروع، ورائدُ فكر ومدرسة، وزعيمُ دعوة، وإن لم يكن له،
حسب علمي، تنظيمٌ ولا حزبٌ ولا جمعية-بالمفهوم المتعارف عليه- ولا غير أولئك من
أشكال التجمع والنضال ووسائل تصريف النظريات والأفكار.
إن
الملحدين "الملتزمين"، مثل أدونيس، سيظلون يقاتلون إلى آخر نبض في
حياتهم، ما دام هناك في الدنيا إيمان وإسلام.
إن
الشيطان لا يتقاعد، وكذلك أولياؤه وجندُه، فهم في حركة ونشاط دائبين، مادامت
السماوات والأرض، وما تعاقب الليل والنهار.
نشاط
دائب لا يعرف الفتور؛ فها هو أدونيس، ومعه حفنةٌ من حواريّيه الملحدين، ومجموعةٌ
من تلامذته التابعين، يصدر مجلة فصلية جديدة بعنوان "الآخر". وقد ظهر
العدد الأول منها في يونيو2011 الماضي، ومن المشاركين في هذا العدد الأول (حورية
عبد الواحد)، التي حاورت أدونيس في كتاب (نظرة أورفي). وقد أشرت، في إحدى المقالات
السابقة، إلى أن هذه المرأة، من خلال أسئلتها ومناقشاتها وتعليقاتها في حوارها مع
أدونيس، كانت تبدو تلميذة معجبة بأستاذها الملحد، ليس لها في حضرته إلا أن تكرر
أفكاره بصيغ مختلفة. وهذه المرأة أيضا هي من مترجمي بعض أعمال أدونيس.
إنها
المدرسة الحداثية الأدونيسة، التي قوامها أنْ لا إبداع ولا تقدم ولا مستقبل مع
الدين والإيمان والإسلام.
(2)
لقد أبى أدونيسُ، والربيع العربي في عنفوانه، إلا أن
يكون له رأيه المتميز فيما يجري في البلاد العربية الإسلامية من ثورات واحتجاجات
واعتراضات على الظلم والاستبداد.
الجماهير التي خرجت من المساجد منتفضةً على أنظمة الجور
والطغيان، وثائرةً على حكام الاستبداد والفساد، ليست على شيء، في نظر أدونيس.
ما وقع في تونس ومصر ليس ثورة، في نظر "الشاعر
الحداثي الكبير"، المتغرّبِ المتنعّم المطمئن في حضن أمّه فرنسا، والذي ليس
له للمسلمين، وهو في برجه العاجي، إلا اللسانُ الحديدُ واللفظ السليط، والنظرُ
العدمي العبثي، والمشروعُ الإلحادي الضارب في ظلمات التيه والضياع.
الثوراتُ القائمة اليوم في بلادنا العربية الإسلامية
ليست بشيء، وحتى يرضى عنها الشاعرُ الوثني "الكبير"، ويسلكها في الثورات
الحقيقية، كما يراها هو، وكما يحددها هو، وكما يعترف بها هو، وجب عليها أن تكون
ثورات لادينية.
هذا هو باختصار رأيُ أدونيس فيما يجري في بلادنا من
انتفاضات واحتجاجات وثورات، والذي نقرأه واضحا، مثلا، في لقاء أجرته معه
"أخبار الأدب" المصرية، في يوليوز2011، وفي لقاء مع جريدة
"الرأي" الكويتية، في الشهر الحالي(غشت2011).
تأمل، أيها القارئ الكريم، هذا الفهمَ العبثيَّ، وهذه
الثقافة المتعجرفةَ، وهذا التعاليَ والتعالمَ والوصايةَ على الشعوب.
يا معشر الثائرين المسلمين، لن تكونوا ثوارا، في دينِ
أدونيس، حتى تتجردوا من معتقداتكم، وتنسلخوا عن ذواتكم، وتكونوا لادينيين، وإلا
فأنتم استبداد سيخلف استبدادا، لا أقل ولا أكثر.
إن الحقيقة التي يستيقنُها قلبُ أدونيس، لكنه يجحدها، هي
أن الثورة يمكن أن تتولد في رحم المرجعية الدينية والثقافة الإيمانية.
الدينُ، عند الملحد المناضل المعاند المتكبّر، لا يمكن
أن يأتي منه خير. هذه هي المسلمة الأدونيسية، التي انبنت عليها كلُّ أطروحات
أدونيس، وكلُّ أفكاره وآرائه، في الفكر والسياسة والأدب. ألم نقرأ له أن كبار
الشعراء في الإسلام كانوا ملحدين؟ أليس هو القائل دائما إن الإبداع الحقيقي، لا
يبدأ إلا بنقض الأصول الدينية، وتقويض البنى الإيمانية التقليدية؟
أليس هو الذي يجعل سبّ الأنبياء علامة من علامة الحداثة
والإبداع؟
يقول في
"فاتحة لنهايات القرن"، ص148: ""كلنا يعرف من هو المسيح،
ولعلنا نعرف جميعا كيف خاطبه (رامبو): "يسوع، يا لصّا أزليا يسلب البشر
نشاطهم(…)حين تصل جرأة الإبداع العربي إلى هذا المستوى، أي حين تزول كل رقابة،
يبدأ الأدب العربي سيرته الخالقة، المغيرة، البادئة المعيدة...".
أي حين
يتجرأ أدباؤنا على سبّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، كما سبّ (رامبو) المسيحَ، عليه
وعلى نبينا أفضلُ الصلاة وأزكى التسليم، نكون قد أصبحنا أعضاء كاملي العضوية في
نادي الحداثيين الكونيين.
الثوارُ
على الأنظمة الجبرية الاستبدادية ليسوا على شيء حتى ينضووا تحت راية اللادينية. لا نجاح يُرجى من ثورات الربيع العربي إلا إذا نبذت
الدين، واتخذت لها "اللادين" شعارا وهدفا. وماذا إذا كانت الشعوب مسلمة؟
وإنْ، لأن خلاص هذه الشعوب إنما هو في ترك دينها، واعتناق اللادينية!!
(3)
ينتقد
أدونيس كثيرا أصحابَ ما يُسمّيه "الحداثة التلفيقية الأزيائية"، الذين
يكتفون من الحداثة الغربية بمظهرها "التقنوي-الآلي"، ويُعرضون عن
"المبادئ العقلية" التي ولدت تلك الحداثة.(الشعرية العربية،ص92).
"إنها[أي الحداثة التلفيقية الأزيائية]حداثةٌ تتبنى الشيءَ المُحدث، ولا
تتبنى العقلَ أو المنهجَ الذي أحدثه. فالحداثة موقف ونظرةٌ قبل أن تكون
نتاجا."(نفسه،84).
والمبادئ
العقلية الغربية التي يشير إليها أدونيس هي مبادئ قائمة على المذهبية اللادينية،
بكل أشكالها الإلحادية واللائكية.
والردّ
البسيطُ والقويّ على أدونيس في هذا الشأن هو أنه لا يستطيع أن يثبت أن الإلحادَ هو
الذي كان وراء مخترعات العصر المادية، وأن الزندقة والكفرَ بالله واليوم الآخر هي
التي تسببت في الثورات العلمية التكنولوجية المتتابعة. بل الثابت المشهور هو أن
نبذَ الدين والتماديَ في المعاصي والجحود، كان، وما يزال، هو السبب وراء شقاء
الإنسان، وتمزقه، وضياعه، وحيوانيته الدّوابية، في الغرب وفي غير الغرب.
فالحداثة
العمرانية الماديةُ لم ينتجها الإلحادُ، وإنما أنتجتها العلومُ التجريبية القائمة
على الصبر والمصابرة، والتأمل، والتتبع، والإحصاء، والاستقصاء، والسؤال المفيد،
والافتراضات المحفزة، وما إلى ذلك مما لا يتعارض مع تعاليم الإسلام وعقائده
وفرائضه وواجباته. بل إن الإسلام قد جعل طلبَ العلم من بين فرائضه الواجبة على كل
مسلم ومسلمة.
إن
الحداثة "العلومية" العمرانية لم تكن قطُّ مقترنةً بالحداثة الفلسفية
اللادينية، كما يزعم أدونيس. فقد تجد من بين أساطين الباحثين في العلوم التجريبية
والتطبيقات التكنولوجية متديّنين راسخي القدم في العلم الإيماني الغيبي، لا
يستشعرون أيَّ تناقض أو تنافر بين عواطفهم الدينية وأبحاثهم العقلية والتجريبية.
إن
الفلسفة العقلانية اللادينية الرائجةَ اليوم في ثقافتنا العربية المعاصرة إنما هي
فلسفةٌ تمّ نقلُها إلى البلاد العربية الإسلامية وغرسُها ورعايةُ نبتتها في ظل
مؤسسات الاستعمار والتعليم الأجنبي. وقد تولّت منابرُ التغريب، بكل أنواعها ومختلف
أساليبها، مهمةَ الإشراف على تخريج أفواج من أبناء المسلمين، متشبعين بالثقافة
الغربية، متضلعين في فلسفاتها ولغاتها ونظرياتها، ومختلف جوانب حضارتها. ومعلوم أن
الحضارة الغربية، في شقها العقدي الفلسفي، قد انتهت، بعد قرون من الصراع والتطور،
إلى تبني المذهبية العقلانية اللادينية. وهذه المذهبية اليوم هي المعدن الذي تصدر
عنه الثقافة الغربيةُ في مختلف المجالات الإنسانية.
لقد سرت
فينا آثارُ هذه المذهبية اللادينية من طريق مثقفين مُغَرَّبين، من أبناء جلدتنا،
كانت بضاعتُهم، وما تزال، هي الترجمة عن الغرب/الأصل، الغرب/الحضارة،
الغرب/الحداثة.
ولم يكد
ينتهي الربعُ الأول من القرن العشرين حتى كانت البواكير الأولى للتعليم التغريبي
الاستعماري تملأ دنيا المسلمين بالخصومة والحجاج والجدال والتصارع بين فكرٍ روحُه
القرآنُ وعقائد الإسلام، وفكرٍ متصل، في حياته، بالفلسفة الغربية اللادينية. وليس
أدونيس وأمثالُه من المثقفين الملحدين المناضلين إلا ثمارٌ مرّةٌ من ثمار طاحون
التعليم التغريبي.
(4)
لا نجد،
فيما وصلنا من تراثنا العربي الإسلامي، نظريةً في الإلحاد متكاملةً في تصوراتها
ومفاهيمها وأطروحاتها، متراصةً في مبادئها ومباحثها ومسائلها، كُتب لها الانتشارُ،
وفي العلن، من طريق الأتباع والأنصار، وحُفظت مقالاتُها وكتاباتُها كاملةً من غير
نقص أو تشويه، واستمر نفوذُها وآثارها، عبر التاريخ، إلى عصرنا الحديث.
نعم، لقد
عرف تاريخُنا العربي الإسلامي حركاتٍ فلسفيةً إلحادية، وتيارات زندقية، كالباطنيّة،
والخُرّمية، والقرمطيّة، والنُّصيرية، والعُبيديّة، كما عرف ملاحدةً صنفوا
التصانيف، ونشروا المقالات، واكتسبوا الأنصارَ، وتزعّموا الدعوات، وأشعلوا الفتن،
وخاضوا الحروبَ، لكنها حركاتٌ وتيارات لم تُعمّر طويلا، وكانت آثارُها في المجتمع
الإسلامي محدودة، بل منها ما مات في المهد، ومنها ما اختار ركوبَ مراكب النفاق
والاحتيال والعيش في ظلام السريّة والتقية.
ولقد كان
من أسباب انحسارِ هذه الحركات والتيارات واندحارها في تاريخنا العربي الإسلامي أن
العقائدَ الإسلامية كانت، في مصادرها وأصولها، من القوة ووضوح الحجّة وسطوع
البرهان، بحيث لم تستطع المقولاتُ الإلحاديةُ والفلسفات التشكيكية أن تنال منها في
قلوب المسلمين، أو في مجادلات المتكلمين الأوائل، الذين اجتهدوا كثيرا في الرد على
شبهات مختلف طوائف الزنادقة والمتفلسفة من أهل الضلال والأهواء. وكذلك أبلى علماءُ
الأمة البلاء الحسنَ والكبير، بالتربية الإيمانية والحِجاج العلمي والوعظ
التعليمي، في نقض عقائد الملحدين، وتفنيد شبهاتهم، وفضح دجَلِهم.
وبهذه المقاومة القوية الصامدة الراسخة لم تستطع
هذه الفلسفاتُ أن تذهب بعيدا في الأوساط العلمية، باستثناء أفرادٍ قلائل. أما في
أوساط العامة، فلم يكن وصولُ هذه الفلسفات إليها بالمتيسِّر، نظرا لصعوبة انتشار
الكتابِ بوسائل الاستنساخ المتاحة في ذلك الزمان، وكذلك بسبب التحفظ واليقظة
والتحري، الذي كان يطبع سلوكاتِ المجتمع الإسلامي إزاء العقائد الوافدة والفلسفات الأجنبية
الطارئة. هذا إلى جانب مقامع السلطان التي كانت تقعد لهؤلاء الزنادقة المارقين كلَّ
مرصد، فلا تكاد عيونُها تُفلتُهم.
أما
تصانيفُ هؤلاء الفلاسفة الملحدين، فقد ضاع أغلبُها، وما وصلنا منها فهو عبارةٌ عن
نتف ومقالات متفرقة، وحكاياتٍ منثورة هنا وهناك في مصادر متعددة، وخاصة في المصادر
التي تصدّت للردّ على هؤلاء الملحدين، حيث يتطلب الردُّ حكايةَ مقالاتِهم وسردَ
شبهاتهم.
والمهمُ
من هذا الكلام أن تاريخنا العربي الإسلاميَّ لم يعرف نضجَ فلسفات إلحادية، في شكل
نظرياتٍ عاشت وتداولَها الناس، واستمرت إلى يومنا هذا. وإنما الذي بلغَنا عن تلك
الفلسفات، كما ذكرت، شذراتٌ وإشاراتٌ ومقتطفاتٌ، لا ترقى أن تُكوِّن لدى القارئ
فكرةً واضحةً عن معالم نظرية إلحادية متكاملة. يُضاف إلى هذا أن هذه
البقايا/الأطلال، التي حفظتْها لنا المصادرُ، لا يكاد يطّلعُ عليها ويدرسُها إلا
أهلُ الاختصاص، أو من همْ في مرتبتهم من الباحثين المؤهَّلين للفهم والاستيعاب.
ولعل
أدونيس من أشهر الكتاب المعاصرين، الذين أحيَوْا فكرَ الزنادقة والملحدين من مدافِن
التاريخ العربي الإسلامي، وأشادوا به ورفَعوه إلى درجة الفكر الثوري التحرري
الإبداعي الحداثي، وجعلوه في مرتبةٍ تُقابل التراثَ الدينيَّ بأصوله وعقائده
وشرائعه، التراثَ "التقليديَّ" "الاتباعيَّ" "الأصوليَّ"،
كما يعبر أدونيس.
فما من
ملحد زنديق، في التاريخ العربي الإسلامي، أو فاسقٍ ساقطٍ، أو شاعرٍ ماجن متهتك، أو
ثائرٍ ظالم خارج على شريعة المجتمع ــ في جملة، ما من إنسان متلبسٍ بشبهة تَمُتّ
بشيء إلى معارضة الإسلام، أو مناقضته، أو الخروج على أحكامه، أو غير ذلك من شبهات
الزندقة والإلحاد، والمعاصي والآثام، إلا وتجد أدونيس متعاطفا معه، بل مدافعا عنه،
ومنتصرا لاختياره وسلوكه.
نقرأ هذا
في كل ما كتبه أدونيس-أقول "كل" من غير استثناء- وخاصة في تجاربه
الحداثية، وأسمي منها، على سبيل المثال، تجربته
التي
اختار لها عنوان "الكتاب" بجزأيه، حيث خصّص هوامش وتعليقاتٍ كثيرةً لذكر
هؤلاء المعارضين الثائرين العاصين، والإشادة بهم بأسلوب وعبارات تنم عن التعاطف
والتضامن والتأييد. ولهذا نجد أدونيس يصنف هذه التيارات الإلحاديةَ التاريخيةَ في
خانة الثقافة الإبداعية في تراثنا، تقابلها الثقافةُ الاتباعية، ويردّ على من
يتهمه بأنه يرفض التراث جملة وتفصيلا، بأن قراءة عنوان كتابه، الذي هو مثار هذه
التهمة، كافٍ لدحض ما يُرمى به؛ قال: "فهذا العنوان هو: (الثابت والمتحول،
بحث في الاتباع والإبداع عند العرب. أي أنني أبحث في الإبداع عند العرب، وأتبناه،
وأدافع عنه. فكيف يُقال، بعد ذلك، إنني أرفض التراث."(فاتحة
لنهايات القرن، ص274)
(5)
وبعد،
فإن الذي نعرفه، نحن المسلمين على الأقل، أن الإلحادَ لم يكن، في يوم من الأيام،
قيمةً إيجابية مطلوبة في سعي الأفراد والأمم والمجتمعات. وما عرفنا أن الإلحادَ،
بذاته وصفاته ومتعلَّقَاته، كان وراء اكتشافات علمية، أو اختراعات تقنية، ارتقت
بالإنسان وحضارته فوق الأرض، وحسّنت ظروفَ معيشته، وخفّفت من آلامه، وساهمت في
زيادة سعادته وتقليل شقاوته.
إنما
المعروفُ الذي يحفظه التاريخُ أن ما ينعم فيه الإنسانُ اليوم من تطورات تكنولوجية
هائلة، كان ميلادُ نبتته الأولى في أحضان التديّن. واقرأ في سِيَر العلماء
العظام والعباقرة الأفذاذ، الذين تركوا
بصماتهم ناصعة في مجالات البحث العلمي والاختراع التقني، تجدْ أن البيئة الدينية
كانت هي حاضنتهم الأولى، التي في جوّها تفتّقت مواهبُهم وأثمرت جهودهم.
وهل
يستطيع عاقلٌ اليوم أن ينكر-إلا أن يكون من طينة أدونيس- أن الإلحاد اليوم يوجد في
مقدمة أسباب تعاسة الإنسان وضياعه وانحداره في دركات البهيمية وحضيض اللاإنسانية؟
ثم ما علمنا أن الكفرَ رفعَ من قدر أحد من الناس، وإنما
الذي نعرفه، نحن المسلمين-وأكرر وأؤكد "نحن المسلمين"، حتى نبقى في
دائرة الدين الإسلامي، والمجتمع الإسلامي، والتاريخ الإسلامي، والتراث الإسلامي-
الذي نعرفه، نحن المسلمين، أن المسلم الذي يتنكر لدين
آبائه وأجداده، ويتخطى هذا ليعلنَ إلحادَه الصريح، ويفتخرَ به، إنما يكتسب إثما
وسُبَّةً تتبعه في الدنيا، وفي الآخرة، التي يجحد بها الملحدون.
الذي نعرفه من ديننا وثقافتنا الإسلامية أن تنكرَ المرء
لإسلامه لا يكسبه تشريفا ولا تقديرا ولا تعظيما، وإنما هو فعلٌ لا يجني منه فاعلُه
إلا الحقارةَ والذكر السيء. أما أن يمدحَه مَنْ هو على شاكلته، ويرفعَه من هان
عنده دينُه، ويُشيد به من لا دين له، ويزكّيَه ويناصرَه من ديدَنُه محاربةُ الدين،
أيِّ دينٍ بصفة عامة، والإسلامِ بصفة خاصة، فذلك لا يُغير من الحقيقة شيئا، وهي أن
الإلحادَ في ميزان الإسلام، وفي الثقافة الإسلامية، وفي المجتمع الإسلامي، وفي
الأعراف الإسلامية، ليس له إلا المكانةُ الحقيرة، والهامش المُهمَل. ولهذا تجد
الملحدين المناضلين في مجتمعاتِنا الإسلامية لا يجرؤون على الكشف عن حقيقة
معتقداتهم، بل تراهم يجتهدون في الخلْط والتلبيس والمغالطة والجدل والتأويل لتغطية
وجوههم الحقيقية، مخافةَ أن يُعرفُوا على حقيقتهم فيُنبذُوا ويُهجَرُوا ويُدفَعُوا
إلى الحقارة والنسيان.
اُنْظرْ إلى أساليبهم وطرقِ اشتغالهم؛ فهم يسعون
ليفرضوا، في مجتمع المسلمين، حقَّ الملحدِ في إعلان إلحادِه والدعوةِ إليه وجمعِ
الناس وتنظيمِهم حوله، لكنهم يفعلون تحت لافتات مستعارة، وشعارات تمويهية، وواجهات
كاذبة خادعة، كلافتات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وشعارات المواطنة والدولة
المدنية والدفاع عن المرأة والأقليات، وواجهات الفنون والثقافات الشعبية. ولهم
أساليب متعددة غير هذه، لبث عقائد الإلحاد، والتشكيك والطعن في أصول الإسلام،
والتجريح في أعلامه ورموزه، وركوب التلفيق والباطل والتزوير في الحكم على تاريخه
وتراثه.
يعرفُ الملحدون الجاحدون أنهم مرفوضون ومكروهون ومطرودون
إن هم أظهروا للناس وجههم الحقيقي.
وأدونيس نفسُه، لم يكشف عن وجهه الحقيقي، بلا روغان ولا
تقية ولا تمويه، إلا بعد أن استقر في حضن أمّه فرنسا، وسكَن في مدينة
"الأنوار" باريس، وأصبح مسكونا بأن يظهر للأوربيين بالوجه الذي يرضونه
ويقبلونه ويطمئنون إليه. ولم يتحقق له هذا إلا باتخاذ الإسلام وعقائده وشرائعه
وأخلاقِه وتاريخه وتراثه هدفا لسهام طعونه وانتقاداته وأباطيله وافتراءاته
وتزويراته وأفكاره العابثة الهادمة التائهة.
وقد أصبح حريصا، في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد أن أصبح
مرشحا لـ(جائزة نوبل)، على أن يظهر بمظهر المثقف الملحد، الذي ليس عنده للإسلام
والمسلمين إلا مقالاتُ النقد والتجريح والتشكيك والاستهزاء، وفي الوقت نفسه هو
المثقف العربي اللاديني المتسامح، إلى أقصى الحدود، مع سائر الملل والنحل، ومنها
الصهيونية، في مختلف ألوانها وأشكالها، الإسرائيلية والعالمية.
إنه لمْ يُحفظ عنه أنه قال أو كتَب، ولو كلمة واحدة، في
التهجم على اليهودية أو النصرانية، بل إنه حينما يتحدث عن دين اليهود والنصارى،
فإنه يكون في غاية التأدب والاحترام، يختار مفرداته بعناية خاصة، حتى لا يُحسب
عليه أنه قال ما يسخط اليهود والنصارى.
وقد عمل الإعلامُ المتخصص في صناعة الوجوه والرموز على
إبراز الجانب الأدبي الشعري الحداثي من وجه أدونيس، والسكوت شبه الكلي عن أدونيس
الملحد، الذي يدعو المسلمين لمعانقة التحرر والحداثة والتقدم والمستقبل بترك
دينهم، والارتماء في أحضان اللادينية، التي تعد بكل خير، وتعصم من كل شر.
هكذا يفكرون، وبهذه الأساليب يمكرون ويتسللون وينفثون السموم.
(بل الذين كفروا في تكذيب، والله من ورائهم محيط) (والله متم نوره ولو كره
الكافرون).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
مراكش: 24 غشت 2011